دور المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2013: المحددات والمسارات

تُقدِّم هذه الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في العدد الثاني من مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتستقصي محددات ومؤشرات دور المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2013 ومساراتها، وكيف يمكن إدارة العلاقات المدنية-العسكرية في مصر، استنادًا إلى هذه المحددات وتلك المؤشرات.
e950112335a5497ebb8ce41e74875489_18.jpg
بعد تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر اتسع النشاط الاقتصادي للجيش وأصبح الكثيرون يرون استحالة استبعاد المؤسسة العسكرية عن المجال الاقتصادي (رويترز)

مع قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر، وما ترتب عليها من تحولات على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك الأمنية والعسكرية، برزت مجموعة من القضايا بل والتحديات التي كانت محلًّا للاهتمام، ليس فقط على مستوى الممارسين والمنخرطين في العملية السياسية في مصر، ولكن أيضًا على مستوى الباحثين والمتخصصين في العلوم السياسية عامة، وفي قضايا التحول الديمقراطي خاصة. وكان من أهم هذه القضايا، قضية العلاقات المدنية-العسكرية أمام تعاظم الدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2011 وحتى الآن.

هذا الدور الذي لم يكن وليد التحولات التي شهدتها مصر شعبيًّا عام 2011 وعسكريًّا في 2013، ولكنه يعود بجذوره القريبة إلى العام 1952 مع الانقلاب الذي شهدته مصر في 23 يوليو/تموز من ذلك العام، والذي شكَّل البداية الرسمية لتغلغل، بل، وهيمنة المؤسسة العسكرية على العديد من مفاصل الدولة، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا بل وإداريًّا وتنظيميًّا وتشريعيًّا حتى برزت مقولة كاشفة عند البعض وتفسيرية عند البعض الآخر تقوم على أن هناك وضعًا معكوسًا في مصر يتمثَّل في وجود "جيش له دولة وليست دولة لها جيش". وذهب أحد المتخصصين إلى إطلاق اسم "جمهورية الضباط" على الدولة التي تشكَّلت في مصر بعد 1952، وترسخت بعد انقلاب 2013. وفي إطار هذه الاعتبارات، تبحث الدراسة محددات ومؤشرات دور المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2013 ومساراتها، وكيف يمكن إدارة العلاقات المدنية-العسكرية في مصر، استنادًا إلى هذه المحددات وتلك المؤشرات.

وتنبع أهمية الدراسة من عدة اعتبارات، يميز الباحث في إطارها بين مستويين أساسيين:

- أولًا: الأهمية العلمية:

حيث تشكِّل قضية العلاقات المدنية-العسكرية إحدى أهم قضايا التحولات السياسية التي شهدتها الدول العربية منذ العام 2011، ورغم جذرية هذه التحولات في كثير من الحالات، إلا أنها ما زالت تحتاج إلى المزيد من البحوث والدراسات حول أبعاد هذه القضية، ونماذجها وتجاربها المختلفة، وآليات إدارتها، وهو ما تسعى هذه الدراسة إلى المساهمة فيه، من خلال تناول محددات وأبعاد هذه القضية في الحالة المصرية، وخاصة بعد 2013، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، ما تفرضه هذه القضية على المستوى النظري التحليلي من أهمية عدد من المفاهيم، وضرورة العمل على التأصيل المعرفي لها، وخاصة ما يرتبط منها بنظريات ونماذج إدارة العلاقات المدنية-العسكرية.

- ثانيًا، الأهمية العملية:

كشفت السنوات المنصرمة، بعد انقلاب 2013، في مصر عن أزمة حقيقية لدى معظم، إن لم يكن كل، النخب السياسية والفكرية، وكذلك العسكرية، حول آليات ومسارات إدارة العلاقات المدنية-العسكرية، وخاصة مع التغلغل الكبير للمؤسسة العسكرية المصرية في معظم مفاصل وقطاعات ونشاطات الدولة على كافة المستويات، لدرجة الربط بين هذه المؤسسة وبقائها والدولة وبقائها، وكأن العلاقة بينهما علاقة بقاء ووجود، وهو ما يكشف عن اختلالات عميقة في المفاهيم أولًا، وفي الأدوار ثانيًا، وفي كيفية الفصل والتوزيع ثالثًا، ولذلك جاءت أهمية هذه الدراسة، عمليًّا، من محاولتها الإسهام في دعم عملية صنع القرار بين النخب المدنية والعسكرية فيما يتعلق بإدارة العلاقات فيما بينهما، والنماذج العملية لهذه الإدارة.

وفي إطار الاعتبارات السابقة تسعى الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:

1. بيان المحددات الأساسية لدور المؤسسة العسكرية في مصر وموقعها من الحكم بعد 2013.

2. تحديد مؤشرات ومقومات هذا الدور، وتأثيراته على العلاقات المدنية-العسكرية.

3. بيان درجة اقتراب الحالة المصرية في العلاقات المدنية-العسكرية من النماذج النظرية المتعارف عليها، ومدى قدرة هذه النماذج على تقديم إسهام قابل للتطبيق في مصر.

واعتمدت الدراسة مدخلًا نظريًّا يرتكز على نموذج الدور الذي يقوم على عدد من الافتراضات، من بينها أن بعض أنماط السلوك تُعَدُّ صفة مميزة لدى الأفراد الذين يعملون داخل إطار معين، وأن الأدوار غالبًا ما ترتبط بعدد من الأفراد الذين يشتركون في هوية واحدة، وأن الأفراد غالبًا ما يكونون مدركين للدور الذي يقومون به، وأن الأدوار تستمر جزئيًّا بسبب النتائج التي تترتب عليها من ناحية، وبسبب أنها غالبًا ما تكون داخل نظم اجتماعية أكثر اتساعًا من ناحية ثانية، وأن الأفراد يجب أن يتعلموا الأدوار التي يقومون بها،أي يتم تأهيلهم للدور الذي يُعهد إليهم، بما يضمن الحفاظ على استمرارية وترسيخ هذا الدور.

وفي إطار هذه الافتراضات، تتبنى الدراسة تعريفًا إجرائيًّا لمفهوم الدور، باعتباره الجهود والنشاطات التي تقوم بها جماعة من الجماعات السياسية أو الاجتماعية للدفاع عن مصالحها وترسيخ وجودها في المجتمع الذي توجد فيه، والتي تختلف من مجتمع إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، ومن جماعة إلى أخرى، باختلاف خصائص وسمات هذه المجتمعات والبيئات وتلك الجماعات.

والدور بهذا التعريف يقوم على عدد من المؤشرات الأساسية، من بينها: وجود مجموعة من الوظائف، تحكمها واجبات وحقوق محددة، مع التمايز في هذه الوظائف وتلك الواجبات والحقوق، والارتباط بمركز أو كيان مُعين يُمثِّل أحد جوانب النسق الاجتماعي القائم، مع ضمان الاستمرارية والثبات النسبي، وإمكانية التنبؤ بهذه الأدوار في ظل ما يرتبط بها من توقعات، وما تتسم به من ثبات واستمرارية، وهذا ما يسعى الباحث لاختباره في هذه الدراسة.

وترى الدراسة أن تعزيز مدنية الدولة في مصر، والحد من عسكرتها، يفرض أن يكون الجيش خاضعًا للرقابة الديمقراطية، من خلال عدد من الأدوات، منها:

1. سيطرة مدنية: حيث يكون للسلطات المدنية السيطرة على مهمات الجيش وتكوينه، والميزانية والمشتريات العسكرية، وأن تكون الموافقة على سياسة الجيش من قبل القيادة المدنية، مع تمتع الجيش بالحرية في تحديد العمليات المطلوبة لتحقيق أهداف السياسة العامة التي تحددها السلطة المدنية.

2. حكم ديمقراطي: من خلال مؤسسات برلمانية وقضائية ديمقراطية، ومجتمع مدني قوي ووسائل إعلام مستقلة تشرف على أداء الجيش. وهذا يضمن المساءلة أمام كل من المواطنين والحكومة، ويعزز الشفافية في قراراتها وأفعالها.

3. خبرة مدنية: بأن يتوافر للمدنيين الخبرة اللازمة للإدارة والإشراف على المسؤوليات الدفاعية، ويحد من ذلك احترام المدنيين للخبرة المهنية للعسكريين.

4. الحياد الأيديولوجي وعدم التدخل في السياسة الداخلية: حيث لا يؤيد الجيش أو أي من أفراده أية أيديولوجية أو توجه بخلاف الولاء للدولة.

5. حد أدنى من الدور الاقتصادي: للجيش دور اقتصادي في القطاعات المرتبطة بالدفاع، لكنه يجب ألا يؤدي إلى تمييع ولاء الجيش للقيادة المدنية الديمقراطية، أو أن يدخل الجيش بمنافسة غير متكافئة مع القطاع الصناعي المدني.

وتلاحظ الدراسة أن هذه الأمور، قد يكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل تحقيقها في ظل التوازنات القائمة في الداخل المصري، وفي بيئته الإقليمية والدولية الراهنة. لذا، فإن الوضع يتطلب التفكير في منظور معكوس لما افترضه صمويل هنتنغتون (Samuel Huntington)، حول الاحتراف العسكري، الذي يمكن أن ينجح في الديمقراطيات المستقرة، وكذلك تجاوز نموذج موريس جانوويتز (Morris Janowitz)، القائم على قصر تدخل العسكريين على بعض مجالات السياسة الخارجية وسياسات الدفاع، مع سيطرة النخبة السياسية من خلال مجموعة من القواعد الرسمية، لأن هذين النموذجين يصطدمان بعدد من المعوقات الأساسية، منها:

أ- أن عملية التحول عن الحكم العسكري هي في غاية التعقيد، والمسؤولية الرئيسية فيها تقع على قدرة التيارات السياسية المدنية على الاتفاق حول الترتيبات المناسبة لإقرار نظام ديمقراطي، وبالتالي يكون فشل المدنيين -وليس قوة العسكريين- هو السبب الرئيسي لاستمرار التدخل العسكري في العملية السياسية.

ب- الوصول إلى السيطرة الديمقراطية الكاملة على القوات المسلحة صعب التحقق بالنسبة إلى الديمقراطيات الناشئة، ولابد للنخب المدنية في الدول التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي أن تضع الاستراتيجية المناسبة لإدارة علاقاتها مع النخبة العسكرية وفقًا للظروف الخاصة بدولها، بما لا يقضي على العملية الديمقراطية، لكن قد لا يتحقق التحول الديمقراطي دفعة واحدة.

ج- تفرض المشكلات الأمنية والاقتصادية المتزايدة على الأنظمة السياسية -في ظل ضعف بنية الدولة- القبول بتدخل الجيش في الحياة المدنية، إما للمساهمة في فرض النظام والقانون وإما لدعم عملية التنمية، وهو الأمر الذي لا يتعارض مع جوهر النظام الديمقراطي في حال ما كان الجيش يقوم بتلك الأدوار تحت سيطرة السلطات المدنية ووفق فترة زمنية محددة، وشريطة ألا تتوسع تلك الأدوار بدرجة أكبر لتصل إلى مرحلة التدخل في الحياة السياسية.

د- تفرض الحالة المصرية معضلة حقيقية ليس فقط بسبب تسلم الجيش للسلطة بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ولكن أيضًا لما للنظام المصري من جذور تاريخية في الشرعية العسكرية منذ حكم الجيش في 1952، حيث تقوم المؤسسة العسكرية باستخدام مصطلح الأمن القومي، دون تحديد أو تعريف ماهيته وحدوده، لِشَرْعَنَة ممارساتها والإبقاء على امتيازاتها.

وهنا، يرى الباحث ضرورة التفكير في نموذج يجمع بين النظريات الأساسية في إدارة العلاقات المدنية-العسكرية، ليس باعتبارها اتجاهات فكرية متعارضة، ولكن باعتبارها مراحل متدرجة لهذه الإدارة، على النحو التالي:

- المرحلة الأولى: التوافق المدني-العسكري، وفق ما قالت به ريبكا شيف (Rebecca Schiff) في دراستها التي جاءت بعنوان "الجيش والسياسات الداخلية: نظرية التوافق في العلاقات المدنية العسكرية"، وتقوم على اتفاق العسكر والمدنيين على أربعة مؤشرات أساسية، يتم من خلالها تحديد دور المؤسسة العسكرية، وهي: التركيبة الاجتماعية للضباط، وعملية اتخاذ القرارات السياسية، وطرق التوظيف، والنمط (العقيدة) العسكري، وذلك حسبما ترتضيه الأطراف المتشاركة.

- المرحلة الثانية: المسؤولية المشتركة، وفق ما قال به دوجلاس بلاند (Douglas Bland)، والتي تقوم على الاشتراك في المسؤوليات بين المدنيين والعسكريين، سواء من خلال توزيع الأدوار، أو دمج بعضها دون انصهارها.

- المرحلة الثالثة: ويمكن أن تندرج ضمن مقولات بيتر فيفر (Peter Feaver)، حول "نظرية الوكالة"، التي تنظر للعلاقات المدنية-العسكرية على أنها شكل من أشكال التفاعل الاستراتيجي بين المدنيين والعسكريين، وفي إطارها يختار المدنيون الطرق التي يمكن من خلالها مراقبة الجيش، مع مراعاة مزايا التخصص التي يتسم بها العسكريون.

- المرحلة الرابعة: وتكون المحصلة النهائية لمراحل التطور، وفيها تصل العلاقات المدنية-العسكرية، إلى ما أطلق عليه صمويل هنتنغتون "الاحتراف العسكري"، التي ترتكز على عدة منطلقات أساسية، تشمل تطوير المؤسسات العسكرية لتخصصاتها المختلفة، ونمو الدول القومية، وصعود الأفكار الديمقراطية كأساس لتنظيم المؤسسات السياسية، وضرورة وجود مصدر واحد للسلطة الشرعية على القوات المسلحة.

يدفع للتفكير في هذه المراحل وتلك الخطوات، من جانب المؤسسة العسكرية المصرية، طبيعة التحديات الأمنية والعسكرية والسياسية التي تتعرض لها منذ انقلاب 2013، وما ترتب عليها من تداعيات سلبية على صورتها الذهنية، ابتداءً وعلى درجة الاستقرار السياسي والاقتصادي في مصر، التي يشير كثير من التقارير الدولية إلى تراجع مؤشراته، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، إدراك التيارات المدنية لعدم قدرتها على التخلص الجذري من هيمنة المؤسسة العسكرية، وحرصها في الوقت نفسه على بقاء هذه المؤسسة مستقرة في ظل الانهيارات التي تعرضت لها معظم المؤسسات العسكرية العربية منذ 1991 وحتى الآن. ومن ناحية ثالثة، التحولات الإقليمية والدولية الراهنة، التي هي في الكثير منها خارج سيطرة النخب المدنية والعسكرية، وتفرض عليهما التعاطي معها بفاعلية، وإلا ستكون حركة الجماهير الغاضبة، وموجات الانتفاضات المتتالية، عامل تغيير جذري، ينال ليس فقط من استقرار هذه النخب، ولكن أيضًا من بقائها واستمرارها.

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا) وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. عصام عبد الشافي، رئيس أكاديمية العلاقات الدولية، ومدير المعهد المصري للدراسات. أستاذ العلوم السياسية بجامعة صقاريا التركية سابقًا.

نبذة عن الكاتب