لبنان: نحو طائف جديد أو الخروج عليه

مع انخفاض وتيرة القتال في سوريا، وخوض إيران مواجهة مباشرة وبالواسطة ضد واشنطن وحلفائها، يقف لبنان اليوم أمام واقع إقليمي جديد ينعكس على الداخل بمزيد من التأزم، وسط حديث عن ضرورة إعادة النظر في تركيبة الحكم اللبنانية التي أرساها اتفاق "الطائف".
13d615b977a740d69d3d060712be0ecf_18.jpg
تراجع قدرة حزب الله فرصة كي يعزز جبران باسيل من صعوده، لاسيما أن الحزب سيزيد من الاعتماد على حلفائه وباسيل من أهمهم. (رويترز)

مقدمة

يقف لبنان اليوم أمام واقع إقليمي جديد ينعكس على الداخل بمزيد من التأزم، وسط حديث عن ضرورة إعادة النظر في تركيبة الحكم اللبنانية. هذا، وتركز الورقة على دور التبدلات الإقليمية في تشكيل الأجندة المحلية اللبنانية وتأثيراتها على الصيغة اللبنانية التي أرساها اتفاق الطائف.

أسس اتفاق الطائف، في 30 سبتمبر/أيلول عام 1989 (أقرَّه البرلمان في 22 أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته)، والوضع الإقليمي والدولي المرافق له، لمعادلة تقاسم سلطة جديدة في البلاد، في ظل رعاية النظام السوري ووجود قواته وأجهزته الأمنية على الأرض. واتسم إطار الحل للأزمة اللبنانية الذي كان إقليميًّا، بمسارين، الأول: سياسي سوري-سعودي، والثاني: سوري-إيراني ذو طابع أمني.

في المسار الأول، فتح الطائف عمليًّا الباب أمام مشاركة مختلفة في الحكم للقوى الفائزة في الحرب الأهلية، والمدعومة من النظام السوري، تحديدًا حركة "أمل" بقيادة نبيه بري و"الحزب التقدمي الاشتراكي" بزعامة وليد جنبلاط، وقوى أخرى ثانوية موالية لدمشق. لكن الدور السعودي في الطائف شكَّل مدخلًا أيضًا لرجل الأعمال، رفيق الحريري، إلى السياسة، والذي نجح في إدارة عملية إعادة الإعمار وإرساء توازنات داخلية وإقليمية. هكذا شكَّل نظام الطائف شراكة بين رجل أعمال مدعوم سعوديًّا من جهة، وزعماء حرب لبنانيين وحلفاء آخرين للنظام السوري، أقل تمثيلًا.

كانت مرحلة الطائف في تسعينات القرن الماضي، أشبه بمَلَكية دستورية يتدخل فيها الحاكم الفعلي، أي النظام السوري، من أجل تعديل توازنات السلطة كلما شعر بتهديد، أو حتى بضرورة تعديلات تلائم مصالحه الأساسية. في المقابل، كان "حزب الله" خارج المعادلة السياسية، سوى بتمثيل نيابي رمزي تحت عنوان "الوفاء للمقاومة"، في حين تولت حركة "أمل" إدارة الحصة الشيعية في الدولة حتى انسحاب القوات السورية من لبنان.

في موازاة المسار السياسي للطائف، بتوافق سوري-سعودي، كان هناك تفاهم آخر ذو طابع أمني، سوري/إيراني، أضفى الشرعية على "حزب الله" تحت مسمى مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. مع أن التركيز في التحليلات يتمحور غالبًا حول التفاهم السعودي/السوري، إلا أن سياق الأحداث خلال العقود الثلاث الماضية، يُظهر دومًا أن الاتفاق مع طهران كان أعمق تأثيرًا على الواقع اللبناني ومآلاته، نظرًا لمأسسته وجودًا عسكريًّا وأمنيًّا منفصلًا عن الدولة وآلية اتخاذ القرار فيها.

حدثان إقليميان انعكسا سلبًا على السيطرة السورية، وعجَّلا بترهلها، أولًا: وفاة الرئيس السوري، حافظ الأسد، عام 2000، وتولي نجله بشار السلطة. فَتَحَتْ قلَّة خبرة وريث الرئاسة السورية، مجالًا أمام أخطاء استراتيجية في التعاطي مع الفرقاء اللبنانيين، وخصوصًا اتخاذ قرار التمديد للرئيس اللبناني السابق، إميل لحود، عام 2004، ما أحدث شرخًا في الطبقة السياسية اللبنانية، وزاد من منسوب معارضة الدور السوري في لبنان.

وثانيًا: تبدل السياسات الأميركية في المنطقة بعد اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، بدءًا بغزو العراق عام 2003، وانتهاء بالضغط على النظام السوري للانسحاب من لبنان بعد اغتيال الحريري في فبراير/شباط عام 2005. 

أرست هذه التحولات واقعًا جديدًا في لبنان، بعد الانسحاب السوري منه. لم يعد النظام السوري اللاعب الرئيسي في لبنان، بل أدار "حزب الله" اللعبة السياسية بالأصالة، ووفقًا لأجندة مرتبطة بمصالحه، وتُركز على الحفاظ على "سلاح المقاومة" أولًا، لا النظام. وعندما كانت تحصل المقايضة بين "حزب الله" وخصومه في السياسة اللبنانية، كان النظام السوري عادة ضحيتها، مقابل التزام شامل بسلاح "المقاومة" والإقرار بشرعيته في البيان الوزاري. هكذا شهد لبنان خلال سنوات قليلة، إقصاء لبعض حلفاء النظام السوري، وإقرارًا بالمحكمة الخاصة بلبنان لمحاكمة قتلة رفيق الحريري، مقابل توكيد على حق "حزب الله" بالاحتفاظ بسلاحه في التركيبة اللبنانية.

حتى دخول "حزب الله" بالحرب السورية، علنًا عام 2012، حمل بعض التبدلات في توازن العلاقة مع النظام السوري، وتحديدًا لجهة أن التنظيم حمل معه أجندته الخاصة في التدخل. بعد أقل من عام على التدخل، وتحديدًا في التاسع من مايو/أيار عام 2013، شرح الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، رؤية التنظيم لفوائد الصراع في سوريا، سيما تحويلها ساحة لمواجهة اسرائيل:

"كل الذين كانوا ينتقدون سابقًا القيادة السورية في موضوع الجولان، كنا نقول له: هناك فرق بين لبنان والجولان، أنه في لبنان يوجد هامش للمقاومة نتيجة أن العالم يعتبر أن الدولة المركزية ضعيفة، فلا تدفع الدولة ثمن عمل المقاومة، أما سوريا دولة مركزية قوية، هذا الهامش غير متاح. بالحرب التي فرضتموها على سوريا تم تحويل التهديد إلى فرصة، أليس هذا ما يقولونه بالإدارة: تحويل التهديد إلى فرصة؟ فرضتم حربًا على سوريا لإضعافها، هذا يعني أن الهامش الذي يتيح قيام مقاومة شعبية في الجولان أصبح موجودًا، فإلى المقاومة الشعبية في الجولان، هذا رد استراتيجي كبير(1)".

رفعت مشاركة التنظيم في الحرب السورية وتيرة الانقسام المحلي، والتوتر المذهبي، وأنتجت عُنفًا مقابلًا تمثل بظاهرة الشيخ أحمد الأسير جنوبًا، وبانخراط سُني ضعيف نسبيًّا في صفوف الفصائل الجهادية. كان ارتفاع منسوب التوتر مرتبطًا إلى حد بعيد برهانات محلية على تبدل النظام في سوريا، نظرًا إلى أهمية ذلك في قلب التوازنات الداخلية، وتحديدًا إضعاف "حزب الله". إلا أن مسار الحرب كان لمصلحة الحزب مع انتهاء معركة القصير لمصلحته عام 2013، رغم الخسائر البشرية المترتبة على ذلك. على الصعيد الأمني والعسكري، رفعت هذه المشاركة من معنويات التنظيم، سياسيًّا وعسكريًّا، إذ لم يدخل سابقًا في معارك تقليدية من هذا النوع، ولم يسبق أن بعث هذا العدد من المقاتلين خارج البلاد.

العامل الروسي

التدخل الروسي في الحرب السورية، عام 2015، أعاد خلط الأوراق، ليس في سوريا فحسب، بل أيضًا وإلى حدٍّ ما، لبنانيًّا. مشروع إنشاء مقاومة شعبية في الجولان، تراجع ليس فقط نتيجة الضربات الإسرائيلية المتواصلة، لكن أيضًا لأن التدخل الروسي وضع نُصب عينيه أهدافًا مختلفة لا تتناسب مع إبقاء أية جبهة مفتوحة.

زوال خطر انهيار النظام السوري، أثار الكثير من التساؤلات عن احتمال عودته إلى الساحة اللبنانية بصيغة مختلفة، سيما في ضوء التقارير عن ارتفاع منسوب التوتر بين موسكو وطهران حيال الوجود الإيراني في سوريا.

ذلك أن روسيا شرعت منذ بدء تدخلها السوري في رفع منسوب دورها في لبنان، ثقافيًّا وسياسيًّا وحتى عسكريًّا وأمنيًّا، ما أسس لتبدل في الساحة اللبنانية والتحالفات المحلية مع الخارج. ومن المفارقة أن التدخل الروسي في سوريا، تزامن مع صعود جبران باسيل إلى قيادة "التيار الوطني الحر"(2)، وتلاه في العام اللاحق انتخاب الرئيس اللبناني، ميشال عون(3).

منذ البداية، عمل باسيل على تعزيز علاقته بالجانب الروسي من خلال سلسلة زيارات قام بها إلى موسكو، ومن خلال وسيط (النائب أمل أبو زيد) الذي تولى لاحقًا منصب مستشار الرئيس للشؤون الروسية. مقارنة ببقية الأقطاب السياسية، عكف باسيل على تنمية علاقاته بالجانب الروسي بشكل وثيق، وتُوجت بالزيارة الرئاسية إلى موسكو هذا العام. وفقًا لمسؤول روسي، كانت الزيارة الرئاسية اللبنانية إلى موسكو في نهاية مارس/آذار الماضي (2019)، علامة فارقة في العلاقة بين الجانبين(4).

ميزت الزيارة باجتماع مغلق بين الرئيسين، عون وفلاديمير بوتين، حضره أيضًا عن الجانب الروسي وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ويوري أوشاكوف، مساعد الرئيس، والسكرتير الإعلامي، ديمتري بيسكوف، وعن الجانب اللبناني وزير الخارجية، جبران باسيل، ومستشارة الرئيس، ميراي عون، عن الجانب اللبناني. خلصت الزيارة إلى خطوط تفاهم عامة بين الجانبين حيال ملفات النازحين والنفط والغاز والتعاون الدبلوماسي والعسكري والأمني والمالي والتبادل التجاري والاقتصادي.

بعد أسابيع قليلة، زار باسيل موسكو مجددًا، في سياق سعيه الدؤوب لتعزيز العلاقة مع الجانب الروسي، نظرًا لتأثير موسكو في الجوار السوري، واحتمال لعبها أدوارًا مباشرة ووسيطة قد تُوفر غطاء لطموحه الرئاسي مستقبلًا(5). والعلاقة مع موسكو البراغماتية أكثر قبولًا لدى الجانب المسيحي، من تحالف على سبيل المثال، مع إيران المحافظة دينيًّا وصاحبة العلاقة المتأزمة دومًا مع دول الخليج العربي. 

وفي موازاة الوضع الاقليمي، يُوالي باسيل صعوده محليًّا عبر مسارين، أولًا: التحريض ضد الآخر، إن كان لاجئًا سوريًّا أو فلسطينيًّا، والتصعيد كلاميًّا وسياسيًّا ضد أقطاب سياسية محلية مثل الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، ورئيس مجلس النواب، نبيه بري. هذا المسار الأول يمنح باسيل زخمًا سياسيًّا، وبعض الشعبية في الأوساط المسيحية حصرًا، سيما أن خطابه يرتكز على إعادة الحقوق المسيحية المهدورة منذ اتفاق الطائف. المسار الثاني، والأصعب، هو العمل على تحقيق إنجازات خدماتية وريعية تمامًا كما يفعل بقية زعماء الطوائف منذ نهاية الحرب الأهلية؛ ذلك أن في صلب مهمة استعادة حقوق المسيحيين، الإمساك بالتعيينات الحكومية (أي توظيف موالين من المسيحيين داخل الوظائف الحكومية)، تمامًا مثل بقية زعماء الطوائف. ووفق هذه المعادلة، فإن أية مناكفة بين باسيل، بصفته ممثلًا للمسيحيين ومدافعًا عن حقوقهم، وزعماء الطوائف الأخرى، حيال التعيينات وحقوق المسيحيين فيها، ينعكس إيجابًا عليه.

في هذا السياق، تُفهم التوترات الناشئة بين باسيل من جهة، وبين الرئيس نبيه بري، والزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، من جهة ثانية. إصرار باسيل على مناكفة زعماء الطوائف، يرفعه إلى مستواهم، ويُظهره كلاعب مسيحي مفقود منذ نهاية الحرب الأهلية وبدء عهد الوصاية السورية. 

لابد من قراءة هذا الصعود والثقة في إطار إيلاء زعيم "التيار الوطني الحر" أهمية خاصة لعلاقته بموسكو، بصفتها القوة الصاعدة في الإقليم، وربما الضامنة لدور رئيسي يلعبه مستقبلًا.

باسيل ظاهرة إقليمية

يشكِّل وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، بعلاقته المميزة مع روسيا وتحالف تياره مع "حزب الله"، ظاهرة إقليمية أيضًا؛ إذ يأتي صعوده في لحظة سياسية مواتية في المنطقة: تلعب روسيا دورًا رياديًّا في الجوار السوري، وتملك نفوذًا في أجهزة أمنية سورية من ضمنها الاستخبارات العسكرية التي كُلِّفت بإدارة بملف لبنان طوال عهد الوصاية وما بعده. والواقع أن روسيا بعلاقاتها المتشعبة مع دول الخليج واسرائيل وإيران وتركيا، تملك هامشًا من المناورة السياسية، لا يبدو متوافرًا لدى الولايات المتحدة، رغم أنها ما زالت قوة لا يستهان بها في الداخل اللبناني.

في المقابل، تبدو إيران مقبلة على انكفاء وإعادة تموضع نتيجة ضعف مواردها، وبالتالي قدرتها على تسديد كلفة وكلائها، كما ظهر في تقارير غربية(6)؛ ذلك أننا اليوم نقف أمام أزمة مالية تتكشف تباعًا، وما زالت في بداياتها. تقلصت الموازنة الإيرانية من 104 مليارات دولار(7) (نهاية عام 2017 لعام 2018)، إلى 43 مليارًا(8)، وانخفضت إلى النصف بعد شهور من بداية العام الجاري. مبيعات النفط الإيرانية وصلت إلى أقل مستوى لها منذ عقود (مئة ألف برميل وفقًا لوكالة رويترز)(9).

لابد أن ينعكس هذا الانخفاض غير المسبوق على قدرة "حزب الله" على المناورة سياسيًّا في الداخل اللبناني، وتحديدًا حيال تبني قضية المؤتمر التأسيسي. وبالفعل، باتت إجراءات التقشف لدى الحزب علنية، وطالت حلفاء باتوا يبحثون عن خيارات أخرى لتمويل نشاطاتهم. هذا الانخفاض المرتقب في قدرة الحزب يُمثل فرصة أيضًا لباسيل، ذاك أن الحزب سيزيد من الاعتماد على حلفائه، وقد يُقدم على مقايضة كبرى مع الزعيم المسيحي الصاعد من أجل ضمان قانونية سلاحه.

المؤتمر التأسيسي

في بداية التدخل المثير للجدل لحزب الله في سوريا، ارتفعت المطالبات بالبحث في سلاح التنظيم، عندها أثار الحزب، وللمرة الأولى على لسان أمينه العام في يونيو/حزيران 2012، عقْد "مؤتمر تأسيسي وطني عنوانه: بناء الدولة"(10). كما جاء على لسان نصر الله، يُنتخب المؤتمر على أساس "تركيبة الشرائح الوطنية وليس على أساس طائفي أو مناطقي". وهذا المؤتمر يُمثل ركيزة لأي بحث في الاستراتيجية الدفاعية لربط السلاح بالدولة وجهازها التمثيلي. وكلام نصر الله لم يأت خارج السياق؛ ذلك أن الحزب وفي سياق دفاعه عن السلاح، يتحدث عن شرعيته وفقًا للطائف. كما يربط التنظيم في خطابه السياسي بين المناصفة، رغم كونها مجحفة عدديًّا للشيعة والسنَّة، من جهة، والاعتراف بشرعية سلاح "المقاومة" من جهة ثانية، وكأن السلاح هنا بمنزلة تعويض عن نقص في الحصة الشيعية في توازنات السلطة، مقارنة بحجمهم العددي، بحسب جداول الانتخابات والإحصاءات غير الرسمية.

اليوم، ونتيجة الوضع المالي المتردي، يُظهر "حزب الله" اتكالًا أكبر على الحلفاء المحليين، وبخاصة "التيار الوطني الحر" لما يُمثِّله من ثقل مسيحي، للحفاظ على موقعه الداخلي ودرء المخاطر. ولذا، يُلاحَظ سلوك حذر جدًّا للتنظيم في التعاطي مع التيار، كما ظهر في عقاب النائب، نواف الموسوي، عند مسِّه، ولو عرضًا، بخطوط حمراء لم تكن واضحة قبل سنة أو اثنتين؛ ذاك أن النائب عن "حزب الله"، وفي سياق هجومه على زعيم حزب "الكتائب اللبنانية" النائب، سامي الجميل، قال: إن الرئيس اللبناني الحالي، ميشال عون، جاء ببندقية المقاومة، وليس بدعم إسرائيلي، كما في حالة الرئيس الراحل، بشير الجميل. مثل هذا النقد لم يعد مقبولًا لدى الحزب. وهذه سياسة تنسحب على مسائل أخرى يبدو أن للحلفاء اليد الطولى في اتخاذ القرارات فيها، فيما ينكفئ الحزب على معالجة أزماته الداخلية، والتحديات المتزايدة في سوريا والإقليم. ومن علامات هذا الواقع، أن الحزب تراجع عن مطالب داخلية سابقة، من قبيل تفعيل الهيئات الرقابية وحتى ملاحقة الحلفاء في ملفات الفساد(11). "الدولية للمعلومات" نشرت الشهر الماضي (يوليو/تموز 2019) إحصاء جديدًا للطوائف في لبنان، ورد فيه أن المسيحيين بمجموع طوائفهم في المرتبة الثالثة بعد الشيعة والسنَّة، تباعًا. بحسب الإحصاء، يتوزع 5.5 ملايين لبناني (بينهم 1.3 مليون من غير المقيمين)، على مليون و686 ألف مسيحي (بنسبة 30? فقط)، ومليون و743 ألف شيعي، ومليون و721 ألف سني(12). وفق هذا الإحصاء، حتى المثالثة بين السنة والشيعة والمسيحيين(13) غير عادلة عدديًّا، ناهيك عن المناصفة الحالية.

رغم نتيجة هذا الإحصاء وتمثيلها فرصة مواتية، لم يخرج عن "حزب الله" أي تصريح عن المؤتمر التأسيسي وضرورة إعادة النظر في التركيبة اللبنانية من خلال إعادة توزيع المناصب؛ ذلك أن التنظيم معني أولًا بالسلاح والقدرة العسكرية والأمنية، ويستعيض بهما عن أي نفوذ إضافي في السلطة اللبنانية.

واللافت أن "حزب الله" لا يلوذ بالصمت فحسب حيال مطالبه السابقة، بل أيضًا يظهر داعمًا لتقدم باسيل حيال خصومه، كما هو الأمر في التعيينات، أو في حوادث أمنية، ومنها ما حصل أخيرًا في المواجهة بين الأخير وبين الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، على خلفية حادث قبرشمون(14). كان "حزب الله" أعلن على لسان أمينه العام، حسن نصر الله، مجموعة وعود انتخابية من مكافحة الفساد، إلى التوظيف العادل، لكن يبدو الحزب اليوم وكأنه في تراجع شامل عن وعوده، ويركز على تأمين الجبهة الداخلية عبر الحلفاء لضمان عدم التعرض لسلاحه، حتى لو كلاميًّا. 

ذاك أن "حزب الله"، بصفته اللاعب الأقوى لبنانيًّا، لن يقبل في ظرف إقليمي مختلف، دخولًا روسيًّا على خط السياسة اللبنانية، من بوابة باسيل وحلفاء النظام السوري. بيد أن الحزب تخلى مثلًا عن دعم اتفاق التعاون العسكري اللبناني-الروسي منتصف العام الماضي (2018)، بعد استنفار عناصره في القلمون ضد قوة من الشرطة العسكرية الروسية على خلفية خلافات حول التموضع والانتشار في المنطقة(15). أثارت الحادثة حفيظة الحزب، كونها أشرت إلى بدء علاقة مختلفة مع الروس بعد سنتين من القتال والتعاون على أكثر من جبهة في الداخل السوري. فمن النقاط الخلافية: التنسيق الإسرائيلي مع روسيا حيال قصف أهداف إيرانية، والمحادثات الروسية-الأميركية حيال الوجود الإيراني. والمسؤولون الروس، وفقًا لمصادر دبلوماسية، يؤكدون دومًا أن العلاقة مع إيران في سوريا تكتيكية وليست استراتيجية. هذه الحساسية حيال الدور الروسي تنعكس على لبنان أيضًا، ووصفها الأمين العام لحزب الله في مقابلة تليفزيونية له، وتحديدًا عند قوله: إن "تنسيقنا في سوريا هو مع السلطة السورية ولم يكن يومًا مع روسيا"(16).

في ظل إعادة تموضع "حزب الله" داخليًّا، وصعود باسيل على الساحة اللبنانية، سقط الحديث عن "المؤتمر التأسيسي" وإعادة النظر في الطائف، وبات التركيز الأساسي يتمحور حول حماية شرعية السلاح.

خاتمة

إن للأزمة المالية الإيرانية تأثيرًا على الواقع اللبناني؛ إذ تدفع حزب الله نحو مقاربة الملفات السياسية اللبنانية من موقع دفاعي، بهدف إبعاد سلاحه عن النقاش السياسي في الداخل، والاهتمام بتحديات كبرى مقبلة، بعضها تنظيمي نتيجة تراجع التمويل، وبعضها إقليمي في ظل الاشتباك الأميركي-الإيراني في الخليج. أما العامل الثاني المؤثِّر في إعادة صياغة الواقع اللبناني فيتمثل بالدور الروسي الصاعد، ومحاولة زعيم التيار الوطني الحر، جبران باسيل، تجييره لمصلحته في المعركة الرئاسية المقبلة عام 2022 بحد أقصى.

من الواضح أن "حزب الله" تخلى عن أجندته الاصلاحية التي تبناها قبيل الانتخابات النيابية العام الماضي (2018)، لأنها ستنعكس سلبًا عليه وعلى علاقته بحلفاء أساسيين يحتاج لدعمهم في المواجهة المتواصلة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. في مقدم قائمة الحلفاء، جبران باسيل، الذي بات قادرًا بحكم تفاهمين مع "حزب الله" ورئيس مجلس الوزراء، سعد الحريري، على إدارة ملفات خدماتية حساسة. يبقى أن التموضع الحالي لحزب الله، قد لا يدوم في حال تراجع منسوب التوتر الإيراني-الأميركي، وتعافي المالية الإيرانية. حينها، قد يُعاد خلط الأوراق بالداخل اللبناني باتجاه مختلف، ربما عبر إحياء مطلب "المؤتمر التأسيسي".

______________________________________________________________________

*- د مهند الحاج علي: مدير الاتصالات والإعلام وباحث مقيم بمركز كارنيغي للشرق الأوسط بيروت

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)- أمين عام حزب االله، سماحة السيد حسن نصر الله، موقع المقاومة، 8 مايو/أيار 2013، (تاريخ الدخول: 15 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2Kpi2ZF 

(2)- باسيل رئيسًا رسميًّا لـ"التيار الوطني الحر" لأربع سنوات تبدأ في 20 أيلول، جريدة النهار، 28 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2019): http://tiny.cc/mrapaz 

(3)- انتخاب ميشيل عون رئيسًا للبنان، الجزيرة نت، 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016، (تاريخ الدخول: 28 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/ewapaz 

(4)- مقابلة مع مسؤول روسي في بيروت، 20 يوليو/تموز 2019.

(5)- زيارة باسيل بالتوقيت المناسب: موسكو تنسج تسوية كبرى، المدن، 17 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 25 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/5ccpaz 

(6)- Hubbard, Ben, Iran’s Allies Feel the Pain of American Sanctions, The New York Times, March 28, 2019, (accessed: 28 July, 2019). https://nyti.ms/2V6Swgd 

(7)- Iran's Rouhani submits conservative 2018 budget as U.S. tensions overshadow economy, Reuters, December 10, 2017, (accessed: July 31, 2019). https://reut.rs/2BRW23M 

(8)- Iran Unveils First Annual Budget Since U.S. Sanctions Were Reimposed, Radio Free Europe, December 25, 2018. https://bit.ly/2KsG0mN 

(9)- Lawler, Alex, Hit by sanctions and rising tensions, Iran's oil exports slide in July, Reuters, July 30, 2019, (accessed: July 31, 2019). https://reut.rs/2ynFcdp 

(10)- السيد حسن نصر الله: مؤتمر تأسيسي لبناء دولة قوية، قناة العالم، 3 يونيو/حزيران 2012، (تاريخ الدخول: 30 يوليو/تموز 2019): http://tiny.cc/6hdpaz 

(11)- مهند الحاج علي، حزب الله: تعزيز نفوذ أم هيمنة على الدولة اللبنانية؟، مركز الجزيرة للدراسات، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول: 30 يوليو/تموز 2019): http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/10/181001064643625.html 

(12)- اللبنانيون: 5.5 ملايين نسمة، الدولية للمعلومات، 27 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 30 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2LIty5x 

(13)- المقصود بالمُثالثة أي تقاسم السلطة ومناصب الدولة في الأساس الأول بين هذه الطوائف المذهبية والدينية الثلاث، بدلًا من المناصفة القائمة حاليًّا بين الطائفتين، المسلمة والمسيحية، بالإجمال. وقد اتُّهم حزب الله بسعيه للمثالثة لكنه نفى ذلك. يُنظر حول المثالثة على سبيل المثال: أوب المصري، المثالثة مصطلح جديد يؤجج الخلافات اللبنانية، الجزيرة نت، 13 مايو/أيار 2009، (تاريخ الدخول: 5 أغسطس/آب 2019): https://bit.ly/2GOvLbz 

(14)- قُتل مرافقا الوزير، صالح الغريب، في بلدة قبرشمون في جبل لبنان، (الغريب وزير درزي محسوب على قوى الثامن آذار)؛ وذلك في إطلاق نار وقع في سياق احتجاج من قبل أنصار الحزب التقدمي الاشتراكي -يتزعمه النائب وليد جنبلاط- على زيارة وزير الخارجية، جبران باسيل، لمنطقة ذات غالبية درزية في جبل لبنان. والانقسام الدرزي انعكس انقسامًا بين عموم القوى اللبنانية.

(15)- 24 ساعة ساخنة بين روسيا وحزب الله، ليبانون ديبايت، 6 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2019): ttps://bit.ly/2Yq5r2q 

(16)-لبنان: السيد نصر الله: تنسيقنا في سوريا هو مع السلطة السورية ولم يكن يومًا مع روسيا، موقع الميادين، 12 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2019): http://tiny.cc/lleqaz