تداعيات الإستراتيجيات الإقليمية على الداخل الأذربيجاني (1)

تقع أذربيجان على تخوم الشرق والغرب، أو بين العالمين السُّني والشيعي، وبين العالمين الإسلامي والمسيحي، وتتصف بوضع داخلي معقد قد يمزق المجتمع الأذربيجاني في بعض الاحتمالات، بين القيم العلمانية والإسلامية، بين الإسلام السني والشيعي، بين النظام والمعارضة، وبين القومية الأذربيجانية وقومية الأقليات العرقية.
201311510528142734_20.jpg
تقع أذربيجان على تخوم الشرق والغرب، أو بين العالمين السُّني والشيعي، وبين العالمين الإسلامي والمسيحي، وتتصف بوضع داخلي معقد قد يمزق المجتمع الأذربيجاني في بعض الاحتمالات، بين القيم العلمانية والإسلامية (الجزيرة)

تهدف هذه الدراسة إلى قراءة الوضع الأذربيجاني الداخلي وما يحمله من تعدد عرقي وطائفي في ظل حكم علماني صارم، وما يمكن أن ينعكس عليه من تداعيات سياسية من قبل دول الجوار، لاسيما وأن هذه الأخيرة تعتمد إستراتيجيات إقليمية متعارضة ومتنافسة في الغالب وتقع أذربيجان بموقعها الجغرافي والجيوسياسي في وسطها أحيانًا.

وتحقيقًا لهذه الغاية ولأسباب تتعلق بالنشر، تم تقسيم الدراسة إلى قسمين: أحدهما يتعلق بالوضع الأذربيجاني الداخلي وما يختزنه من تنوع يصل أحيانًا حد التناقض بفعل سياسات السلطة الحاكمة، وآخر يرصد علاقات أذربيجان بدول الجوار وما تشهده من اتفاق واختلاف، وما تخلفه من تداعيات على الكيان الأذربيجاني.

القسم الأول(*):الداخل الأذربيجاني، سلطة حديدية ونسيج هش

تحتل أذربيجان في السياسة العالمية موقعًا فريدًا من نوعه بسبب موقعها الجغرافي على تخوم الشرق والغرب، أو بين العالمين السُّني والشيعي، وبين العالمين الإسلامي والمسيحي، وكذلك بسبب فرادة مكانتها ودورها في السياسة العالمية الذي يؤكده تنافس كبار اللاعبين السياسيين في العالم الحديث للتأثير عليها، كالولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وإيران وتركيا والعالم العربي وإسرائيل.

وهناك عديد من الأمور التي تعوق تنفيذ إستراتيجيات أذربيجان السياسية الداخلية والخارجية أو تخلق توترات داخل البلاد أو في محيطها، منها وضع أذربيجان الداخلي المعقد للغاية الذي يمزق المجتمع الأذربيجاني بين القيم العلمانية والإسلامية، بين الإسلام السني والشيعي، بين الاستبداد والمعارضة الوليدة، بين القومية الأذربيجانية وقومية الأقليات العرقية.

علاوة على ذلك، يبدي كثير من الخبراء قلقا من إمكانية انتقال ما يوصف بموجة "الربيع العربي الثورية" إلى بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، وأولها أذربيجان؛ حيث إن الجمهوريات السوفيتية السابقة مرت بعدة مراحل من التحول الليبرالي والديمقراطي، ومن المتوقع أن تُتوَّج بمرحلة نهائية مستوحاة من الربيع العربي. أما المرحلة الأولى فقد كانت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 وأدت إلى استقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، وتمثلت "المرحلة الثانية بموجة الثورات الملونة في عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي، مثل: جورجيا (2003) وأوكرانيا (2004) وقيرغيزستان (2005)؛ حيث أزاحت المعارضة القيادات السوفيتية السابقة وتولت السلطة. والآن، يتوقع بعض الخبراء أن المرحلة الثالثة من التحول الليبرالي يمكن أن تمر بها بعض بلدان الاتحاد السوفيتي السابق مع الموجة الثورية القادمة من العالم العربي. وأول دولة مدونة في هذه القائمة هي أذربيجان(1).

الوضع الداخلي في أذربيجان

في حديثه عن دور أذربيجان في الشؤون العالمية، كتب سيرغي ماركيدونوف، وهو زميل زائر في المركز الأميركي للدراسات الإستراتيجية والدولية ما يلي "تحظى أذربيجان باهتمام دولي أكبر بسبب مواردها من النفط والغاز والأهمية المتزايدة لمنطقة بحر قزوين عمومًا كمصدر بديل للطاقة في السوق الأوروبية. وبما أن أذربيجان تقع عند تقاطع مصالح عددٍ من البلدان، فهذا يتطلب أن تكون سياستها الخارجية دقيقة ومرنة. فأذربيجان حلقة وصل مهمة في منطقة بحر قزوين بين جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وتحتل مكانةً مهمة في السياسة الخارجية للبلدان المجاورة".

كما يستشهد(2) بقول المحلل السياسي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي الذي وصف أذربيجان بأنها «سدادة الفلين في جرّة تحتوي على ثروات حوض بحر قزوين وآسيا الوسطى. تستطيع أذربيجان المستقلة، والناطقة بالتركية، أن تمنع روسيا من ممارسة احتكار الوصول إلى المنطقة، وبالتالي تستطيع أن تحرم روسيا من ممارسة نفوذ سياسي حاسم في سياسات الدول الجديدة في آسيا الوسطى".

تشكّل أذربيجان، في الواقع، جزءًا مهمًا لا يتجزأ من سلسلة الحزام الطوراني أو التركي الذي يمتد من منطقة شينجيانغ (تركستان الشرقية) إلى بحر مرمرة. ويبلغ عدد سكان هذا الحزام نحو 150 مليون نسمة، ويُعد عاملاً إستراتيجيًا في أوراسيا. يقول المفكر السياسي الروسي حيدر جمال: إن "أذربيجان بمثابة مفصل بين الشرق والغرب في السلسلة الطورانية. وهذا الحزام، بسبب موارده الثقافية وموقعه، قد يؤثر في الشرق الأوسط وشمال القوقاز وآسيا الصغرى وآسيا الوسطى في آن واحد" (3).

إن قيام دولة أذربيجان المعاصرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي يَخْلِف بالمعنى السياسي جمهورية أذربيجان الديمقراطية التي أُعلنت في 28 مايو/أيار 1918 قبل تأسيس السلطة السوفيتية فيها.

يُذكِّرنا سيرغي ماركيدونو? أنه قد مضت إحدى وعشرون سنة حتى الآن على "استعادة" الدولة الأذربيجانية، وهذا يدل على فعاليتها وقابليتها للحياة. وقد أثبتت أذربيجان بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، والتي تلعب دورًا كبيرًا في جنوب القوقاز والشرق الأوسط، أنها ليست لاعبًا جيوسياسيًا ضعيفًا أو عالةً على غيرها. علاوةً على ذلك، هي الدولة الوحيدة في رابطة الدول المستقلة التي تنتهج سياسة خارجية متنوعة ناجحة.

يتابع ماركيدونو?، "اتباعًا لمبدأ (ليس لدينا أصدقاء ولا أعداء، ولكن مصالح فقط) أجبرت باكو معظم الدول القوية على السعي إلى مصادقة هذه الدولة الصغيرة. فرغم الصعوبات الجسام، عرفت أذربيجان كيف تحافظ على علاقاتها مع كبار اللاعبين الدوليين. فبخلاف تبليسي، أصبحت باكو (واحدًا منّا) في نظر مختلف عواصم القوى العالمية" (4).

النظام السياسي

تقول أذربيجان عن نفسها رسميًا إنها دولةُ قانونٍ ديمقراطيةٌ ذات حكم جمهوري. لكنها في واقع الأمر دولة ذات نظام استبدادي وتحتل المرتبة 140، وفقًا لمؤشر الديمقراطية في العالم لعام 2011 الذي أعدته وحدة المعلومات الاقتصادية.

رأس الدولة هو رئيس الجمهورية وهو المنصب الذي استُحدِث سنة 1991، وينتخب بالاقتراع السري لولاية دستورية مدتها 5 سنوات، على ألا تزيد على ولايتين.

في عام 2009، وبعد عام من انتخاب الرئيس الحالي إلهام علييف لولاية ثانية في أذربيجان، أدى استفتاء حول تعديل الدستور إلى إلغاء تحديد فترة الرئاسة بولايتين، وهذا منح إلهام علييف الحق في الترشح للرئاسة عددًا غير محدود من المرات.

تتألف الهيئة التشريعية العليا، أو البرلمان الذي يُسمى المجلس المِلّي، من 125 عضوًا ويُنتخب لمدة 5 سنوات. يُنتخَب البرلمان على أساس الأغلبية والنظم الانتخابية النسبية، وأعلى هيئة تنفيذية هي مجلس الوزراء الذي يعينه رئيس الجمهورية ويوافق عليه المجلس المِلّي.

تتكون أذربيجان من 59 منطقة، ومن جمهوريتين تتمتعان بالحكم الذاتي، هما ناخيتشيفان وناغورنو كرباخ. ولكن ناغورنو كرباخ لا تخضع لسلطة باكو منذ ما يقرب من 20 عامًا، وتعتبرها السلطات الأذربيجانية محتلةً من الانفصاليين الأرمن.

بخلاف بلدان السوق الأوروبية المشتركة ذات الأحزاب القوية المتعددة، لا توجد في أذربيجان إلا أعداد كبيرة من الأحزاب الضعيفة التي يهيمن عليها الحزب الحاكم، ولا توجد عمليًا في البلاد منافسة حزبية حقيقية.

لهذا السبب ليست المواقف الأيديولوجية للأحزاب هي من تلعب الدور الأكبر في الحياة السياسية في أذربيجان، بل الأشخاص الذين يقودونها. ومع ذلك، يعتقد الخبراء أنه يمكن اعتبار أن المرحلة الأولى من تشكيل الأحزاب السياسية في أذربيجان قد انتهت.

حزب أذربيجان الجديدة هو الحزب السياسي الحاكم الموالي للرئيس في أذربيجان، ورئيس الحزب هو رئيس البلاد إلهام علييف. يبلغ عدد المنتسبين للحزب، وفقًا للبيانات الرسمية، نحو 600 ألف عضو، وهو يلعب دورًا مهيمنًا في الحياة السياسية للبلاد.

يحظى حزب أذربيجان الجديدة بالأغلبية المطلقة في المجلس الملي، وصار ركيزة سياسية صلبة وموثوقة للنظام الحالي. يهيمن على الحزب ممثلو منطقة ناخيتشيفان، وهمُّهم الأكبر هو البقاء في السلطة وخلق الظروف الاقتصادية والسياسية المواتية للقيادة السياسية. أما التوجُّه الأيديولوجي فهو أقرب إلى الليبرالية الديمقراطية؛ أو على الأقل، هذا ما يعلنه الحزب رسميًا.

أكبر أحزاب أذربيجان هو حزب المساواة، وهو أقدمها، وجبهة أذربيجان الشعبية وحزب أذربيجان الليبرالي وحزب أذربيجان الشيوعي، وحزب أذربيجان الإسلامي المحظور لكنه قائمٌ بصورة غير قانونية وهو لا يُخفي تعاطفه مع إيران.

السلطة والمعارضة

طبيعة النخبة السياسية ليست حزبية بل عشائرية، وينتمي رئيس أذربيجان، إلهام علييف ووالده حيدر علييف، رئيس أذربيجان السابق إلى عشيرة ناخيتشيفان وهي من عشائر الأكراد، وقد أحاط الرئيسان نفسيهما بشخصيات كردية. منهم، بحسب المحلل آرثر بهيرو?، رَوْنق عبد الله ييف المدير العام لشركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان، وعبد الباري غزال رئيس شركة شمس أذربيجان وهي أكبر شركة متعددة التخصصات في أذربيجان، وحاجِبالا أبوطالبو? رئيس بلدية باكو، وبايليار أيوبو? مدير الأمن الشخصي لعلييف، وعارف علي شانو? مدير الهيئة الحكومية للإذاعة والتلفزيون وغيرهم(5).

عملت السلطات الأذربيجانية في السنوات الأخيرة، على إعادة توطين الأكراد في مناطق أخرى غير مناطقهم الأصلية وبأعداد كبيرة، ومؤخرا تم نقل حوالي 60 ألف كردي ما أثار ردة فعل عنيفة في الجمهورية. ويرى الخبراء أن الهدف من إعادة توطين الأكراد هو رغبة الرئيس علييف بتعزيز سلطته بقوة إضافية(6).

لهذا يقول المحلل الأرمني هرانت مَلِكْشاه نَظاريان: إن رئيس أذربيجان ذا الأصول الكردية يريد بهذه الطريقة تعزيز نفوذه في المناطق المأهولة بالسكان الأذريين في الجمهورية. ولذلك تنتظر العشائر السياسية الأخرى، التي أزاحها آل علييف من السلطة، اللحظة المناسبة للانتقام(7).

شهدت العاصمة الأذربيجانية باكو في العام الماضي أكبر مظاهرات خلال السنوات الست الماضية، على سبيل المثال، حشد ائتلاف المعارضة الجديد، المُسمّى الحركة المدنية من أجل الديمقراطية (المجلس العمومي) في إبريل/نيسان الماضي، عشرة آلاف شخص لحضور اجتماع المعارضة في باكو.

وطالب أعضاء هذه الحركة أن تُجري السلطات انتخاباتٍ برلمانية غير عادية، وتطلق سراح المعتقلين السياسيين، وتضع حدًا للفساد، وتحل مشكلة منطقة ناغورنو كرباخ الأذربيجانية التي أعلنت استقلالها عن باكو عام 1991. وقد ردد المجتمعون شعارات مثل: "يسقط نظام علييف!" و"الحرية للسجناء، والسجن للمختلسين!".

ورأى علي كريملي، زعيم حزب الجبهة الشعبية المعارض، أن هذ الاجتماع "هو أول اجتماع تسمح به السلطات رسميًا خلال السنوات السبع الماضية. وخلال كل هذه السنوات حاول النظام خنق المعارضة لكنه فشل رغم حظر الاجتماعات وقتل الصحفيين". ووعد أن المعارضة ستحشد 100 ألف شخص للاجتماع القادم.

إن المجتمع الأذربيجاني قابل للانفجار في أية لحظة نتيجة الجور الذي لحق بالناس جَرّاء السياسات الحكومية البيروقراطية التي صارت أكثر وضوحًا في مارس/آذار الماضي؛ ففي قوبا، وهي من المناطق الشمالية في أذربيجان التي تسكنها العرقية اللِزْجية غير الأذرية، نظّم السكان المحليون مسيرات جماهيرية ضد مزاعم فساد اقترفه أحد المسؤولين في المنطقة، مما أجبر الحكومة على إرسال الجيش ووحدات إضافية من الشرطة.

خلال تلك الاضطرابات، احتشد أكثر من عشرة آلاف شخص في شوارع قوبا. ثم حاول جزء كبير من المتظاهرين اقتحام بيت مدير المنطقة والمباني الإدارية الأخرى. وبعد سلسلة من الحرائق المفتعلة والقتل، بدأت الشرطة في استخدام الغاز المسيل للدموع واعتقال قادة المتظاهرين. ولم ينصرف المتظاهرون إلا بعد إعفاء مدير منطقة قوبا من منصبه والإفراج عن جميع المعتقلين(8).

المجموعات العلمانية والدينية والعرقية

أذربيجان دولة علمانية تعلن التزامها بالمبادئ الديمقراطية، ويقول المتخصص في الشؤون الأذربيجانية بيرم بالدجي في هذا الشأن: إن طبيعة المجتمع الأذربيجاني العلماني الحديث سهّلت غزو روسيا للجزء الشمالي من أذربيجان في أوائل القرن التاسع عشر، بينما ظل جزءها الجنوبي تابعًا لإيران(9).

لم يكن يفصل أذربيجان الروسية عن أذربيجان الإيرانية إلا نهر الأراكس، لكنهما كانا عالمين مختلفين تمامًا؛ حيث راحت أذربيجان الشمالية الروسية تتخذ طابعًا علمانيًا سريعًا، وفي العهد السوفيتي قُمِع الإسلام في أذربيجان قمعًا شديدًا.

ثم عاد الدين إلى الحياة العامة بعد أن نالت أذربيجان استقلالها عام 1991. ومع أن السلطات الأذربيجانية تضمن للمؤمنين حرية نسبية، إلا أن الدولة تُحكم قبضتها على الدين، كما ترفض الأصولية الإسلامية رفضًا قاطعًا؛ ففي عام 1995، على سبيل المثال، مُنِع الحزب الإسلامي في أذربيجان من التسجيل للمرة الثانية. وفي مايو/أيار 1996، ألقي القبض على قادته، وفي عام 1997 أُدين هؤلاء بالتعاون مع المخابرات الإيرانية الخاصة.

وقد اشتكى عاكف غيدرلي من الحزب الإسلامي المحظور قائلاً: إن الحكومة الأذربيجانية تعزز تعاونها مع إسرائيل، وتمول بناء المعابد اليهودية الجديدة، لكنها في الوقت نفسه تُغلق المساجد، وتحظر ارتداء الحجاب في المدارس. وذكر موقع شبكة OnIslam.net أنه في العام الماضي أمرت الحكومة جميع موظفي الدولة بإزالة كافة الرموز ذات الصلة بالإسلام -مثل الآيات القرآنية- من مكاتبهم. ولكن يؤكد النشطاء أن أهم دليل على حملة الحكومة ضد الدين الإسلامي هو حظر ارتداء الحجاب في المؤسسات الرسمية والكليات والمدارس والجامعات الحكومية. وكان هذا الإجراء قد أغضب العديد من المسلمين الذين نزلوا إلى الشوارع احتجاجًا على ذلك(10).

ينتمي أكثر من نصف سكان أذربيجان إلى المذهب الشيعي. وبحسب بالدجي فإن أذربيجان أصبحت ذات أغلبية شيعية في القرن السادس عشر بعد أن جعل الشاه إسماعيل الصفوي المذهب الشيعي دين الدولة في إيران(11).

لكن علينا ألا نبالغ في "نقاء" إيمان الأذربيجانيين؛ فنتيجة للصراع منذ قرون بين إيران الشيعية والسلطنة العثمانية السنية على منطقة القوقاز، أصبحت المنطقة غير متجانسة إلى أبعد الحدود من ناحية الدين؛ فرغم عهود الصراع من أجل الهيمنة، ظل المذهبان السني والشيعي في الواقع يتعايشان في هذه المنطقة، وظلت الغالبية السنية، تاريخيًا، تستوطن شمال أذربيجان كما نعرفها اليوم.

يمثل الشيعة نحو 60-65 في المئة من مسلمي أذربيجان، بينما يمثل السُّنة ما بين 35-40?. ومع ذلك، توسِّع الهيئات الحكومية الأذربيجانية عمدًا نفوذ الشيعة في البلاد. على سبيل المثال، يقول الخبير الداغستاني رسلان جِريـف: إن السلطات الأذربيجانية تُحابي الأوساط والمنظمات الشيعية بشتى الوسائل في حين تقيد نشاط الأوساط والمنظمات السنية. ومن ذلك أن مساجد السنة أُغلقت في البلاد قبل عدة سنوات، وسمى بعض الخبراء تلك الأحداث بـ"حملة القمع الشاملة على المساجد السنية" في أذربيجان. وعلى سبيل المثال أيضًا، جرى إغلاق مسجد أبي بكر في صيف عام 2008، وهو من أكبر المساجد، بزعم أنه "مسجد للوهابية" وفقًا للمسؤولين والشرطة. كما أُغلق مسجد الشهداء التركي في أوائل عام 2009 بدعوى "إعادة البناء" وفقًا للرواية الرسمية، ثم تلاه إغلاق مسجد آخر في مدينة غيانجا، إلا أن محاولة إغلاق مسجد الإلهيات قد أُوقِفت بعد تدخل السفارة التركية.

علاوة على ذلك، لا تكلّ السلطات من استهداف تحفة المركز التاريخي لمدينة باكو القديمة -مسجد أهل السنّة المعروف باسم مسجد لِزجي- الذي بُني في القرن الثاني عشر، والذي أضافته منظمة اليونسكو سنة 2000 إلى قائمة التراث الثقافي العالمي.

ويترافق هذا مع حملة قمعٍ متزايدة للشرطة على النشطاء المسلمين في المناطق الشمالية من أذربيجان التي يقطنها السكان الداغستانيون السُّنة (اللِّزجيون والآ?ـار والتساحور)، وقد أفاض الخبراء خلال مؤتمر يونيو/حزيران في موسكو حول حقوق الشعب اللِّزْجي والآ?ـاري، في الحديث عن الوجود المكثف للجيش في المناطق السنية في أذربيجان.

يتحدث الخبير الداغستاني علي خان عمرانو? عن عمليات دورية تقوم بها أجهزة المخابرات الأذربيجانية في المناطق الشمالية من البلاد التي يقطنها السنة، وعن اعتقال المسلمين السنة بتهمة حمل السلاح والتخطيط لهجمات إرهابية.

وبحسب قوله، تُمارَس أشد أنواع القمع ضد الأوساط السنية الموالية لداغستان؛ حيث يتهمهم قادة الشيعة في هيئة المسلمين الروحية الرسمية باتباع "الإسلام الوهابي"، وتنظيم جماعات سرية متطرفة، والإعداد لهجمات إرهابية ضد السلطات.

وعلى هذه الخلفية، يزداد الانتقاد لسياسة باكو تجاه الأقليات العرقية والدينية صرامةً. والحقيقة هي أن البلاد ليست موطنًا فقط للأكثرية الأذربيجانية الناطقة بالتركية بل أيضًا للأقليات العرقية الأخرى من أهل البلاد: مثل الطاليش الناطقين بالفارسية في المنطقة المتاخمة لإيران، والشعب الداغستاني مثل اللِّزجيين والآ?ـار والتساحور، وغيرهم في الجزء الشمالي من البلاد(12).

وتتعرض الإدارة الأذربيجانية للنقد واللوم لانتهاجها سياسةً مغرضةً تهدف إلى ابتلاع الأقليات العرقية، وحظر استخدام اللغات الأصلية في الإدارات الحكومية، وتزوير تاريخ الأقليات العرقية، والتضييق عليها في إنشاء منظمات ووسائل إعلام وطنية، واعتقال النشطاء الوطنيين وقتلهم، وهلم جرّا.
___________________________________
د. رسلان قوربانوف - باحث كبير في معهد الدراسات الشرقية لأكاديمية العلوم الروسية
ملاحظة: ترجم النص عن الإنجليزية د. موسى الحالول

(*) سينشر القسم الثاني من الدراسة لاحقا، ويركز على علاقة أذربيجان بمحيطها الإقليمي وتداعياته.

المراجع
(1) Ruslan Kurbanov. Azerbaijan Clamped in a Vise.
رسلان قربانوف، "أذربيجان بين فكي كماشة"
http://www.onislam.net/english/politics/europe/458821-azerbaijan-clamped-in-a-vise.html
توقع الكاتب في هذا التقرير أن تمر الجمهوريات السوفيتية السابقة بمرحلة جديدة من التحول الليبرالي والديمقراطي مستوحاة من الربيع العربي.

(2) Sergey Markedonov. Without Friends and Foes // "Russia in Global Affairs". ? 3, July - September 2008
سيرجي ماركِدنوف، "بلا أصدقاء أو أعداء." مجلة "روسيا في الشؤون الدولية". العدد 3، يوليو/سبتمبر 2008.

(3) Heydar Jemal. Lezghis have the right to appeal Court of Human Rights on Azerbaijan
حيدر جمال، "اللِّزجيون لهم الحق في اللجوء إلى محكمة حقوق الإنسان الخاصة بأذربيجان."
http://flnka.ru//334-lezginy-imeyut-pravo-podat-na-azerbaydzhan-v-sud-po-pravam-cheloveka.html

(4) Sergey Markedonov. Without Friends and Foes.
سيرجي ماركِدنوف، "بلا أصدقاء أو أعداء."

(5) Arthur Bahirov. "Kurdish Project" of Joseph Stalin
آرثر بهيرو?، "مشروع جوزيف ستالين للأكراد."
http://www.globoscope.ru/content/articles/1418/ 

(6) Arif Yunusov. Kurds move to Azerbaijan
عارف يونسوف، "الأكراد ينتقلون إلى أذربيجان."
http://www.islamnews.ru/news-author-%D0%90.+%D0%AE%D0%BD%D1%83%D1%81%D0%BE%D0%B2.html 

(7) Grant Melik-Shahnazaryan. Azerbaijan lured Kurds by bright prospects
هرانت ملك شاه نظاريان، "آفاق مشرقة في أذربيجان تجتذب الأكراد."
http://nv.am/politika/21620-azerbaydjan-zamanil-kurdov-radushnimi-perspektivami

(8) Ruslan Kurbanov. Azerbaijan Clamped in a Vise.
رسلان قربانوف، "أذربيجان بين فكي كماشة"

(9) Bayram Baldzhi. Destiny  of Shi'ism in post-Soviet Azerbaijan
بيرم بالدجي، "مصير الشيعة في أذربيجان بعد انهيار الاتحاد السوفييتي".
http://islamica.ru/?uid=115

(10) Israel Ties Anger Azeri Muslims.On Islam web.
علاقات إسرائيل تُغضب مسلمي أذربيجان." موقع أون إسلام.
http://www.onislam.net/english/news/europe/452531-israel-ties-anger-azeri-muslims.html

(11) Grant Melik-Shahnazaryan. Azerbaijan lured Kurds by bright prospects
هرانت ملك شاه نظاريان، "آفاق مشرقة في أذربيجان تجتذب الأكراد."

(12) Ruslan Kurbanov. Azerbaijan Clamped in a Vise.
رسلان قربانو?، "أذربيجان بين فكي كماشة."