مصر..خيبة رهانات عنف الإسلام السياسي

ستحاول هذه الورقة استكشاف ما إذا كانت سياسات "الحرب على الإرهاب" التي تبناها الانقلاب العسكري في مصر ستدفع التيارات الإسلامية إلى تبني خيار العنف أم أنها ستحافظ على سلميتها؟ وما هي فرص تنظيم القاعدة لإيجاد ملاذات آمنة في مصر عبر بوابة جهاديي سيناء؟
201310265259721734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

خاض الانقلاب العسكري في مصر معركته ضد الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي ومؤيديه من التيار الإسلامي منذ 3 يوليو/تموز 2013 تحت شعار "مصر تحارب الإرهاب"(1)، وقد أصبحت العبارة جزءًا من شاشة التلفاز الرسمي وجرى تعميمها بصيغ مختلفة على كافة القنوات التليفزيونية المصرية الخاصة، لكن هذه الصيغ جميعها تتبني استراتيجية "الحرب على الإرهاب" وفرض "حالة الاستثناء".

السؤال الذي سنحاول استكشافه في هذه الورقة هو: هل سياسات "الحرب على الإرهاب" التي تبناها الانقلاب العسكري ستدفع التيارات الإسلامية المعارضة للانقلاب إلى تبني خيار العنف أم أنها ستحافظ على سلميتها؟ وما هي فرص تنظيم القاعدة لإيجاد ملاذات آمنة في مصر عبر بوابة جهاديي سيناء؟

رهانات عنف الإخوان

في الطريق إلى ميدان رابعة تشكّل "التحالف الوطني لدعم الشرعية"،(2) وهو ائتلاف واسع يتكون من قوى وأحزاب سياسية إسلامية عديدة،(3) وقد أصرّ الائتلاف على سلمية حراكاته واعتصاماته ومظاهراته وكافة فعاليته واتخذ من ميدان رابعة العدوية مقرًا لفعالياته، إلا أن قوى الانقلاب أصرت على تصنيف المشاركين باعتبارهم من "الإخوان المسلمين"، وهي جماعة باتت تكافئ مصطلحيًا "الإرهاب"، وفي 14 أغسطس/آب قامت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بفض الاعتصام بالقوة المفرطة القاتلة وأتبعتها بعمليات ملاحقة واعتقال واسعة لأعضاء جماعة الإخوان وحلفائهم طالت معظم أعضاء مجلس "الشورى" الذي يتكون من 120 عضوًا ومكتب "الإرشاد" المكون من 18 عضوًا، وشملت قيادات من الصف الثاني والثالث في جميع المحافظات، وقامت باعتقال معظم القيادات البارزة في حزب "الحرية والعدالة" التابع للجماعة.(4)

تعرضت جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها على يد حسن البنا عام 1928 لهزات ومحاولات استئصال وحظر عديدة، لكنها برهنت تاريخيًا على قدرتها على التكيف والتطور مع أهواء السياسة وصراعات السلطة، وأكدت على عمق تجذرها وحضورها وقوتها رغم حظرها قانونيًا؛ فقد تمكنت من الحصول على 88 مقعدًا من أصل 455 في انتخابات 2005 بنسبة20 في المئة، وهي نسبة تتفوق على ما حصلت عليه أحزاب المعارضة بعشرة أضعاف، وعقب ثورة يناير/كانون الثاني كان حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين واحدًا من عشرات الأحزاب المتنافسة، وفاز الحزب بـ 43 في المئة من المقاعد في مجلس الشعب وهو ما يمثل 37 في المئة من أصوات الناخبين، وفي انتخابات مجلس الشوري حصل على 58 في المئة من المقاعد المتنافس عليها، وعلى 45 في المئة من إجمالي عدد الأصوات.

وبحسب إيفيزا لوبن: كانت الانتخابات البرلمانية السابقة في 2001 قد جاءت بأكبر المفاجآت للمراقبين؛ فبالرغم من التدخلات الضخمة لقوات الأمن، وأيضًا رغم حملة الاعتقالات الجماعية والمحاكمات التى تعرض لها أعضاء الجماعة منذ منتصف التسعينيات تمكنت الجماعة من تحقيق نجاح معقول، وبهذا فإن الإخوان يمثلون القوة المعارضة الوحيدة الحقيقية في مصر. بل يمكن القول: إنها القوة الوحيدة الفاعلة اجتماعيًا، التي تتمتع بنفوذ جماهيرى يتجاوز حدود النخبة السياسية والثقافية في مصر، وهذا بالرغم من الحظر الذي فُرض عليها لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمان. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن عدد الأعضاء العاملين بالإخوان بلغ نحو نصف مليون عضو في نهاية الأربعينيات، فإنها تمثل منذ ذلك الحين وحتى الآن أقوى المنظمات المستقلة في تاريخ مصر الحديثة، وإحدى أقوى الحركات الجماهيرية في الشرق الأوسط.(5)

تعاقبت على جماعة الإخوان المسلمين تاريخيًا أطوار وتقلبات عديدة، وقد حافظت كحركة على نهجها الإصلاحي السلمي، وتمكنت من الصمود رغم تعرضها للمحاصرة والملاحقة، وطوّرت من خطابها ونهجها المتعلق بالشأن السياسي والاجتماعي، فقد حسمت خياراتها تجاه الديمقراطية والتعددية والمواطنة من خلال مبادرة الإصلاح التي أصدرتها الجماعة في شهر مارس/آذار عام 2004؛ إذ بدا واضحًا انشغال الجماعة بالشأن الداخلي، حيث قطع  الإخوان شوطًا كبيرًا في قضية الانتقال من التصور الديني لشكل الدولة إلى تصور مدني، وتجاوزوا في هذا الانتقال خطاب الأزهر الشريف والمؤسسة الدينية الرسمية. وما قدمه الإخوان في قضية المواطنة يبدو بالغ الدلالة؛ إذ تبنوا التأسيس الشرعي لها متقدمين علي الخطاب الديني الرسمي السائد.

ولعل الحملة الإعلامية الراهنة التي تستهدف شيطنة الإخوان المسلمين واستئصالهم وتصويرهم على أنهم "إرهابيون" تبدو عديمة الفائدة، ويمكن أن تكون ذات نتائج معاكسة؛ فهي تقدم للإخوان المسلمين "خدمة مجانية" لزيادة دعمهم والتعاطف معهم من جانب الجمهور المصري، ولا غرابة والحالة هذه أن العديد من الإسلاميين غير المنتمين للإخوان المسلمين قرروا الانضمام إلى الاحتجاجات ضد الجيش.(6)

إن الاستراتيجية العسكرية والأمنية التي مورست لاستئصال جماعة الإخوان المسلمين وفق تكتيكات "مكافحة التمرد" أثبتت عدم نجاعتها تاريخيًا؛ فقد تعرضت الجماعة لحملات مماثلة عام 1954 إبان حكم عبد الناصر، وعلى الرغم من بروز اتجاه راديكالي داخل الجماعة على يد سيد قطب يؤسس لرؤية عنفية انقلابية تقوم على مبدأ "الحاكمية" الإلهية ومفهوم "الجاهلية" المجتمعية وحتمية وضرورة "الطليعة" المقاتلة يقطع مع خيارات السلمية من خلال كتابه "معالم في الطريق"، إلا أن التيار الأساسي في الجماعة تمسك بخيارات الإصلاح والديمقراطية والسلمية، وقدم رؤية مغايرة من خلال المرشد الثاني للجماعة في كتاب "دعاة لا قضاة" ترفض تكفير المجتمع والخروج على الحكام واستخدام القوة للتغيير.

لاشك بأن جماعة الإخوان المسلمين تواجه اليوم تحديًا أكبر من السابق، فهي تتعرض لحملة أقسى وأشد من سابقاتها، فقد وجدت في محنتها إبان حكم عبد الناصر ملاذات آمنة في دول أوروبية وعربية عديدة وفي مقدمتها الدول الخليجية التي احتضنتها لأسباب عديدة وفي مقدمتها تثبيت شرعيتها في مواجهة المد القومي الناصري، أما محنتها الراهنة فهي تخوضها وحيدة دون سند في محيط معاد يدعم استبعادها من الحكم والسلطة ويخشى من نجاحها وتمكينها، وعلى الرغم من تعقيدات المرحلة و"المحنة" وتقلص الخيارات والسيناريوهات فإن الجماعة لا تزال قادرة على الحشد والتعبئة وجلب الأنصار، وتؤكد على التمسك بخيارات النضال السلمي، وعدم الوقوع في مستنقع الحرب الأهلية كما حدث لنظيرتها "جبهة الإنقاذ" الإسلامية في الجزائر بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وهي تتبنى نهجًا أقرب إلى تجربة حزب "العدالة والتنمية" التركي بالمطالبة السلمية وليس المغالبة العسكرية.

من المبكر الحكم على مستقبل الإخوان في مصر والتنبؤ بمصير الجماعة؛ فذلك رهن بتصورات وسلوك السلطة الجديدة ومفاعيل خارطة الطريق التي قدمها المجلس العسكري من جهة وديمومة الحراكات الشعبية من جهة أخرى؛ فالأسئلة الأساسية لا تزال معلقة ومبهمة بين خياري الاستئصال والدمج؛ فالرهان على تفكك التنظيم من خلال عملية "قطع الرؤوس" لا تبدو ناجحة، بل على العكس تمامًا أدت إلى زيادة التلاحم والتضامن بين أعضاء الجماعة وجلبت تعاطفًا غير مسبوق من الحلفاء والأنصار، فقد برهنت الجماعة مرة أخرى على عمق تجذرها كحركة دعوية دينية اجتماعية جماهيرية لا يمكن التعامل معها باعتبارها حركة "هامشية"، ولا يمكن إجبارها على سلوك طريق العنف والعسكرة كخيار تنظيمي، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة حتمية الخيار السلمي في كافة المفاصل الهيكلية للحركة، فقد تتولد قناعات فردية بعدم جدوى السلمية في صفوف بعض أعضائها من الصفوف الدنيا إذا سار الانقلاب في طريق الاستئصال كما حدث خلال عقد السبعينيات الذي شهد بروز تنظيمات "الغضب الإسلامي" وفي مقدمتها الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد.

خيارات الجماعة الإسلامية والجهاد

دشنت عمليات القمع والاعتقال خلال الحقبة الناصرية ظهور جماعات جهادية مصرية عديدة تبنت أيديولوجية انقلابية للتغيير تستند إلى أطروحات سيد قطب تجاه الدولة والمجتمع ودخلت في صراع مسلح مع السلطة، وتعتبر جماعة "التكفير والهجرة" التي أسسها شكري مصطفى داخل السجون من أقدم الجماعات الراديكالية، إلا أن الجماعة تراجعت بسرعة بعد إعدام مؤسسها، ثم ظهر تنظيم "الفنية العسكرية" على يد صالح سرية عام 1974، الذي قام بحاولة انقلابية فاشلة انتهت بإعدامه، وفي هذا السياق برزت الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، وقد تزامن ظهورهما بدية السبعينيات من القرن الماضي، ونفذتا عملية اغتيال الرئيس أنور السادات في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، ودخلت هذه الجماعات في صراع مسلح مع النظام وفق أيديولوجية عنيفة تتبنى القوة كوسيلة وحيدة للتغيير السياسي بحسب نظرية قتال "العدو القريب" التي وضع أصولها محمد عبد السلام فرج في كتاب "الفريضة الغائبة"، فقد شهد تنظيم الجهاد مع بداية الثمانينيات انتشارًا واسعًا وضم ائتلافًا عريضًا من الحركات الجهادية وشخصيات جهادية عديدة؛ من أبرزها: طارق الزمر وعبود الزمر وكرم زهدي وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وأسامة إبراهيم وطلعت قاسم وعصم الدين دربالة. وعقب سنوات من التجارب المريرة الفاشلة بالصدام المسلح أعلنت الجماعة الإسلامية عن مبادرة لوقف العنف عام 1997، ثم أتبعتها عام 2002 بسلسلة من المراجعات الفقهية(7) تؤسس للدخول في أفق العمل السلمي ونبذ العنف، وقد تبعتها لاحقًا جماعة الجهاد بمراجعة أفكارها عام 2007 على يد سيد إمام الشريف وهو أمير جماعة الجهاد المصرية السابق من خلال إصدار "وثيقة ترشيد العمل الجهادي"(8)، وعقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني أسست الجماعتان حزب "البناء والتنمية" على أساس القبول باللعبة الديمقراطية.

تبدو رهانات الانقلاب العسكري على دفع الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد إلى العودة إلى مسار العنف ضعيفة، فقد قطعت هذه الجماعات أشواطًا بعيدة في نبذ العنف والدخول في أفق التعددية والديمقراطية، وهي تمتلك خبرة تاريخية هائلة وإدراكًا راسخًا بكارثية خيار العنف؛ فعلى الرغم من الاستراتيجية العسكرية القمعية والحملة الإعلامية  المكثفة باستخدام تكتيكات "الصدمة والترويع"، إلا أن التنظيمات الجهادية المصرية التاريخية حافظت على سلميتها وانخرطت في فعاليات تحالف دعم الشرعية، ومن المستبعد أن تعود لتكرار تجاربها السابقة بل هي أشد من غيرها حرصًا على عدم الانزلاق إلى رهانات العنف، وقد كشفت الاستحقاقات الانتخابية بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني عن ضعفها وهامشيتها وانقساماتها، بل إن عددًا من قياداتها التاريخيين أيدو الانقلاب وشاركوا في الخريطة الانتقالية بطرائق عديدة، أمثال الدكتور كمال السعيد حبيب ونبيل نعيم، ولكن ماذا عن جماعات الإسلام الجهادي حديثة النشأة وجهاديي تنظيم القاعدة والحركات السلفية الجهادية في سيناء؟

القاعدة وعقدة جهاديي سيناء

عقب يومين من الانقلاب العسكري أعلنت جماعة سلفية جهادية في مصر عن تأسيس جماعة "أنصار الشريعة في أرض الكنانة"، وفي بيان التأسيس دعت الجماعة إلى الكفر بالديمقراطية والإصرار على تطبيق الشريعة والتشديد على خيار العمل المسلح كطريق وحيد لإقامة الدولة الإسلامية،(9) وعلى الرغم من عدم الكشف عن أسماء قيادية للجماعة إلا أن جماعات أنصار الشريعة في العالم العربي والتي ظهرت مع بداية "الربيع العربي" وخصوصًا في اليمن وتونس وليبيا باركت الخطوة باعتبارها الخيار الصحيح، وتندرج جماعات أنصار الشريعة في إطار التكيفات الأيديولوجية للسلفية الجهادية وتنظيم القاعدة عبر الانتقال من العمل العسكري النخبوي إلى الفضاء الجماهيري، ولعل تنظيم القاعدة هو الأكثر سعادة بالانقلاب العسكري فقد استثمر الحدث باعتباره برهانًا ساطعًا على عدم جدوى الدخول في اللعبة الديمقراطية وصواب أيديولوجيا القاعدة العنيفة في التغيير، فتنظيم القاعدة أكد منذ بداية الثورات في العالم العربي على لسان زعيمه الجديد أيمن الظواهري وبقية منظّريه، أمثال أنور العولقي وأبو يحيى الليبي على كون ربيع الديمقراطية سيكون قصيرًا نظرًا لصلابة الدولة العميقة ورسوخ التبعية وقوة الثورة المضادة التي سوف تتحالف دوليًا وإقليميًا لمنع تمكين الإسلاميين من السلطة، لخصه الظواهري في رسالة صوتية بعنوان "صنم العجوة الديمقراطي" الذي ستأكله العلمانية الصلبة داخليًا وخارجيًا إذا جاء على غير أهوائها، وبعد عامين من ربيع لم يكتمل تم قطع مسارات سلمية الثورات وعسكرتها لاحقًا كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن بطرائق مختلفة، ودخلت مصر نفق الانقلابات العسكرية.(10)

على الرغم من أن زعيم تنظيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري مصري، ودخول تنظيم الجهاد المصري كمكون أساسي في الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبين عام 1998، إلا أن تنظيم القاعدة فشل في تأسيس فرع له في مصر رغم محاولاته الحثيثة، ومن أبرزها الإعلان عن تأسيس "القاعدة في أرض الكنانة" عام 2006 بزعامة محمد الحكايمة الذي قُتل بعد عامين في باكستان، إلا أن أبرز الجماعات الجهادية التي تنتمي إلى فضاء السلفية الجهادية دون الارتباط المباشر بالقاعدة تتواجد في سيناء، فقد قدمت الجغرافيا والديمغرافيا بيئة مثالية حاضنة للحركات الجهادية بسبب سياسات التهميش والإهمال التي مارستها الدولة المصرية منذ أكثر من أربعة عقود؛ فقد شهدت سيناء في عهد مبارك ثلاث هجمات ضخمة، استهدفت مواقع سياحية في منتجعات طابا أكتوبر/تشرين الأول 2004، وشرم الشيخ في 23 يوليو/تموز 2005، ودهب في إبريل/نيسان 2006، وقد أعلنت "جماعة التوحيد والجهاد" عن مسؤوليتها عن الهجومين الأول والثالث، كما أعلن "تنظيم القاعدة في بلاد الشام وأرض الكنانة- كتائب الشهيد عبد الله عزام" عن مسؤوليته عن الهجوم الثاني.

ومن أبرز الجماعات الجهادية في سيناء "مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس"، وجماعة "أنصار بيت المقدس"، التي استهدفت خمسةً من عناصرها طائرةٌ بدون طيار إسرائيلية في 10 أغسطس/آب الماضي، لكن السلطة العسكرية الحاكمة أصرت على أنها نفذت العملية بطائرة أباتشي، وبحسب ديفيد شينكر: يشير ذلك الهجوم الإسرائيلي إلى وجود تعاون أمني واستخباراتي وثيق للغاية بين جيش الدفاع الإسرائيلي والجيش المصري. ولا يأتي هذا التعاون كمفاجأة كبيرة؛ فكلا الجانبين يقول بصورة غير علنية: إن التعاون العسكري المتبادل لم يكن قط أفضل مما هو عليه الآن. فهناك ثقة كبيرة جدًا بين الطرفين لدرجة أن إسرائيل سمحت لمصر في الشهر الماضي بنشر كتيبتي مشاة إضافيتين في سيناء لمواجهة التهديد الإرهابي.(11)

حالة الثقة المتبادلة بين إسرائيل وقادة الانقلاب العسكري لا يمكن أن تأتي بالحل في سيناء، فقد تحولت المنطقة منذ زمن بعيد بفعل سياسات الدولة إلى منطقة رخوة تتقاطع فيها الحركات الجهادية وشبكات التهريب والجريمة المنظمة برعاية الدولة العميقة المتورطة في ديمومة الوضع للاستثمار في اقتصاديات "الإرهاب".(12) وعلى المدى المنظور فإن الجماعات الجهادية التي قصرت أعمالها منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني على استهداف إسرائيل سوف تحوض معركة  مزدوجة تستهدف قوات الجيش والشرطة المصرية والمصالح الإسرائيلية.

تصدرت جماعة "أنصار بيت المقدس" المشهد عقب محاولة اغتيال وزير الداخلية محمد إبراهيم في 8 سبتمبر/أيلول، ودخلت في مواجهة مفتوحة مع الجيش المصري، وتبنت عددًا من العمليات في بيان أصدرته بعنوان "بيان بخصوص الحملة العسكرية الموسعة على أهالي سيناء" بتاريخ 11 سبتمبر/أيلول، وعلى الرغم من الحملة العسكرية الواسعة التي يقوم بها الجيش في سيناء ضد الحركات الجهادية المسلحة، إلا أن تبني المقاربة العسكرية الصلبة أثبت فشلها في أماكن عديدة، وهي غالبًا تعود بنتائج معاكسة، فقد تأتي عمليات استهدافها عقب الانقلاب بفوائد حيوية إيجابية في تجنيد أعضاء جدد ليس في سيناء وحدها وإنما في أماكن عديدة من مصر، ولعل إصرار القيادة العسكرية على وجود صلات وثيقة بين الجماعات الجهادية في سيناء وحركة حماس في قطاع غزة دون أدلة كافية، يبعث على الشك في نوايا المؤسسة العسكرية تجاه "الحرب على الإرهاب"؛ فعمليات هدم الأنفاق وإغلاق معبر رفح سبقها تصعيد وتيرة العداء لحكومة حماس وربط الحركة بجماعة الإخوان في مصر، وإذا استمرت عمليات خلط الأوراق والضغط على حماس فإن ذلك سيعود بالضرر على مصر والمنطقة على المدى البعيد، وقد نشهد تصاعدًا لحركات جهادية في غزة خارج سيطرة حماس التي عملت منذ سيطرتها على قطاع غزة عام 2007 على لجم الحركات السلفية الجهادية ودخلت في صراعات مسلحة عديدة معها.

خاتمة

يبدو أن خيبة الرهان على عنف حركات الإسلام السياسي وممثله الأبرز جماعة الإخوان المسلمين باتت واضحة؛ فقد استنكرت الجماعة وحلفاؤها العنف بكافة أشكاله، وأدانت محاولة اغتيال وزير الداخلية، وأكدت من خلال "تحالف دعم الشرعية" على المضي في نهج التغيير السلمي، وأثبتت قدرتها على التكيّف مع حالة الاستثناء ومحاولة الاستئصال، وكشفت عن عمق تجذرها اجتماعيًا، وإيمانها بالديمقراطية كخيار استراتيجي لا بديل عنه، كما أنها برهنت على فعالية حركيتها السلمية في الأزمات وجماهيريتها عندما تكون في المعارضة أكثر من وجودها في السلطة، ويمكن القول بأن المؤسسة العسكرية عقب انقلاب 3 يوليو/تموز، قدمت خدمة جليلة للجماعة التي عانت طوال السنة التي قضتها في السلطة من انحسار شعبيتها نتيجة سياساتها الخاطئة، وحولت الـ"محنة" إلى "منحة" سوف تعمل على استثمارها في الاستحقاقات السياسية المستقبلية، وتعمل على تطوير خطابها المتعلق بالديمقراطية والتعددية والمواطنة، وتوسع من دائرة حلفائها الذي بات ممكنًا مع تأسيس "تحالف دعم الشرعية".

وإذا كانت رهانات عنف حركات الإسلام السياسي غير مجدية، فإن بروز حركات الإسلام الجهادي وممثله الأبرز تنظيم القاعدة تبدو واعدة في حال أصر الانقلاب العسكري على فرض سيناريوهات "الحرب على الإرهاب"، وعمل على تثبيت السيطرة على السلطة وإعادة بناء الدولة العسكرية البوليسية؛ فالحركات الجهادية وخصوصًا في سيناء سوف تعزز من وجودها وتعمل على توسيع قاعدة عملياتها وقدراتها على التجنيد والتعبئة، ومع استمرار مناخات العنف الرمزي والمادي وغياب عمليات الدمج السياسي فإن خطاب السلفية الجهادية الراديكالي سوف يتمتع بجاذبية تسمح لتنظيم القاعدة بالتسلل والدخول والانتشار.
____________________________
* حسن أبو هنية باحث متخصص في الحركات الجهادية

المصادر والمراجع
1- كُتبت العبارة باللغة الإنجليزية تماهيًا مع السياسات الغربية الموسومة بـ "الحرب على الإرهاب" التي دشنتها الولايات المتحدة الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، لملاحقة تنظيم القاعدة وفروعه الإقليمية؛ فالمحاكاة والاستنساخ تستهدف الجمهور الغربي تأسيسًا، انظر: بيثاني بيل، "مصر تحارب الإرهاب" حملة إعلامية مصرية تستهدف الغرب، على الرابط: http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2013/08/130819_egypt_media_campaign_terrorism.shtml
2- تحالف جديد "لدعم الشرعية" بمصر، الجزيرة نت، على الرابط: http://www.aljazeera.net/news/pages/5ff4fab9-84a9-4e65-bc2b-6c8fe8696047
3- تضم قائمة الأحزاب الإسلامية في التحالف كافة التوجهات الأيديولوجية الإسلامية، وهي: حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وحزب البناء والتنمية التابع للجماعة الإسلامية، وحزب العمل الجديد، وحزب الفضيلة، وحزب الإصلاح، وحزب التوحيد العربي، والحزب الإسلامي، وحزب الوطن، وحزب الوسط، وحزب الأصالة، وحزب الشعب.
4- صبيحة يوم الأربعاء 14 أغسطس/آب، قامت قوات الأمن المصرية بفض الاعتصامات في ميداني رابعة العدوية والنهضة، وبحسب مصادر رسمية حكومية، زاد عدد ضحايا الاشتباكات في الميدانين ومحيطهما فقط، على 740 قتيلاً من بينهم 43 شرطيًا، في حين تحدثت مصادر الإخوان المسلمين في المستشفى الميداني عن مقتل أكثر من 2200 وجرح الآلاف، وقد أصدر مجلس الوزراء، بتاريخ 17 أغسطس/آب، قرارًا لوزارة الصحة بعدم الإدلاء بأية معلومات أو بيانات صحفية بشأن أعداد القتلى والجرحى في الأحداث، وأن يكون مجلس الوزراء هو المنوط به ذلك، انظر الرابط:http://aswatmasriya.com/news/view.aspx?id=78e82520-a3c7-4540-af0a-3a007…
وفي 22 أغسطس/آب أعلن محامي أنصار مرسي على قناة الجزيرة مباشر مصر، أن عدد المعتقلين ارتفع إلي 10 آلاف معتقل و5 آلاف شهيد وأكثر من 10 آلاف مصاب منذ الانقلاب العسكري.
5- إيفيزا لوبن، الإخوان المسلمون: أول حركة اجتماعية مصرية، على الرابط:
http://ar.qantara.de/content/hlm-nhd-slmy
6- خليل العناني، الإخوان المسلمون يعيدون إحياء رواية المحنة، ترجمة عبد الرحمن الحسيني، جريدة الغد، 24 يوليو/تموز 2013.
7- أصدرت الجماعة الإسلامية مجموعة من الكتب والرسائل تؤكد على نهجها الجديد، من أهمها: مبادرة إنهاء العنف، رؤية شرعية ونظرة واقعية، وحرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين، وتسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، والنصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين.
8- عبد المنعم منيب، مراجعات الجهاديين، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010، ص102.
9- بيان "أنصار الشريعة في أرض الكنانة"، على الرابط: http://www.islamion.com/post.php?post=8289
10- حسن أبو هنيّة، القاعدة واندماج الأبعاد: ولادة ثالثة ونشأة مستأنفة، الجزيرة نت، على الرابط: http://www.aljazeera.net/opinions/pages/36ef41cc-340f-4860-b2e1-9148ce4dcfeb
11- ديفيد شينكر، كيف يمكن للهجوم الإسرائيلي بطائرة بدون طيار في سيناء أن يأتي بنتائج عكسية، ذي آتلنتيك، 13 أغسطس/آب 2013.
12- ما لا تعرفه عن "الدولة العميقة: هل تبحث عن "الحشيش" في القاهرة.. اتصل بالشرطة؟"، فورين بوليسي، مترجمة على الرابط: http://alasr.ws/articles/view/14563