أوروبا والخيار العسكري في مجابهة الهجرة غير النظامية

في ثالث كارثة منذ مطلع العام الجاري غرق مائتا مهاجر في السواحل الليبية لدى محاولتهم عبور المتوسط إلى السواحل الإيطالية، ما أعاد الجدل داخل الاتحاد الأوروبي حول اللجوء للخيار العسكري، بُغية التصدي لتلك الظاهرة، بالقضاء على شبكات تهريب المهاجرين.
20158168171107580_20.jpg
يستدعي الحل الجذري لظاهرة غرق المهاجرين في البحر المتوسط مقاربة دولية تُعالج جذورها الاجتماعية، مع ضمان كرامة المهاجرين وسلامتهم، وليس حلًّا عسكريًّا (رويترز)
ملخص
يطرح توالي كوارث غرق المهاجرين في البحر المتوسط على دول الاتحاد الأوروبي البحث مُجددًا عن خطة لاحتواء هذه الظاهرة التي ما انفكَّت تتنامى سنة بعد أخرى. وبعد إخفاق الحلول والآليات الوقتية التي وضعها الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة، بدأ يسعى إلى اعتماد الخيار العسكري من خلال تجميع قطع بحرية وجوية تمهيدًا لضرب المراكب التي تستخدمها الشبكات الضالعة في تهريب المهاجرين. لكن هذا الخيار ما زال مُستبعدًا في الوقت الراهن لأنه يتطلب توافر شرطين، أو أحدهما على الأقل، وهما: استصدار قرار من مجلس الأمن يُجيز عملية عسكرية، أو موافقة الحكومتين الليبيتين في طرابلس وطبرق (أو إحداهما على الأقل) على دخول القطع الحربية الأوروبية المياه الإقليمية الليبية. بيد أن وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي "فديريكا موغيريني" أخفقت في إقناع أعضاء مجلس الأمن بإعطاء ضوء أخضر لعملية عسكرية في السواحل والموانئ الليبية، كما أن الحكومتين الليبيتين أنذرتا كل من ينتهك المياه الإقليمية لبلديهما بقصف سفنه. لكن مع عجز أوروبا حتى الآن عن مجابهة تلك الظاهرة لابد من العودة إلى أسبابها العميقة من أجل إعطاء دفع للمشاريع التنموية في بلدان المصدر، وإيجاد مسالك قانونية للهجرة المُنظمة من خلال اتفاقيات مع الحكومات المعنية

مقدمة

تُواجه أوروبا خيارات صعبة مع تنامي الهجرة غير النظامية من جنوب البحر المتوسط. ومع غرق مائتي مهاجر قبالة السواحل الليبية في الخامس من الشهر الجاري عاد الحديث مُجددًا عن اللجوء للخيار العسكري لاحتواء تلك الظاهرة. وكان الاتحاد الأوروبي قد شكَّل في الشهر الماضي قوة بحرية مؤلَّفة من حاملة طائرات وثلاث سفن حربية لمكافحة الهجرة غير الشرعية في المتوسط. وفيما يُحاول الأوروبيون الحصول على ضوء أخضر من مجلس الأمن أو إحدى الحكومتين الليبيتين لتنفيذ عمليات عسكرية داخل المياه الليبية، يبدو هذا السيناريو مُستبعدًا بالنظر لانقسام المجلس ورفض حكومتي طرابلس وطبرق لهذا الخيار.

ثلاثة سيناريوهات

تتردد أوروبا في تنفيذ عملية "يوناف فور ميد" (Eunavfor Med) التي ترمي لمكافحة تدفق المهاجرين غير النظاميين من السواحل الليبية نحو سواحل جنوب أوروبا، وسط ضغوط لتطويرها إلى عملية برية، خصوصًا من بريطانيا. وبالرغم من تحذير الحكومتين الليبيتين المتنافستين في طرابلس وطبرق، كل على حدة، بقصف أية سفينة تدخل المياه الليبية من دون إذن، يؤكد قادة العملية أن "لا مناص من تدخل (عسكري) في السواحل الليبية"(1)، ما يُؤشِّر لثلاثة سيناريوهات في المرحلة المقبلة:

  • السيناريو الأول: الاقتصار على المراقبة داخل المياه الإقليمية الأوروبية لاعتراض السفن التي تنقل مهاجرين غير نظاميين. 
  • السيناريو الثاني: توسيع عمليات الرقابة والتفتيش إلى المياه الدولية بين ليبيا وإيطاليا. 
  • السيناريو الثالث: التدخل المباشر في السواحل الليبية لمنع السفن المُحمَّلة بالمهاجرين من الإبحار.

انطلقت عملية "يوناف فور ميد" (Eunavfor Med) في أواخر يونيو/حزيران الماضي بهدف كشف شبكات الهجرة غير النظامية المنطلقة من السواحل الليبية، والقضاء عليها بوصفها شبكات للاتجار بالبشر. وتقررت العملية في أعقاب غرق سفينة صيد وهلاك 800 مهاجر غير شرعي كانوا على متنها في طريقهم من ليبيا إلى الساحل الإيطالي في إبريل/نيسان الماضي.

وتتألَّف قوة "يوناف فور ميد"، التي دخل مقر قيادتها في روما حيز العمل في أواخر يوليو/تموز الماضي، من 1020 عسكريًّا غالبيتهم من الإيطاليين والفرنسيين، من بينهم 800 رجل يُرابطون في البحر. ولذا فهي تختلف بحكم طبيعتها العسكرية البحتة عن عملية "تريتون" (Triton) التي رمتْ أساسًا لإنقاذ المراكب المُعرَّضة للغرق والحاملة لمهاجرين غير نظاميين على متنها.

تمويل الدوريات البحرية

ورصدت الحكومات الأوروبية بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي موازنة قيمتها 11.8 مليون يورو للمرحلة الأولى من العملية. وكان القادة الأوروبيون قد ناقشوا في قمة عقدوها في 27 إبريل/نيسان الماضي خطة عمل من عشر نقاط تَصدَّرها رصد 120 مليون يورو سنويًّا لتمويل الدوريات البحرية وإرسال السفن الحربية والمدنية والمروحيات إلى سواحل بلدان الجنوب، لترصد مراكب المهاجرين غير النظاميين التي تنطلق منها(2).

الأهم من ذلك أن أوروبا خصصت لهذه القوة أسطولًا من البواخر والطائرات الحربية يدل حجمُه على أنها جادة في حربها على شبكات الهجرة غير النظامية، فقوام تلك القوة أربع قطع بحرية، هي: حاملة الطائرات الإيطالية "كافور" (Cavour)، وسفينتان ألمانيتان وثالثة بريطانية، بالإضافة لطائرات من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا ولوكسمبورغ، لم يُكشف عن نوعها. ومن الواضح أن قوة ضاربة بهذا الحجم لا يمكن أن تقتصر مهمتها على اعتراض سفن صيد متهالكة تنقل مهاجرين مُنهكين وغير مسلحين. لذا فالأرجح أنها ستركز في المرحلة الأولى على جمع المعلومات الاستخبارية عن شبكات المهربين ومعرفة السفن التي يستخدمونها والحيل التي يلجؤون إليها لاستقطاب المرشحين للهجرة. أمَّا في المرحلة المقبلة فلا يُخفي قادة العملية عزمهم على مهاجمة السفن لاعتقال ربَّانها والقبض على رؤساء شبكات المُهربين. ويوجد على متن السفن الحربية مترجمون وخبراء قانونيون للإشراف على ما يبدو أنها عمليات استنطاق للمُهرِّبين المُعتقلين(3).

وهنا يُطرح السؤال: هل ستُستخدم تلك المعلومات لمهاجمة معاقل المهربين على السواحل الليبية، خاصة مع عدم قدرة حكومتي طرابلس وطبرق على السيطرة على سواحل البلد التي تمتد على مسافة 1740 كيلومترًا؟ تؤكد التصريحات التي أدلى بها بعض قادة العملية الأوروبية أنهم لا ينوون في الوقت الراهن الدخول إلى المياه الإقليمية الليبية لملاحقة المُهربين، "انطلاقًا من أن ليبيا دولة ذات سيادة ولا يجوز خرق مياهها الإقليمية من دون إذن من إحدى حكومتيها أو من الاثنتين معًا"(4).

قرار من مجلس الأمن

وبموجب القانون البحري الدولي يستوجب السماح بدخول قطع من أسطول "يوناف فور ميد" المياه الليبية استصدارَ قرار من مجلس الأمن ومن إحدى الحكومتين الليبيتين على الأقل أو من الاثنتين معًا. ولم يعُد خافيًا أن عدة حكومات أوروبية، وبخاصة فرنسا وإيطاليا، تمارس ضغوطًا في الكواليس لحمل مجلس الأمن والحكومتين الليبيتين على قطع تلك الخطوة، وانتقلت المفوضة السامية للسياسة الخارجية الأوروبية فديريكا موغريني إلى الأمم المتحدة خصيصًا لمحاولة إقناع أعضاء مجلس الأمن بإصدار قرار يمنح الضوء الأخضر لتدخل عسكري في ليبيا، تحت عنوان "عملية بحرية" بحسب المصطلح الذي استخدمته، لكن جهودها أخفقت بسبب الانقسام بين أعضاء المجلس في شأن التعاطي مع هذا الملف. والأرجح أن المجلس مُصرٌّ على رفض إجازة تلك العملية في ليبيا ما لم يكن هناك اتفاق مع حكومتي طبرق وطرابلس.

إلا أن باريس وروما لم تقتنعا بصعوبة استصدار قرار يُعطي الضوء الأخضر للعملية، فأعلنتا عزمهما على تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يُبيح تدمير السفن التابعة لمهربي المهاجرين غير النظاميين، بيد أنهما تخلَّيتا عن الفكرة بسبب معارضة الأمين العام للأمم المتحدة لتلك الخطوة، وحثه على استبعاد الحل العسكري. أمَّا على الصعيد الليبي فأنذرت الحكومة الليبية، المعترف بها دوليًّا، البلدان الأوروبية بأنها ستستهدف أية سفينة تدخل مياهها الإقليمية من دون إذنها(5). وأتى الإنذار بعد يومين من موافقة وزراء الخارجية الأوروبيين على إطلاق العملية العسكرية البحرية الرامية لضرب شبكات تهريب المهاجرين. ومن شأن هذين العنصرين، أي: المعارضة الأممية والتحذير الليبي، أن يُقلِّلا من احتمالات إقدام القوة الأوروبية على التوغل في المياه الليبية واستهداف سفن المهاجرين المُبحرة فيها.

مع ذلك، إذا ما تغيرت الظروف بما يحمل مجلس الأمن على إجازة مثل تلك العملية العسكرية، فإن الإقدام عليها سيؤجِّج الغضب ويستدعي ردود فعل ليبية عنيفة على المصالح الأوروبية، ويُعمِّق بالتالي الفوضى وانفلات الأمن في البلد. وقد كشفت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية النقاب عن ملف من تسع عشرة صفحة يفيد بأن القوة العسكرية الأوروبية تعد مزيجًا من العمليات الاستخباراتية والبحرية والجوية، ولم تستبعد إرسال قوات على الأرض، ولهذا عملت المفوضة السامية للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي موغريني من أجل الحصول على تفويض من مجلس الأمن(6)، لكن بلا جدوى.

بهذا المعنى يمكن اللجوء لخيارات أخرى أقل استعلاء على القانون الدولي وأكثر فعالية في ضبط موجات الهجرة غير النظامية، فلدى أوروبا مجموعة آليات يمكن أن تعطي نتائج أفضل من الضربات العسكرية على سواحل ليبيا، التي سيكون ضحاياها من المهاجرين والمواطنين الليبيين أكثر بكثير من قادة شبكات التهريب. ويكفي أن نستعرض الآليات التي وضعتها أوروبا للتعاطي مع ملف الهجرة غير النظامية لندرك اتساع مساحة الخيارات السلمية المتاحة لها قبل اللجوء للخيار العسكري. وفي مقدمة تلك الآليات وكالة الشرطة الأوروبية "يوروبول" (Europol) التي تم تعزيزها وخاصة بإنشاء برنامج "JOT MARE" الرامي للقبض على شبكات المهربين وتفكيكها، ووكالة التعاون القضائي "EUROJUST"، ووكالة الأمن البحري "FRONTEX" المكلفة بمراقبة الحدود، وجميعها يصب في البحث عن رؤوس الشبكات وأرصدتهم المالية من أجل جرِّهم إلى القضاء وتدمير السفن التي يستعملونها. وباستخدام هذه الآليات يمكن للبلدان الأوروبية القيام بمراقبة جوية وتبادل المعلومات حول المُهربين من خلال عمليات التنصت على الهواتف والمعلومات التي تجمعها البوارج التي تجوب البحر المتوسط في إطار عملية "تريتون"، وهي العملية التي ضاعف الاتحاد الأوروبي الاعتمادات المخصصة لها ثلاث مرات.

مُلاحقة شبكات المُهرِّبين

ويمكن القول: إن أحد الأخطاء الكبرى لأوروبا تمثَّل في إنهاء إيطاليا برنامج "ماري نوستروم" الخاص بالبحث عن المهاجرين في المتوسط وإنقاذهم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لأسباب مالية. وكان البرنامج يتجاوز إنقاذ السفن الجانحة إلى التعرف على شبكات المُهربين وملاحقة عناصرها؛ إذ ساعد النيابة الإيطالية في اعتقال 330 مُهرِّبًا وإدانة أكثر من 100 منهم، بالاضافة لتوجيه التهم لثلاثة من كبار زعماء شبكات التهريب في مصر(7). وطالما استمرت أوروبا في تجميد هذا البرنامج، فإن مآسي الغرق الجماعي للمهاجرين في المتوسط ستتكرر.

كما أن برنامج "تريتون" الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي في خريف 2013 على إثر تحطم كارثي لسفينة على سواحل جزيرة لامبيدوزا، أتاح إنقاذ أكثر من 150 ألف مهاجر في عرض البحر(8). وبسبب إلغائه حصلت كارثة أولى في مطلع العام الجاري قضى خلالها 800 مهاجر بين السواحل الليبية والإيطالية، تلتها كارثة ثانية يوم الأربعاء 5 أغسطس/آب الجاري وراح ضحيتها 200 مهاجر.

حل تنموي

يستدعي الحل الجذري لهذه الظاهرة، التي تقض مضاجع الأوروبيين وتتسبب بكوارث ومآسي مستمرة في المتوسط، مقاربة دولية تُعالج جذورها الاجتماعية، مع ضمان كرامة المهاجرين وسلامتهم، وليس حلًّا عسكريًّا. وتستند تلك المقاربة الشاملة على حلِّ النزاعات في القارة الإفريقية، خزان الهجرة غير النظامية، وتحسين ظروف العيش بمكافحة الفقر والجوع، ودفع عجلة التنمية لإيجاد فرص عمل لائقة للشباب، وخاصة منهم الخريجين. كما أن ملف الهجرة ذاته يحتاج إلى معاودة نظر لإيجاد مسالك للهجرة القانونية المُنظمة بالتعاون مع بلدان المصدر، تعتمد على إعطاء المُرشحين تكوينًا مهنيًّا ولغويًّا في بلدانهم قبل انتدابهم للعمل في أوروبا، التي تحتاج إلى ملايين الأيدي العاملة، خاصة من الكوادر الوسطى.
___________________________________
رشيد خشانة: باحث في مركز الجزيرة للدراسات

الهوامش
(1)  لونير، آن، حوار أجرته مع نائب قائد القوة البحرية "يوناف فور" الأدميرال أرفي بليجون لصحيفة "لاكروا" الفرنسية بتاريخ 5 أغسطس/آب 2015  http://www.la-croix.com/Actualite/Europe/Contre-amiral-Blejean-Une-intervention-au-sol-pour-lutter-contre-les-trafiquants-de-migrants-en-Libye-2015-08-05-1341458
 (2)    هنري، ميشال، وليشناي ألكسندر، "المتوسط: عبور بأي ثمن"، ليبيراسيون 17 يونيو/حزيران 2015 http://www.liberation.fr/monde/2015/06/17/traverser-coute-que-coute_1331905
(3)    صحيفة "لاكروا"، المصدر السابق.
(4)    صحيفة "لاكروا"، المصدر السابق.
(5)    http://arabic.rt.com/news/786637-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D9%81%D9%86-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%8A%D8%A7%D9%87-%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9/
(6)    دويتشه فيله، "المهاجرون السريون بين خيارات القتل والجوع والغرق"، البيان الإماراتية، 22 إبريل/نيسان 2015 http://www.albayan.ae/deutsche-welle/politics/2015-04-22-1.2359221
(7)    وكالة الأنباء الفرنسية، "الهجرة السرية: الاتحاد الأوروبي يُضاعِف موازنة عملية الإنقاذ ثلاث مرات"، 23 إبريل/نيسان 2015 http://www.20minutes.fr/societe/1594335-20150423-migrants-ue-va-tripler-budget-operation-sauvetage-mediterranee
(8)    مالير، مانون، "الهجرة: أوروبا تُرسل سفنها الحربية إلى المتوسط"، "لوفيغارو"، 24 إبريل/نيسان 2015
http://www.lefigaro.fr/international/2015/04/24/01003-20150424ARTFIG00001-immigration-l-europe-envoie-ses-navires-en-mediterranee.php

نبذة عن الكاتب