المؤسسة العسكرية والأمنية في اليمن وتحديات المرحلة الانتقالية

أحدثت الثورة اليمنية حالة الشد والجذب بين القوى الثورية وبين بقايا النظام السابق حول إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية في البلد، خصوصا أن هذه المؤسسة تعاني انقساما في الوقت الراهن، بعد أن تعرضت مثل باقي مؤسسات الدولة لعبث النظام السابق الذي حولها إلى مؤسسة موالية تعتمد معياري الولاء والطاعة فقط.
20127309319546734_20.jpg

أزاحت الثورة الشعبية التي اندلعت في اليمن مطلع العام الماضي (فبراير/شباط 2011)، الستار عن الكثير من التشوهات التي اعترت جسد الدولة اليمنية ومكامن الخلل في بنية النظام السياسي الذي حكم طيلة 33 عاما. ولعل حدة الخلاف، وحالة الشد والجذب بين قوى الثورة وبقايا النظام السابق حول إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية في البلد، وحالة الانقسام الذي تعانيه هذه المؤسسة في الوقت الراهن، تعطي مؤشرات هامة ودقيقة حول الطريقة التي كانت تدار بها مؤسسات الدولة الوطنية؛ فالمؤسسة الأمنية والعسكرية مثلها مثل باقي مؤسسات الدولة تعرضت لعبث السلطة المطلقة للرئيس علي عبدالله صالح الذي أضعفها وحولها إلى مؤسسة موالية له شخصيا بعد أن اعتمد معياري الولاء والطاعة، وليس الخبرة والكفاءة في تعيينات كبار ضباط الجيش والأمن.

كما قام صالح بتأسيس وحدات عسكرية تابعة له مباشرة مثل الحرس الجمهوري والأمن المركزي، وعين الكثير من أفراد أسرته وقبيلته على رأس هذه المؤسسات، وذلك في مخالفة صريحة لنص المادة 40 في الدستور اليمني والتي تقول: "يحظر تسخير القوات المسلحة والأمن والشرطة وأية قوات أخرى لصالح حزب أو فرد أو جماعة، ويجب صيانتها من كل صور التفرقة الحزبية والعنصرية والطائفية والمناطقية والقبلية، وذلك ضمانا لحيادها وقيامها بمهامها الوطنية على الوجه الأمثل، ويحظر الانتماء والنشاط الحزبي فيها وفقا للقانون". وقد مثل هذا النهج في إدارة مؤسسات الدولة نموذجا صارخا للكيفية التي تعاطت بها السلطة السابقة مع الشأن الوطني العام.

والواقع أن النظام السابق لم يكتف بإضعاف مؤسسات الدولة المختلفة وعلى رأسها مؤسسة الجيش والأمن، بل حاول القضاء عليها تماما بصور وأشكال شتى، كي تحل محلها مؤسسات وكيانات عائلية/قبلية بديلة، مهمتها الأساسية المحافظة على بقاء الرئيس صالح وأسرته في الحكم.

واليوم بعد تمكن الثورة من إزاحة صالح من الحكم، ما زالت مخلفات النظام وشبكة علاقاته وتحالفاته السياسية والقبلية والعسكرية التي نمت وتوسعت على حساب الدولة ومؤسساتها المختلفة تشكل تحديا كبيرا للعملية الانتقالية، وتعرقل جهود التسوية التي رسمت معالمها المبادرة الخليجية وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2014.

المؤسسة الأمنية والعسكرية اليمنية: البحث في جذور الخلل

أولا: قبل الوحدة
لا يعبر السجال المتصاعد في اليمن حول ضرورة إعادة هيكلة مؤسسة الجيش والأمن عن واقع الأحداث والمتغيرات التي أعقبت الثورة الشبابية والشعبية فقط، وإنما يعبر عن استجابة وتفاعل حقيقيين مع مطلب قديم نادت به العديد من القوى والأحزاب السياسية والفعاليات المدنية. حيث أجهضت كل محاولات وجهود التحديث في مؤسسة الجيش والأمن في الشطر الشمالي، لاسيما تلك التي سعى من أجلها الرئيس إبراهيم الحمدي (1974- 1977).

ومن المعروف أن الحمدي كان لديه مشروع واضح المعالم لبناء دولة وطنية حديثة تعتمد على المركز، وتحد من تغوّل القوى القبلية والإقطاعية، وتعزز استقلال اليمن وسيادته. وقد أدرك الحمدي مبكرا أن المؤسسة العسكرية هي المؤسسة الوطنية الوحيدة القادرة على إضعاف العنصر القبلي ورموز المشايخ، فكانت مسألة إعادة تنظيم هذه المؤسسة وتجهيزها، ووضع ضوابط تمنع الاختلالات داخلها، وتعيين قيادات جديدة تعمل على تحقيق حالة من التماسك الوطني في الجيش، وكذلك إضعاف التأثير السياسي السعودي على القبائل في الشمال؛ كل هذه الأمور كانت هي المقدمة الأساسية التي ارتكز عليها الرئيس الحمدي للمضي في مشروع الدولة الوطنية الحديثة.

ولكن الحمدي اغتيل في العام 1977، ولم يكتمل مشروعه لأسباب وعوامل داخلية وخارجية كثيرة، وبالتالي لم يؤد إنشاء جيش وطني في الشمال إلى وجود قوة معادلة لقوة المؤسسة القبلية، لأن رجال القبائل والمشايخ اخترقوا الجيش نفسه وتولى العديد منهم مراكز المسؤولية فيه. ومع ذلك، ليست المؤسسة العسكرية، بعد أن تعرضت للتعديل أثناء صراعات الأنظمة المتتالية، ناتجة عن سلطة القبلية، لكنها تعكس إلى حد كبير سيطرة التحالفات المختلفة التي نجحت في فرض نفسها في شطر اليمن الشمالي سابقا(1).

وفي 17 يوليو /تموز من العام 1978 انتخب مجلس الشعب التأسيسي علي عبدالله صالح رئيسا عقب فترة قصيرة من حكم الرئيسين أحمد الغشمي وعبد الكريم العرشي لا تتجاوز في مجملها 9 أشهر. وبالرغم من انتماء صالح إلى القوات المسلحة إلا أنه لم يتخرج من أي كلية عسكرية، ولم يحصل على أي تعليم نظامي، وعمل صالح منذ وصوله إلى الرئاسة على السيطرة على الجيش لضمان بقاء سلطته بالاعتماد على إخوته وأقاربه وعلى رجال قبيلته الذين تم تعيينهم في مواقع رئيسة في الجهازين العسكري والأمني.

لم يختلف الأمر كثيرا في الشطر الجنوبي من اليمن، وعلى الرغم من أن الجيش الجنوبي كان يتصف بالمهنية والحرفية والانضباط العالي، إلا أنه لم يكن بمنأى عن النزعات المناطقية والقبلية. وقد كان الصراع الأيديولوجي المتكرر على السلطة في الجنوب ينعكس بصورة أو بأخرى على الجيش الذي زُجّ به في العام 1986 في معركة ظاهرها حزبي وسياسي، ولكن باطنها يخفي صراعا مناطقيا وقبليا على السلطة، وعلى إثرها انقسم الجيش إلى قسمين، قسم دعم ما كان يسمى وقتها بالقيادة الجماعية ومعظم أفراده ينتمون إلى منطقتي الضالع ويافع والمناطق المجاورة، والقسم الآخر من الجيش المحسوب على محافظتي أبين وشبوة وقف إلى جانب الرئيس على ناصر محمد، وقد كانت معركة يناير /كانون الثاني 1986 بمثابة القشة التي قسمت ظهر الجيش الجنوبي وأضعفته إلى حد كبير.

ثانيا: بعد الوحدة
بعد تحقيق الوحدة اليمنية في العام 1990 اتفق شريكا الحكم آنذاك، حزب المؤتمر الشعبي العام برئاسة علي عبدالله صالح، والحزب الاشتراكي اليمني بقيادة علي سالم البيض، على أن تكون هناك فترة انتقالية مدتها ثلاثة أعوام يكون هدفها الأساس متابعة وتقييم الحياة السياسية والاقتصادية ومعالجة كافة الاختلالات التي تعود إلى حقبة التشطير، وكذا استكمال دمج مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة وعلى رأسها مؤسسة الجيش والأمن. وقد كانت مسألة دمج مؤسسات الجيش والأمن من أولويات ترسيخ الوحدة بين الشطرين، وذلك لأن بقاء الوحدات العسكرية على أوضاعها السابقة سياسيا وتنظيميا وقياديا سيعطي القيادتين السياسيتين دعما ومبررا للتنصل من الاتفاقيات التي تمت بينهما. وقد عقد الطرفان أكثر من خمسة اجتماعات قمة لدمج القوات المسلحة، غير أن جميع هذه الاجتماعات لم تحقق أهدافها في دمج القوات المسلحة للشطرين(2).

ولعل اختلاف الأيديولوجيا العسكرية والسياسية بين الجيشين كان أحد أسباب عدم توحدهما، ففي الشطر الشمالي حظرت الحزبية سواء في الحياة المدنية أو داخل القوات المسلحة، واقتصر العمل السياسي على المؤتمر الشعبي العام الذي كان بمثابة التنظيم الوحيد الذي تنضوي تحته التيارات والاتجاهات السياسية كافة، وفي وضع كهذا كان طبيعيا أن يُمنَع أفراد الجيش من ممارسة أية أنشطة سياسية، وأن يقتصر دورهم على الواجبات العسكرية، كما أن طبيعة تكوين الجيش الشمالي ذاته حتمت عليه الابتعاد عن العمل السياسي، لأنه خليط من قوات نظامية وأخرى من قوات تتبع القبائل الكبرى، وهذه القوات القبائلية تعد جزءًا من الجيش ككل، وتحصل على رواتب لهذا الغرض، ومن شأن إدخال عنصر التسييس أن يفتح الباب أمام توترات كبرى داخل الجيش وبين عناصره المختلفة، وبالتالي فقد كانت هناك ضرورات بنائية حسمت إبعاد الجيش عن العمل السياسي(3).

أما الوضع في الشطر الجنوبي فقد اختلف جذريا، ليس فقط على صعيد التعامل مع الحزبية وتشكيل التنظيم الطليعي الممثل في الحزب الاشتراكي اليمني، وإنما أيضا في السماح لأفراد القوات المسلحة بالانخراط في العمل السياسي تحت مظلة الحزب الاشتراكي. ومن هنا، كان جيش الشطر الجنوبي يجمع بين الاحتراف العسكري والانتماء الفكري والأيديولوجي على نحوٍ جعل من الجيش جزءا من العملية السياسية في الجنوب، ومن الطبيعي في وضع كهذا أن يكون أفراد الجيش على قدرٍ عالٍ من التسييس.

وفي الواقع، فإن اختلاف التجربة السياسية والاقتصادية بين الشطرين انعكس من دون شك على الاختلاف الحاصل في طبيعة وتركيب الجيشين، وقد مثلث هذه الإشكالية واحدة من أكثر قضايا الصراع حساسية في تلك الفترة؛ حيث أصرت القيادة السياسية في الشطر الشمالي على ضرورة إبعاد الجيش عن السياسة، وهذا كان يعني –عمليا- تجريد الحزب الاشتراكي من عدد كبير من أعضائه، إذ أن الثلث من أعضائه هم جنود وضباط في القوات المسلحة، وقد بلغت نسبة العسكريين حوالي 37% من جملة أعضاء الحزب البالغين أربعة وثلاثين ألفا ومائة وستة وأربعين عضوا نهاية العام 1998. وعليه فقد رفض الحزب الاشتراكي إبعاد الجيش عن السياسة بحجة أن تسييس الجيش لا يعني أبدا عدم انضباطه أو تخليه عن مهامه الوطنية بحسب القانون والدستور(4).

ومع اشتداد الصراع بين طرفي الحكم المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي حول العديد من القضايا وعلى رأسها قضية دمج الجيشين، وكمحاولة أخيرة لجسر هوة الخلاف بين الطرفين وقع الرئيسان علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض بالعاصمة الأردنية عمان في فبراير /شباط من العام 1994 على وثيقة العهد والاتفاق. وقد كانت المواد الأهم في هذه الوثيقة تتعلق بالحد من الدور السياسي للجيش، فتحت عنوان "بناء القوات المسلحة وإعادة تنظيمها" نصت الوثيقة على أن القوات المسلحة يجب أن تتبع الحكومة مباشرة، ويمنع تشكيل أية قوة مسلحة نظامية أو غير نظامية تتبع أي سلطة أخرى، ويجب أن توزع القوات المسلحة على القوات البرية والبحرية والجوية، ويمنع تكوين أية وحدة خارجة عن هذه الفروع الثلاثة. كما يوضح نص الوثيقة أنه من الضروري التفكير بتعديل قانون الخدمة في القوات المسلحة والأمن ليؤكد على المبادئ التالية: أن يفتح باب التجنيد في القوات المسلحة والأمن أمام جميع اليمنيين دون استثناء، وألا يبقى ضباط القوات المسلحة والأمن الكبار في مناصبهم أكثر من خمس سنوات. وأن تكون القوات المسلحة أنموذجا للوحدة الوطنية بعيدا عن التأثيرات الحزبية والسياسية والانتماءات العائلية أو المناطقية أو الطائفية، وأنه يجب إعادة تنظيمها بحيث لا تبقى أية وحدة من وحدات الجيش معتمدة على العناصر المذكورة آنفا. وقد استهدف نص اتفاق عمّان فيما يتعلق بالجيش، الحد من هيمنة الرئيس صالح بخاصة وحاشيته العائلية والقبلية التي تحتل المناصب الأهم في الجيش وقوات الأمن.
 
ومن هنا، قيل أثناء مناقشة هذا النص المقدم من الحزب الاشتراكي إن احتساب الخمس سنوات التي يجب أن يبقى فيها الضباط الكبار في مناصبهم تبدأ من مايو /أيار 1990، تاريخ قيام دولة الوحدة. كما ينبغي منع وجود أكثر من ضابط كبير ممن له علاقة عائلية بالرئيس وبنائبه وبرئيس الوزراء وبنوابه وبوزراء الدفاع والداخلية ورئيس الأركان. فإذا وجد أكثر من رئيس وحدة عسكرية يرتبط بقرابة عائلية مع الأشخاص المذكورين يجب أن يحالوا على التقاعد قبل إعادة التنظيم في القوات المسلحة، أو يحالوا إلى مناصب مدنية أو يستقيلوا.
 
بالإضافة إلى ذلك، فقد شكلت قوات الحرس الجمهوري منذ العام 1991 قضية خلاف بين حزبي السلطة آنذاك (المؤتمر والاشتراكي)، إذ رأى المؤتمر أن هذه القوات يجب أن تتبع الرئيس مباشرة، في حين شدد الاشتراكي على أنها يجب أن توضع تحت المسؤولية المباشرة لوزير الدفاع لتجنّب انقسام الجيش إلى قوات متعددة. وقد أعيد تناول هذا الموضوع في وثيقة العهد والاتفاق، ولكن في الأخير تم التخلي عن كل هذا بعد انتصار التحالف القبلي العسكري في حرب صيف 1994(5).

واقع المؤسسة العسكرية وموازين القوى بعد الثورة اليمنية

على خلفية أحداث جمعة الكرامة يوم 18 مارس /آذار 2011، والتي راح ضحيتها قرابة خمسين شابا من شباب الثورة في ساحة التغيير بصنعاء، أعلنت شخصيات سياسية واجتماعية عديدة استقالتها من حزب المؤتمر الشعبي العام وانضمامها للثورة الشعبية، غير أن الحدث الأبرز الذي غيّر مسار الثورة هو إعلان اللواء علي محسن الأحمر قائد المنطقة الشمالية الغربية وقائد الفرقة أولى مدرع، يوم 21 مارس /آذار 2011 تأييده ودعمه السلمي لثورة الشباب، وفور صدور بيان اللواء علي محسن أعلنت ثلاث مناطق عسكرية من بين خمس انضمامها للثورة. فإلى جانب المنطقة الشمالية الغربية التي يقودها اللواء علي محسن نفسه، والتي تعد من أكبر المناطق العسكرية في اليمن انضمت كل من المنطقة الشرقية بقيادة اللواء محمد علي محسن، والمنطقة العسكرية الوسطى بقيادة العميد الركن محمد علي المقدشي، والمنطقة المركزية التي أعلن قائدها اللواء سيف البقري انضمامه بشكل منفرد إلى الثورة، بينما ظلت معظم الألوية التابعة للمنطقة المركزية تحت السيطرة الفعلية للحرس الجمهوري بقيادة العميد الركن أحمد علي عبدالله صالح نجل الرئيس السابق، حيث تمتد هذه المنطقة من ذمار إلى محافظة عمران مرورا بصنعاء العاصمة، وهي أكثر المناطق تسليحا، ويقع الحرس الجمهوري في نطاقها.
 
وبالإضافة إلى ذلك، فقد انضم إلى الثورة الكثير من الألوية من مختلف المناطق العسكرية، أهمها اللواء 310 بقيادة العميد حميد القشيبي في محافظة عمران، واللواء 67 في الحديدة التابع للقوات الجوية بقيادة العميد الركن أحمد السنحاني، واللواء 15 مشاة بقيادة العميد ثابت جواس. والواقع إن إعلان هذه المناطق والقيادات العسكرية تأييدها للثورة الشعبية كان بمثابة ضربة قاسمة هزّت النظام وأخلت بتوازنه، وهذا ما دفع الرئيس صالح عقب هذه الانشقاقات إلى وصف ما يجري في بلاده بأنها "محاولة انقلابية لها أجندتها"، وقال إنّ أي محاولة للاستيلاء على السلطة يمكن أن تؤدي لحرب أهلية، مطالبا القادة العسكريين الذين أعلنوا تأييدهم للثورة بالتراجع وعدم الخوف مما وصفه بالإرهاب الإعلامي.

وبالنظر إلى موازين القوة عقب هذه المرحلة، سنجد أن القوة العسكرية المنضمة إلى الثورة بالرغم من ضخامة حجمها وخبرتها القتالية إلا أنها تعاني من قلة التسليح وضعف الإعداد والتدريب، وهي في معظمها تنتشر في المناطق الحدودية باستثناء 5 ألوية من بين 23 لواءً يتبع الفرقة الأولى مدرع تتواجد في العاصمة صنعاء وضواحيها، كما أن معظم هذه الألوية التي تتوزع بين سلاح المدرعات والدفاع الجوي والصواريخ تعرضت للإنهاك في حروب صعدة الست، وفقدت الكثير من جاهزيتها.

في المقابل، اعتمد النظام السابق بشكل أساس على قوات الحرس الجمهوري التي يقودها العميد الركن أحمد علي عبدالله صالح، وهي الأكثر تدريبا والأحدث تسليحا، حيث يشرف خبراء أميركيون على تدريب وتأهيل بعض وحداتها لاسيما تلك المعنية بمكافحة الإرهاب ومدها بالتجهيزات اللازمة، وتتكون من 31 لواء حرس جمهوري، و11 لواء قوات خاصة تتميز هي الأخرى بتدريب عال في قتال الشوارع. هذا بالإضافة إلى قوات الأمن المركزي التي يقودها فعليا العميد يحيى محمد عبدالله صالح ابن شقيق الرئيس السابق، والتي تضم قوة تتجاوز 30 ألف جندي مجهزة بالمدرعات الحديثة والمصفحات والمشاة، كما استحدث في الأمن المركزي وحدة خاصة بمكافحة الإرهاب تحت إشراف أميركي، وهي معدة ومجهزة بشكل جيد.

ولما كانت العاصمة هي نقطة الحسم الرئيسة في أي تحرك عسكري أو خطر يهدد النظام، تم نشر أكثر من نصف ألوية الحرس الجمهوري في مداخل العاصمة صنعاء، وفي الجبال المحيطة بها، وفي الوقت ذاته تجاهلت قيادة الوحدات الخاصة بمكافحة الإرهاب في الحرس الجمهوري والأمن المركزي توجيهات وزارة الدفاع بالذهاب إلى محافظة أبين لمواجهة التنظيمات الجهادية المسلحة، مفضلة البقاء في صنعاء دفاعا عن النظام وحفاظا على توازن القوى في العاصمة.

وعلى الرغم من أن القوات الموالية للنظام كانت تبدو -نظريا على الأقل- الأقدر على الحسم العسكري، إلا أن ميزان القوى كان حساسا للغاية، وحسابات الربح والخسارة كانت معقدة جدا؛ فالرئيس صالح والوحدات العسكرية التابعة له كانت تدرك تماما، أن مسألة الدخول في حرب عسكرية مباشرة قد يكلف النظام كثيرا، وربما يخسر في نهاية المطاف كل شيء، خصوصا وأنه فاقد للشرعية، ولا يمتلك أي عمق جماهيري حقيقي يستند إليه أو يحتمي به، كما أن وحداته العسكرية قابلة للتفكك، وبالتالي من الصعب عليه خوض حرب طويلة في مواجهة أغلبية ثورية، عسكرية وشعبية وقبلية آمنت بالتغير، ولديها من الإصرار والعزيمة ما يجعلها تقدم المزيد من التضحيات والدماء في سبيل إنجاز أهداف الثورة وتحقيق حلم التغيير المنشود. أضف إلى ذلك، فإن القوى الإقليمية والدولية كان لها دور بارز في كبح جماح الأطراف المتصارعة ومنع نشوب حرب أهلية قد تهدد أمن المنطقة وتعرض مصالحها للخطر.

أما في الوقت الراهن، فقد اختل ميزان القوى لصالح قوى التغيير والثورة، ولم يعد بإمكان القوات الموالية للنظام وبالأخص قوات الحرس الجمهوري أن تخوض حربا عسكرية بعد أن أصدر الرئيس عبد ربه منصور هادي عدة قرارات بعزل وتغيير الكثير من قادة الألوية والمناطق العسكرية المحسوبة على النظام السابق. حيث كانت أهم هذه القرارات تعيين اللواء سالم قطن في شهر مارس/آذار 2012 قائدا للمنطقة الجنوبية واللواء 31 مدرع بدلا عن اللواء مهدي مقولة حليف صالح القوي، والرجل الذي ثارت حوله شكوك كثيرة فيما يتعلق بعلاقته بالجماعات الإرهابية المتطرفة، وقد كان لهذا القرار أثر واضح في مسار الحرب ضد الإرهاب في محافظة أبين، حيث استطاع الجيش المرابط في المحافظات الجنوبية بقيادة اللواء قطن وتحت إشراف وزير الدفاع مباشرة من دخول مدينتي زنجبار وجعار الشهر الماضي وطرد الجماعات المسلحة التي سيطرت على المنطقة قبل نحو عام تقريبا. كما صدر قرار جمهوري آخر في شهر أبريل /نيسان 2012 بتعيين اللواء راشد الجند قائدا للقوات الجوية بدلا من محمد صالح الأحمر الأخ غير الشقيق للرئيس، وتم تعين اللواء عبدالرحمن الحليلي قائدا للواء الثالث حرس جمهوري، وهو من أقوى الألوية عدة وعتادا، وذلك بدلا من العميد طارق محمد عبدالله صالح ابن أخ الرئيس السابق. وبالإضافة إلى ذلك، صدرت قرارات أخرى بتعيين قيادات جديدة في عدة مواقع مثل الأمن القومي والأمن المركزي استهدفت إبعاد وإضعاف مسؤولين عسكريين وأمنيين كبار من أقارب صالح أو من الدائرة الضيقة المحيطة به.

إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية: المقتضيات والأهداف

على الرغم من إدراك الشعب اليمني قبل الثورة أن المؤسسة العسكرية في اليمن لم تكن بمنأى عن سياسة التدمير المنظم التي مارسها النظام السابق بحق مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة، وأن جزءا كبيرا منها مكرس لخدمة النظام الحاكم، حيث لم يتورع النظام السابق عن الزج بالجيش في أتون حروب داخلية عبثية في محافظة صعدة وغيرها من المدن اليمنية لمدة تزيد عن ست سنوات، وذلك من أجل إنهاك الجيش النظامي وإضعافه وبالتالي تثبيت سلطته والتمهيد لتوريث الحكم. لكن الجماهير اليمنية التي قامت بالثورة ظنت لوهلة أن الجيش اليمني ربما يقتدي بتجربة الجيشين في كل من مصر وتونس، وأنه سيفرض إرادة الشعب وليس النظام، وسيظل محكوما بأسس وقواعد الدستور. بيد أن تلك الظنون والتوقعات سرعان ما تبددت عندما قامت بعض وحدات الجيش والأمن بقمع المتظاهرين السلميين وقتلهم خارج إطار القانون والدستور الذي يؤكد بأن القوات المسلحة والشرطة والأمن هي ملك للشعب كله. وبالتالي، كشفت الثورة الشعبية بشكل قاطع مجمل الاختلالات التي تعاني منها المؤسسة العسكرية، فإلى جانب انقسام وحدات الجيش والأمن وارتباطها بولاءات شخصية، هناك ضعف في التدريب والتأهيل العلمي، وهناك سيطرة قبلية ومناطقية على معظم وحدات القوات المسلحة والأمن، ما أفقدها البعد الوطني في التشكيل والتكوين القيادي.

 وانطلاقا من هذه الصورة التي عكست الوضع المتردي الذي باتت تعيشه المؤسسة العسكرية والتي ما لبثت فوق ذلك أن انقسمت على نفسها، أصرت كافة القوى الثورية على مطلب توحيد الجيش وإعادة هيكلته وإبعاد أقارب الرئيس السابق من مناصبهم العسكرية والأمنية التي حصلوا عليها من دون وجه حق ولحسابات لا علاقة لها بالضوابط والمعايير المتعارف عليها في التعيينات والترقيات داخل المؤسسة العسكرية.

والواقع أن بقاء وضع المؤسسة الأمنية والعسكرية على حاله يمثل تهديدا حقيقيا للأمن والاستقرار، فضلا عن تهديده المباشر للتسوية السياسية في اليمن، خصوصا وأن الجماعات الإرهابية تحاول استغلال حالة انقسام الجيش وتمركزه في العاصمة والمدن الرئيسة من أجل استعادة نفوذها وسيطرتها على مدن ومناطق مختلفة. وإدراكا منه لذلك، فقد طالب الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي في الخطاب الذي ألقاه في الأكاديمية العسكرية يوم 5 مايو /أيار 2012 ضباط الكلية بتقديم دراسات وبحوث في إعادة هيكلة القوات المسلحة، كما أشار في نفس الخطاب إلى أن الحديث عن سلامة الوطن واستقراره وتحقيق أمن الناس وحماية مصالحهم سيظل عديم المعنى بدون جيش وأمن وطني موحد وقوي ومؤهل ومحترف ومسنود من قيادته، غير خائف على حقوقه، وهو ما يدفع للتأكيد -بحسب كلام الرئيس هادي- أنه لن يسمح باستمرار أي انقسام في الجيش ولن يقبل بأي محاولة مهما كانت لتعطيل مساره أو حرفه عن مهامه وواجباته الأساسية، مؤكدا أنه لا توجد غير قيادة واحدة للجيش، وقيادة واحدة للأمن، وقائد واحد للجيش والأمن.

لا شك أن خطاب الرئيس هذا يمثل نظرة متقدمة بالنسبة لمسألة هيكلة الجيش، ولكن المشكلة الرئيسة تكمن في أن الرئيس هادي والحكومة الجديدة لا يمتلكان حتى الآن قوة عسكرية خاضعة لهم بشكل مباشر، إذ ما زالت القوة العسكرية متركزة بيد القوى التقليدية القديمة بما فيها تلك التي أيدت الثورة وانضمت لها، وبالتالي لا نتوقع أن تدفع هذه القوى التقليدية باتجاه إعادة هيكلة الجيش والأمن وفق أسس ومعايير علمية ووطنية حديثة، لأنها ستفقد الكثير من قوتها ومصالحها. وهذا في حد ذاته يشكل عنصر عدم استقرار، ففي حال احتفظت هذه الأطراف بقوتها ومواقعها القيادية فإنها ستعرض البلد لخطر الحروب والصراعات المستمرة، وستوظف قوتها العسكرية من أجل تحقيق مصالحها الضيقة وضرب قوى التغيير التي تنادي بمشروع الدولة المدنية الحديثة.

وانطلاقا من هذا الفهم لطبيعة وتحديات المرحلة الانتقالية، تأتي أهمية العمل على إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية والعسكرية كمقدمة ضرورية للدخول في حوار وطني شامل يتطرق لكل القضايا الساخنة التي تعيق نفاذ التسوية بشكل سلس ومريح.
 
والهيكلة بطبيعة الحال لا تعني فقط إبعاد أقارب الرئيس السابق من مواقعهم القيادية في الجيش والأمن، أو إعادة تدوير المناصب بين القيادات العسكرية القديمة، فالهيكلة - كما تقتضيها الحالة اليمنية الراهنة- تعني إعادة توحيد مؤسسة الجيش والأمن وتأطيرهما تحت القيادة المباشرة لوزارتي الدفاع والداخلية، وإعادة هيكلة هذه المؤسسة الوطنية بما يفضي إلى تحقيق هدف إدارتها من قبل السلطة المدنية، ومن ثم إعادة بنائها تنظيميا وقانونيا وماليا على أسس ومعايير وطنية ومهنية واحترافية، وإعادة صياغة وتوجيه عقيدتها العسكرية. كما أن الهيكلة تعني بالدرجة الأساسية إعادة الاعتبار للعلاقات المدنية–العسكرية في اليمن، ومنع أي طرف أو فريق سياسي من استخدام أو توظيف القوات المسلحة والأمن خارج إطار الدستور والقانون، وإدماجها بشكل كامل في إطار نظام مدني وديمقراطي.

والحال أن الهيكلة على هذا النحو ربما تحتاج إلى وقت طويل نسبيا، وإلى أموال وموارد طائلة ربما لا تقدر الحكومة اليمنية وحدها على تأمينها وتحمّل أعبائها، ولكن المهم في هذه المرحلة هو أن تستغل القيادة الجديدة التأييد الشعبي الداخلي والدعم الإقليمي والدولي للقيام بخطوات جريئة في إطار عملية الهيكلة بما من شأنه تفكيك بقايا النظام العسكري العائلي وإعادة توزيع وانتشار هذه القوات خارج المدن الرئيسة وإخضاعها مباشرة لوزارة الدفاع والداخلية.

إن من شأن القيام بخطوات كهذه أن تنزع فتيل قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة وتمنع تركيز القوة بيد أطراف أو جهات معينة، وبالتالي ستجعل المؤسسة الأمنية والعسكرية قادرة، على الأقل في الحد الأدنى، على توفير مناخات وأجواء آمنة تمكن اليمنيين جميعا من المضي قدما في الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده خلال الأشهر القليلة القادمة، ومن ثمّ الشروع في إعداد دستور جديد يضع اللبنات الأولى للدولة المدنية الحديثة، وبغير هذا فإن خطر الفوضى وعدم الاستقرار سيظل محيقا بعملية الانتقال السياسي برمتها، الأمر الذي قد يُهدد بإعادة اليمن للمربع رقم واحد.  
____________________________
سقاف عمر السقاف - باحث سياسي يمني.

الهوامش
1- للمزيد انظر: فرانك مرميه، "موروث تاريخي مجزأ"، في: اليمن المعاصر، إشراف ريمي لوفو وفرانك مرميه وهوغو ستانبخ، ترجمة علي محمد زيد (بيروت: الفرات للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2008)، ص17.
2- سرحان بن دبيل العتيبي، "الوحدة اليمنية: مقوماتها، اتجاهاتها ومستقبلها"، مجلة شؤون اجتماعية، العدد 82 (الشارقة، 2004)، ص47.
3- حسن أبو طالب، الوحدة اليمنية: دراسات في عملية التحول من التشطير إلى الوحدة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1994)، ص234-235.
4- المصدر نفسه.
5- محمد علي السقاف، "اليمن المعاصر"، مرجع سبق ذكره، ص187-188.

نبذة عن الكاتب