الرئيس السابق أكبر هاشمي رفسنجاني (يسار) وإسفنديار رحيم مشائي مستشار الرئيس الإيراني (الفرنسية) |
لم يقدم مجلس صيانة الدستور سببًا قانونيًا لرفض ترشح الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني، في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في 14 يونيو/حزيران القادم. وشرط السن الذي جرى الحديث عنه محدد في القانون الإيراني بالنسبة لمرشحي مجلس الشورى، لكنه غير مدرج في قانون انتخابات الرئاسة. وفي الوقت نفسه لم يبرر المجلس سبب رفضه ترشيح مستشار الرئيس رحيم مشائي. يُدخل قرار المجلس هذا السباق الانتخابي في منعطف جديد؛ وإذا ما بقيت قائمة المرشحين على شكلها المقدم إلى وزارة الداخلية، والتي تتضمن ثمانية أسماء، فذلك معناه أن إيران على موعد مع رئيس أصولي جديد. ومن أبرز المرشحين في اللائحة المقرة وزير الخارجية السابق على أكبر ولايتي وكبير المفاوضين سعيد جليلي.
صدرت عن رفسنجاني، البالغ من العمر 78 عامًا، قبل ترشحه، تصريحات تفيد بأنه لن يقدم على هذه الخطوة بدون موافقة المرشد. ونشرت بعض المواقع الإيرانية أن رفسنجاني اتخذ قراره بشكل نهائي عقب مكالمة تليفونية قصيرة، قال بعدها: "توكلنا على الله".
ما زال الاحتمال قائمًا بأن يتدخل خامنئي ويصدر ما يُطلق عليه "حكم حكومتي"، فيقرر قبول ترشيح رفسنجاني، وربما مشائي أيضًا، على غرار ما حدث عام 2005، عندما تدخل وقرر المصادقة على قبول ترشيح الدكتور مصطفي معين ومرشح آخر هو مهر علي زادة. وتطالب أصوات عديدة بتدخل خامنئي لصالح رفسنجاني، ونذكر على هذا الصعيد رسالة ابنة الخميني زهراء مصطفوي إلى خامنئي في 21 مايو/أيار، التي طالبت المرشد بالتدخل وذكّرته بمكانة رفسنجاني لدى الإمام الراحل. ورأت مصطفوي في رسالتها أن قرار المجلس لن يؤدي إلا إلى توسيع الشُقة بين "صاحبي الإمام"، وسيوجه ضربة لإقبال الناس على صناديق الاقتراع. وحذرت مصطفوي، التي تقر بأن رفسنجاني قد تغير، من إقصائه، لأن ذلك يوجه لطمة للثورة. وتعتقد ابنة الخميني، التي تحظى بالاحترام في إيران، أن "خامنئي يمكنه أن يعطي بقراره هذا زخمًا لولاية الفقيه، وينقذ إيران".
إن خطوة على هذا الصعيد لن تكون بلا رسائل للداخل والخارج؛ فقرار كهذا يحمل رسالة لمعارضي الصلاحيات الممنوحة للمرشد ومنها هذه الصلاحية، تقول: إن "حكم المرشد" ليس شيئًا سيئًا بل هو حسن وواجب. وإذا ما حدثت المفاجأة فهي رسالة موجهة إلى رفسنجاني نفسه بأن لا ينسى قدرة قائد الثورة على "المسامحة والتجاوز"، طلبًا لمصلحة النظام العليا؛ وبذلك يدخل رفسنجاني المنافسة وهو مثقل بعبء هذه "المكرمة". وبالنسبة للداخل، والمعارضة تحديدًا، فقرار خامنئي إن حدث، سيكون تطييبًا للخاطر وإشارة إلى "حكمة القائد" ورجاحة رأيه.
أما على صعيد العلاقة مع الخارج فذلك معناه أن عودة رفسنجاني إلى السلطة التنفيذية لا تعني أن يكون صاحب الكلمة الفصل، أو أنه الذي يمسك بخيوط اللعبة ويرجح كفة على أخرى.
يشير بعض ما صدر عن مقربين من رفسنجاني إلى أنه لن يعترض على قرار المجلس بصورة حادة ولن يطلب من خامنئي قرارًا على هذا الصعيد، لكن الاحتمال وارد بأن يستقيل من منصبه كرئيس لمجمع تشخيص مصلحة النظام. وهناك شائعات تشير إلى عزلة سياسية يكون مقرها قم؛ وعلى غرار ذلك أيضًا صدرت تحذيرات من استقالة الرئيس أحمدي نجاد احتجاجًا على رفض ترشح مشائي. إن حدثت مثل هذه الاستقالات فستدخل إيران في منطف سياسي خطير وتعقّد الأزمة داخليًا. ويعتقد آخرون أن رفسنجاني وأحمدي نجاد سيقدمان على طلب حكم المرشد، وأن التهديد بالاستقالة سيكون وسيلة لجعل مجلس صيانة الدستور يعيد النظر في قراراته.
ويتحدث رأي آخر عن قرار يصب في صالح رفسنجاني، لكنهم يستبعدونه بالنسبة لمشائي، في وقت أشار فيه أحمدي نجاد إلى "مشائي المظلوم"، مؤكدًا أنه سيتابع القضية مع المرشد حتى اللحظة الأخيرة. مهما كان الأمر، فإن ردود أفعال التيار النجادي على قرار مجلس صيانة الدستور لن تتأخر كثيرًا، وهذا ما يفسر الخطوة الاستباقية التي أقدم عليها الأمن باعتقالات داخل صفوف التيار.
وإذا لم يصدر قرار خامنئي، فذلك معناه أن الخيار حُسم لصالح فئة لا يستهان بها داخل الحرس الثوري ترى ضرورة الإجهاز نهائيًا على التجربة الرفسنجانية وإقصاء "ثعلب إيران" بالكامل، حتى لا تكون له أي فرصة إضافية في ترتيبات البيت الإيراني للفترة ما بعد خامنئي. وقد كان رفسنجاني وحتى عام 2009 واندلاع الاحتجاجات عقب الانتخابات الرئاسية العاشرة هو المرشح الأبرز لخلافة صديقه؛ لكن مياه السياسة جرت على عكس ما يريده الرجل الذي اختبر سجون الشاه ورفقة الخميني وصداقة خامنئي ولعب دورًا مؤثرًا في السياسة الإيرانية في أخطر المراحل التي مرت بها الجمهورية الإسلامية.
يعني إقصاء رفسنجاني ومشائي أيضًا ترجيح كفة الحلقة الأمنية المقربة من خامنئي على صعيد السياسة الخارجية، وهو ما سينعكس بصورة أساسية على الأزمة السورية، ويعني بشكل كبير مزيدًا من الدعم لحزب الله وانحيازًا لخيار المواجهة بدل الحل السياسي.
من جهة أخرى، يرى أنصار رفسنجاني أن الرجل هو بطل مرحلة "إعادة البناء"، وهي المرحلة التي قامت على أسس: إعادة بناء البنية التحتية، والخروج بالبلاد من الاعتماد الشديد على اقتصاد النفط، وتوسيع مساحة الدبلوماسية مما جعل "خطاب البناء" مشروع إنقاذ الثورة في عقدها الثاني. وفي ضوء هذا الخطاب، شهدت إيران تحسينات واسعة، وأُعيد بناء الجزء الأكبر مما دمرته الحرب؛ وأخذ التكنوقراط على عاتقهم جزءًا كبيرًا من إدارة البلد، وذلك ضمن جماعة "كوادر البناء".
حاول هاشمي رفسنجاني خلال الفترة التي تولى فيها رئاسة إيران، (1989-1997)، تغيير مسار السياسة التي حكمت إيران طوال فترة الحرب، وهي الفترة التي سيطر فيها اليسار الإيراني على مقاليد السلطة؛ وكان يرى، منذ أن بدأت حكومته، أن الإنتاج يساوي الاستقلال. استطاعت إدارة رفسنجاني أن توصل النمو الاقتصادي إلى رقم من خانتين لأول مرة بعد الثورة، وسعت بصورة معلنة وواضحة لوضع سياسات مير حسين موسوي جانبًا بهدف إحداث تعديلات اقتصادية. أصبح الملف الاقتصادي بيد الوزير نور بخش، الذي كان تلقى تعليمه في أميركا، ولم يكن يقبل باقتصاد الدولة. لقد جاء خطاب هاشمي رفسنجاني مختلفًا بصورة كبيرة عن خطاب موسوي؛ الأمر الذي عبّر عن نفسه في الميادين السياسية والاقتصادية.
بيد أن هذا الخطاب تضمن مشكلة رئيسية تلخصت في صرف الاهتمام إلى الاقتصاد الحر، وتجاهل "العدالة والجوانب الروحية"؛ وعمل على تقديم تصور جديد خارج الإطار الذي عرفته الثورة. قام الشعار الرئيسي للتكنوقراط الملتفين حول رفسنجاني على أساس التعمير والتنمية من دون الاهتمام بالعوامل المؤثرة في ذلك. ولم يحل الاعتراض الكبير والانتقادات التي طالت هذا التوجه حتى من طرف مرشد الثورة الإسلامية دون استمرار هذا الخطاب لفترة ليست بالقصيرة؛ وهو ما دفع المعارضين إلى حشد جهودهم ليثبتوا رأيهم القاطع في عقم هذا الخطاب وفشله.
مع تعالي نبرة النقد لسياسة رفسنجاني، كان اليمين يدخل في سنة 2001 مرحلة إعادة التعريف، ويطلق على نفسه رسميًا تسمية الأصوليين، التي تشي بالالتزام العملي والعقائدي بالجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية، وبتعاليم الخميني والوفاء لمقام مرشد الثورة. وقد تزامن هذا التطور مع تعاظم نفوذ مؤسسة حرس الثورة على الصعد الاقتصادية.
وأمام التشكيك في النظام، وفي مبادئ الثورة، أعاد اليمين تأكيد التزامه بولاية الفقيه، وإجلال مرحلة "الدفاع المقدس" والشخصيات الفاعلة فيها، ودعم الفقراء والطبقات الدنيا، ومعاداة قيم الاستهلاك وتجميع الثروة. ومن هنا، بدأت المواجهة السياسية والفكرية مع فترة الإصلاحات، وكذلك مع فترة إعادة البناء التي تزعمها رفسنجاني.
يوجه إقصاء رفسنجاني ضربة لطيف واسع من الحركة الإصلاحية، وخاصة "الإصلاحيين المعتدلين"، وهي المجموعة التي تشكلت في ثمانينيات القرن العشرين باعتبارها ظلاً للفصائل السياسية اليمينية واليسارية، وكانت تدّعي أنها مجموعة نشيطة محورها رفسنجاني. وقد قام هذا الطيف في سنة 1995 بتأسيس حزب "كار گزاران"، أي كوادر عهد حكومة رفسنجاني، التي سُميت: حكومة إعادة التعمير. وشكّل أعضاء الحزب كتلة لايستهان بها في مجلس الشورى الخامس، لكن، بالتدريج، وبعد الضربة التي تلقاها الأب الروحي للطيف على يد الإصلاحيين الراديكاليين والمعارضين، وخصوصًا في الدورة السادسة لمجلس الشورى، كانت مجموعات أُخرى من هذا التيار، ومن حزب الاعتدال والتنمية، تفعّل نشاطها، وتدخل الانتخابات الرئاسية التاسعة بخطاب الاعتدال.
يرى هذا الطيف ضرورة الحكم الدستوري، ويؤكد دور النخبة في صنع القرار؛ أمّا من حيث القاعدة الاجتماعية، فإنه ينتمي إلى الطبقة الوسطى. شارك أعضاء هذا الطيف بعد الثورة في جميع الحكومات التي شهدتها إيران حتى مجيء حكومة أحمدي نجاد في سنة 2005، ودافعوا بشدة عن الرأسمالية الصناعية والخصخصة، وتقوم استراتيجيتهم السياسية على "السلام في الداخل، ورفض التوتر مع الخارج". وهذا الطيف في حقيقته خليط من الفكر الليبرالي والبراغماتية، وهو يتبع نهجًا يزاوج بين الليبرالية والعلمانية، ويدافع أعضاؤه من الناحية الاقتصادية عن نموذج الاقتصاد العالمي الحر، ويحملون فكرًا سياسيًا خارجيًا يقوم على رؤية معتدلة وواقعية وتغليب المصلحة.
شكّلت عناوين "الاقتصاد الحر" و"الانفتاح الاجتماعي" و"الواقعية في السياسة الخارجية" محاور أساسية في فكر رفسنجاني، لكنها كانت العناوين ذاتها التي استند اليها الخصوم في مواجهته؛ الذين اتهموا هذه السياسة الاقتصادية بأنها وجهت ضربة للطبقات الفقيرة المحرومة وأوصلت التضخم إلى 50% في بعض المراحل، وتنازلت عن شعارات الثورة وآفاق امتدادها، ومهدت الأرضية لنشوء موجة "القومية الفارسية".
تعكس تطورات المشهد الإيراني تعقيدات العلاقة بين أطراف الصراع ودوائر النفوذ في الجمهورية الإسلامية؛ لكنها تكشف في الوقت نفسه عن نفوذ خامنئي، وعن تعاظم سلطة ونفوذ الحلقة الأمنية المحيطة بالمرشد، والمكونة في معظمها من حرس الثورة، وتمسك بزمام الاقتصاد والنفط. أخذ هذا النفوذ منحى تصاعديًا منذ سنة 2005، متزامنًا مع خطاب يعيد إنتاج المرحلة الأولى من عمر الثورة، وصل أوجه في السنة الأخيرة وترك تأثيرا يُرى بوضوح على السياسة الخارجية. لقد توسع دور هذه الحلقة وتطور إلى أكثر من "خواص" يقدمون للمرشد النصيحة إلى فئة متنفذة تدير وتحكم وترسم ملامح سياسة إيران.
منذ انتصار الثورة وإلى اليوم والجمهورية الإسلامية تشهد عمليات تدافع سياسي وانشقاقات وتصفيات أخذ بعضها شكلاً عنيفًا. وما زالت عملية التدافع والإقصاء مستمرة لكنها وإن بدأت تأخذ شكلاً ناعمًا يستند إلى نصوص القانون حينًا والمواقف السياسية حينًا آخر، إلا أن هذا الإقصاء الناعم قد يفجر الوضع في إيران. يجري الحديث اليوم عن "الثورة التي تأكل آباءها" في إشارة إلى رفسنجاني الذي قد يرجح خيار الانزواء السياسي حفاظًا على إرثه، لكن ذلك قد لا يصدق على التيار النجادي حديث العهد؛ فسيجد هذا التيار، الذي بدأ يأخذ ملامحه الخاصة مع نهاية الدورة الرئاسية الأولى لأحمدي نجاد، سيجد نفسه مجبرًا على الدفاع عن مكتسباته القليلة وتجربته الغضة. وتنبىء شخصية زعيمه بأنه لن يقبل أن يخلي الساحة السياسية بسهولة.
______________________________
فاطمة الصمادي - باحثة متخصصة في الشأن الإيراني