أزمة المياه في آسيا الوسطى.. صراع محتدم

تناقش هذه الورقة النزاع المحتدم في آسيا الوسطى حول مشكلة المياه؛ إذ تُعد قضية توزيع واستخدام الموارد واحدة من أكثر الإشكاليات المستعصية على الحل والتي ظهرت منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي. ولعل أكثرها حدة ذلك الخلاف الكبير بين طاجيكستان وأوزبكستان.
2013912115725783580_20.jpg
سد روجون يشعل خلافا كبيرا حول المياه بين  طاجيكستان وأوزبكستان (الجزيرة)

تعود مشكلة استغلال موارد المياه المشتركة في آسيا الوسطى إلى منتصف القرن العشرين؛ فالسياسة غير الرشيدة التي اتبعها القادة السوفيت كانت تركز على تعظيم الإنتاج الزراعي وتعزيز إنتاج الطاقة الكهربائية في آسيا الوسطى، وقد حققت هذه السياسة أهدافها المرجوة بنجاح. وتوفر المصادر الرسمية المنشورة خلال الحقبة السوفيتية قدرًا هائلاً من المعلومات التي تعطي أدلة كافية على زيادة الإنتاج المحصولي وتنامي قدرات إنتاج الطاقة الكهربائية في ربوع الإقليم. ورغم ذلك، تفتقر هذه التقارير إلى أية إشارة إلى التدمير البيئي الذي تسبب فيه العامل البشري في التخطيط الزراعي وإنتاج الطاقة.

ومنذ لحظة استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، ورثت جمهوريات آسيا الوسطى مشكلات عدة يتصدرها العجز في موارد المياه والطاقة، وتملح التربة، وجفاف بحر آرال، وتصحر أراض كثيرة في الإقليم. وعلاوة على الكوارث البيئية، تزداد خطورة الأوضاع نتيجة النهج السياسي البائس وعجز زعماء دول الإقليم عن الجلوس إلى مائدة التفاوض من أجل صياغة نظام يضمن استغلالاً مشتركًا وعادلاً لموارد المياه في الإقليم؛ ففي عام 1994 اتفق رؤساء دول الإقليم الخمس (كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، تركمنستان، أوزبكستان) على ضرورة وضع مسودة تشريع مشترك واستراتيجية متفق عليها بين الأطراف لاستهلاك وتوزيع وصيانة موارد المياه في آسيا الوسطى. والآن، وبعد نحو عقدين من ذلك التاريخ، لم يتم الوصول إلى حل لمشكلة استغلال موارد المياه العابرة لحدود دول الإقليم، بل إن الأزمة تتفاقم لدرجات تفوق في حدتها ما كانت عليه في تسعينيات القرن العشرين.

وفي مطلع أغسطس/آب 2013 استضافت حكومة طاجيكستان في العاصمة دوشنبيه المؤتمر الدولي رفيع المستوى للتعاون المائي والذي نظمته بالاشتراك مع مؤسسات الأمم المتحدة. وقد انعقد المؤتمر بغرض تعيين القضايا المتعلقة بالاستخدام الفعال للمياه العذبة العابرة لحدود دول الإقليم. وكانت قائمة الشخصيات رفيعة المستوى التي شاركت في المؤتمر تضم مسؤولين مرموقين من نحو 70 دولة وعددًا من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. وعلى نحو ما هو مألوف في مثل هذه المناسبات، ثمة اختلافات كبيرة بين ما يعلنه المشاركون وما يصدر من تصريحات سياسية رسمية من جهة وبين ما تتم ممارسته على أرض الواقع من جهة أخرى.

موارد المياه.. نواة لنزاع محتدم

تعد قضية توزيع واستخدام موارد المياه في آسيا الوسطى واحدة من أكثر الإشكاليات المستعصية على الحل والتي ظهرت على السطح منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي. فهل تُعطى الأولوية التنموية لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة الكهربائية في الدول ذات الطبيعية الجبلية في الإقليم أم تُعطى لتوجيه المياه لري المحاصيل الزراعية في الدول المحتضنة لمصبات تلك الأنهار؟ ولعل أكثر المشاهد حدة في ملف مشكلات ندرة المياه في آسيا الوسطى هو ذلك النزاع القائم بين كل من إمام علي رحمانوف (رئيس طاجيكستان) وإسلام كريموف (رئيس أوزبكستان).

ومن المثير للانتباه أن ثمة إمكانات كبرى للتعاون الاقتصادي البيني الذي بوسعه أن يعود بالنفع المشترك على الدولتين؛ فدولة أوزبكستان، والتي تمثل دولة مصب للمياه القادمة من طاجيكستان، لديها موارد من الغاز الطبيعي الذي لا غنى عنه لضمان استمرار الصناعة وتلبية الاحتياجات الحياتية لجارتها طاجيكستان. في المقابل، نجد أن طاجيكستان تمثل الدولة التي تنبع فيها كافة موارد المياه التي تغذي الإقليم.

ويمثل إنتاج القطن والمحاصيل الغذائية عناصر الدخل الرئيسة للاقتصاد الأوزبكي؛ وهذا يفسر لماذا تعد المياه ومصادر الطاقة العوامل الحاكمة للنزاع بين زعيمي الدولتين. وليس هناك من مانع يحول دون تحقيق مميزات الاستغلال المشترك بين الطرفين سوى الطموحات الشخصية لكل منهما من أجل الهيمنة السياسية على الإقليم.

ويتمثل حجر الزاوية في العلاقات الأوزبكية–الطاجيكية في مسعى طاجيكستان إلى إنشاء سد روجون على نهر فخش، وهو المشروع الذي يثير جدلاً بين الطرفين. كان الخبراء السوفيت في سبعينيات القرن الماضي قد وضعوا مخططًا أوليًّا لهذا السد الذي سيضمن إقامة محطة توليد طاقة كهربائية ضخمة. ويبلغ الارتفاع المنتظر لسد روجون 335 مترًا؛ مما يجعله أعلى السدود النهرية في العالم. وحين كانت جمهوريات آسيا الوسطى جزءًا من إقليم سياسي واحد في الاتحاد السوفيتي، كان إنشاء أعلى السدود النهرية في العالم سيعود بالنفع على تعزيز استغلال الطاقة الكهربائية في الإقليم ككل. ومع ذلك، تم تعليق المشروع حين انهارت الإمبراطورية السوفيتية، وما تلاها من اندلاع حرب أهلية في طاجيكستان. وفي مطلع الألفية الجديدة تم استعادة العمل في المشروع وما زال العمل ساريًا حتى الآن.

ومع استمرار توتر العلاقات بين رحمانوف وكريموف، صار إنشاء السد محل أهمية استراتيجية لكلا البلدين. وفي حال إتمام السد، ستكون طاجيكستان قد وجهت ضربة موجعة للاقتصاد الأوزبكي من خلال السيطرة على موارد المياه المتجهة نحو منطقة المصب. وفي سباق الديكتاتورية في الإقليم يقترب إسلام كريموف من نيل لقب أكثر حكام آسيا الوسطى استبدادًا. وتتوقف رفاهية ورخاء شعوب آسيا الوسطى على تصدير الغاز الطبيعي والمنتجات الزراعية، والقطن من بينها. وعلى الجانب الآخر، سيكون بوسع محطة روجون للطاقة الكهربائية أن تزود طاجيكستان بمصدر رخيص للطاقة بما يلبي احتياجاتها الداخلية وتصدير الفائض لدول الجوار. ومن هنا فإن سد روجون سيجعل من الرئيس رحمانوف حاكمًا عظيم القدرة واسع النفوذ في آسيا الوسطى.

بدورها تعمل أوزبكستان بكل السبل الممكنة على الحيلولة دون تنفيذ بناء السد؛ وبالتالي يزداد الشقاق ويتعمق عدم الاستقرار بين الدولتين الجارتين؛ ففي مطلع عام 2013 قامت أوزبكستان بقطع إمدادات الغاز عن جارتها وذلك للمرة الثالثة خلال الاثني عشر شهرًا السابقة(1). ويعتبر الغاز الطبيعي هو المكون الرئيس في التجارة البينية بين طشقند ودوشنبيه. وإضافة إلى ذلك، تم حظر نقل الغاز الطبيعي المسال إلى طاجيكستان عبر الأراضي الأوزبكية. وبغض النظر عن ترك سكان طاجيكستان دون وقود خلال برد الشتاء القارص، ترتب على وقف تصدير الغاز ونقله خلل كبير في عمل مصنع الألومنيوم الطاجيكي (مصنع "تالكو") والذي يوفر 75% من النقد الأجنبي للدولة. كما تأثر بشدة مصنع الأسمنت الذي يوفر المواد الخام لبناء سد روجون، وذلك لاعتماد المصنع على الغاز الطبيعي المنقول عبر أوزبكستان.

ومما هو جدير بالذكر أن الحدود السياسية الأوزبكية تمثل البوابة الكبرى للأجزاء الجنوبية من طاجيكستان ذات الطبيعة الجبلية الداخلية. وبالإضافة إلى قطعها لإمدادات الغاز، قامت أوزبكستان بالحد من شحن وتدفق السلع إلى طاجيكستان عبر أراضيها. وقد تزايدت المشاحنات على خطوط السكك الحديدية لدرجة بالغة الخطورة من المواجهات وذلك منذ الانفجار الذي وقع في 2011 على طريق السكك الحديدية جالابا-أموزانج المؤدي إلى طاجيكستان(2). ونتيجة لذلك، أغلقت أوزبكستان طرق النقل والمواصلات على طول هذا الممر، مسببة بذلك انعزال جنوب طاجيسكتان عن الاتصال بالعالم الخارجي.

وقد تسبب إغلاق الحدود والنقاط الأمنية في مشكلات عديدة للسكان في ذات الوقت؛ فهناك نحو مليون أوزبكي يعيشون في طاجيكستان، ومليون طاجيكي يعيشون في أوزبكستان. ويؤدي العمل بنظام تأشيرات الدخول إلى تقويض التجارة البينية ويزيد من تعقيد العلاقات بين الأسر والعائلات التي قسمتها الحدود. وقد تم تلغيم جانب من الخط الحدودي في عام 2000، كما أن الاتصال البري عبر السيارات والنقل الجوي ما زال متوقفًا عن العمل منذ نحو عقدين من الزمن.

وفي عام 2012 استعادت دوشنبيه وطشقند المحادثات المتوقفة بشأن تعيين وترسيم الحدود بين البلدين؛ فالحدود بين الجانبين، والتي تتعرج وتتشابك في وادي فرغانة، رسمتها في الأصل  السلطات السوفيتية في فترة بعيدة ماضية. ولأن الدولتين كانتا جزءًا من دولة سوفيتية واحدة، لم تكن الحدود بين جمهوريتي أوزبكستان وطاجيكستان محل نزاع إلى أن وقع الانهيار السوفيتي وحصلت الدولتان على استقلالهما. وعلاوة على كونه إقليمًا محل نزاع ومصدرًا لموارد المياه العابرة للحدود بين دول الإقليم، يمثل وادي فرغانة ميراثًا تاريخيًا قديمًا للمجموعات العرقية التي تسكن الإقليم. وجدير بالذكر أن استعادة هذه المفاوضات العبثية قد جاء بعد مرور ثلاث سنوات كاملة من نشر وسائل الإعلام الرسالة التي أعلنها الرئيس الطاجيكي رحمانوف، والتي قال فيها: "سنحصل على سمرقند وبخارى بأي شكل"(3)، في إشارة إلى المدينتين التاريخيتين الواقعتين داخل حدود أوزبكستان.

وطبقًا للرئيس الأوزبكي كريموف، فإن لديه ما يجعله يشعر باستياء بالغ تجاه الرئيس الطاجيكي وأسلوبه الغريب في السلوك السياسي، بما في ذلك محاولاته الضغط على كريموف نفسه. وفي تقييمه الذاتي، يرى كريموف أن رحمانوف "ناكر للجميل" لأنه تناسى الدعم الذي قدمه له شخصيًا حين وقف خلفه وسانده ليصل إلى رئاسة طاجيكستان في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي. وكانت طشقند تراهن على أنها بدعمها رحمانوف في طاجيكستان سيكون بوسعها السيطرة على السياسات الإقليمية في آسيا الوسطى(4). وتكمن المشكلة في أن طاجيكستان ليس لديها من الوسائل المعيشية ما يكفي لتحقيق المشروعات التي تتولد من بنات أفكار رحمانوف؛ فالكلفة التي يتطلبها بناء السد تبلغ نحو 7 بلايين دولار، وهو رقم يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة طاجيكستان خلال عام 2012.

من جانبهم يحتفظ السياسيون ورجال الأعمال الروس بوجهة نظر خاصة تجاه شؤون آسيا الوسطى؛ ففي بداية الألفية الثالثة قامت شركة الألومنيوم الروسية "روسال Rusal" بالمساهمة في العمل في المشروع. وكان رئيسها، رجل الأعمال الروسي أوليج ديريباسكا، قد بدأ في التفاوض الجاد للانخراط المشترك في المشروع. وقد افترض ديريباسكا أنه في مقابل تمويله لمشروع بناء السد ستكون له السيادة على المصنع الطاجيكي "تالكو" لإنتاج الألومنيوم. وفي نفس الوقت، كان التفاوض ينص أيضًا على أن تلبي الطاقة المتولدة من السد الضخم المزمع إنشاؤه احتياجات إنتاج الألومنيوم في ذلك المصنع.

ومن المفترض أن يحقق السد بارتفاع 280 مترًا تلبية لكافة احتياجات مصنع "تالكو" من الطاقة، رغم أن كلفة إنتاج هذه الطاقة قد تصبح أعلى إذا وصل ارتفاع السد إلى 335 مترًا، كما هو مخطط من البداية للمشروع. لكن على الجانب الآخر، سيؤدي تنفيذ المشروع بكامل طاقته إلى تعريض علاقة الكرملين مع طشقند للخطر، تلك العلاقة الفاترة أصلاً. غير أن التغيير في ارتفاع السد سيكون له أثره في اهتزاز مكانة رحمانوف. إضافة إلى ذلك، تعتبر "تالكو" بمثابة كبرى الشركات الصناعية في طشقند، والمنتج الوحيد للآلومنيوم في آسيا الوسطى. ومن الجلي أن تخفيض ارتفاع السد وإحكام السيطرة على أكبر المصانع أرباحًا في طاجيكستان الفقيرة سيؤدي حتمًا إلى توجيه حكام البلاد وجوههم شطر موسكو. وفي النهاية، تركت شركة "روسال" الروسية المشروع، رافضة أن تحصل فقط على نصف رغيف الخبز وتاركة رحمانوف دون أرغفة، فقد كانت الشركة تطمح إلى السيطرة على كل شىء، وهو الهدف ذاته الذي كان رحمانوف يسعى لتحقيقه لنفسه.

وبعد أن فشلت محاولات جذب مستثمرين أجانب لتمويل المشروع، تمت استعادة العمل في المشروع في عام 2008 بتمويل طاجيكي داخلي. وفي عام 2010 أكد رحمانوف أن "كل مواطن طاجيكي، كبيرًا كان أم صغيرًا، بكل ما لديه من حب صادق ومخلص لأرض الآباء، سيقدم الدعم الأدبي والمادي لبناء سد روجون". وكي تزداد وتيرة عملية بناء السد، طرحت الحكومة أسهمًا للمواطنين في تمويل السد حتى يقترب اليوم المأمول حين "يرتفع عاليًا العلم الطاجيكي، ويتوهج التاج الذهبي للدولة الطاجيكية فوق أعمدة محطة توليد الطاقة لسد روجون"(5). وعلى هذا كان على كل أسرة طاجيكية أن تشتري أسهمًا بما لا يقل عن 689 دولارًا (ما يعادل ثلاثة آلاف سوموني طاجيكي) رغم أن المتوسط الشهري لدخل الأسرة الطاجيكية يتراوح بين 60 و100 دولار فقط(6).

ونتيجة لنقص الموارد والاعتراض المتزايد من دول المصب لم يتحقق مشروع سد روجون إلى الآن. وقد ناشدت طاجيكستان البنك الدولي لفحص مشروع السد من أجل تقديم الدعم له لإكمال خطة هذا المشروع الذي يعد مشروع القرن في الإقليم. ويقوم البنك الدولي حاليًا بتمويل تنفيذ مشروع ضخم للموارد المائية يُعرف باسم مشروع "كاسا-1000"، ويهدف إلى إنتاج ونقل الطاقة الكهربائية في كل من وسط وجنوب آسيا. ويتضمن هذا المشروع تمويل وضع البنى الأساسية لمحطات الطاقة الكهربائية في دول مثل قرغيزستان وطاجيكستان؛ وذلك بهدف إنقاذ كابول وإسلام أباد من معاناة عجز في الطاقة الكهربائية. وبما أن البنك الدولي هو الشريك الاسثماري الأكبر في مشروع (كاسا-1000) فإن سد روجون يحظى الآن بوقوعه تحت مظلة الرعاية الشاملة لخبرة البنك الدولي على المستويات الفنية والاجتماعية والاقتصادية. ويصر الشركاء في البنك الدولي على خفض ارتفاع السد المزمع ، لكن دوشنبيه لا تقبل أي تغيير في ذلك.

مستقبل غائم لمشروع السد

في أعقاب الاقتراح الذي بادرت به طاجيكستان، أعلنت الأمم المتحدة عام 2013 عامًا للتعاون المائي الدولي. وبالعودة إلى ما أشرنا إليه بعاليه عن المؤتمر الدولي رفيع المستوى الذي عُقد في دوشنبيه في أغسطس/آب 2013، كان جزء من عام المياه هذا تحت رعاية الأمم المتحدة، واستخدمت دوشنبيه ذلك الدعم للتأكيد على اهتمامها وحرصها على قضايا إدارة المياه العابرة للحدود. وفي المؤتمر صرح الممثل الدائم لطاجيكستان في الأمم المتحدة، سراج الدين أصلوف، بأن على دول الجوار: "أن تتفهم مشكلات طاجيكستان والتي لا تملك تحت تصرفها سوى موارد المياه... وليس هناك من أمل لها سوى إنشاء محطة كهرباء روجون بقدرة 3600 ميجاوات على نهر فخش والتي بوسعها أن تؤمِّن للدولة مصادر الطاقة التي تحتاجها"(7).

ويمكن أن يكون ذلك هو الحقيقة فعلاً، ما لم تكن هناك أنانية في الطاقة لدى الحاكم الأعلى في طاجيكستان. وقد رفض هذا الحاكم كافة الاقتراحات البديلة، بما في ذلك ما قدمه الطرف الأوزبكي. وكانت المقترحات الأوزبكية تتضمن على سبيل المثال خفض ارتفاع سد روجون أو إقامة عدد من السدود الأصغر بدلاً من ذلك السد العملاق. ومن غير المنتظر أن يقبل رحمانوف أي شىء سوى إقامة أعلى سد في العالم، ليكمل أرقامه القياسية إلى جوار أعلى سارية علم في العالم، واكتمال بناء أكبر مسجد في آسيا الوسطى.

وتعتبر محاولات كريموف للضغط على رحمانوف في غير صالح أوزبكستان نفسها، كما أنها مدمرة لاقتصاد طاجيكستان الذي يعاني أصلاً من وهن ملحوظ. وقد بلغ النزاع ذروته مع ذلك التصريح الذي أدلى به الرئيس الأوزبكي كريموف خلال زيارته لكازاخستان عام 2012. فقد قال كريموف: إن مشكلة إدارة موارد المياه العابرة للحدود "قد تزداد سوءًا لدرجة قد تفضي إلى نشوب نزاع خطير بل واندلاع حرب"(8). وإذا أخذنا في الاعتبار الاتجاهات الاجتماعية–السياسية، فإنه من غير المتوقع نشوب حرب على موارد المياه في آسيا الوسطى. غير أن تصريح كريموف أثار عاصفة من التعليقات حول السيناريوهات المتوقعة حول النزاع المسلح على المياه.

وفي ظل هذه الملابسات، لا نجد أحدًا من حلفاء طاجيكستان المحتملين، حتى مع تبني المشروع من قبل المنظمات الدولية، لديه حماسة لتقديم الدعم المادي للرئيس الطاجيكي في هوسه الجامح بالمشروعات الضخمة ذات الأرقام القياسية. ولعل السبب في فتور حماسة الداعمين هو أهمية أوزبكستان، تلك الدولة القوية كثيفة السكان في آسيا الوسطى والتي يتوقف عليها بشكل كبير ضبط وصياغة الملامح الأمنية للإقليم. ومن غير المتوقع أن يتغافل اللاعبون الخارجيون عن مصالح أوزبكستان. وعلاوة على ما سبق، فإن الحكام المستبدين في كل من أوزبكستان وطاجيكستان، يركزون في الفترة الأخيرة على الشؤون الداخلية وضمان انتقال/الاستئثار بالسلطة في الداخل. وتنتظر طاجيكستان انتخابات رئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، ومن المتوقع أن تُجرى الانتخابات الرئاسية في أوزبكستان في 2015.

وبغض النظر عن العلاقات البينية لرئيسي البلدين، فإن السؤال المحوري هو ما إذا كانت المياه -بما فيها مصادر المياه الواقعة عبر الحدود- يمكن اعتبارها مصدرًا طبيعيًا قوميًا؛ فطبقًا لاتفاقية اللجنة الاقتصادية الأوروبية التابعة للأمم المتحدة UNECE عام 1992، فإن الدول التي تتشارك في موارد المياه "عليها أن تتعاون على أسس من المساواة والاحترام المتبادل، وبصفة خاصة من خلال الاتفاقات الثنائية ومتعددة الأطراف، بهدف تطوير سياسات وبرامج واستراتيجيات تتسم بالتناغم والتجانس(9). وليس بمستغرب إذن أنه لا طاجيكستان ولا أوزبكستان قد وقّعتا على تلك المعاهدة.

وبشكل عام، فإن مثل هذه الأنماط من النزاعات تصنف ضمن المبدأ الاقتصادي المعروف باسم "مأساة استنزاف الموارد المشتركة" tragedy of the commons، والتي كان قد أشار إليها غاريت هاردين.  ويعطي جوهر هذه النظرية الاقتصادية معادلة بسيطة من حيث الإدراك ولكنها عسيرة للغاية من حيث التطبيق؛ إذ تؤكد على أن إساءة استخدام الموارد المشتركة من قبل مجموعة بعينها سيؤدي إلى استنزاف البيئة ويفضي إلى اختفاء سبل الحياة. وبدوره سيؤدي ذلك إلى خسائر لكافة المستهلكين، بمن فيهم أولئك الذين سلكوا سلوك الاستهلاك الجامح في البداية. ومن ثم فعلى كافة الأطراف الفاعلة أن تكبح جماح استهلاكها لصالح حقوق المجموع ككل. ومن الملاحظ أنه ليست لدينا معايير متفق عليها لتحديد ما هي "الكوابح الذاتية". وبالتالي فالمرء باعتباره "فاعلاً يحتكم إلى المنطق" سيسعى لاستهلاك أكبر قدر ممكن من الموارد مقارنة بما يتركه خلفه للآخرين.

ويبدو أن الحلول الممكنة تكمن في تدخل الحكومة لتحديد الحصص الاستهلاكية. ولعله من المخجل للغاية هنا أن الحكومات نفسها هي الفاعل الأكبر الساعي لاستنزاف أكبر قدر ممكن من الموارد متغاضية عن التعاون البنّاء والاستهلاك المشترك.

وأخذًا في الاعتبار الضغط الدولي، فإنه من غير المتوقع أن يتم إنجاز المشروع الضخم بإقامة محطة توليد كهرباء على سد روجون في طاجيكستان على النحو الذي وضعته الخطة الأولى للمشروع. ويبقى أن نشير إلى أن آليات إدارة الأنهار العابرة للحدود في آسيا الوسطى لا تتمتع بالإحكام شأنها في ذلك شان بقية أقاليم العالم. وكي يتم إقرار ذلك فلا مفرَّ من أن تكون هناك إرادة سياسية وتفاهم مشترك بين كافة الحكومات المحلية.

ويبقى الأمل في أنَّ تزايد الاعتماد على التوازن البيئي والمياه العذبة سيمثل عوامل دفع للحكومات كي تحقق تعاونًا مبكرًا قبل أن تجبر التجربة زعماء تلك الدول على أن يدركوا بعد فوات الأوان أن النقود التي يكدسونها لا يمكن أن تؤكل أو تُشرب وقت المجاعة والعطش.
________________________________________
* كارينا فايزولينا، باحثة روسية متخصصة في العلاقات الدولية.
** هذه الورقة أعدتها الباحثة باللغة الإنجليزية وتمت ترجمتها إلى العربية بواسطة د.عاطف عبد الحميد رمان.

المصادر
(1)  M. Bushuyev (2013) ‘Bad tradition. Uzbek gas does not give warmth to Tajiks any longer’, Deutsche Welle, 3 January, http://www.dw.de/%D0%BD%D0%B5%D0%B4%D0%BE%D0%B1%D1%80%D0%B0%D1%8F-%D1%82%D1%80%D0%B0%D0%B4%D0%B8%D1%86%D0%B8%D1%8F-%D1%83%D0%B7%D0%B1%D0%B5%D0%BA%D1%81%D0%BA%D0%B8%D0%B9-%D0%B3%D0%B0%D0%B7-%D0%B1%D0%BE%D0%BB%D1%8C%D1%88%D0%B5-%D0%BD%D0%B5-%D0%B3%D1%80%D0%B5%D0%B5%D1%82-%D1%82%D0%B0%D0%B4%D0%B6%D0%B8%D0%BA%D0%BE%D0%B2/a-16493084 .
(2) Ozodi Radio (2013) ‘Explosion in Amuzang’, 4 September, http://rus.ozodi.org/content/article/24396345.html .
(3) Regnum (2009) ‘Tajikistan president: Samarkand and Bukhara will be taken by us anyway!’, 10 December, http://www.regnum.ru/news/1233993.html.
(4) I. Savelyev (2010) ‘Tajikistan: the road to the independence is not finished’,  RIANovosti, 8 September, http://ria.ru/analytics/20100908/273697743.html .
(5) Khovar (2010) ‘Addressing of Tajikistan president to the people of Tajikistan’, 5 January, http://khovar.tj/rus/president/17085-obraschenie-prezidenta-respubliki-tadzhikistan-k-narodu-tadzhikistana.html .
(6) Lenta (2011) ‘Average wage in Tajikistan exceeds $100 for the first time’, 1 July,  http://lenta.ru/news/2011/06/01/hundred /.
(7) Fregana (2013) ‘Dushanbe hosts the High-Level International Conference on Water Cooperation’, 21 August, http://www.fergananews.com/news/21119
(8) Regnum (2013) ‘Uzbekistan president: water and energetic problems may lead to the war’, 7 September, http://www.regnum.ru/news/1569140.html .
(9) UNECE (1992) ‘Convention on the Protection and Use of Transboundary Watercourses and International Lakes’, pp. 3-4.

نبذة عن الكاتب