الجزائر والهواجس الأمنية الجديدة في منطقة الساحل الإفريقي

كيف يمكن للجزائر أن تواجه مخاطر التمدد الداعشي المتوقع في منطقة الساحل؟ هذا ما يريد البروفيسور بوحنية قوي أن يجيب عنه في هذه المقاربة التي قرأ من خلالها الوضع الأمني في منطقة الساحل المحاذية للجزائر والتي أصبحت عرضت للإصابة بعدوى النموذج الداعشي في العراق وسوريا.
2014121110183597734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
أصبح تحرك داعش في العراق وسوريا يضبط إيقاع عدد من الحركات الجهادية في مناطق أخرى، وبالتالي تضاعفت الهواجس الأمنية لكثير من المناطق والدول ومن بينها الجزائر. أصبحت "دعشنة منطقة الساحل الإفريقي أمرا متوقعا. ومنذ سنة 2009 ما فتئت الجزائر وغيرها من دول المنطقة كموريتانيا ومالي والنيجر وتشاد تنظم اللقاءات وتبرم المعادات الأمنية المشتركة من أجل مكافحة خطر الجماعات المسلحة. وقد تأكد أن أي مقاربة أمنية لا تأخذ بعين الحسبان البعد الإقليمي، وتسعى لوضع استراتيجية تعاون متكاملة لن تكون ذات جدوى. ويتأكد هذا الهدف مع احتمال استنساخ النموذج الداعشي في منطقة الساحل خصوصا وأن أغلب دول الساحل دول رخوة، تعيش أوضاعا أمنية هشة وحدودا مفتوحة وفضاء قابلا للاختراق. وقد زاد الوضع الأمني المتدهور  في ليبيا من قلق الجزائر التي أصبحت ملزمة أكثر من اي وقت مضى بأخذ ملف الأمن في الساحل بجدية أكثر.

توطئة: الهواجس والمقاربة الأمنية بين الساحل وإمارات تنظيم داعش

على وقع متسارع تتحرك الأحداث في العراق وسوريا تحديدًا، وضمن سياق جعل من تحرك داعش "البوصلة" التي تضبط على وقعها معالم كيفية صناعة مستقبل مليء بالصراعات وعامر بالمفاجآت ومرشَّح لكل أنواع التشظي الإثني والجغرافي، تتعاظم الهواجس الأمنية لدى صانعي القرار في الجزائر.

لا توجد مؤشرات حقيقية تجعل من عملية دَعْشنة الساحل وانتقال عدوى العمليات العسكرية الدراماتيكية للتنظيم الدموي إلى ساحل إفريقيا المترامي على مساحة قاحلة تتجاوز 10 مليـــون كلم2 "قضية مستحيلة"، سوى بعض المظاهر المسلحة التي تقتبس منهج داعش كآليةٍ من آليات البروز والتسويق الإعلامي، كحالة إعدام الرعية الفرنسي متسلق الجبال -الفرنسي هيرفي غوردال- ذبحًا في شريط بث عبر اليوتيوب في 21 سبتمبر/أيلول 2014 حمل توقيع جماعة جند الخلافة في أرض الجزائر، والتي أعلنت في شريط فيديو بيعتها للتنظيم الجديد، ونكث البيعة السابقة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

إن المؤشرات الجيوسياسية تؤكد أن بقاء تنظيم داعش واستمرار استنزافه للعراق وسوريا وللجهود الدولية، عملية لن تطول في المنظور الاستراتيجي رغم وجود عناصر بإمكانها إطالة عمر الأزمة كالطبيعة الجبلية للمناطق المحاذية لإقليم كردستان، والصحراء الممتدة من الرقة السورية إلى حدود الموصل فكوباني عين العرب، غير أن افتكاك عناصر الاستنزاف في المدى المتوسط متوفرة ما دامت البنى السياسية للجيش العراقي الميليشياوي والهيكل السياسي للدولة العراقية لا يزال قيد التأسيس وإعادة البناء بعد عملية هدم ممنهجة، مارسها نظام سياسي لا يحظى بالإجماع في الدولة العراقية.

تتوفر البيئة الحاضنة لتنظيم الدولة الإسلامية على عناصر صناعة البقاء، كحقول البترول الموجودة في مناطق نفوذهم، والتي تشير تقارير استخباراتية أن التنظيم كان يبيعها للمخابرات التركية وبعض السماسرة الدوليين بسعر لا يتجاوز 30 دولار للبرميل!

ويتلقى التنظيم الناشئ دعمًا لوجستيًّا وبشريًّا غريبًا، وهو ما أهَّله إلى تولي زعامة التنظيمات الجهادية الأممية (بيعة معلنة من أكثر من 70 سرية إفريقية و10 تنظيمات و112 كتيبة إسلامية مسلحة).

ولذلك فالتخوف الأمني الجزائري والهواجس لا يمكن إنكارها، رغم نبرات الاستخفاف المنبعثة بشكل تهكمي من طرف بعض الفاعلين السياسيين الجزائريين؛ ولذلك فالمؤسسة العسكرية الجزائرية ترى في استفحال وتمدد الجماعات الراديكالية المسلحة خطرًا لا يمكن تجاهله، خصوصًا بعد تدهور الأوضاع في ليبيا وتغوُّل الجماعات المسلحة والمليشيات العسكرية على النظام السياسي في ليبيا ومالي، ويزداد هذا التخوف في ظل هشاشة النظم الأمنية لدول الجوار، ومنها تونس التي تعيش وضعًا قلقًا وقابلاً للتفجر في أي لحظة. ولعل إبرام اتفاقات الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وتونس وليبيا يأتي ضمن مسعى يهدف إلى تأمين الجوار، وكذا أمننة العلاقات الدبلوماسية الإقليمية.

في هذا السياق كشف تسجيل صوتي إعلان الجزائر ولاية جديدة لتنظيم داعش، فقد أعلن البغدادي في تسجيل بث يوم الجمعة 14 نوفمبر/تشرين الثاني عن استراتيجية جديدة قائلاً:

"إننا نبشركم (يخاطب أتباعه) بإعلان تمدد الدولة الإسلامية إلى بلدان جديدة، إلى الجزائر وليبيا ومصر وبلاد الحرمين واليمن، ونعلن قبول بيعة من بايعنا من إخواننا في تلك البلدان، وإلغاء أسماء الجماعات فيها، وإعلانها ولايات جديدة للدولة الإسلامية، وتعيين ولاة عليها". وجاء التسجيل الصوتي الذي بلغت مدته 17 دقيقة، ليؤكد أن "الضربات الجوية التي يشنها التحالف الدولي لن توقف زحف التنظيم، الذي أصبح يسيطر على مناطق واسعة في العراق وسوريا". وفيما يبدو البغدادي مخاطبًا أتباعًا له قائلاً: " اطمئنوا، فإنّ دولتكم بخير وتمتد ولو كره الكافرون، وإنّنا نبشركم بإعلان تمدد الدولة الإسلامية إلى بلدان جديدة، إلى الجزائر وليبيا ومصر وبلاد الحرمين واليمن، ونعلن قبول بيعة من بايعنا من إخواننا في تلك البلدان، وإلغاء أسماء الجماعات فيها، وإعلانها ولايات جديدة للدولة الإسلامية، وتعيين ولاة عليها، ونطلب من أتباعنا الاقتراب بأي ولاية قريبة منكم وفرض السمع والطاعة لواليكم". وتابع البغدادي: "وإلى سيوف التوحيد في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، يا صناديد الجهاد، يا أحفاد موسى وعقبة وطارق وابن تاشفين، لا خير فيكم إذا أسلمتم البلاد لبني علمان وفيكم عين تطرف"(1).

بين إقليم الساحل الإفريقي وأقاليم بلاد الشام والعراق المعلنة إمارات إسلامية وجوه متقاربة لعناصر فشل أنظمة عجزت عن المحافظة على كياناتها الجغرافية!!

ففي العراق يقاتل تنظيم الدولة وتقاتل معه الجغرافيا بتضاريسها في ظل فشل دولتي مطبقَ رهَنَ مستقبل سوريا بيد فصائل تجاوز تعدادها سبعين فصيلاً، كل فصيل يدَّعِي امتلاك الحق والحقيقة، في ظل طغيان صراع الإنهاء والإنهاك بين جميع الأطراف، ووسط بيئة تربك كل عناصر ومقومات الاستقرار.

في الساحل بالمقابل كل أنواع الفشل الأزموي من تجارة السلاح والجريمة المنظمة وانتشار التنظيمات المسلحة، التي أعلن بعضها الولاء لتنظيم داعش والاستقلال بالقرار عن الروابط التاريخية لتنظيم القاعدة.

لا توجد مؤشرات حقيقية على انتقال النموذج السادي في القتل والاغتصاب وبيع الجواري(2)، وحملات القتل الممنهج إلى دول الساحل؛ لأنَّ الأرض والجغرافيا الفاصلة لا تسعفهم.

ومع ذلك فانتقال عدوى "الدعشنة" لا يمكن الجزم بها؛ ذلك لأن كثيرًا من المؤشرات تشير إلى إمكانية دحر التنظيم في حد ذاته وبقاء العمل المسلح قائمًا، في ظل عدم تسوية العملية السياسية في العراق، وفي خضم البحث عن ما ستؤول إليه الأزمة السورية الخانقة!

وهو ما يجعل عملية المقارنة يجانبها كثير من الصواب، رغم وجود ولاءات جديدة للتنظيم الدولي على حساب تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.

ما الذي حدث سنة 2009.. بداية المقاربة الجزائرية لأزمة الساحل الإفريقي؟

دخلت الخطة الأمنية لدول الساحل الإفريقي حيز التنفيذ شهر (سبتمبر/أيلول 2009)، ضمن الأطر المحددة سلفًا من قبل الاتحاد الإفريقي القوي آنذاك، حيث فوَّض "مجلس السلم والأمن الإفريقي" هذه الدول لتشكيل جيش نظامي موحَّد، يتولى مهمَّة محاربة الإرهاب في منطقة الساحل، وتندرج هذه الخطة -كما تخطِّط الجزائر تحديدًا، بوصفها صاحبة الدور الأكبر فيها، باعتراف مفوض السلم والأمن الإفريقي رمضان لعمامرة (وزير الخارجية الجزائري الحالي)(3)- في إطار قيادة الجهود الإقليمية لدول الساحل؛ لخوض معركة جماعية حاسمة ضدّ تنظيم القاعدة.

أقرَّت كلٌّ من (الجزائر وليبيا ومالي والنيجر وموريتانيا) سنة 2009، خطة أمنية ترتكز بشكل أساسي على بناء قوة عسكرية نظامية قوامها 25 ألف جندي مشكَّلة من الجيوش النظامية للدول الخمس، بالتعاون مع الميليشيا القبلية المنتشرة في الصحراء، من قبائل الطوارق والعرب والزنوج وغيرها؛ للسهر على تنفيذها، ودعم جهود السيطرة الحكومية على الحدود الدولية في المنطقة. وجاءت هذه الخطوة نتيجة للاجتماعات العسكرية المطوّلة التي عقدها ممثلو هيئات الأركان للجيوش النظامية للدول الخمس بالعاصمة الليبية طرابلس خلال الأسابيع التي سبقت هذا الإعلان.

تولت الجزائر سنة 2009 قيادة جيوش كل من مالي والنيجر وموريتانيا لتشكيل أول قوة عسكرية في المنطقة، حيث اجتمع القادة العسكريون للدول الأربعة في مقر قيادة الناحية العسكرية الجزائرية السادسة الكائنة في ولاية تمنراست الجنوبية الحدودية(4). وتجدر الإشارة إلى أنّ كلاًّ من مالي والنيجر وموريتانيا قد اعترفت بمحدودية قدراتها العسكرية، وطلبت من الجزائر تمويل وقيادة عمليات التمشيط العسكريّ المركَّز ضدّ تنظيم قاعدة الصحراء بحلول شهر سبتمبر/أيلول، وتولي مهمة النقل الجوي للمؤن والذخائر والمعدات لإمداد جيوش الدول الثلاثة؛ حيث لا تنفق كل من مالي والنيجر وموريتانيا مجتمعة أكثر من 350 مليون دولار في تلك العمليات(5)، ويعدُّ "عجز التسلُّح" أحد أهمّ أسباب تأخُّر عملية التمشيط والتدخل في منطقة الساحل، إضافة إلى الظروف المناخية الصعبة في الصحراء الإفريقية الكبرى.

دعت الجزائر إلى عقد الاجتماع الطارئ في مدينة تمنراست سنة 2009، بعد اندلاع الاشتباكات في نيجيريا بين الجيش ومتمردي جماعة "بوكو حرام" المسلحة التي تعدّ على علاقة مع تنظيم القاعدة في المنطقة(6)، إضافة إلى ورود أنباء عن احتمال حدوث تدخُّل أجنبي في هذه الخطة الأمنية؛ بسبب ما أشيع عن خلاف أميركي- أوروبي حيالها، حيث تدعم الولايات المتحدة الأميركية الخطة الهادفة إلى تدمير تنظيم القاعدة في الساحل عبر جميع الوكلاء الأفارقة في المنطقة، ويخالفها الأوروبيون، الذين فوَّضوا كلاًّ من فرنسا وإسبانيا وبريطانيا لإرسال إمدادات عسكرية لكلٍّ من مالي والنيجر وموريتانيا لمواجهة تنظيم القاعدة، دون تمويل الجزائر وليبيا؛ وذلك لحماية منشآتها العسكرية بالدرجة الأولى، وهو ما يعني المسعى الغربيّ الحثيث لخطف سيادة القرار في الساحل الإفريقي من ليبيا والجزائر اللتين كانتا تتوليان قيادة هذه العملية النوعية؛ حيث لا يريد الطرفان -الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والدول الأوروبية الكبرى من جهة أخرى- أن تتحوَّل ليبيا والجزائر إلى "بلدين محوريين" في هذه العمليات، بما قد يجعلهما يضران بالمصالح الغربيَّة في دول المنطقة. فإذا كانت واشنطن تسعى لحماية مصالحها في دول الساحل عبر محاربة تنظيم القاعدة، فإنَّ فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وألمانيا تريد أن يكون لديها نفوذ على الحكومات الإفريقية من دول الساحل؛ لحماية مصالحها من الموارد الطبيعية والمنشآت الصناعية والعسكرية، وتسهيل تموقعها الجيِّد في المنطقة بعد تجربتها المريرة جرَّاء عمليات اختطاف الرعايا والسيّاح الأوروبيين في المنطقة منذ سنة 2002.

من معالم المقاربة الأمنية الجزائرية

أولاً: حلّت خطة الجزائر لسنة 2009، مشكلة تسهيل عمل الجيوش النظامية لدول الساحل الإفريقي بما يمكّنها من مطاردة الإسلاميين وراء الحدود، وضرب معاقل تنظيم القاعدة، وتجفيف منابع الدعم والإمداد اللوجستي التي تمول أفراده بالسلاح والأموال، والسيطرة النهائية على منطقة الساحل الإفريقي بالاعتماد على الجيوش النظامية لدول المنطقة. كما اتفقت دول الساحل الإفريقي -آنذاك- على إنشاء أول قاعدة بيانات محلية موحدة، تتضمن كافة المعلومات المتاحة حول "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب"، على أن تلتزم هذه الدول بتغذية هذه القاعدة بالمعلومات بفعالية للتصدي للتنظيم بفعالية.

ثانيًا: اتفقت (الجزائر وليبيا وموريتانيا ومالي والنيجر) على السماح لهيئات الأركان للجيوش الخمسة التابعة لها، بالمطاردة المستمرة للجماعات الإسلامية المسلحة المنضوية تحت لواء تنظيم القاعدة في المناطق الصحراوية، والسماح لها بعبور الحدود في منطقة الساحل والصحراء بعد إبلاغ الدولة التي تجري المطاردة داخل إقليمها، بشرط توفر قوات نظامية جاهزة للملاقاة في الدولة التي تجري على أرضها المطاردة.

ثالثًا: الاتفاق على التعاون العسكري بين هذه القوى النظامية الموحَّدة ومقاتلي القبائل من الطوارق والقبائل العربية والزنوج وغيرها، وضمان حياد الطوارق خصوصًا في المواجهة بين القوات العسكرية المالية وتنظيم القاعدة(7).

رابعًا: تجفيف مصادر تمويل الإرهاب والتصدي للمهربين، وتنفيذ مشاريع استثمارية شمال مالي والنيجر، وتكثيف الرقابة على منابع المياه المهجورة، مع التعهد بحفر آبار أخرى للسكان المحليين؛ بهدف حصر تحركات الإرهابيين.

خامسًا: تكثيف الرقابة على منطقة الصحراء، ومراقبة مناطق الأودية والمرتفعات التي يسهل فيها إخفاء المركبات وحفر أماكن الاختباء، وهي منطقة تمتد من جبال أدغاغ أفوغارس شمال مالي وجبال أكادس إير شمال النيجر، مرورًا بوادي زوراك الذي يصل إلى جنوب الجزائر.

ويمثـِّل الجنوب الجزائري الذي يعدُّ جغرافيا ممتدة، ويعدُّ منطقة ذات طبيعة صحراوية وعرة، وليس من السهل ضبطها بالاعتماد فقط على قوات حرس الحدود النظامية، فهذه المنطقة تحمل من الخطورة الأمنية نفس درجة التهديد الأمنيّ للعمليات الإرهابية المسلحة التي يشنها هذا التنظيم في المناطق الجبلية الوعرة شمال ووسط الجزائر، فقد أحصت وزارة الداخلية الجزائرية وجود أكثر من أربعين جنسية لمهاجرين سرّيين أفارقة يتواجدون على الأراضي الجزائرية، معظمهم متورط في نشاطات غير شرعية مثل الهجرة السرّية وتهريب السلاح والمخدرات والتبغ والذهب وغيرها(8).

مع كلِّ تلك المخاوف، فالجزائر كانت من أكثر الدول التي امتلكت الحجج الكافية لتبرير موقفها من مكافحة الإرهاب، فقد كانت طوال سنوات التسعينات من القرن الماضي منكفئة على نفسها في محاربة هذه الظاهرة، وسط انتقادات كبرى من الدول الغربية التي كان معظمها يأوي أفرادًا من الجماعات الإسلامية المسلحة، من الإسلاميين الذين كانوا يتمتعون باللجوء السياسي في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، ويساهمون في التخطيط للعديد من العمليات الإرهابية داخل الجزائر. ومن هنا، فإنَّ موقف الجزائر نابع من معاناتها من هذه الظاهرة التي خلّفت خسائر مادية بأكثر من 30 مليار دولار و200 ألف قتيل من ضحايا الإرهاب، إضافة إلى حصار طويل على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتحديدًا بمنعها من التسلح لمكافحة خطر الإرهاب(9).

واشنطن والجزائر.. مطلب استضافة "الأفريكوم"

لم تجد المقاربة الأميركية للأمن في إفريقيا التأييد الكافي من قبل الأفارقة، حيث لا تزال الإدارة الأميركية تفكِّر في إقامة قاعدة عسكرية في إفريقيا؛ لاستكمال حلقات قياداتها العسكرية عبر العالم. ومن جهتها، رفضت الجزائر بوضوح تام قبول استضافة قيادة الأركان الأميركية "أفريكوم"، رغم أنها -حسب التوصيف الأميركي- تعتبر "دولة محورية" في القارة الإفريقية، ولها دور كبير في الحرب العالمية على الإرهاب، مع ذلك أكّد وزير الخارجية الجزائري السابق السيد محمد بجاوي، رفض الجزائر الصريح للفكرة، قائلاً: "إنَّ تضحيات الجزائر من أجل الانعتاق من ربقة الاستعمار الفرنسي، لا يتوافق مع قبولها إقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها"(10). ولم تفلح الزيارات الرسمية لكلٍّ من وزير الخارجية السابق كولن باول، ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وروبرت مويلر مدير مكتب التحقيقات الأميركية (FBI)(11)، ووزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس للجزائر في إقناع قيادتها السياسية بقبول هذا الطلب(12).

الجزائر هواجس المستقبل الاستراتيجي

تخوض الجزائر الرسمية ممثلة في النظام السياسي حربًا تسويقية دبلوماسية تروِّج مفاهيم صناعة الاستقرار، وهو ما تؤكده جلسات الحوار الاستراتيجي بين فرقاء الأزمة في دولة مالي، وقد باشرت في جلسة الحوار الثالث بين أكثر من 6 جماعات عربية وأزوادية مسلحة وهي تدافع في كل المحافل الدولية عن مسألة تجريم دفع الفدية، وبالمقابل تمارس دور العرَّاب الصانع للسلم من زمن الربيع العربي المتعثر؛ إذ تظهر الوقائع أنها معنية بالمساعدات الأميركية في مجال التحقيقات الجنائية والقضائية، خصوصًا في مجال التحقيقات مع المقاتلين العائدين من القتال في سوريا، وهو ما أكده وزير العدل الأميركي السابق إريك هولدر(13)، وتنسق هي بطريقة دبلوماسية براغماتية مع اللجان المشاركة المختلطة كاللجنة العليا الجزائرية المصرية واللجنة العليا الجزائرية القطرية التي تُوِّجت بتوقيع 15 اتفاقية ومعاهدة يرتبط بعضها بالشق الأمني وهو ما أفرزته زيارة الوفد الدبلوماسي الجزائري رفيع المستوى للعاصمة القطرية (الدوحة) خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني، مع وجود تحالف استراتيجي واستخباراتي وثيق مع فرنسا، خصوصًا بعد حادثة الإعدام الأخيرة للرعية الفرنسي.

كما تعترف الأطراف المالية المتنازعة بمسار الجزائر كمخرج أساسي من الأزمة المالية، وهو ما أكَّده نائب الممثل الخاص لبعثة الأمم المتحدة المتعددة بمالي (مينوسما) السيد أرنو أكوجنو عقب انتهاء المرحلة الرابعة من الحوار الذي تم برعاية الدبلوماسية الجزائرية بالجزائر العاصمة في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، والذي حظي بإجماع كبير وإشراف أساسي من طرف وزير الخارجية رمطان لعمامرة، الذي اعتبر جولة الحوار الرابعة بمثابة المرحلة الحاسمة في طريق التوصل إلى اتفاق نهائي.

ومن الناحية التقنية الإجرائية، فقد اتخذت الهيئات الأمنية -ومنها وزارة الدفاع- احتياطاتها لمكافحة الجريمة المنظمة عن طريق الشروع في تسييج الحدود الجنوبية على وجه التحديد بتكنولوجيا مراقبة عالية المستوى والذكاء التقني، وضبط الحدود التونسية الجزائرية بأكثر من 80 نقطة مراقبة على طول حدودها المشتركة مع تونس، وتم نشر 60000 جندي في حدودها المشتركة مع دول الساحل الإفريقي في مايو/أيار 2013.

ولتجفيف منابع الجريمة خصوصًا من الخاصرة الجنوبية التي تمتد لمسافة تتجاوز الـ 3000 كلم، فقد حددت وزارة الداخلية قائمة بـ50 مادة وسلعة يحظر نقلها إلى ليبيا؛ لمنع وصولها إلى الجماعات السلفية الجهادية التي تزايد نفوذها في عدة مناطق بليبيا. ويأتي هذا الإجراء الخاص بمنع نقل مجموعة من السلع إلى ليبيا، حيث تم الاتفاق بشأنه بين دول جوار ليبيا وهي تونس والجزائر. تأتي في مقدمة السلع التي يمنع نقلها إلى ليبيا قطع الغيار أيًّا كان نوعها، والآلات الإلكترونية، وأجهزة الاتصال، وقائمة من الأدوية أهمها تلك الخاصة بالعمليات الجراحية وكل المستحضرات الكيميائية التي تدخل في أي صناعة، والوقود بمختلف أنواعه. ويأتي الإجراء لمنع حصول الجماعات السلفية الجهادية التي أعلنت الولاء لتنظيم ما يُسمَّى بالدولة الإسلامية "داعش"، على أيّ مواد أو تجهيزات تستغل في أعمال عدائية(14).

وتشير مصادر أمنية ليومية "الخبر" الصادرة بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني أن الجزائر تلقت طلبًا من الولايات المتحدة الأميركية لتقديم تسهيلات للتحالف الدولي المناهض لتنظيم داعش. وتشير المصادر ذاتها إلى أن دول التحالف تخطط جديًّا لفتح جبهة جديدة ضد تنظيم "داعش" في ليبيا، في حالة توسع نفوذ هذا التنظيم في هذه الدولة النفطية. وتتضمن التسهيلات المطلوبة من الجزائر ومصر وتونس، السماح بمرور طائرات حربية والنزول الاضطراري للطائرات الأميركية في قواعد جوية جزائرية، في إطار عملية عسكرية أميركية يجري التحضير لها منذ أشهر، تتضمن توجيه مئات الصواريخ الجوّالة من فئة "كروز" لأهداف تابعة لتنظيم أنصار الشريعة وبعض الكتائب السلفية الليبية، وتدمير البنية التحتية للجماعات السلفية الجهادية في ليبيا.

وتدرس الجزائر -حسب نفس المصدر- طلبين أميركيين؛ الأول: هو تدخل عسكري محدود لقوات جزائرية ومصرية في ليبيا تحت غطاء من الأمم المتحدة، أما الطلب الثاني: فهو تقديم تسهيلات لبوارج أميركية وغواصات تحمل صواريخ كروز، إضافة للطائرات الحربية الأميركية؛ من أجل تنفيذ غارات جوية على أهداف مركزة داخل الأراضي الليبية.

كما تظهر التحقيقات الأمنية أن الجزائر قد تمكنت من القضاء على أول إرهابيي تنظيم داعش الجزائري، وهو أحد الأشخاص المتورطين في ذبح الرعية الفرنسي غوردال في سبتمبر/أيلول السابق في مشهد الرسالة الموقعة بالدم، وقد ورد ذلك في تصريح لوزير العدل الجزائري حافظ الأختام في ندوة إعلامية بتاريخ 26 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم. وفي ذات السياق، تم توقيف خمسة أشخاص بعد عودتهم من تنظيم داعش بالعراق، وذلك إثر كمين نصبته الشرطة القضائية في مدينة البليدة الشمالية، وذلك بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني، وهو ما يعطي مؤشرًا حقيقيًّا بالمساعي الحثيثة التي تبذلها الجزائر؛ لتوقيف امتداد نفوذ التنظيم المسلح.

خلاصات

من خلال ما سبق يمكن أن نستنتج الملاحظات التالية: 

  • لا مكانة للأمن في منطقة الساحل الإفريقي دون وجود مقاربة جماعية إقليمية لحماية الحدود الملغّمة بين دول الجوار، ويكون هذا التعاون في المجال الشرطي والمجال العسكري العملياتي.
  • لا يوجد ما يؤكد استحالة استنساخ نموذج تنظيم داعش في صيغته الدموية، ما دامت بعض دول الساحل تعاني من الهشاشة والفقر وانعدام التنمية والتوازن الجغرافي ومشاكل الهوية.
  • يستحيل على دولة بمفردها أن تؤسس لدبلوماسية أمنية دون شراكة حقيقية في مجال التنمية الاقتصادية، ودون عملية إعادة بناء جيوش المنطقة وفق عقيدة عسكرية راسخة.
  • من الأهمية بمكان بعث الروح في الاتحاد الإفريقي الذي لا يزال غائبًا أو مغيبًا في بعض المحطات المهمة في مجالات الاستقرار، مثل ما لوحظ في حالة القتل على الهوية في إفريقيا الوسطى ونيجيريا، وحالات الانقلاب في بوركينا فاسو حاليًا وساحل العاج سابقًا.
  • تبقى الجزائر في كل ما سبق معادلة مهمَّة في "مصفوفة بناء السلام وتعزيز الاستقرار"، وبث الروح في بعض التجمعات الإقليمية، سواء في الساحل أو في المغرب العربي، شريطة توفر الغطاء السياسي المتين الذي يرفد الجهود الإقليمية والدولية بهذا الاتجاه.

الملحق 1

 

الملحق 2

 

 ____________________________________________
أ.د. بوحنية قوي - أكاديمي جزائري متخصص في تحولات الدولة والدراسات الاستراتيجية

الهوامش
(1) يومية الخبر الجزائرية، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ص3.
(2) وردت صور وفيديوهات كثيرة تظهر بيع النساء كجوارٍ من طرف تنظيم داعش في المناطق التي تقع تحت سيطرة التنظيم في العراق وسوريا، لاحظ مثلاً:
www.youtub.com/watch?v=hXQ_XmU-hqA
(3) أكّد مفوض الأمن والسلام في الاتحاد الإفريقي وجود دعم مادي وتكنولوجي مقدَّم من طرف المجموعة الدولية لدول الساحل لمواجهة تنظيم القاعدة، مؤكدًا أن قمة سرت في (يوليو/تموز 2009) تمثِّل بداية الإجراءات العمليَّة لتنفيذ الخطة. انظر: رمطان لعمامرة.. مفوض السلم والأمن في الاتحاد الإفريقي لـ "الخبر": "مكافحة الإرهاب في الساحل ليست عسكرية صرفة، ولولا الجزائر لما تحركت المجموعة الدولية"، يومية الخبر، الملف السياسي، حاوره: عاطف قدادرة، عدد السبت 27 يونيو/حزيران 2009، ص2.
(4) SALIMA TLEMÇANI, "Réunion Entre L'Algérie, Le Niger, La Mauritanie et Le Mali: Des Chefs Militaires des Etats du Sahel à Tamanrasset," ELWATAN, Algérie, N: 5712, (Jeudi 13 Août 2009), pp. 01-03.
(5) أحمد ناصر، "ثلاث دول من الساحل تبلغ الجزائر حاجتها للسلاح: اجتماع عالٍ في تمنراست استعدادًا لهجوم كاسح على "قاعدة الصحراء"، يومية الخبر، عدد: 5727، الخميس 13 أغسطس/آب 2009، ص2.
(6) بوعلام غمراسة، "قادة جيوش أربعة دول يبحثون مواجهة القاعدة في الساحل الإفريقي: بمبادرة من الجزائر.. ورعاية من الاتحاد الإفريقي"
http://classic.aawsat.com/details.asp?section=4&article=531671&issueno=11216#.VHRtHNKG_9k
(7) يحظى مقاتلو تنظيم القاعدة بحماية بعض القبائل المنتشرة في عرض الصحراء الإفريقية، وهي نفس الإشكالية التي تواجه القوات الأميركية في محاربتها لتنظيم القاعدة في أفغانستان، والسبب هو الولاء القبلي الذي يضمن عهد البقاء لهؤلاء المقاتلين وسط القبائل، كما هو الحال في إقليم وزيرستان ووادي سوات في باكستان.
(8) عبد النور بن عنتر، "البعد المتوسطي للأمن الجزائري.. الجزائر، أوروبا والحلف الأطلسي"، الجزائر، المكتبة العصرية، 2005، ص 25.
(9) MhandBerkouk, ''U.S.–Algerian Security Cooperation and the War on Terror,'' Carnegie Endowment for International Peace, (June 2009):
http://carnegieendowment.org/publications/index.cfm?fa=view&id=23276&prog=zgp&proj=zme
(10) بوعلام غمراسة، "لسنا معنيين بمشروع قيادة القوات الأميركية في الساحل الإفريقي: وزير الخارجية الجزائري ينفي وجود قواعد عسكرية لواشنطن في بلاده"، الشرق الأوسط، الرياض، في الموقع:
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&article=408977&issueno=10323
(11) حسن مصدق، "واشنطن، باريس، الجزائر.. عين على المصالح وعين على العدو الشقيق"، العرب الأسبوعي، السبت 7 يوليو/تموز 2007، ص12.
(12)- بوعلام غمراسة، المرجع السابق.
 (13) الخبر، السبت 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ص3.
(14) الخبر، الأحد 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ص4.
(15) خالد بودية، "غرفة عمليات خاصة لمواجهة داعش"، يومية الخبر، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ص2.

نبذة عن الكاتب