رغم الأزمات الداخلية للمعارضة الموريتانية التي يفرضها السياق السياسي ومواجهة المجتمع ومناوأة السلطة، لا يزال للمعارضة حضور وقابلية للتطوير، مستفيدة من أزمات النظام وتفاقم مشكلاته [الجزيرة] |
ملخص
في وضع سياسي مضطرب تعيش المعارضة الموريتانية أزمات الدولة وتواجه عقبات المجتمع، وتضيف إليهما أزماتها الداخلية التي رافقتها منذ انطلاق مسيرتها الأولى مطلع التسعينات. وتنتظم تلك الأزمات في مواجهة الدولة بوسائلها المختلفة والتحريض السياسي للأنظمة المتعاقبة على المعارضة، فعلًا ومسارات ورموزًا ومؤسسات، كما تنتظم المجتمع وقبائله وجهاته التي تجد في هُوِيّاتها الجزئية بديلًا عن الدولة والمواطنة الحقة. ويجد النظام السياسي في تلك الهويات والأعراق فرصة لإغراق المشهد السياسي وتجييش القبائل ضد الفعل المعارض. غير أن من أكبر الأزمات الداخلية للمعارضة انعدام الثقة بين أطرافها، وأزمة خطاب فقد كثيرًا من أَلَقه، تقدمه مؤسسات حزبية تفتقد الديمقراطية الداخلية في أكثرها. |
بعد اثنتين وعشرين سنة من انطلاق المسلسل الديمقراطي كما يحلو للموريتانيين تسميته، لا يزال المشهد السياسي بعيدًا عن الانسجام بين أقطابه والمتصارعين حول دائرة السلطة، في بلد قليل السكان كثير الأزمات. حيث تحظى المعارضة ضمن هذا المشهد بأهمية كبيرة، باعتبار دورها في بناء منظومة الأفكار السياسية وصناعة التراكم السياسي. وقد كان للمعارضة أدوار أساسية في مقارعة الأنظمة الشمولية وإضافة مَسْحة أخلاقية في بعض الأحيان على القيم السياسية، وفي الاصطفاف مع مطالب المواطنين وقضايا الهوية. لكنها بالمقابل عانت أزمات عميقة في بنية الخطاب ومسارات التنسيق، وفي مجالات الاستقطاب الجماهيري والسياسي.
المعارضة بين النظام والدولة
يصعب جمع المعارضة في موريتانيا ضمن زاوية واحدة، حيث يظهر جليًّا وجود خطين متمايزين من المعارضة تبعًا لنوعية الخطاب ومحدداته، رغم مستوى التداخل والتشابه والتلاقي بينهما في المواقف والخطابات.
1- معارضة ضد السلطة: تشمل أغلب الطيف السياسي المناوئ للسلطة الحاكمة الآن في موريتانيا أو المنتقد لها في أحسن الحالات، ويمكن تصنيف هذه المعارضة أيضًا إلى خطين أساسيين: معارضة رسمية تتحرك ضمن الدائرة الرسمية للدولة حوارًا وتقاربًا أكثر من تعاملها مع المعارضة. ومن أبرز أقطاب هذا الخط جبهة المعاهدة وممثله الحصريّ حزب الوئام الديمقراطي الاجتماعي برئاسة الوزير السابق بيجل ولد هميد، المؤمن بالحوار الدائم مع السلطة، ويمكن تصنيف مؤسسة المعارضة الديمقراطية ضمن هذا الخط المرن من المعارضة. ثم معارضة مشاكسة يمثلها اليوم منتدى الديمقراطية والوحدة، ويمكن أن يلحق بها بعض قادة المعارضة الآخرين الذين يمكن تصنيفهم بمعارضة رجال الأعمال(1).
2- معارضة للدولة: وتقوم فلسفة هذه المعارضة على الانتقاد اللاذع للشكل السياسي والمحتوى الاجتماعي للدولة الوطنية التي تأسست عقب الاستقلال الوطني باعتبارها دولة عنصرية لا تتساوى فيها الفرص أمام مواطنيها، ولا تعكس في هويتها الرسمية تعدد الهويات والأعراق، ومن أبرز عناصر هذه المعارضة، الحركات الزنجية المطالبة بحقوق السود الأفارقة في موريتانيا، والحركات الحقوقية المطالبة بحقوق شريحة الحراطين(2).
ولا تبدو العلاقة ودية على طول المسار بين هذه المعارضة وتلك المناوئة للسلطة، حيث تعتبر الأخيرة الأولى نموذجًا آخر للعنصرية الاجتماعية، وتحكُّم المجموعة العربية في المقدرات السياسية والاقتصادية لموريتانيا(3).
مسارات وتطورات
يمكن ربط المعارضة الموريتانية بسياقين تاريخيين أساسيين، هما:
• الحراك السياسي الموازي لنشأة الدولة الموريتانية وقوى الرفض الشبابي للاستعمار والنظام السياسي الوطني الأول في موريتانيا، الذي عبر عن نفسه في تجمعات سياسية وشبابية مثل حركة النهضة، ولاحقًا حركة الكادحين الشيوعية.
• السياق الحركي، حيث إن أغلب أطراف المعارضة في موريتانيا امتداد للحركات السياسية والفكرية التي نشطت في موريتانيا خلال عقدي السبعينات والثمانينات(4).
وقد اختبرت المعارضة الموريتانية أنماطًا متعددة من التنسيق والائتلاف أبرزها:
1- الجبهة المتحدة للتغيير: التي مثّلت تحالفًا سياسيًّا بين أهم الحركات السياسية المعارضة في موريتانيا كإطار سري للتنسيق السياسي بين تلك القوى(5)، وقد تأسست تلك الحركة على ركام الأزمة السياسية التي عاشتها البلاد نتيجة الأحداث العرقية في الفترة ما بين 1987-1990، وقد انتهى مسار هذه الحركة بتأسيس حزب اتحاد القوى الديمقراطية ودعم المرشح أحمد ولد داداه للرئاسيات. وسرعان ما دبّ الخلاف بين أطراف هذا الحزب وغادرته حركة الحر ورئيسها مسعود ولد بلخير، قبل أن تبدأ أيضًا رحلة الهجرة منه تجاه النظام، إضافةً إلى أزمة الصراع القوي على الشرعية بين رئيسه أحمد ولد داداه(6)، ومجموعة اليسار ممثلة في السياسي محمد المصطفى ولد بدر الدين، لتنتهي بذلك الفترة الذهبية للمعارضة في موريتانيا، خطابًا ووحدة وجماهيرية.
2- جبهة أحزاب المعارضة: وهي إطار سياسي تجميعي ضمّ أقطاب المعارضة للتنسيق والتشاور في الفترة ما بين 1994 إلى 2005، وشملت أبرز القوى السياسية والحركية المعارضة في موريتانيا.
3- ائتلاف قوى التغيير: وهو الإطار الثالث الذي أنشأته قوى المعارضة عقب انقلاب 2005 ضد الرئيس السابق معاوية ولد الطايع، واستطاعت من خلاله تنسيق بعض التحالفات الانتخابية، قبل أن ينتهي مساره بالتفكك مع مشاركة ثلاثة من أحزابه في التشكيلات الحكومية(7).
4- الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية: تأسست مباشرة عقب الانقلاب العسكري عام 2008 ممثلة بذلك استثناء فارقًا في المواجهة السياسية للانقلابات العسكرية في موريتانيا والتشبث بالروح المدنية للسلطة، قبل أن تُنهي مسارها هي الأخرى مع الاتفاق السياسي في دكار عام 2009.
5- منسقية المعارضة: وهي الطبعة الخامسة التي شكلتها المعارضة عقب الانتخابات الرئاسية عام 2009، ومثّلت إطار تحالفٍ قوي ضد النظام، كما نشطت بقوة من أجل إسقاط النظام عبر مسار "الثورة أو الرحيل" قبل أن يتسرب إليها الفشل من جديد عبر مسارين:
• انسحاب حزبي التحالف والوئام وتشكيلهما لقطب المعاهدة، مدشنين معارضة مرنة ومهادنة.
• خرق حزب تواصل لإجماع المنسقية ومشاركته في الانتخابات التشريعية عام 2013.
6- منتدى الديمقراطية والوحدة: وهو التشكيلة الحالية للمنتدى، ويضم أربعة أقطاب سياسية هي:
• القطب السياسي: ويضم حوالي 14 حزبًا، أغلبها ضعيف التأثير والقوة السياسية.
• القطب النقابي: ويضم أربع مركزيات نقابية.
• قطب المجتمع المدني: ويضم عشرات المنظمات غير الحكومية، وأغلبها ضعيف التأثير.
• قطب الشخصيات المستقلة: ويضم رئيسًا سابقًا وحقوقيين وضباطًا ووزراء متقاعدين، أغلبهم ينتمي إلى حزب الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع.
المعارضة في المشهد الانتخابي
لا تتمتع المعارضة الآن بقوة وازنة في المشهد الانتخابي والمجالس التشريعية والمحلية التي أنتجتها الانتخابات؛ وذلك عائد إلى محدودية مشاركة المعارضين، وإلى عودة الخطاب القبلي التقليدي في التجنيد الانتخابي، وقوة المال الانتخابي، وتدخُّل مراكز النفوذ في التأثير على الناخبين.
وتظهر خريطة التمثيل الانتخابي النسب التالية:
37 نائبًا من أصل 147 نائبًا، ويتوزع نوّاب المعارضة على النحو التالي:
• التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" 16 نائبًا.
• حزب الوئام الديمقراطي الاجتماعي 10 نواب.
• التحالف الشعبي التقدمي 7 نواب.
• التحالف من أجل العدالة والديمقراطية 4 نواب.
وفي البلديات:
35 بلدية من أصل 218 بلدية، و940 مستشارًا بلديًّا من أصل 3697 موزعين على النحو التالي:
• التجمع الوطني للإصلاح والتنمية 18 بلدية و557 مستشارًا منتخبًا.
• حزب الوئام الديمقراطي الاجتماعي 13 بلدية بـ 192 مستشارًا.
• التحالف الشعبي التقدمي 3 بلديات و169 مستشارًا.
• التحالف من أجل العدالة والديمقراطية بلدية واحدة و22 مستشارًا(8).
وضمن هذا السياق الانتخابي تبرز أيضًا مؤسسة المعارضة الديمقراطية، برئاسة ممثل عن حزب تواصل، وبمجلس إشراف يضم الأحزاب الأربعة الآنفة الذكر، وهي مؤسسة ضعيفة لحد الآن، ومقيدة بالإطار القانوني والدستوري الذي يحدّ من قدراتها السياسية.
وباستثناء هذه الأرقام الضعيفة جدًّا، فإن أغلب أحزاب المعارضة القوية في موريتانيا تعيش خارج المشهد السياسي المنبثق عن الانتخابات التشريعية المنصرمة، فيما يسعى بعضها بشكل جادّ إلى حوار مع النظام يتيح إعادة الانتخابات ويفتح باب المشاركة فيها.
عقبات في وجه الانسجام
تعيش المعارضة في موريتانيا أزمات عديدة، ومن أبرز مظاهرها:
1- أزمة الثقة والحساسيات: لا تقف أحزاب المعارضة في موريتانيا على أرضية واحدة من الثقة، بل ظل التباعد والحساسيات الأساس في التعامل المتبادل.
ومن أبرز تجليات عدم الثقة الصراعُ والتنافس الدائم بين قطبي المنتدى حزب تكتل القوى الديمقراطية وحزب تواصل، وهو الصراع الذي عطّل عمل منسقية المعارضة، وأدى في النهاية إلى تسرُّب الوهن السياسي في صفوفها(9). وفي مقابل ذلك، يحتفظ حزب اتحاد قوى التقدم بحساسيات مماثلة مع حزب حركة التحالف من أجل العدالة بقيادة صار إبراهيما، وهو الحزب الذي أنهى تمثيل حزب اتحاد قوى التقدم لزنوج منطقة الضفة الذين وجدوا لسنوات عديدة في قوى التقدم مأوى لطموحاتهم السياسية، بعد الصراع العنيف بين نخبتهم المعارضة وبين نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع.
وتظهر تلك الحساسيات أيضًا بشكل شخصي بين رموز المعارضة، فلم ينسَ رئيس البرلمان السابق مسعود ولد بلخير حرمانه من الترشح لرئاسيات 1992 لصالح المرشح الموحد للمعارضة أحمد ولد داداه(10). وفي ذات السياق تجد أحزاب من المعارضة نفسها أيضًا غير واثقة في مواقف حزب تواصل، الذي سبق أن عاهدها على مقاطعة الانتخابات البلدية والنيابية عام 2013 ثم تخلى عن ذلك العهد بسرعة فائقة.
وإلى جانب ذلك، يصعب بناء جسور الثقة بين المعارضين في منتدى الديمقراطية والوحدة، وبين زملائهم في جبهة المعاهدة المعارضة، حيث لا ينفك القيادي في المعاهدة مسعود ولد بلخير يتهم المنتدى بمحاولة تجاوزه، وربما سرقة أفكاره وتوجهاته السياسية. ويكفي للدلالة على عمق الأزمة تخلِّي رئيس حزب التحالف مسعود ولد بلخير عن مشروع الرحيل، حيث كان أول من طالب به، بعد أن تبنته أحزاب المعارضة الأخرى، ثم خلاف أحزاب المعارضة حول ما بعد نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز -دون أن يكون هنالك أي مؤشر عملي على ضعف النظام أو قرب نهايته- وهو أمر آل في النهاية إلى صراع قوي، أدى إلى تفكك المنسقية وضياع هدف الرحيل(11).
2- أزمة المؤسسية: لا يمكن الاستدلال على أزمة المؤسسية بحزب واحد فقط من بين أحزاب المعارضة؛ ففي حزب تكتل القوى الديمقراطية تبرز مركزية رئيسه أحمد ولد داداه باعتباره الزعيم الأوحد للحزب في كل طبعاته المتعاقبة، وفي حزب التحالف الشعبي التقدمي أدت مركزية رئيسه مسعود ولد بلخير إلى هجرات قوية من الحزب، الذي لا يزال ينتظر عقد مؤتمره الدوري منذ أكثر من ست سنين، ويبدو نفس الأمر في حزب المستقبل الخارج من عباءة التحالف الشعبي، وفي حزب الوئام الاجتماعي الديمقراطي.
غير أن أزمة المؤسسية تأخذ بُعدًا آخر، ضمن ما يمكن أن نسمِّيه:
• الصراع بين الممولين والمفكرين: ويبدو حزب اتحاد قوى التقدم اليساري أبرز مثال على ذلك، حيث يعيش أزمة صراع صامتة بين قطب رئيسه ومجموعته القبلية والمالية -المتضررة من صراع مفتوح مع النظام الحاكم- وقطب المفكرين والقادة التاريخيين لحركة اليسار الموريتاني الذين دشّنوا لسنوات طويلة منهج الحوار والمساومة مع النظام. ورغم قدرة هذا الحزب الفائقة على تدوير خلافاته بشكل دائم قبل ظهورها إلى العلن ومحاصرته لها بعد ذلك، إلا أن الأزمة تطرح نفسها بقوة وبشكل دائم مع كل موسم انتخابي(12).
• الارتهان للناخب المحلي: وهو إلى جانب العامل الأول يعتبر أبرز الأزمات التي تعانيه "مؤسسية حزب تواصل الإسلامي"، حيث تتوازى مواقف القيادة السياسية وما تحتاجه من السرعة والحزم في القرارات السياسية، والقدرة على أخذ مبادرات ومواقف سياسية جريئة، قد تنجرّ بشكل سلبي على المد الشعبي، لكنها تخدم المواثيق والتفاهمات المبرمة مع الشركاء، مع قوة فائقة للناخب المحلي في فرض رأيه ومواقفه السياسية. وقد كان دور "الشورى الحزبية" كما يسميها أهل تواصل، عاملًا أساسيًّا في موقفهم المتراجع عن "العهد" المبرم مع بقية أحزاب المعارضة لمقاطعة بلديات ونيابيات 2013.
وللمؤسسية بُعد سلبي آخر على مستوى منتدى الديمقراطية والوحدة، الذي يواجه أزمة مؤسسية على مستوى تعدد دوائر النقاش والحسم في المواقف بين أقطابه الأربعة واللجان المنبثقة عنه، واشتراط الإجماع في كل القرارات التي يتخذها المنتدى، وهو ما يعني بالضرورة استنفاد وقت طويل للوصول إلى قرارٍ يراعي مصالح الفُرقاء المتناقضين في تشكيلة المنتدى(13).
• تناقض المسارات: تسعى كل أقطاب المعارضة للوصول إلى السلطة؛ حيث إن اختلاف الطرق المؤدية إليها أدى إلى تناقض مرير بين تلك الأقطاب، ففيما يمثل الوصول إلى الرئاسة الرهان الأساسي لتكتل القوى الديمقراطية ورئيسه، والعامل الأوحد في علاقة الحزب بالسلطة الحاكمة والمعارضة على حد سواء، يبقى خيار الشراكة عاملًا أساسيًّا في توجهات حزب اتحاد قوى التقدم، والتحالف الشعبي التقدمي، وربما حزب تواصل -على اضطراب في مواقفه ومواقعه السياسية- وتؤدي هذه المسارات المتناقضة إلى خلافات قوية بين قوى المعارضة، وخصوصًا في فترات التقارب مع النظام أو فترات التغيير العسكري، ومنها على سبيل المثال:
- الانتخابات الرئاسية عام 2007، حيث بادر المترشِّح مسعود ولد بلخير إلى دعم الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله متخليًا عن رفيقه المعارض أحمد ولد داداه، مقابل شراكة في الحكومة ورئاسة للبرلمان.
- مشاركة حزبي تواصل وقوى التقدم في الحكومة الائتلافية، مُنهين في عهد الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله دعم أحزاب تكتل القوى الديمقراطية (حاتم) التحالف من أجل العدالة للانقلاب العسكري عام 2008، وهو الدعم الذي آل لاحقًا إلى قطيعة ومواجهة قوية بين حلفاء الانقلاب(14).
3- أزمة تجديد وقيادة: استطاع الرئيس محمد ولد عبد العزيز تجديد رموز السلطة من حوله، وأحاط نفسه بجيل شبابي، إمّا على مستوى الأعمار أو على مستوى الممارسة السياسية، ويركِّز ولد عبد العزيز على هذه النقطة في سجالاته الإعلامية مع المعارضة. وقد تجددت دائرة الحكم والسلطة في موريتانيا على مستوى الأشخاص دون السياسات التي لا تزال امتدادًا للعقلية العسكرية الحاكمة منذ عام 1978، وفي المقابل وفّرت المعارضة ملجأ للمتقاعدين والمغضوب عليهم من الوزراء وكبار المسؤولين السابقين.
ويبدو إشكال التجديد أكثر حدة بالنسبة للمعارضة والأغلبية على حد سواء مع نهاية ولاية الرئيس الحالي عام 2019، حيث سيكون أغلب قادة المعارضة ممنوعين من الترشح بفعل عامل السن، كما سيفقد قادة آخرون مواقعهم الرئاسية في أحزابهم، وفي المقابل سيكون أغلب القادة الأساسيين في المؤسسة العسكرية محالين للتقاعد رفقة الرئيس ولد عبد العزيز، الذي يحظر عليه الدستور الترشح لفترة ثالثة(15).
4- أزمة الخطاب السياسي: أعادت الأحداث والتغييرات السياسية المتلاحقة في موريتانيا تشكيل خارطة العمل المعارض، فقد قذفت السلطة بعددٍ من رموزها وأعلامها إلى صف المعارضة، ليتسلم هؤلاء دفّة جانب قياديّ من التشكيلات المعارضة التي أعقبت انقلاب عام 2008، وهو ما أعاد ترتيب الخطاب السياسي.
وفي مقابل هذا ركّز النظام الحاكم في موريتانيا على حمل شعارات المعارضة التقليدية فيما يتعلق بالهوية وخدمة الدين وخدمة الفقراء وتقريب الخدمات الأساسية ومحاربة الفساد والوحدة الوطنية ومقاومة التطبيع ونصرة الشعب الفلسطيني والاهتمام بقضايا الشباب. وقد كان حزب تواصل الإسلامي بشكل خاص أبرز المتضررين من "الخطاب السياسي الجديد" للنظام، حيث فَقَد هذا الحزب على التوالي ورقة المظلومية بعد نيله للترخيص القانوني، وورقة الهوية وإسلامية المواقف؛ بسبب الخطاب الإسلامي للنظام(16). فيما فقدت أحزاب المعارضة مجتمعة ورقة مقاومة التطبيع والتصدي للعلاقات مع الصهاينة، وأصبح قادة من المعارضة متهمين بأنهم رموز فساد(17).
مع طغيان المحتوى السياسي للدولة على الحياة العامة في موريتانيا، تواجه المعارضة أزمة جمهور ماحقة، فقد عادت خلال السنوات الخمس الماضية هيمنة الخطاب القبلي، وتراجع الالتزام الحزبي إلى أقصى الحدود، وباتت المعارضة الطرف الأضعف في مواجهة نظام سياسي تسنده الدولة بمقدراتها والقبائل بأرحامها وعلاقاتها، والمال السياسي بتأثيره وفعاليته، والمؤسسة العسكرية بهيبتها وتأثيرها. وإلى جانب هذه العوائق، يبرز عائقان آخران يقفان في وجه المعارضة اليوم، وهما: العجز المالي بفعل الخناق القوي الذي يفرضه عليها النظام ومخاوف رجال الأعمال من المضايقة، وهو ما اضطر أقطاب المعارضة إلى التخلِّي عن بعض أنشطتها الجماهيرية بفعل العجز عن التمويل(18)، وضعف التحليل السياسي بسبب العجز عن الوصول إلى المعلومات الدقيقة عن الوضع السياسي والاقتصادي للنظام؛ وهو ما جعل الخطاب السياسي للمعارضة بعيدًا عن العلمية والدقة في أحيانٍ كثيرة، كما أوقع بعض قادتها في مواقف قاتلة وخصوصًا فيما يتعلق بحادثة إصابة الرئيس محمد ولد عبد العزيز المثيرة في 13 ديسمبر/كانون الأول 2012(19).
وقد أدى عجز المعارضة عن الوصول إلى مصادر المعلومات الحقيقية إلى وضع سقف توقعات متواضع جدًّا لتصرفات النظام، وقد تبيَّن لاحقًا قدرة النظام على خرق سقف التوقعات، والإقدام على مبادرات في غاية الجرأة أو الاستفزاز(20).
آفاق أمام المعارضة
تتأسس المسارات المرتقبة للمعارضة على عاملين أساسيين، أولًا الحوار المرتقب مع السلطة، ثانيًا الانتخابات الرئاسية القادمة واحتمال العهدة الثالثة للرئيس الحالي. ويمكن القول: إن الحوار سيؤدي لا محالة إلى مسار تفكك المنتدى، وهو احتمال وارد جدًّا في ظل تذمُّر القطب النقابي وقطب المجتمع المدني من تعثر الحوار مع النظام، وتشدد بعض أطراف المعارضة في الاشتراطات التي تطالب بها من أجل حوار جِدِّيّ وقابل لتطبيق النتائج(21)، إضافة إلى تشكيل قطب سياسي جديد؛ حيث بدأت بالفعل أحزاب سياسية ضمن المنتدى مشاورات الاندماج في حزب سياسي جديد، يتأسس على المشروع السياسي للمنتدى، وينسق التحالفات المرتقبة بين أطراف الحزب المرتقب(22).
وفي هذا السياق -بناء على تجربة الحوارات السابقة- يمكن أن تطلق السلطة الحوار مع مَن يرغب مِن المعارضة، وهو ما يعني بالضرورة تفكك المنتدى؛ بفعل مقاطعة عدد من أحزابه لفكرة الحوار مع النظام الحالي.
وهنالك خيارات للمعارضة أمام النظام بشأن العهدة الثالثة:
• خيار الورع الدستوري: بمغادرة السلطة دون تغيير للدستور وبدون دعم أو ترشيح خلف جديد، وهو خيار مستبعد جدًّا؛ بسبب طبيعة النظام السياسي الحاكم في موريتانيا.
• خيار تغيير النظام السياسي: عبر استفتاء شعبي تنتقل فيه السلطة من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني.
• خيار المغادرة والترشيح: حيث سيكون الخليفة المرتقب مثارَ جدلٍ ونقاش سياسي كبير داخل النظام والمعارضة على حد سواء(23).
• خيار التعديل والتمديد: وقد بدأت أطراف ناشطة في الأغلبية تدعو إلى هذا الخيار عبر مبادرات سياسية وأنشطة جماهيرية.
ويبدو الخياران الثاني والرابع هما الأصعب في مواجهة المعارضة؛ حيث لا تملك أي وسيلة ديمقراطية لمنع خيار تعديل السلطة إلى النظام البرلماني، خصوصًا أن بعض أطرافها سبق أن طالب في وثائقه السياسية بهذا النظام السياسي(24).
فيما يمكن الجزم بأن الخيار الأخير سيكون الأصعب بالنسبة للمعارضة والبلد بشكل عام، وسيؤدي إلى مواجهة مفتوحة مع النظام قد تؤدي إلى نهاية عنيفة يمكن أن تأخذ شكل الانقلاب أو ثورة، دون أن تمهّد الطريق بالطبع طريق السلطة أمام المعارضة، وفاءً للقاعدة الثابتة للتغيير السياسي في موريتانيا، وهي "صراع قوي بين الأطراف المدنية المشكلة للسلطة والمعارضة، وتدخُّل من الجيش لحسم الصراع لصالح أحد قادته الكبار".
خاتمة
تتوفر لمسار الفعالية والتطوير بالنسبة للمعارضة عدة أسباب وفرص، أبرزها تآكل المحتوى الدعائي للنظام؛ حيث إن أغلب المشاريع التي أعلن عنها باءت بالفشل، وتراكمت الأزمات السياسية والاقتصادية في البلد، وعاد الحديث عن تغلغل وتوسُّع للفساد في دوائر السلطة، مع إخفاق تجارب الحوار الثنائي بين أحزاب وقوى معارضة وبين النظام؛ حيث إن كل القوى السياسية المعارضة في موريتانيا -باستثناء حزب قوى التقدم(25)- قد جرَّبت فترات وفاق أو حوار مع النظام باءت كلها بالفشل، وانتهت إلى عداوة وتصادم مرير، وهو ما يقوِّي احتمال وحدة الصف تبعًا لتقارب المصالح داخل المعارضة(26). وكذلك غياب الضمانات الضرورية لوفاء النظام بتعهداته في الحوار، خصوصًا أنه يرفض بشكل قاطع الضمانات الدولية، بل إن هذه الضمانات لا تتجاوز صلاحياتها في الغالب تاريخ توقيع الاتفاق والشهادة عليه.
وهنالك أزمة اجتماعية خانقة، مع تصاعد ملف الهويات الجزئية والشحن العنصري والمواجهة مع الدولة، وهو ظرف مناسب للمعارضات السياسية لتتخذ منه منصة لمهاجمة النظام، وتحميله المسؤولية عن واقع الأزمة ومستقبلها.
ومن مختلف هذه الأزمات وبين تلك العوائق وهذه الفرص تتشكل معالم المشهد المعارض في موريتانيا، ضمن حراك ومخاض سياسي يتجاوز أزمة التجاذب والاستقطاب السياسي، إلى أسئلة في عمق الدولة واستمرارها والنظام السياسي وصلاحياته والمجتمع وتعايش أعراقه.
_____________________________________________
* محمد سالم: باحث متخصص في الشأن الموريتاني.
المراجع:
1- يمكن تصنيف رجلي الأعمال محمد ولد بوعماتو والمصطفى ولد الشافعي معارضين اقتصاديين للنظام الحالي، وهما من أبرز الناشطين في مناوئته الآن.
2- تمثل حركة المشعل الإفريقي (أفلام) أبرز ممثل لهذه المعارضة، وتمثلها في مجموعة الحراطين حركة المبادرة من أجل الانعتاق (إيرا).
3- لم يخلُ المشهد المعارض في موريتانيا من قسم مسلّح مثّله جيش التحرير في الستينات، وحركة أفلام في الثمانينات، وحركة فرسان التغيير في سنوات 2003، 2004، 2005.
4- يمثل حزب تواصل امتدادًا للحركة الإسلامية في موريتانيا، كما يمثل حزب اتحاد قوى التقدم امتدادًا للحركة الديمقراطية الوطنية اليسارية، وتتوزع حركة الحر المطالبة بحقوق السود الناطقين باللهجة الحسانية (قريبة من العربية) بين أحزاب التحالف الشعبي التقدمي، حزب المستقبل، حزب الوئام، فيما تمثل أحزاب المعاهدة من أجل التغيير، حزب الحركة من أجل إعادة التأسيس الامتدادَ السياسي لحركة أفلام الزنجية.
5- تشكلت الحركة المذكورة من ممثلين عن الحركة الديمقراطية الوطنية، حركة الديمقراطيين المستقلين، حركة أفلام الزنجية، حركة الحر، القوميين العرب، الإسلاميين.
6- انتهت أزمة الشرعية رسميًّا بعد حلّ السلطة لحزب اتحاد القوى الديمقراطية؛ 28 أكتوبر/ 2000 م ليضطر الفريق الثاني إلى مؤتمر استثنائي وتغيير اسمه إلى اتحاد قوى التقدم في مؤتمر استثنائي سنة 200
7- حزبا اتحاد قوى التقدم وحزب تواصل، ولم تعمر تلك المشاركة أكثر من شهرين، وقبلهما حزب التحالف الشعبي التقدمي.
8- التقرير الاستراتيجي لموريتانيا 2012- 2013 عن المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
9- يحتفظ الحزبان بسجل كبير من الأزمات منذ مغادرة تيار الإسلاميين لحزب تكتل القوى الديمقراطية في 2003، وقد تعززت تلك الحساسيات بعد الترخيص لتواصل سنة 2007، وظهرت في مختلف مسارات التنسيق بين المعارضة.
10- كان مسعود ولد بلخير والمرحوم حمدي ولد مكناس الاسمين المقترحين لدى المعارضة لترشيح أحدهما لرئاسيات 1992 قبل ظهور أحمد ولد داداه.
11- طالبت قيادات من المنسقية حينها بالتزام سياسي بدعم مرشح واحد للرئاسيات، فيما طالبت أحزاب أخرى بالالتزام بنظام الهيئات الثلاث المعتمد في تونس، وفي المقابل رفضت قوى سياسية أخرى من المعارضة أي نقاش حول تشكيلة الحكم قبل سقوط النظام، وقد كانت تراه قريبًا جدًّا.
12- ولد مولود: الخلافات لا تعيق عمل الحزب http://essirage.net/archive/index.php/interviews/17847-2014-10-01-14-34-17.html
13- استنفد المنتدى أسبوعين من النقاش حول تنظيم مهرجان سياسي ضد زيارات الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى ولايات الداخل وفي النهاية جاء المهرجان باهتا وقليل الحضور.
14- اتهم الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز زعيم التكتل أحمد ولد داداه أكثر من مرة بأنه كان من الذين حرضوه على الانقلاب العسكري في 2008، وفي المقابل يصرّ الآن أحمد ولد داداه على عدم الدخول في حوار جديد مع الرئيس ولد عبد العزيز الذي يتهمه بالغدر والتنصُّل من الالتزامات.
15- يتعلق الأمر برئيس حزب تكتل القوى الديمقراطية أحمد ولد داداه، ورئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي مسعود ولد بلخير، ورئيس حزب تواصل محمد جميل منصور الذي يحظر عليه القانون الحزبي الوصول لمأمورية ثالثة، إضافة إلى تقاعد محتمل بسبب السن والأزمات الداخلية لقادة الصف الأول لحزب اتحاد قوى التقدم، ويبقى خيار تعديل الدستور وتمكين الرئيس محمد ولد عبد العزيز من مأمورية ثالثة خيارًا محتملًا جدًّا.
16- يطلق علماء الأغلبية على الرئيس الموريتاني رئيس العمل الإسلامي.
17- تضم المعارضة الحالية عددًا من وزراء وقادة حقبة الرئيس السابق معاوية ولد الطايع المتهم على نطاق واسع بالديكتاتورية، وتشجيع الفساد، ونهب المال العام.
18- أدى العجز المالي بأحد أحزاب المعارضة إلى مقاطعة انتخابات البلديات والنيابيات في 2013؛ بسبب العجز عن تمويل الحملة الانتخابية.
19- استطاع الأمن الموريتاني التلاعب بالمعارضة وتزويدها بمعلومات مغلوطة دفعت بعض قادتها إلى إعلان عجز الرئيس ولد عبد العزيز بشكل نهائي.
20- يمكن التمثيل بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وكذا الإجراءات القوية ضد بعض مقربيه، وأيضًا الإجراءات الحادة تجاه الإسلاميين.
21- وثيقة المنتدى حول المشاركة في الانتخابات الرئاسية http://www.al-maraabimedias.net/?p=13515
22- أحد عشر حزبًا سياسيًّا معارضًا تسعى للاندماج في حزب سياسي جديد http://essirage.net/node/2170
23- تتردد عدة أسماء داخل الأغلبية لخلافة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، أبرزها الوزير الأول السابق مولاي ولد محمد الأغظف، وقائد الجيش الحالي محمد ولد الغزواني، وصديق الرئيس الضابط السابق الشيخ ولد باي.
24- وثيقة "إصلاح قبل فوات الأوان" صادرة عن المكتب السياسي لحزب تواصل http://www.saharamedias.net/%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D9%81%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A_a10327.html
25- ربما كانت رغبة النظام الموريتاني في عدم التعامل أو الحوار مع حزب قوى التقدم، العامل الأبرز في إبعاده عن دائرة الحوار خلال الفترات الماضية.
26- تمثل أحزاب تكتل القوى الديمقراطية: حاتم، التحالف الشعبي التقدمي، التحالف من أجل العدالة والديمقراطية، تواصل، حركة إيرا أبرزَ مثالٍ على النهايات المخيبة للحوار والتقارب مع النظام الحالي في موريتانيا.