أين تلتقي الصين بالهند؟ بورما ومفترق طرق جديد لآسيا

"أين تلتقي الصين بالهند؟" دراسة حالة عن بورما الدولة المحشورة بين العملاقين الهند والصين، والتي يتم تحديثها وترويضها لإنجاح العلاقة بينهما. وبورما أمام قدرين: أن تستفيد من هذه العلاقة في مسيرة الإصلاح أو يستمر استبداد النخبة مع استمرار الفقر لغالبية الشعب.
2013104124443767734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

رغم الأدوار الهائلة التي تلعبها القوى العظمى في مصائر الكون الحالية والمستقبلية، فإن الكثير من هذه الأدوار مرهون أيضًا بدول أخرى أصغر وأقل شأنًا؛ فالكثير من الدول الصغيرة تفرض نفسها الآن على خارطة التحولات الكونية، وبشكل خاص بما يحوزه البعض منها من مواقع جغرافية تجعل منها مطمعًا للقوى الكونية المحيطة بها. وتثير مواقع هذه الدول تطلعات القوى الاقتصادية العالمية نحو المزيد من الانفتاح عليها والاستفادة منها، وبشكل خاص إذا ما تماست هذه الدول معها جغرافيًا، ومثّلت بالنسبة لها فرصًا تاريخية مهمة فيما يتعلق بتعظيم قواها وفرض هيمنتها. فالكتاب يحمل منذ صفحاته الأولى وحتى نهايته أعباء الجغرافيا والأقدار المرتبطة بها، رغم عدم انفصال ذلك عن التاريخ والعمليات المختلفة التي ترتبط به في آسيا عمومًا، وفي كل من الصين والهند وبورما خصوصًا.

وهذا هو ما يحاول الكتاب الراهن إثباته من خلال القارة الصفراء والقوى الكونية الصاعدة بها، الصين والهند، ورغبة كل منهما في الاستفادة من الموقع الجغرافي المهم لجارتهما الصغيرة المُتجاهَلة كونيًا، بورما/ميانمار. فالكتاب دراسة رائدة فيما يمكن أن نُطلق عليه اسم "الدولة المحشورة" التي تجد نفسها جغرافيًا بين عملاقين هائلين على مستوى الجغرافيا والسكان. هذه الدولة بموقعها الجغرافي المفروض عليها، تجد نفسها الآن محط أنظار المطامح والتطلعات الهائلة لكل من الصين والهند، والاستراتيجيات المرتبطة بهما من أجل المرور إلى المحيط الهندي عبر خليج البنغال وخلق منطقة تجارية عظمى جديدة ترتبط بملايين السكان، تساعد على فرض المزيد من الهيمنة على آسيا. والدولة المحشورة، خصوصًا إذا ما كانت ترزح تحت سطوة القهر وانتشار الفقر، تجد نفسها في وضعية لا تُحسد عليها، فإما أن تسلم بالحتميات الجغرافية وإما أن تبحث لنفسها عن مسارات جديدة تمكّنها من تخفيف حدة القيود الواقعة عليها، ومن ثم البدء في تجارب تنموية اقتصادية وسياسية حقيقية.

يمثل الكتاب في جوهره دراسة حالة لهذا اللقاء الجغرافي الجديد بين البلدين العملاقين عبر هذه المنطقة الموحشة التي يتواصل تحديثها وتسويتها وترويضها من أجل نجاح عرس اللقاء بينهما، مع ما ينطوي عليه ذلك من نجاح للمنطقة ككل، بدرجة أو بأخرى. ورغم ارتباط الكتاب بالتاريخ والجغرافيا والتحليلات السياسية المختلفة فقد ارتكز بدرجة كبيرة على العديد من الرحلات التي قام بها مؤلفه "ثانت مينت يو" لكل من الصين والهند وبورما رغم تفاوت خبراته ودرايته بكل منها، وهو أمر انعكس على سبيل المثال في التفاوت بين أجزاء الكتاب المختلفة؛ حيث برز عمق تحليله لكل من الصين وبورما مقارنة بالهند التي اتسم عرضه لها وتوقعاته لسياساتها المختلفة بقدرٍ ما من السطحية. 

والجدير بالذكر أن المؤلف الذي يعيش في ولاية نيويورك، وُلد عام 1966 لأبوين بورميين، وهو حفيد الأمين العام السابق للأمم المتحدة يو ثانت U-Thant الذي تولى مهام المنظمة الدولية في الفترة من 1961-1971. تعلم مينت يو في جامعتي هارفارد وكامبريدج، وقام بتدريس التاريخ في كلية ترينتي التابعة لجامعة كامبريدج في الفترة من 1995-1999. كما خدم في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في كمبوديا والبوسنة، إضافة إلى العمل ضمن سكرتارية الأمم المتحدة في نيويورك كرئيس للسياسات العامة في قسم الشؤون السياسية، وهو مؤلف كتاب "نهر الخطى الضائعة: التاريخ الشخصي لبورما" عام 2006. (1)

بورما: قناة السويس الآسيوية

وفقًا لمنظور المؤلف، فإن بورما تمثل بالنسبة لآسيا ما تمثله قناة السويس بالنسبة لمصر من تحولات جغرافية هائلة في العالم وتلاقٍ إنساني وحضاري واقتصادي غير مسبوق؛ فقناة السويس اقتطعت من البحر المتوسط لتصله بالبحر الأحمر حتى المحيط الهندي، وهو ما قصّر مسافة حركة التجارة بين الشرق والغرب بدرجة غير مسبوقة في التاريخ البشري. بينما سوف تسمح بورما بفتح مسارات جديدة تقوم الصين من خلالها بالخروج إلى المحيط الهندي والبدء في الانفتاح على جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى، كما سوف تسمح للهند بتعمير مناطق موحشة وممتلئة بالصراعات الإثنية والقبلية وهي التي لم يحاول أحد أن يقترب منها من قبل أو يستفيد من المصادر الهائلة الموجودة بها. الفارق بين الاثنين أنه بينما تلعب قناة السويس دورًا جيوسياسيًا كونيًا فإن بورما تلعب الدور نفسه آسيويًا؛ فقناة السويس شريان لا يرتبط بالمنطقة فقط لكنه يتعداها إلى العالم ككل، بينما تمثل بورما رئة آسيوية واعدة تخلق جغرافيا جديدة أكثر مرونة ومحيطًا سكانيًا جديدًا وواسعًا في الوقت نفسه لصالح الصين أولاً ومن ثم الهند ثانيًا وباقي سكان المنطقة ثالثًا.

ويساعد موقع بورما على الربط بين أكبر دولتين صاعدتين اقتصاديًا، الصين والهند، بما يمثلانه من ضخامة سكانية ومساحات جغرافية هائلة. فاللافت للنظر هنا، وامتدادًا لوضعية الحشر الجغرافي، مساحة بورما الصغيرة الواقعة بين هاتين الدولتين الهائلتين التي تبلغ 678500 كيلومترمربع وعدد سكانها الصغير البالغ 60 مليون نسمة قياسًا بهذين العملاقين. وهذا يعني أن الدور الآسيوي الذي يعرض له الكتاب من خلال التعاون الصيني-الهندي عبر بورما هو دور كوني بامتياز من ناحية أن مستقبل الكون سوف يتحدد وفقًا للكثير من المؤشرات الاقتصادية من خلال الصين والهند. واللافت للنظر أيضًا أنه بينما كانت المياه هي خط العبور والمرور من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر فإن الأرض هي خط المرور والانتقال والحركة الصينية بالأساس لمواجهة الهند والالتقاء بها.

ويمثل تناول بورما، طريق الحرير الجديد بالنسبة للقوتين العظميين في آسيا، حالة فريدة وغير مسبوقة من ناحية أنها تكشف عن تراجع نسبي للسياسة من أجل المصالح الاقتصادية والاستثمارات الهائلة، وما تمثلة من أولوية قصوى للقارة الصاعدة؛ ففي الماضي كانت الصين تسعى لفرض التوجهات الشيوعية على بورما مقابل الهند التي كانت تسعى لسيادة الديمقراطية، أما الآن فقد تخلت كل منهما عن حلفائها السابقين في مقابل تحقيق المصالح الاقتصادية عبر المرور من بورما وخلق منطقة جغرافية اقتصادية جديدة.

الصين والهند... ترويض الجغرافيا

تبرز أهمية بورما كونها تؤسس لانفتاح صيني-هندي ليس من خلال اللقاءات الرسمية والاتفاقيات الموقعة لكن من خلال مواجهة جغرافية تلغي الحواجز المختلفة بين البلدين العملاقين؛ فبديلاً عن الحواجز الجغرافية القائمة بينهما في الغرب حيث تقع جبال الهيملايا على علو شاهق، وجبال تيان شان بما يشكّل حدودًا طبيعية للصين مع الهند وآسيا الصغرى، إضافة إلى المناطق الشاسعة المتخمة بالقبائل العدوانية والأحراش الممتدة لمسافات طويلة من كلكتا وحتى بورما وأعالي نهر اليانغستي الصيني؛ فقد تم بناء طرق سريعة عصرية أدت لأول مرة إلى انكشاف جغرافي غير مسبوق بين الصين والهند ووضعهما لأول مرة وجهًا لوجه في دائرة المنافسة في جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى. فأهمية بورما أنها خلقت مسارات جديدة للقاء الصيني-الهندي المرتقب، وهو لقاء بقدر ما يحمل ذكريات الحروب والمواجهات الماضية فإنه يحمل قدرًا كبيرًا من التفاؤل لأبناء القارة الصفراء إذا تم تدجينه وتوجيهه الوجهة الاقتصادية الصحيحة والعادلة، وإذا ما تم تخليصه من الطموحات الإمبريالية الصينية المتنامية.

فالمرور عبر بورما والهيمنة عليها سوف يخلق موقعًا تنافسيًا جديدًا بين الدولتين حيث جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى والمرور إما شرقًا عبر مضيق ملقا والاتصال بباقي الدول الآسيوية وأستراليا أو المرور غربًا والاتصال بشرق آسيا والشرق الأوسط. وهو ما يعني أنه رغم ثبات الجغرافيا فإن التعاطي معها من منظور الاقتصاد والاستثمارات الجديدة الوافدة صينيًا وهنديًا سوف يخلق سياقات جغرافية جديدة أكثر ارتباطًا بالتطلعات الكونية ومسارات القوى الجديدة فيها. وعمومًا فالمتفوق في هذه المنطقة سوف يكون، بدرجة أو بأخرى، هو القوة العظمى في المنطقة، وربما في آسيا ككل، ومن ثم العالم. 

ويبدو ترويض الجغرافيا من خلال الاستثمارات الصينية-الهندية الهائلة في بورما؛ فالصين تبحث لها عن منفذ إلى المحيط الهندي، كما أن الهند تحاول أن تمهد حدودها الشمالية الغربية معها. ورغم ذلك، فإن المصالح المباشرة تبدو متفاوتة بين الصين والهند، فبورما تمثل طريقًا حيويًا للصين ليس بالقدر نفسه بالنسبة للهند؛ وهو أمر ظهر فيما تقوم به الصين من استثمارات هائلة في إقليم "لاشيو" في شمال شرق بورما من بناء طرق سريعة وإدخال للكهرباء وعمليات تحديث واسعة النطاق مقارنة بمحدودية الجهود الهندية في بورما. وهو ما يجعل نجاحات الهند في بورما أقل مقارنة بما تحققه الصين فيها، وهو أمر مبرر لما تمثله بورما للصين من انفتاح على جنوب شرق آسيا والشرق الأقصى.

فالهند مفتوحة على المحيط الهندي بينما العكس صحيح بالنسبة للصين، وهو ما يدفع الأخيرة للاستثمار في بورما بقوة، بما يتجاوز إيجاد مسار بحري للعمل على خلق منطقة جغرافية واسعة النطاق تربط بورما بالجنوب الغربي للصين. لقد بلغت الاستثمارات الصينية في المنطقة ما مقداره 8.6 بليون دولار حيث شملت العديد من المشروعات مثل إنشاء ميناء بحري عميق في جزيرة "رامري" البورمية، ومصانع سماد وبتروكيماويات، ومحطات توليد كهرباء، ومصانع حديد وصلب، ومصافي بترول، وخطوط طرق سريعة تربط مدينة يونان بلاوس وتايلاند وكمبوديا. وفي الوقت نفسه، فقد وقّعت الهند، على بناء ميناء بحري في مدينة "آكياب" على السواحل الغربية لبورما لتربط الحدود الغربية لها بالحدود الشمالية الشرقية للهند بما يخلق طرقًا سريعة جديدة ومهمة، وهو ما سوف يؤدي بالتالي لربط كالكوتا في الهند بمدينة كومنج الصينية عبر بورما.

بورما: صعوبات الفترة الانتقالية

لم يتجاهل المؤلف، في ظل انجرافه للبحث عن مستقبل اقتصادي للمنطقة، الأوضاع السياسية السيئة في بورما، وبشكل خاص ما يتعلق بحقوق الإنسان والمظالم الهائلة في مواجهة السلطات الحاكمة، والطغمة العسكرية الأسوأ في العالم. ورغم معيشة ثانت يو لبعض الوقت في الغرب، بوصفه ممثلاً للطبقة المثقفة البورمية، إلا أنه من خلال إقامته شبه الدائمة في كل من بورما وتايلاند عايش الديكتاتورية الدموية التي يواجهها أبناء شعبه في مواجهة الحكم العسكري. إضافة إلى ذلك فإن تناوله لم يقف فقط عند ممارسات السلطات الحاكمة حيث تجاوزها ليكشف عن التعقيدات التاريخية والصراعات الإثنية التي يواجهها هذا البلد. 

وميزة الكتاب أنه تعامل مع بورما بعيدًا عن التناول الغربي الأميركي المعتاد الذي يقف دائمًا وأبدًا عند السياسات القمعية للحكومة أو عند الناشطة "أونغ سان سو كي" -الحاصلة على جائزة نوبل للسلام والمدللة من قبل الصحافة الغربية- وقدم صورة حقيقية لبورما وشعبها والتغيرات التي تحدث بها. فالصورة التقليدية المعتادة في الصحافة الغربية عن بورما مُتجاوزة في هذا الكتاب، من أجل صورة واقعية للأوضاع البورمية، تتفق وتحولات الأوضاع سياسيًا واقتصاديًا، أو بشكل أكثر تحديدًا تتفق مع ما تواجهه بورما من عملية انتقالية مهمة وحاسمة. 

ويبدو دور الرئيس البورمي "ثين سين" في هذه العملية الانتقالية واضحًا وجليًا، بوصفه مهندس التحول الديمقراطي الراهن، وذلك من خلال العديد من الإجراءات التي شملت الإفراج عن السجناء السياسيين، ورفع الحظر عن الإنترنت، ودعوة المنفيين السياسيين للعودة، والسماح بإنشاء وتشكيل الأحزاب السياسية، ورفع القوانين الاسثنائية المقيدة لحقوق الأفراد والتجمعات، والسماح بإنشاء النقابات العمالية، ووقف العمل في مشروع السد الصيني في مدينة ميتسون في أقصى الشمال لأضراره على السكان والبيئة بدون الالتفات لما قد يسبّبه ذلك من غضب صيني أو توتر في العلاقات معها، إضافة لما ارتبط بذلك من تحرير للعملة البورمية وبدء توافد السائحين لبورما. ويمكن القول هنا: إن القيادات العسكرية في البلاد تحاول أن تطور من أدائها وتغير من نهجها القمعي الذي وضع بورما على قائمة الدول الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان. لكن السؤال المهم هنا يتعلق بالمدى الذي سوف تسير إليه هذه القيادات من أجل تحقيق تغيير ديمقراطي حقيقي وعميق ينقل بورما لمصاف الدول الآسيوية الأخرى.

بورما: الضحية المثالية للتحولات الجيوسياسة

إن الحكم الراهن على بورما لا يستطيع أن يقدم تقديرات واضحة وصارمة وجازمة؛ فالمرء لا يستطيع أن ينكر أهمية ما يحدث سياسيًا واقتصاديًا وإقليميًا فيها، لكن الأمر الذي لا لبس فيه أن بورما ما زالت في بدايات العملية الانتقالية، وأمامها أشواط طويلة وهائلة من أجل التثبت من أحوالها والتيقن من انضمامها السلس للنادي الآسيوي العملاق. ورغم التغييرات الهائلة التي لحقت بالقارة الصفراء فقد بقيت دولتان فقط من دولها دون أن تمسها التحولات السياسية والاقتصادية التي أصابت القارة: أولاهما: كوريا الشمالية، وثانيهما: بورما. 

والسؤال المهم الذي يفرض نفسه هنا في ضوء التحولات الهائلة التي تشهدها بورما: هل تتحول بورما إلى دولة ديمقراطية صاعدة ومتقدمة اقتصاديًا في ضوء الانفتاح الصيني-الهندي المرتقب؟ أم أنه يمكن أن ينتهي بها الحال لكي تصبح ضحية مثالية للصراع بين القوتين العظميين في المنطقة، الصين والهند؟ 

رغم المادة الوفيرة التي يقدمها الكتاب بخصوص بورما ومستقبل تلك المنطقة فإنه لا يقدم لنا توجهًا حاسمًا وصارمًا لمستقبل هذا البلد ومن ثم مستقبل المنطقة ككل، وهو ما يرتبط بالعنوان الفرعي للكتاب الذي يجعل من بورما مفترق طرق جديد للمنطقة. فالكتاب يقدم صورة اقتصادية مشرقة يستفيد منها الشعب البورمي ضمن 600 مليون آسيوي آخرين من خلال الربط بين بورما وشمال شرق الهند ومقاطعة يونان الصينية من أجل خلق منطقة متكاملة واعدة، تتجاوز العقوبات الأوروبية الأميركية على بورما وتجاهلها لها، لتترك المنطقة لذويها من أجل رعايتها وضخ مليارات الدولارات في التوسعات الاقتصادية الهائلة بها. كما أن الكتاب يتجاوز عبر تحليلاته العميقة عواصم الدول الثلاث يانغون، وبكين، ودلهي، ليؤكد على أن الأقاليم الريفية الصينية والهندية سوف تمثل عوامل الدفع المهمة في تخطيط السياسات القومية لهذه المنطقة الاقتصادية المهمة والجديدة. لكن الأمر المهم هنا، أنه رغم أهمية تناول المنافع الاقتصادية واللقاء الصيني-الهندي فإنه لا يجب تجاهل الآلاف من العمالة البورمية التي سُخّرت من أجل العمل في بناء السدود في كافة أنحاء بورما من أجل خدمة المصالح الصينية وتعظيمها إضافة إلى خدمة الشركات الغربية الأخرى، وهي نتائج ملازمة للتوسعات الصينية الكونية الآن ليس في آسيا فقط لكن أيضًا في إفريقيا؛ فالتوسعات الصينية تتسم أيضًا بالنتائج التي صاحبت أية توسعات إمبريالية في الإمبراطوريات السابقة.

كما أن الاستثمارات الصينية-الهندية عبر بورما يمكن أن تخلق صراعات مستقبلية عديدة خصوصًا في ظل تضارب المصالح فيما بينهما، وكذلك في ظل النهم الصيني المتدافع الذي لا يُعرف لطموحاته حدود. فالأمر الذي لا مراء فيه أنه في ظل غياب الغرب، وتعمد تجاهله لبورما، وإصراره على العقوبات المفروضة عليها، فإن القوى الأخرى في المنطقة سوف تتقدم لتحل محله، وعلى رأسها الصين، التي سوف تندفع باستثماراتها الهائلة في المنطقة، وربما تدّعي مستقبلاً حقوقًا تاريخية في المصادر الطبيعية لبورما، وبشكل خاص ثرواتها المعدنية والنفطية المختلفة، حيث الاحتياطيات الهائلة من الغاز الطبيعي على السواحل البورمية تنتظر من ينقب عنها ويستفيد منها وربما يستولي عليها. وهو أمر لن تقف الهند أمامه مكتوفة الأيدي ناهيك عن الغرب والقوى الكونية الأخرى. وفي ضوء ذلك، يرتبط الكتاب بسيناريوهين يتعلقان بمستقبل ذلك البلد: 

  1. فإما أن يستمر الهدر الهائل في الموارد الطبيعية المتوافرة بها لصالح النخبة السياسية في مقابل استمرار الفقر لغالبية الشعب البورمي الذي يُعد واحدًا من أفقر الشعوب الآسيوية.
  2. وإما أن تستطيع الحكومة شبه المدنية الاستمرار في سياساتها الإصلاحية؛ الأمر الذي يؤدي لا محالة لرفع العقوبات الغربية، ونمو متواصل للطبقة الوسطى، وظهور حكومات إصلاحية تقود التغيير في بورما، وهو السيناريو الأكثر قربًا للتحقق في ضوء اللقاء الصيني-الهندي ورغبة هاتين القوتين في تجاوز الخلافات الأيديولوجية والصراعات السياسية الحادة لصالح التطور الاقتصادي.

وعمومًا، فرغم الصورة المبهجة والمتفائلة التي يطرحها المؤلف إلا أنه ما زال يشعر بقدر ما من الخوف من عدم تحقق السيناريو المتفائل الذي يعيد بناء بورما وينقلها من حالة الصراعات السياسية والإثنية والتدهور الاقتصادي إلى وضعية الدول الآسيوية المتقدمة الأخرى. وهو أمر يعيدنا مرة أخرى للتأكيد على أهمية دور الإرادة السياسية في هذه المرحلة الانتقالية المهمة من حياة بورما، وما يرتبط بها من نقل سلس للسلطة تتجاوز به حكم الطغمة العسكرية الدموي، وعقود الفقر الطويلة.

معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: أين تلتقي الصين بالهند؟ بورما ومفترق طرق جديد لآسيا - Where China Meets India: Burma and the New
المؤلف: ثانت مينت يو -  Thant Myint-U
عرض: صالح سليمان عبد العظيم - باحث وأكاديمي مصري
الناشر: دار نشر فارار وستروس وجيرو، نيويورك، 2012 - Crossroads of Asia, Farrar, Straus and Giroux: New York,.
تاريخ النشر: 2012.
عدد الصفحات: 400
_____________________________________
* صالح سليمان عبد العظيم - باحث وأكاديمي مصري

هامش
1- The River of Lost Footsteps: A Personal History of Burma

نبذة عن الكاتب