الحوار السياسي في اليمن والسبيل إلى التوافق

اعتمدت استراتيجية الحوار في اليمن على أن يقدم كل طرف رؤيته مكتوبة حول قضايا الحوار، بحيث يتم في المرحلة الأولى تقديم رؤى لجذور ومحتوى القضية، ومناقشتها لبلورة رؤية مشتركة يتم على ضوئها تقديم كل طرف رؤيته للحلول والمعالجات وضمانات عدم تكرار ما حدث.
20142249418204734_20.jpg
الحوار الوطني في اليمن خطوة ضرورية، لإيجاد توافق واسع حول مضامين التغيير في مرحلة ما بعد الثورة (أسوشييتد برس)

ملخص
كان عقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل في اليمن خطوة ضرورية، لإيجاد توافق واسع حول مضامين التغيير في مرحلة ما بعد الثورة الشبابية 2011، سواء فيما يتعلق برسم ملامح الدستور الجديد، وشكل النظام السياسي القادم، أو ما يتعلق بتسوية القضايا الصراعية المزمنة؛ كالقضية الجنوبية. وقد خرج الحوار بنتائج إيجابية من الناحية النظرية، تواجهها عوائق وصعوبات التطبيق الفعلي على أرض الواقع.

الحوار حول القضية الجنوبية، كان أحد أهم قضايا الحوار الوطني، ورغم التباين بين الأطراف المتحاورة في الرؤية لمعالجات القضية في شقها السياسي، فقد تم التوصل، بعد جولات حوار وتفاوض مضنية داخل وخارج أروقة مؤتمر الحوار، مصحوبة بضغوط أممية عبر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة السيد جمال بن عمر، إلى إقرار وثيقتين أساسيتين كمعالجات للقضية: وثيقة حل القضية الجنوبية، ووثيقة تحديد الأقاليم الفيدرالية. وقّعت عليهما معظم أطراف الحوار، مع تحفظ الاشتراكيين ورفض الحوثيين التوقيع على الوثيقة الأخيرة. أما فصائل الحراك الجنوبي والقيادات الجنوبية الراغبة في الانفصال، فقد رفضت مجمل مخرجات الحوار حول القضية.

وتمثّل المخرجات في الواقع الحد الأدنى للتوافق بين الأطراف الرئيسية، ومن المرجح أن تكون الأوفر حظًا، مقارنة بغيرها من القضايا، لتضمينها بصورة مباشرة في الدستور القادم كونها في أغلبها موجهات دستورية. ويبقى التحدي الرئيسي في كيفية إسقاطها على أرض الواقع خلال الفترة القادمة في ظل الصعوبات والعوائق التي تعترضها.

المقدمة

مثّل انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل في 18 مارس/آذار 2013، حدثًا بارزًا في مسار التسوية السياسية في اليمن، ونموذجًا يُحتَذَى به كآلية للتغيير على مستوى دول الربيع العربي في مرحلة ما بعد الثورات الشبابية؛ فعلى مدى عشرة أشهر وبمشاركة مجتمعية واسعة، اشتركت فيه قوى الثورة المطالبة بالتغيير وبقايا النظام السابق، بالإضافة إلى قوى ومكونات لم تُعدّ يومًا ضمن المشهد السياسي؛ كالحوثيين، وبعض مكونات الحراك الجنوبي، والشباب، والمرأة، ومنظمات المجتمع المدني والمهمشين، لرسم ملامح يَمَن ما بعد الثورة الشبابية، وتسوية قضايا صراعية مزمنة عانى منها اليمن لسنوات. ورغم المخرجات الإيجابية لنتائج الحوار على صعيد قضايا بناء الدولة وتسوية القضايا الصراعية، لا يزال تطبيقها على أرض الواقع يواجه عوائق وصعوبات عديدة، قد تجهضها أو تنحرف بها عن مسارها المرسوم.

الحوار اليمني: الضرورات والأهداف

كان الحوار في حالة اليمن، ضرورة لابد منها لتجاوز المرحلة الانتقالية وفق المبادرة الخليجية الموقعة في الرياض في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2011. والتي بموجبها تم إيقاف حالة الصراع الدموي بين قوى الثورة الشبابية ونظام الرئيس صالح. ومثّل الحوار فرصة لليمنيين لصياغة عقد اجتماعي جديد تشترك فيه القوى والشرائح الرئيسية في المجتمع، لتحديد المضامين الرئيسية للدستور القادم، ورسم ملامح النظام الجديد. واستيعاب أهداف الثورة الشبابية وتحويلها إلى مطالب جماعية متفق عليها تلبي طموحات قوى التغيير؛ في بناء نظام سياسي تشاركي جديد يُرسي قواعد ديمقراطية حقيقية، ويضع الأسس لبناء دولة مدنية حديثة، وفي نفس الوقت يُوجد الحلول التوافقية لتسوية القضايا الصراعية المزمنة في البلد، وفي مقدمتها القضية الجنوبية، والقضية الحوثية أو ما اصطُلِح على تسميته بقضية صعدة. (1) وسيتم الاكتفاء بالتركيز على الحوار حول القضية الجنوبية كنموذج للحوار الذي تم.

استراتيجية الحوار وآلية التوافق

اعتمدت استراتيجية الحوار على أن يقدم كل طرف رؤيته مكتوبة حول قضايا الحوار، بحيث يتم في المرحلة الأولى تقديم رؤى لجذور ومحتوى القضية، ومناقشتها لبلورة رؤية مشتركة يتم على ضوئها كمرحلة ثانية تقديم كل طرف رؤيته للحلول والمعالجات وضمانات عدم تكرار ما حدث. وأفادت هذه الاستراتيجية في اختصار كثير من الوقت في الجدال والنقاش الشفهي، وعززت إلى حد ما بناء الثقة وتخفيف حدة التوتر بين الأطراف المتصارعة. ومن ناحية ثانية أوجدت تراكمًا نظريًا مهمًا لتصورات الأطراف المختلفة لجذور القضايا ومحتواها وسبل حلها. مع أن العديد من هذه الرؤى لم تخلُ تمامًا من الصيغة الدبلوماسية، وحسابات المصالح الخاصة بموازين القوى بين الأطراف الرئيسية، ومحاولة بعضها التقارب مع البعض الآخر وكسبه إلى صفه، لبناء تحالفات ضد خصومه التقليديين، على حساب الموضوعية في بعض قضايا الحوار فضلاً عن سعي أطراف لمحاولة خلط الأوراق والتمترس حول جوانب معينة لمنع الوصول إلى توافق أو تعمد الصياغات العامة للحلول تجاه قضايا تعتبر أن من مصلحتها بقاءها غير محسومة، وتؤدي للحفاظ على توازن قوى معين يخدم مصالحها في المرحلة الانتقالية بعد الحوار.

وفي محاولة للخروج بصيغة توافق لمخرجات الحوار تجسد الإرادة الجماعية للمتحاورين، أقرت اللائحة المنظمة للحوار آلية توافق تشترط أن يحصل القرار على نسبة 90% من أصوات المشاركين في فريق القضية في مرحلته الأولى، وإذا لم يحصل على هذه النسبة يُحال إلى لجنة التوفيق، لتقوم بمحاولة تقريب وجهات النظر وإدخال تعديلات أو إضافات لكسب موافقة الأطراف المعارضة أو المتحفظة، فإن لم تنجح، يعاد القرار إلى الفريق ليكتفي بنسبة توافق 75% لكي يمر، وإن لم يحصل على هذه النسبة يحال القرار إلى رئيس الجمهورية بوصفه رئيس مؤتمر الحوار، ليناقش البدائل المختلفة ويتخذ القرار بما يراه مناسبا. (2) إلا أن ذلك لا ينفي حدوث مسارات تفاوضية موازية غير معلنة خارج أروقة الحوار بين القوى الرئيسية لإيجاد توافق حول القضايا البارزة.

الحوار حول القضية الجنوبية

اكتسبت هذه القضية أهميتها على الصعيد الوطني مع تزايد حالة السخط الشعبي في الجنوب جرّاء السياسات الخاطئة التي مارسها النظام السابق في مرحلة ما بعد حرب 1994، وأفضت إلى تنامي المطالب الانفصالية في الشارع الجنوبي، وتبني بعض فصائل الحراك الجنوبي الخيار المسلح المدعوم من أطراف إقليمية لتحقيق الانفصال. وللأهمية الفائقة لهذه القضية فقد عُدّت القضية المحورية بمؤتمر الحوار، والفشل في حلها يعني فشل مؤتمر الحوار إجمالاً، لارتباطها بجوانب حيوية في مسار الحوار متعلقة بالوحدة الوطنية، وشكل الدولة وحالة الاستقرار في الجنوب بعد الحوار.

وأثناء الإعداد للحوار حول القضية اشترط العديد من فصائل الحراك الجنوبي لكي يشارك أن يكون حوارًا نِديًّا بين الشمال والجنوب خارج اليمن وبإشراف إقليمي ودولي، وهو ما رفضه معظم القوى السياسية كونه يعترف بالجنوب ككيان مستقل ويتناقض مع الشرعية القانونية للدولة الموحدة. ولتلافي هذه الإشكالية وضمان النديّة في مؤتمر الحوار تم إقرار مشاركة الجنوب بتمثيل متساو مع الشمال (50% للشمال، 50% للجنوب) في فريق القضية الجنوبية وفي مجمل مؤتمر الحوار، وأن تحصل مكونات الحراك الجنوبي على 75% من حصة الجنوب في فريق القضية الجنوبية المكون من 40 عضوًا. ونجحت ضغوط وتطمينات إقليمية ودولية، وجنوبية-جنوبية قام بها الرئيس عبد ربه منصور هادي في حث جزء من فصائل الحراك والقوى الجنوبية على المشاركة في الحوار، بينما رفضت بعض فصائل الحراك وقيادات جنوبية مقيمة في الخارج المشاركة في الحوار. واستمرت الفصائل الأكثر تطرفًا كفصيل الرئيس السابق علي سالم البيض المدعوم من إيران، في نهج العنف واستهداف المعسكرات والكوادر الأمنية والعسكرية العاملة في الجنوب تزامنًا مع سير الحوار.

رؤية أطراف الحوار: اتفاق في التشخيص واختلاف في المعالجات

في الرؤى المقدمة من المتحاورين لتحديد جذور ومحتوى القضية الجنوبية، اشترك أغلب الرؤى في أن الحرب الأهلية صيف 1994 وتداعياتها كانت البداية الفعلية لظهور القضية، وما ترتب عليها من إلغاء للشراكة الندية بين الشمال والجنوب، وتحجيم موقع الأخير وحضوره في المعادلة السياسية، فضلاً عن السياسات الخاطئة ومظالم الإقصاء والتهميش ونهب الأراضي والثروات في الجنوب، وإحالة الآلاف من الموظفين الجنوبيين في أجهزة الدولة المدنيين والعسكريين إلى التقاعد الإجباري؛ وهو ما أدى بدوره إلى تحفيز مشاعر الرفض والغضب لدى الشارع الجنوبي، وظهور ما عُرف بقوى الحراك الجنوبي في 7 يوليو/تموز 2007 كرافعة للقضية الجنوبية.

وذهبت بعض الرؤى إلى وجود جذور أعمق للقضية تعود إلى تاريخ استقلال الجنوب عن الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، تجلت في دورات الصراع الدموي بين النخب الجنوبية نفسها، وممارستها للإقصاء والتهميش ومصادرة الحقوق تجاه بعضها البعض، (3) وصولاً إلى أحداث 13 يناير/كانون الثاني 1983 الدامية، والتي كان من تداعياتها مشاركة جزء مهم من القوى الجنوبية المستبعدة في الشمال إلى جانب النظام السابق في حرب صيف 1994 (*).

وفي نظر الأطراف المتحاورة لحلول ومعالجات القضية، اشترك أغلب الرؤى على أهمية المعالجة الفورية للجوانب الحقوقية والتنموية؛ كرد المظالم وإعادة المتقاعدين والمسرحين إلى أعمالهم وتعويضهم عن سنوات الإقصاء، وتعزيز الدور الخدمي للدولة في المحافظات الجنوبية، بالإضافة إلى تنفيذ ما تضمنته النقاط الـ(20) والـ(11)، وفق أجندة واضحة تضعها الحكومة ضمن أولوياتها خلال الفترة القادمة (**).

وظهر الخلاف بصورة جلية بين هذه الأطراف في ما يتعلق بمعالجة الشق السياسي للقضية؛ فجاءت رؤية الحراك الجنوبي بسقف حلول مرتفع، فحواه أن حرب صيف 1994 قد أحدثت شرخًا عميقًا في جدار الوحدة لا يمكن إصلاحه، (4) والخيار الأنسب للجنوب هو الاستقلال عن الشمال، سواء من خلال انفصال ناجز أو بإقامة فيدرالية مؤقتة من إقليمين: شمالي وجنوبي يُمنح بعدها شعب الجنوب الحق في الاستفتاء لتقرير المصير. (5) واقتربت من هذه الرؤية -إلى حد ما- رؤية حزب الحق بطرحها شكل الدولة الفيدرالية من إقليمين، والاعتراف الصريح بحق شعب الجنوب في تقرير مصيره وبما يحفظ الإخاء والمحبة بين اليمنيين. (6) وفي ذات السياق أشارت رؤية الحزب الاشتراكي اليمني إلى وجود أزمة بنيوية في الوحدة القائمة، ناتجة عن فشل صيغة الوحدة الاندماجية ووأدها بحرب صيف 1994. وحل القضية يتطلب إحداث تحولات سياسية جذرية تمس شكل الدولة ومضمونها، وتعيد الجنوب إلى مكانته الطبيعية كطرف في المعادلة الوطنية من خلال إقرار دولة اتحادية من إقليمين: شمالي جنوبي بصورة مبدئية، ووضع الجنوب على مستوى النديّة مع الشمال خلال المرحلة الانتقالية الثانية، بتشكيل حكومة انتقالية بالتساوي بين الشمال والجنوب، والمناصفة في المواقع القيادية العليا للدولة ودواوين الوزارات، وانتخاب مجلس نيابي جديد يُمثَّل فيه الجنوب بالتساوي مع الشمال في عدد المقاعد، ليقرروا باعتبارهم منتخبين ومفوضين عن الشعب شكل الدولة الاتحادية بعد ذلك. (7)

واقتربت رؤية الحوثيين "أنصار الله" من رؤية الحزب الاشتراكي بالتأكيد على خيار الدولة الفيدرالية متعددة أو ثنائية الإقليم، باعتباره الخيار الأفضل لليمن في ظل فشل تجربة الدولة البسيطة، (8) مع أعطاء الأولوية لخيار الدولة الاتحادية من إقليمين: شمالي وجنوبي، (9) وضمانات ذلك يكون بالاشتراك في السلطة عبر تشكيل مجلس تشريعي انتقالي، وحكومة وحدة وطنية مناصفة بين أبناء الجنوب والشمال، تشرف على تنفيذ مخرجات الحوار ومعالجات القضية. (10)

في الجانب المقابل، اشتركت رؤى أحزاب (المؤتمر الشعبي العام، (11) وحزب الإصلاح، (12) والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، (13) وحزب العدالة والبناء، (14) والحزب القومي الاجتماعي، (15) وجزء من مكونات المجتمع المدني، (16) والشباب المستقلين، (17) والنساء المستقلات، (18) وجزء من قائمة الرئيس هادي والرئيس نفسه)، (19) في خيار فيدرالية متعددة الأقاليم، باعتباره الخيار الأنسب للحفاظ على الوحدة بين الشمال والجنوب، في ظل حالة الاحتقان والغضب الواسع لدى جزء كبير من الشارع الجنوبي ورغبته الملحة في الانفصال، جرّاء المظالم والسياسات الخاطئة السابقة. (20) ويحقق للجنوب في نفس الوقت المشاركة العادلة في السلطة والثروة مع الشمال.

بينما فضّلت رؤى أحزاب ومكونات أخرى، كحزب الرشاد السلفي وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي وغيرها، خيار الدولة البسيطة كونه الأنسب لوضع اليمن مع تطبيق حكم محلي كامل الصلاحيات يحقق هدف إعادة توزيع الثروة والسلطة على أُسس عادلة بين المناطق المختلفة، ويجنّب اليمن مخاطر التقسيم إلى أقاليم فيدرالية. (21)

تقييم مخرجات الحوار: العبور الصعب نحو التسوية

مر الوصول إلى رؤية نهائية محل توافق لحل القضية بمراحل عديدة وجولات حوار وتفاوض صعبة داخل وخارج أروقة مؤتمر الحوار، مصحوبة بضغوط أممية مشهودة عبر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة السيد جمال بن عمر، حتى تم التوصل إلى ما سُمي بوثيقة حل القضية الجنوبية، والوثيقة النهائية لتحديد عدد الأقاليم في الدولة الاتحادية، والمُوقّع عليهما من قبل أغلب الأطراف المشاركة في الحوار، وأقرّتا إقامة نظام اتحادي من ستة أقاليم فيدرالية، وصنعاء عاصمة مستقلة إداريًا. كما أقرت وثيقة حل القضية الجنوبية شكلاً من الديمقراطية التوافقية بين الشمال والجنوب، لا تعتمد على الأغلبية العددية فقط، وإنما الموازنة بين الأرض والسكان، كطرفين متكافئين في إطار الدولة الجديدة، ويُمنح الجنوب بموجبها 50% من مقاعد البرلمان الاتحادي والحكومة الاتحادية والقيادات العسكرية والأمنية والقضائية والدبلوماسية العليا في الدولة (***).

ومثّلت الوثيقة الحد الأدنى الممكن للتوافق بين أطراف الحوار، وحظيت بدعم وقبول القوى الإقليمية والدولية العشر الراعية للمبادرة الخليجية، (22) ويُعوَّل على ما قدمته من حلول أن تمتص جزءًا كبيرًا من سخط الشارع والنخب الجنوبية. مع توقع أن تظل بعض القيادات والنخب الجنوبية وفصائل في الحراك الجنوبي في كل الأحوال رافضة لأي حلول تحت سقف الوحدة، وقد تعمد إلى افتعال المشاكل وعدم الاستقرار وتنامي أعمال العنف في الجنوب. وما لم يجرِ استيعابها ضمن هياكل السلطة، وممارسة ضغوط دولية وإقليمية قوية عليها فإن أصوات الاحتجاجات والمطالب الانفصالية ستظل مسموعة في الشارع الجنوبي. الحوثيون من جانبهم أعلنوا رفضهم التوقيع على وثيقة الأقاليم، بحجة أنها تقسّم اليمن إلى فقراء وأغنياء، بينما الشواهد تشير إلى أن رفضهم جاء على خلفية حرمان هذا التقسيم المتعمد لهم من منفذ بحري طالما حلموا به، حتى لا يكون طريقًا للإمدادات العسكرية الإيرانية إليهم، وتوعدت الحركة بالوقوف أمام محاولة فرض هذا التقسيم. (23)

بالإضافة إلى ذلك هناك مخاوف عديدة لدى الكثيرين حول قدرة المجتمع اليمني على الانتقال والتكيف مع النظام الفيدرالي دون صعوبات، والتداعيات المحتملة لتقسيم البلد إلى عدة أقاليم، خصوصًا أن الفيدرالية اليمنية، وعلى عكس باقي الفيدراليات السائدة في العالم والتي قامت لتجميع أقاليم مفككة في نظام فيدرالي موحد، تقوم على تقسيم أقاليم موحدة، وتقطيع أوعية اجتماعية واقتصادية استمرت لعشرات السنين، دون وجود بنية إدارية ومؤسسية قوية، وثقافة اجتماعية وسياسية تساعد على بناء أوعية اجتماعية واقتصادية جديدة متماسكة؛ (24) وهو ما قد يكون من وجهة نظر البعض وصفة جاهزة للفوضى وعدم الاستقرار.

وأخيرًا، المخاوف المتعلقة بإعادة تكريس المحاصصة في السلطة على أساس شطري، وآثاره السلبية المحتملة، في تعزيز ثقافة الانتماء المناطقي على حساب الهوية الوطنية العليا، وشغل المراكز القيادية والوظائف العليا في الدولة حسب معايير الانتماء الجغرافي وليس المؤهلات والكفاءة، ودفع الناس لتلمس الهويات والولاءات الضيقة للحصول على الوظائف أو التعيين ونيل الحقوق المرتبطة بالدولة. وعلى المدى البعيد مخاطر تكوّن مراكز نفوذ متنافسة على أسس شطري داخل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وآثارها المحتملة على إعاقة نمو ديمقراطية حقيقية. والأخطر أن هذا التقاسم الشطري للسلطة والثروة سيحافظ على تمايز الهوية بين الشمال والجنوب ويعوق الاندماج من وجهة نظر البعض، وقد يعزز الانقسام الداخلي ودعاوي الانفصال على المدى الطويل. وإن كان هناك من يقلل من هذه المخاوف على اعتبار أنها لن تكون في كل الأحوال أعظم خطرًا من حدوث انفصال ناجز في ضوء المعطيات الراهنة، وأن حل القضية يتطلب الانتقال إلى نوع من الديمقراطية التوافقية توازِن بين الأرض والسكان وتعيد الجنوب إلى موقعه الطبيعي كشريك رئيسي في الدولة وتجعل من الوحدة مصلحة مشتركة لجميع الأطراف، ويمكن احتواء الآثار السلبية للمحاصصة إذا تمت عبر الأطر المدنية والأحزاب وليس عبر الانتماءات التقليدية الشطرية.

الخاتمة

لا شك أن الحوار اليمني حقق نتائج إيجابية، بالخروج بقرارات ورؤى توافقية في مختلف القضايا والمجالات، ما بين موجهات دستورية وقانونية، وموجهات لسياسات حكومية، ما كان الوصول إليها بغير طريق الحوار، وسيؤدي تطبيقها إلى إحداث قفزة تطورية نوعية في البلد، توفر عليه عشرات السنين من التطور التراكمي. ومن المتوقع أن تكون هذه المخرجات ولسنوات طويلة قادمة النبع الرئيسي لقواعد وموجهات الإصلاح والتنمية في المجالات المختلفة، إلا أنه يحد من بريق هذا الإنجاز على المدى القصير وجود عوائق مالية ومؤسسية وسياسية عديدة قد تحول دون تطبيق جزء كبير منها، وتفرض ترحيلها إلى مرحلة لاحقة. وباستثناء الموجهات الدستورية والتي لا تتجاوز نسبتها 10% من مخرجات الحوار، الأوفر حظًا في التطبيق كونها ستوضع مباشرة في الدستور القادم؛ فإن جزءًا كبيرًا من الموجهات القانونية وموجهات السياسات الحكومية، ستنتظر حتى يتم انتخاب سلطة تشريعية جديدة وحكومة منتخبة قادرة على تحويلها إلى قوانين وسياسات حكومية مقرّة. كون المجلس النيابي القائم والحكومة التشاركية في المرحلة الانتقالية لا يتمتعان بالأهلية والشرعية الكافية للقيام بهذا الدور. يُستَثْنى من ذلك القوانين التي سيصدرها الرئيس عبد ربه منصور هادي كقوانين مؤقتة في حالات محدودة، وموجهات السياسات الحكومية الأكثر إلحاحًا، والتي من المتوقع أن تكون محصورة بدرجة كبيرة في الجانب السياسي باعتباره الهم الطاغي على المرحلة الانتقالية بعد الحوار.

كما تواجه وبصورة محددة مخرجات القضايا الصراعية، عوائق مالية وسياسية عديدة أمام تطبيقها؛ أبرزها الحاجة لموارد مالية كبيرة لتنفيذ ما يتعلق بالجانب الحقوقي؛ كالتعويضات ورد الحقوق وإعادة الإعمار الخاصة بالقضية الجنوبية، وقضية صعدة، والتعويضات في ملف العدالة الانتقالية المتعلقة بشهداء وجرحى الثورة الشبابية والانتهاكات السابقة وغيرها، وهي مبالغ غير متاحة للحكومة في ظروف البلد الراهنة.

فضلاً عن وجود أطراف داخلية وخارجية تمثل عائقًا أمام تطبيق المعالجات، كالمؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم السابق) فيما يتعلق بملف العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وحزب الإصلاح واللواء علي محسن الأحمر، والقوى القبلية المساندة لهما، فيما يتعلق بقضية صعدة (قبل تقديم الحوثيين تنازلات مقابلها). ولن تكون النخب الجنوبية وقوى الحراك الجنوبي الرافضة لمخرجات الحوار سعيدة بتنفيذ إصلاحات عميقة وحقيقية في الجنوب تسحب البساط من تحت أقدامها، وستعمل على إعاقتها، واستمرار تأجيج الشارع الجنوبي والمطالب الانفصالية، وقوى في الشمال وتحديدًا بقايا النظام السابق لا ترى مصلحتها في تسوية القضايا الصراعية، لاستمرار إرباك الوضع الداخلي والحفاظ على توازن قوى معين خلال المرحلة الانتقالية، ويخدم استراتيجيتها في العودة إلى السلطة، بالاستفادة من موجة الثورة المضادة المدعومة من أطراف إقليمية.

ومع ذلك، وفي كل الأحوال، فإن مخرجات تسوية القضية الجنوبية من المتوقع أن تكون الأوفر حظًا في التطبيق، لأنها الأكثر إلحاحًا، وكون جزء كبير من معالجاتها عبارة عن موجهات دستورية ستوضع مباشرة في الدستور القادم، بالإضافة لوجود توافق إقليمي ودولي واسع بين الدول العشر الراعية للعملية الانتقالية على تسويتها، باعتبارها عاملاً مهمًا يخدم مصالحها في الحفاظ على استقرار اليمن خلال المرحلة القادمة.
________________________________
خالد أحمد الرماح - باحث سياسي، مركز سبأ للدراسات الاستراتيجية، صنعاء، اليمن.

المصادر
1. الأمانة العامة لمؤتمر الحوار الوطني الشامل: ما هو مؤتمر الحوار الوطني: اللائحة الداخلية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص5، 6. http://www.ndc.ye/ndcdoc/what_NDC.pdf
2. المصدر السابق، ص34.
3. الرؤية التوافقية لفريق القضية الجنوبية حول جذور ومحتوى القضية، في وثيقة الحوار الوطني الشامل، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص32. http://ndc.ye/ndc_document.pdf
(*) احتوت الرؤية التوافقية على جوانب عديدة قانونية وحقوقية واقتصادية واجتماعية وثقافية لجذور ومحتوى القضية، انظر: الرؤية التوافقية لفريق القضية الجنوبية حول جذور ومحتوى القضية، المصدر السابق، ص33-36.
(**) انظر: نص النقاط الـ20، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، http://www.ndc.ye/matrix/20points.pdf
نص النقاط الـ11، http://www.ndc.ye/matrix/11points.pdf.
4. رؤية الحراك الجنوبي لجذور القضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص3. http://ndc.ye/ndcdoc/south_issue_roots.docx
5. رؤية الحلول والضمانات المقدمة من الحراك الجنوبي السلمي، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_herak.pdf
6. رؤية حزب الحق لجذور القضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، http://ndc.ye/ar-news.aspx?id=398
7. رؤية الحزب الاشتراكي اليمني لحلول وضمانات القضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص5،4. http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_ishtraki.doc
8. رؤية مكون أنصار الله في المعالجات والضمانات للقضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص3. http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_ansar.pdf
9. انظر: الناطق باسم الحوثيين لـ«الشرق الأوسط»: نحن مع إقليمين في اليمن ومخرجات الحوار، صحيفة الشرق الأوسط، الخميـس 26 ديسمبر/كانون الأول 2013 ، العدد 12812، http://www.aawsat.com/details.asp?section=11&article=755257&issueno=12812#.Ut_XUhDfrIU
10. رؤية مكون أنصار الله في المعالجات والضمانات للقضية الجنوبية، مصدر سابق، ص4.
11. رؤية المؤتمر الشعبي العام للحلول والضمانات للقضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص2. http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_gpc.doc
12. رؤية التجمع اليمني للإصلاح لحلول وضمانات القضية الجنوبية، الموقع الرسمي للحوار، ص4. http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_islah.doc
13. رؤية التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري حول بناء الدولة، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص12. http://www.ndc.ye/State-Building/final/Summary_visions_components/Bina_Dawla_Nasiri.pdf
14. رؤية حزب العدالة والبناء حول بناء الدولة، الموقع الرسمي للحوار، ص5. http://www.ndc.ye/State-Building/final/Summary_visions_components/Bina_Dawla_AdalaWaBina%20(2).docx
15. رؤية الحزب القومي الاجتماعي حول بناء الدولة، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص4. http://www.ndc.ye/State-Building/final/Summary_visions_components/Bina_Dawla_KawmiIjtimaae.doc
16. خلاصة رؤية مكون منظمات المجتمع المدني حول الحلول والضمانات المقترحة للقضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص2.
http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_NGOs.docx
17. رؤية نادية عبد الله الأخرم عن شباب الثورة المستقلين حول الحلول والضمانات للقضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص4.
http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_nadia_abdullah.docx
18. رؤية بلقيس اللهبي عن مكون النساء المستقلات حول الحلول والضمانات للقضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، 6.
http://www.ndc.ye/ndcdoc/south_solution_free_women_belqees_allehbi.doc
19. محمد ناجي علاو، هادي أقرّ مع حزبه تقسيم اليمن لـ7 أقاليم وعلى المركز المقدس قبول الفيدرالية، المصدر أونلاين، 29 يوليو/تموز 2013، http://almasdaronline.com/article/48601
20. رؤية التجمع اليمني للإصلاح لحلول وضمانات القضية الجنوبية، مصدر سابق، ص2-5.
21. رؤية حزب الرشاد اليمني لحلول وضمانات القضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص6. http://www.ndc.ye/south_issue/solution/south_solution_alrashad.docx
رؤية حزب البعث العربي الاشتراكي القومي حول بناء الدولة، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص1.
http://www.ndc.ye/State-Building/final/Summary_visions_components/Bina_Dawla_Ba3thKawmi.docx
(***) انظر: نص وثيقة حلول وضمانات القضية الجنوبية: اتفاق حول حل عادل للقضية الجنوبية، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، 23 ديسمبر/كانون الأول 2013.
 http://www.ndc.ye/ndcdoc/Southern_Question.pdf
وأيضًا في التقرير النهائي لمخرجات القضية الجنوبية، وثيقة الحوار الوطني الشامل، الموقع الرسمي لمؤتمر الحوار، ص37-41. http://ndc.ye/ndc_document.pdf
22. الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية ترحب بتوقيع القوى السياسية على وثيقة القضية الجنوبية، المصدر أونلاين، الخميس 9 يناير/كانون الثاني 2014، http://almasdaronline.com/article/53557
23. حركة "أنصار الله" الحوثية تعلن رفضها تقسيم اليمن إلى أقاليم، موقع صحيفة الحياة، الاثنين 10 فبراير/شباط 2014، http://alhayat.com/Details/602084
24. عبد الوهاب الشرفي، تقسيم الأقاليم.. تحوّل "اتحادي" كارثي!"، موقع يمن برس، 14 فبراير/شباط 2014, http://yemen-press.com/article8383.html

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب