الحوار السياسي في السودان ومآلاته الراهنة

بعد مضي ستة عقود على الحكم الوطني وتجريب سبع نسخ من الدساتير والأوامر العسكرية، وستة انتخابات تعددية، وثلاث حقب حكم مدني، وثلاثة أنظمة عسكرية، وأربع فترات انتقالية، وثلاث حروب أهلية، وسبع اتفاقيات للسلام، لا تزال القوى السياسية عاجزة عن الوصول إلى معادلة تحقق استدامة السلام والاستقرار والتنمية.
20143118394846734_20.jpg
حسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي يتوسط عمر البشير زعيم المؤتمر الوطني الحاكم (يمين)، والصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي (الجزيرة)

ملخص
على مدار ستة عقود منذ استقلال البلاد، وبعد تجارب مختلفة للحكم الوطني بأنظمة مدنية منتخبة، وبانقلابات عسكرية، وفترات انتقالية، وانتفاضتين شعبيتين، وحروب أهلية متطاولة، والعديد من اتفاقيات السلام، لا تزال القوى السياسية السودانية عاجزة عن الوصول إلى معادلة لتأسيس نظام حكم مستقر.

ويشير سياق تطورات الأوضاع السياسية في السودان إلى وصول الدولة الوطنية بصيغتها الحالية إلى طريق مسدود مع فشل كل الحوارات التي جرت على مدار عقود في إنجاز تسوية تاريخية.

وكان تقسيم البلاد وإعادة إنتاج الأزمة الوطنية بكل تعقيداتها أهم مؤشر على أن التفكير داخل الصندوق ومحاولة إيجاد حلول وفق المسلّمات السائدة التي استقرت عليها معادلات وتركيبة النظام السياسي القديم لن يؤدي إلى نتائج جدية توفر مخرجًا حقيقيًا من الأزمة.

وما يميز الواقع السياسي الراهن أن كل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة مأزومة ومنقسمة على نفسها؛ فالنظام عاجز عن الحكم، والمعارضة غير قادرة على تغييره، والحركات المسلحة لا تمثل تهديدًا جديًا لسلطته، لتسود حالة توازن ضعف.

وهذا الضعف الشامل يعكس حاجة القوى السياسية المختلفة لحوارات داخلية لمعالجة أزماتها الذاتية أولاً وتجديد فكرها وبرامجها وأجندتها وقياداتها وهياكلها حتى تكون مؤهلة لحوار منتج؛ فإصلاح وترقيع النظام السياسي الحالي أثبت عدم جدواه، والحل لتحقيق الاستقرار هو إعادة تأسيس الدولة الوطنية على قواعد مشروع وطني جديد.

ظل السودانيون في حالة حوار سياسي وتدافع مدني وعسكري مستمر للتراضي على نظام حكم يحقق استقرارًا مستدامًا مع بدء الوعي السياسي للنخب إبان الاستعمار وتشكّل الحركة الوطنية التي قادت إلى الاستقلال في العام 1956م.    

وبعد مضي ستة عقود على الحكم الوطني وتجريب سبع نسخ من الدساتير والأوامر العسكرية، وستة انتخابات تعددية، وثلاث حقب حكم مدني، وثلاثة أنظمة عسكرية، وأربع فترات انتقالية، وثلاث حروب أهلية، وسبع اتفاقيات للسلام، لا تزال القوى السياسية عاجزة عن الوصول إلى معادلة تحقق استدامة السلام والاستقرار والتنمية.

وجاء تقسيم السودان في العام 2011 تتويجًا لتراكمات فشل النظام السياسي في استيعاب تنوع التركيبة الاجتماعية، وعجزه عن معالجة المظالم الناتجة عن اختلال معايير المشاركة العادلة في السلطة والثروة، وعدم الاستعداد لدفع استحقاقات ذلك لتلبية تطلعات مواطنيه في التنمية المتوازنة والمساواة وتكافؤ الفرص كشروط موضوعية للمحافظة على وحدة السودان.

والسؤال المُلح: لماذا لم يؤدّ الحوار المستمر على مدى عقود، والاتفاقيات العديدة التي تضمنت حلولاً واقعية تصلح لمعالجة جذور الأزمة الوطنية، إلى إنتاج نظام سياسي فعّال ومستدام مستجيب لمطالب القوى الاجتماعية المختلفة؟

يعود ذلك في جانب منه إلى طبيعة نشأة الدولة الحديثة في السودان التي تشكّلت قواعدها خلال حقبتين استعماريتين: الأولى: الاحتلال الخديوي 1821م-1885م، والثانية: الاحتلال البريطاني 1898م-1955م؛ فقد كان لارتباط تأسيس الدولة السودانية الحديثة بهاتين الحقبتين دور أساسي في تكوين التركيب الاقتصادي والاجتماعي، وهي مسألة مهمة لفهم ديناميات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي شهده السودان وانعكس في العوامل المؤثرة على تشكيل النظام السياسي بقواه المختلفة.

يذهب التجاني عبد القادر(1) إلى أن الدولة السودانية الحديثة تشكّلت بإرادة خارجية، في صورتيها: الخديوية والبريطانية، بهدف خدمة مصالحها، ولم تتأسس الدولة كنتيجة طبيعية للصراع الداخلي بين قوى اجتماعية ناضجة ومنظمة. وحاولت تلك الدولة تغيير مسارات الكيانات الاجتماعية ودفعها في اتجاه أجندتها، غير أن المجتمع على تقليديته أظهر قدرة على "تغيير" الدولة من خلال مقاومة توجهاتها؛ ولذلك لم تستطع الدولة المحافظة على سيطرتها إلا من خلال تقديم تنازلات لبعض التنظيمات الاجتماعية الفعّالة مدركة أن البيروقراطية المركزية لا تناسب طبيعة السودان مما اضطرها للبحث عن حلفاء من الزعامات التقليدية لتشركهم في الإدارة مقابل حصولهم على امتيازات.

كان هذا التحول مهمًا في صعود قوى اجتماعية عزّزت من دور القبلية والطوائف الدينية التي استفادت من حاجة المستعمر لخدمات زعماء العشائر، وشيوخ الطرق الصوفية، الذين نجح العديد منهم بشكل خاص في الاستفادة من وضعيتهم الجديدة في مراكمة الثروة وتعزيز نفوذهم وسيطرتهم الاجتماعية مما أهلهم للعب دور حاسم في تحديد مسارات السياسة السودانية لاحقًا.

ويعتبر تيم نبلوك(2) أن الحكومات الوطنية المتعاقبة ظلت تحافظ على التركيبة الاقتصادية والاجتماعية الموروثة من السلطة الاستعمارية، وأن سياساتها أدت إلى تعميق واقع التفاوت الاجتماعي والإقليمي الذي صنعته إدارة المستعمر لخدمة مصالحه بسبب خضوعها لنفوذ الجماعات المستفيدة من الولاء القبلي والديني للزعماء الذي منحها مشروعية شعبية أكسبتها أغلبية نيابية في معظم الانتخابات.

لقد دارت معظم الصراعات السياسية في السودان، حول أجندة تغيير تلك التركيبة الموروثة لصالح معادلات جديدة، بين القوى التقليدية والقوى الحديثة التي مثلتها المؤسسة العسكرية والحركات اليسارية والإسلامية والجهوية على ما بينها من تباينات في الأهداف، وعلى الرغم من كل ذلك التدافع وضغوط التحديث إلا أن المؤسسة التقليدية، وإن ضعُف نفوذها، لا تزال لاعبًا أساسيًا في السياسة السودانية.

ويلاحظ عبد الوهاب الأفندي(3) من جهة أخرى أن السودان قد يكون البلد الوحيد في العالم الإسلامي الذي تطابق التحديث فيه مع مزيد من الأسلمة والتعريب، وعزا الفضل في ذلك إلى مشروع محمد علي باشا حيث تزامن مع تحديث هياكل الدولة واقتصادها التوسع في التعليم باللغة العربية؛ وهي قضية قادت لاحقًا إلى صراع محتدم بين الهويتين: العربية والإفريقية للسودان وظلت عنوانًا للحروب الأهلية.

أطراف المعادلة السياسية

تشكّل المشهد السياسي غداة الاستقلال من أربع قوى أساسية:

  1. تيار المؤسسة التقليدية: ويمثله حزبان متنافسان: حزب الأمة المستند على طائفة الأنصار بزعامة عبد الرحمن المهدي، والاتحاديون تحت مظلة طائفة الختمية بزعامة علي الميرغني. وكان نفوذهما قد تعاظم نتيجة للجوء نخبة مؤتمر الخريجين المنقسمة لهما، بدلاً من التصدي لمهمة التحديث وكسب التأييد الشعبي لمنظومة سياسية حديثة.(4) 
  2. تيار القوى الحديثة: وتشكّل من تنظيمات أيديولوجية متناقضة مثّلها الشيوعيون والإسلاميون، ومع أنهما لم يتمتعا بشعبية الحزبين التقليديين إلا أن فعاليتهما كجماعتي ضغط نخبوي أسهمت في إيجاد دور مؤثر لهما في اللعبة السياسية، ولجأت كلتاهما إلى وسيلة الانقلاب العسكري استعجالاً للتغيير.
  3. تيار الأطراف المتمردة: وعلى نقيض التيارين السابقين اللذين يجمع بينهما تمثيل المركز والوسط النيلي، فقد مثّل هذا التيار حراك قوى الهامش التي لجأت إلى التمرد المسلح كوسيلة لتحقيق المطالب في وجه المركز المسيطر، وهو تيار ابتدرته نخبة جنوب السودان التي طالبت بمنحه حكمًا فيدراليًا لمعالجة فوارق واختلالات التنمية والتمثيل السياسي، غير أن قادة الشمال تنكروا لوعدهم بمنح الجنوب وضعًا خاصًا عشية الاستقلال، وقبل ذلك بأشهر قليلة كان التمرد المسلح في الجنوب قد بدأ بالفعل. وجاء التمرد المسلح في دارفور امتدادًا للحيثيات نفسها التي ولّدت صراع المركز والهامش.
  4. تيار المؤسسة العسكرية: دخل العسكريون بقوة إلى الملعب السياسي بانقلاب الفريق إبراهيم عبود قائد الجيش في العام 1958؛ حيث استدعى رئيس الوزراء آنذاك والسكرتير العام لحزب الأمة عبد الله خليل قائد الجيش وسلّمه السلطة على خلفية تحرك برلماني كان على وشك إسقاط حكومته.(5)

كان ذلك الانقلاب، التطور الأكثر أهمية في السياسة السودانية حيث دشّن دور المؤسسة العسكرية السياسي لتصبح اللاعب الأبرز والأقوى نفوذًا حيث بسطت سيطرتها على الحكم لنحو خمسة عقود من سني الاستقلال.

ولئن سنّ حزب الأمة الحكم العسكري، بمباركة المهدي والميرغني؛ فقد هندست الانقلاب الثاني قوى اليسار بقيادة الحزب الشيوعي في 1969م، بينما دبّرت "الحركة الإسلامية" الانقلاب الثالث في 1989م. والمفارقة أن القادة العسكريين الثلاث الذين وصلوا إلى السلطة بانقلابات دبّرتها أحزاب سياسية نجحوا بامتياز في الانفراد بالحكم بعدما أطاحوا بالقوى المدنية التي استعانت بهم.

خريطة أطراف الصراع

تتميز خريطة الفاعلين الأساسيين في الصراع الراهن بقدر كبير من السيولة بسبب الانقسامات وسط القوى السياسية كافة بسبب ضعفها والعجز عن تجديد أطروحاتها وقياداتها؛ حيث ظل قادة القوى الرئيسية في مواقعهم طوال العقود الخمسة الماضية. وهناك ثلاثة تحالفات رئيسية:

تحالف النظام الحاكم
يقوده المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة البشير، ويضم الحزب الاتحادي الأصل بزعامة الميرغني، والحزب الاتحادي المنقسم عنه بقيادة جلال الدقير، ومجموعة من الفصائل المنشقة من حزب الأمة، وهناك حالة ملتبسة بشأن حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي حيث يشارك نجله العقيد عبد الرحمن في السلطة بمنصب مساعد الرئيس. ويضم التحالف الحاكم أيضًا حركة التحرير والعدالة في دارفور بزعامة التجاني السيسي، وكذلك جبهة الشرق بقيادة موسى محمد أحمد.

تحالف قوى الإجماع الوطني
يضم قوى المعارضة المدنية، وهي حزب الأمة القومي بزعامة المهدي، والمؤتمر الشعبي بقيادة الترابي، والحزب الشيوعي بقيادة محمد الخطيب، وعدد من الفصائل الممثلة لتيارات البعثيين والناصريين وشخصيات مستقلة منهم فاروق أبو عيسى الذي يترأس التحالف، ويواجه خلافات داخله بين المهدي ومكوناته الأخرى حول سبل إسقاط النظام، والعلاقة مع المعارضة المسلحة.

تحالف الجبهة الثورية السودانية
يتشكّل من قوى المعارضة المسلحة في الأطراف، ويضم الحركة الشعبية-شمال بقيادة مالك عقار، وحركات دارفور المسلحة الثلاث الرافضة لوثيقة الدوحة للسلام، حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان فصيلي عبد الواحد نور ومِنِي مناوي.

التيارات الشبابية

تتشكل من مجموعات شبابية متعددة تعبر عن نفسها بمبادرات اجتماعية وسياسية احتجاجية، وتنشط في وسائل التواصل الاجتماعي، وتضم أيضًا مجموعات شبابية حزبية متمردة على قياداتها، وقد أظهرت قدرة على تحدي السلطات بتحريك احتجاجات منظمة في العامين الماضيين، واجهتها السلطات بعنف، بينما تجنبت المعارضة الانضمام إليها بصورة منظمة.

سلسلة الحوارات والاتفاقيات

بحكم وراثته للحرب الأهلية في الجنوب، فضلاً عن أن الخلاف حول أسس تسوية النزاع كان أحد الأسباب الرئيسية التي برر بها "الإسلاميون" انقلابهم في 1989م؛ فقد كان الوصول إلى اتفاق سلام على رأس أجندة النظام الجديد.

حيث انخرط في سلسلة طويلة من المفاوضات الماراثونية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بدأت في أديس أبابا بعد شهر من وصوله إلى السلطة، ثم في نيروبي نهاية العام، وفي فرانكفورت عام 1992 مع فصيل الناصر وتم فيه طرح خيار حق تقرير المصير لأول مرة، ثم مفاوضات أبوجا الأولى والثانية عامي 1992، و1993.

انتقل الملف إلى الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق إفريقيا "إيقاد" كوسيط في العام 1994 والتي تبنت مشروع تسوية يقايض وحدة السودان مقابل تبني دستور علماني، أو منح الجنوبيين حق تقرير المصير. وأُبرمت في العام 1997 اتفاقية الخرطوم للسلام مع مجموعة من الفصائل المنشقة عن الحركة الشعبية على اتفاق تضمن حق تقرير المصير.

بيد أنه لم يحدث اختراق في المفاوضات إلا في العام 2002م بدخول الولايات المتحدة كلاعب أساسي في عملية السلام بتبني إدارة الرئيس جورج بوش الابن لخطة "سياسة الولايات المتحدة لإنهاء الحرب في السودان" التي أعدها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بواشنطن.(6) وتضمنت خريطة طريق للتسوية تقوم على نظامين في دولة واحدة لحل النزاع حول الشريعة، ومنح الجنوب حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية.

أدى دخول العامل الأميركي بمشاركة بريطانيا والنرويج -"ترويكا شركاء إيقاد"(7)- إلى التوصل لاتفاق إطاري للتسوية في بلدة مجاكوس الكينية، وتواصلت مفاوضات ماراثونية خلصت إلى التوقيع على اتفاقية السلام الشامل في 2005. وقاد الاستفتاء على تقرير المصير إلى استقلال جنوب السودان في 9 يوليو/تموز 2011.

على الرغم من أن الحوار السياسي الذي أدى إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل كان معنيًا بالدرجة الأولى بحل قضية الجنوب، إلا أنه شكّل في الوقت نفسه أهم مرجعية للحوارات اللاحقة مع القوى السياسية الأخرى من خلال مخاطبته القضايا المحورية التي ظلت تشكّل أهم تحديات الحكم الوطني، وكان الرهان يقوم على تحقيق تحول ديمقراطي وتأسيس نظام حكم جديد يكفل للجنوبيين، كما يكفل لمواطني السودان كافة، تحقيق تطلعاتهم في إطار دولة سودانية موحدة، وكان رهان جون قرنق أن تكون الاتفاقية مدخلاً لتحقيق رؤية "السودان الجديد" الداعية لإعادة تأسيس السودان على قواعد جديدة تعالج صراع المركز والهامش،(8) على الرغم من ذلك حرص على الاحتفاظ بضمانات قوية للجنوب تضمن له الانفصال.

ولم يجد تحالف التجمع الوطني المعارض مناصًا من التفاوض مع الحكومة بعدما تخلت عنه الحركة الشعبية أحد مكوناته الأساسية، ليوقّع معها اتفاقية القاهرة في العام 2005. وقادت اتفاقية السلام الشامل أيضًا لإبرام الحكومة اتفاقية أسمرة 2006 مع جبهة الشرق التي كانت تحتضنها أريتريا. وفي العام ذاته أبرمت اتفاقية أبوجا للسلام في دارفور مع حركة تحرير السودان بزعامة مناوي، فيما رفضت حركتا: تحرير السودان بزعامة عبد الواحد، والعدل والمساواة بزعامة خليل إبراهيم الانضمام إليها.

وأدت تلك الاتفاقيات الأربع إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية دامت منذ 2005 وحتى قيام الانتخابات العامة في إبريل/نيسان 2010.

وكانت وثيقة الدوحة للسلام في دارفور 2011م آخر جهود الحوار السياسي لتسوية الأزمة الوطنية في السودان.

الحوار السياسي بين التقارب والتباعد

يتركز الجدل الدائر حاليًا بين النظام الحاكم والمعارضة حول الإجراءات المطلوب اتخاذها لتهيئة المناخ للحوار السياسي بأكثر من الاختلاف حول أجندته، مع الرصيد الكبير من التوافقات التي تمت حول القضايا الأساسية.

تنطلق رؤية النظام للحوار من تمسّكه بشرعيته الانتخابية التي حصل عليها في العام 2010 وشكّكت فيها المعارضة، وتقوم مبادرته على مشاركة المعارضة في صياغة الدستور الدائم، ولكنه في الوقت نفسه وطّن نفسه على المضي قدمًا في إجراء الانتخابات في العام 2015، وإن أظهر استعدادًا لاتخاذ إجراءات تخفف تحفظات المعارضة وتشجعها على دخول الحوار.

من جهتها أعلنت المعارضة رفضها الدخول في أي حوار حول الدستور أو المشاركة في الانتخابات ما لم يتحقق مطلبها الرئيس وهو تأسيس وضع انتقالي، وتهيئة المناخ السياسي بوقف الحرب والتوصل إلى اتفاق سلام مع المعارضة المسلحة، وتغيير القوانين المقيدة للحريات، وضمان نزاهة الانتخابات.

وتؤشر هذه الخلافات إلى انعدام ثقة المعارضة في الحكومة من واقع تجربة تنفيذ الاتفاقيات السابقة. وما يمنح مطلب المعارضة حُجّة أنه قد توفرت فرصة تاريخية للسودان للخروج من أزمته الوطنية بتأسيس نظام ديمقراطي حسب تعهدات تلك الاتفاقيات من خلال مخاطبتها الشاملة لجذور الأزمة في تجلياتها المختلفة، وفق ترتيبات محددة.

غير أن كل تلك الجهود المضنية لإقامة نظام ديمقراطي تبددت علي يد حكومة الوحدة الوطنية، بسبب عدم التزام المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بتعهداتهما؛ فالمؤتمر الوطني اقتصر حرصه على إضفاء شرعية دولية على سلطته، في حين وظّفت الحركة الشعبية جهودها للانفصال ليتحقق السيناريو الأسوأ حيث فقدت البلاد وحدتها ولم تكسب السلام، وأُعيد إنتاج الأزمة، وعادت الحرب الأهلية، وتفاقمت الأزمة بسبب تبعات وتداعيات التقسيم. 

مأزق الحوار

إذن؛ أين هي المشكلة؟ ولماذا لم ينتج الحوار السياسي تحولاً ديمقراطيًا مع كل تلك الاتفاقيات، وفي ظل وجود دستور هناك اتفاق واسع عليه؟ يعود ذلك إلى الأسباب التالية:

  • الأول: طبيعة النظام الشمولي جعلت التفاوض أداة لكسب الوقت؛ حيث أصبح سمة أساسية من أدوات إدارة الصراع التي استخدمها بفعالية من أجل البقاء، وهو تكتيك أثبت نجاحه من خلال كثرة الاتفاقيات التي أبرمها مع خصومه دون أن تكلفه سلطته. 
  • الثاني: على الرغم من تبني المعارضة لحوار وطني جامع يفضي إلى تسوية شاملة، إلا أن أطرافًا مهمة منها ظلت تُسهّل مهمة النظام بالدخول معه في مفاوضات ثنائية وإبرام تسويات جزئية؛ وهو ما ضمن له الاحتفاظ بأوراق اللعبة.
  • الثالث: بقاء الدور السياسي للمؤسسة العسكرية خطًا أحمر؛ إذ لم يتم في أي من هذه الحوارات العديدة فتح ملف القوات المسلحة وتحديد دورها، رغم أنها ظلت على مدار خمسين عامًا المتحكمة في قواعد اللعبة السياسية؛ فالنظام الحاكم يستمد شرعيته ومصدر قوته الحقيقية من المؤسسة العسكرية التي يستمد منها البشير قوته التي تمكّنه من الانفراد بالسلطة؛ ولذلك فإن الدور المسكوت عنه للمؤسسة العسكرية المسيطر على اللعبة السياسية يجعل أهم طرف خارج معادلة التسويات الناتجة عن الحوار السياسي.

تأثيرات الأطراف الخارجية

لعبت القوى الخارجية دورًا فاعلاً في كل الاتفاقيات السياسية التي تم التوصل إليها؛ حيث تحولت من مهمة للتوافق بين أطراف داخلية تحكمها اعتبارات وطنية إلى عمليات تفاوض بوساطات خارجية تداخلت فيها أجندة قوى دولية وإقليمية، وقد لعب تقاطع مصالح هذه القوى الخارجية دورًا مهمًا أحيانًا في تأجيج الحروب الأهلية، كما استطاع التأثير في مسار التسويات التي تمت، كما في نموذج تسوية نيفاشا الذي قاد إلى تقسيم البلاد، أو في نموذج دارفور الذي جعل السلام مهمة شبه مستحيلة. وساعد في ذلك أن النظام المواجه بحصار غربي تقوده الولايات المتحدة ظل مستعدًا دائمًا لقبول تدخلاتها أملاً في أن يقود ذلك إلى تطبيع علاقاته الدولية ورفع العقوبات عنه.

لم تكن الولايات المتحدة تهتم بالأوضاع السياسية في السودان إلا في إطار الآثار الإنسانية الناجمة عن الحرب الأهلية، وعلى الرغم من تردي علاقاتها مع النظام الحاكم منذ إدراج السودان في لائحتها للدول الراعية للإرهاب منذ عام 1993، ثم فرضها عقوبات اقتصادية عليه منذ عام 1997، إلا أنها مع ذلك لعبت الدور الأكثر تأثيرًا في عملية السلام الشامل، ثم انخرطت بشدة في ملف أزمة دارفور حيث لعبت دورًا محوريًا في تدويل الأزمة. وحاولت الحكومة أن تطوي ملف خلافاتها مع الولايات المتحدة، دون جدوى، عبر تعاونها المبكر مع إدارة بوش الابن في حربه ضد "الإرهاب"، وبالتجاوب مع الدور الأميركي المتعاظم في تسوية المشاكل الداخلية، والوفاء باستحقاقات عملية السلام كاملة بما في ذلك تقسيم البلاد.

لكن الولايات المتحدة، على الرغم من عدم تحفيزها للحكومة السودانية، أسهمت بالمقابل في تقليل ضغوط المعارضة المسلحة عليها؛ فقد ساندت الجهود القطرية لتحقيق السلام في دارفور، وطالبت الحركات المسلحة بالانضمام إليها، كما عارضت بشدة أجندة تحالف الجبهة الثورية الساعية إلى إسقاط النظام بالقوة.

وعلى غرار تدخلها في مسألة قضية جنوب السودان، تستعد الإدارة الأميركية للعب دور فاعل في تحريك الحوار السياسي بين أطراف النزاع السوداني، وتهيئةً لهذا الدور طرح معهد السلام الأميركي بواشنطن في أغسطس/آب الماضي مقترحًا بعنوان "الطريق إلى الحوار الوطني في السودان"(9) أعدّه المبعوث الرئاسي الأميركي السابق للسودان برنستون ليمان، وجون تيمن، يشير إلى أن أزمات السودان التي لا تزال تتفاقم حتى بعد التقسيم قادت إلى توافق دولي يُقر بأن الحلول الجزئية لتسوية النزاعات الداخلية قد فشلت، وأن هناك حاجة لنهج أكثر شمولية للتعاطي مع أمهات قضايا الصراع، وأنه مع إقرار النظام بالحاجة إلى التغيير إلا أن الرئيس البشير وكبار مساعديه لن ينخرطوا في عملية حوار جدية ما لم تكن هناك ضمانات لتسوية أوضاعهم في ظل قرارات التوقيف الصادرة بحقهم من المحكمة الجنائية الدولية واحتمال محاكمتهم في لاهاي حال مغادرتهم مناصبهم.

وتقترح خريطة الطريق الشروع في إجراء حوار وطني، وعملية إصلاح يديرها الشعب السوداني بنفسه ويدعمها المجتمع الدولي، وأن يكون شاملاً بحيث تشارك فيه عناصر النظام الحالي، والإسلاميون، وجماعات المعارضة المسلحة والمدنية. ودعت إلى تأجيل انتخابات عام 2015 لعامين إذا أثبتت عملية الحوار جديتها لأنها ستتطلب وقتًا طويلاً. ودعت لأن يلعب فريق وسطاء الاتحاد الإفريقي بقيادة الرئيس جنوب الإفريقي السابق ثابومبيكي، دورًا مهمًا فاعلاً في الترويج لهذه العملية وتوجيهها حتى تؤدي إلى تشكيل حكومة ممثلة لقاعدة واسعة قادرة على السعي نحو عملية مصالحة مجدية.

واللافت أن هذه الخطة، تزامنت مع تطورات داخلية مهمة؛ حيث تبنى الرئيس البشير وثيقة إصلاح للحزب الحاكم والدولة تتضمن اتخاذ إجراءات لبناء الثقة تجاوبًا مع مطالب المعارضة لحثّها على الانخراط في حوار وطني يفضي إلى إقرار دستور دائم، وهي مسألة مثار جدل حول جديتها والمدى الذي يمكن أن تصل إليه في ظل تاريخ طويل من العهود والمواثيق المنقوضة. ومع أنه ليس هناك تفسير لهذا التزامن إلا أن الملاحَظ أن الرئيس البشير الذي ظل المسؤولون الغربيون يتحاشون الاجتماع به منذ صدور قرار التوقيف بحقه في مارس/آذار 2009، استقبل الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر منتصف يناير/كانون الثاني 2014 وأبلغه عزمه اتخاذ خطوات مهمة لتحريك دفة الحوار الوطني وموافقته لأن تتولى لجنة مبيكي الإفريقية تسهيل العملية. ويشير هذا الحديث في شأن داخلي مع شخصية أجنبية إلى رغبة البشير في رؤية دور أميركي فعّال في هذا الحوار قد يساعد في الحصول على ضمانات لتسوية قضيته مع المحكمة الجنائية التي تشكّل مصدر انشغال في أجندته.

ويبقى السؤال: هل ستسير إدارة أوباما على خطى إدارة بوش الابن، وتمضي لتبني خريطة طريق معهد السلام الأميركي، وتشجيع الأطراف المحلية على الحوار الوطني، بمساعدة الاتحاد الإفريقي ودعم المجتمع الدولي؟

وقد أثبت التدخل الأميركي في مفاوضات نيفاشا قدرته على تقليص دور وأجندة القوى الإقليمية من جيران السودان؛ حيث اضطرت مصر للرضوخ للتسوية القائمة على منح الجنوب حق تقرير المصير بعدما دعمت واشنطن وسطاء "إيقاد" لدول شرق إفريقيا. وفي ظل احتفاظ الحكومة بعلاقات جيدة مع معظم دول الجوار في الوقت الراهن، مع توتر مستتر في العلاقة مع مصر، فمن المستبعد أن يعمد أي طرف منها إلى عرقلة عملية الحوار خاصة إذا حظيت برعاية أميركية.   

الجدوى والرؤية المستقبلية

يشير سياق تطورات الأوضاع السياسية في السودان ومآلاتها الراهنة إلى وصول الدولة الوطنية بصيغتها الحالية إلى طريق مسدود مع فشل كل الحوارات التي جرت على مدار عقود في تأسيس نظام سياسي جديد قادر على استيعاب مهام وأجندة تسوية تاريخية تضع البلاد على طريق الاستقرار.

وكان تقسيم البلاد وإعادة إنتاج الأزمة الوطنية بكل تعقيداتها أهم مؤشر على أن التفكير داخل الصندوق ومحاولة إيجاد حلول وفق المسلّمات السائدة التي استقرت عليها معادلات وتركيبة النظام السياسي القديم الذي لا يزال ساريًا منذ الاستقلال لن يؤدي إلى نتائج جدية توفر مخرجًا حقيقيًا من الأزمة.

ويرى عطا البطحاني(10) أن أزمة الحكم في السودان بنيوية وأن جوهرها يتعلق بالنظام الاجتماعي الذي يتميز بخاصية عدم المساواة بين مكوناته الرئيسية، ومع إدراك أن كل المجتمعات فيها درجة من عدم المساواة ولكن القضية تتعلق بنجاح القيادة التي تتصدى للمسؤولية في إدارة الصراعات الناتجة عن هذه المظالم بكفاءة، واستدامة أزمة السودان يأتي من عجز الطبقة السياسية، أو عدم رغبة كتلة القوى المسيطرة تاريخيًا على القيام بدور يغير المعادلة المختلة حفاظًا على مصالحها.

وعلى الرغم من أن القوى السياسية تكاد تتفق على ضرورة تعديل بنية السلطة المركزية التي ظلت تسيطر عليها "النخبة النيلية"، على اختلاف الأنظمة المتعاقبة، وتخفيف قبضتها وهيمنتها المستمرة منذ الاستقلال لصالح نظام أكثر استيعابًا لشراكة حقيقة متوازنة لكل مكونات الأطراف، إلا أن تلك التركيبة المركزية ظلت تثبت أنها عصيّة على التغيير وإن بدت مستعدة لإفساح بعض المجال لإلحاق الأطراف بها.

وفشل الحوار السياسي في إحداث التحول المطلوب يحدث بسبب عدم إيلاء اهتمام كافٍ بالأبعاد الفكرية الضرورية للوعي بتعقيدات التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المؤسسة للواقع المعطوب، وأهمية التشخيص السليم لتحليل جذور الأزمة ومعرفة الوصفة الصحيحة لعلاجه وإدراك ديناميات التغيير والاستعداد لدفع استحقاقاته.

وما يجري باسم الحوار لا يعدو أن يكون في الواقع مجرد جدل سياسي على أجندة سطحية خالية من المضمون معني بصراع النخب على نصيبها من كعكة السلطة والثروة، أو جدالاً أيديولوجيًا فوقيًا حول موضوعات أُنفق فيها وقت طويل حول علاقة الدين والدولة ومسائل الهوية لا تشغل بال الأغلبية العظمى من المواطنين، أو انصرافًا عن القضايا المعنية بأجندة التغيير الحقيقي لبنية النظام السياسي السوداني القديم. ولذلك كان لافتًا أن انتفاضتين شعبيتين أسقطتا نظامين عسكريين في 1964 وفي 1985، لم تتمكنا من تحقيق التغيير المطلوب المحقق لـ"معنى الثورة" إذ لم ينتج عنهما سوى سيناريو متكرر فبعد مرور نحو خمسة أعوام فقط على الانتفاضتين استعاد العسكريون السلطة، وهو ما يتم توصيفه في الخطاب السياسي السوداني بـ"الدورة الخبيثة" أو تبادل الحكم العسكري والمدني، ولكن في الحقيقة ليس هناك تبادل بل كشف عن عقلية مأزومة واحدة يتم تدويرها لتعيد إنتاج الأزمة تحت لافتات مختلفة، ولذلك تتغير الأنظمة وتبقى الأزمة شاخصة.

وما يميز الواقع السياسي الراهن في السودان أن الأزمة المستحكمة ليست حكرًا على طرف دون آخر؛ فكل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة مدنيًا وعسكريًا مأزومة ومنقسمة على نفسها؛ فالنظام مع قبضته المسيطرة عاجز عن إدارة دولاب الدولة مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية التي باتت تشكّل هاجسًا لقطاعات واسعة من المجتمع، ومع ذلك فإن المعارضة تبدو أكثر عجزًا من الاستفادة من هذه الظروف المواتية للضغط على النظام لتعديل مواقفه أو لتغييره، والحركات المسلحة تشكّل مصدر إزعاج للحكومة لكنها لا تمثل تهديدًا جديًا لسلطته، وأصبح هناك توازن ضعف خلق نوعًا من استدامة حالة عدم الاستقرار.

وهذا الضعف الشامل يعكس حاجة القوى السياسية المختلفة لحوارات داخلية لمعالجة أزماتها الذاتية أولاً وتجديد فكرها وبرامجها وأجندتها وقياداتها وهياكلها حتى تكون مؤهلة لحوار منتج؛ فإصلاح وترقيع النظام السياسي الحالي أثبت عدم جدواه والحل الوحيد أمام السودانيين لتحقيق الاستقرار هو إعادة تأسيس الدولة الوطنية على قواعد مشروع وطني جديد، أو استمرار الدوران في الحلقة المفرغة انتظارًا للمزيد من التفتت والتشرذم.
______________________________________
خالد التيجاني النور - كاتب وباحث سوداني

المراجع
1- التجاني عبد القادر حامد: مؤلف مشارك، دارفور حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان: أزمة الدولة السودانية (بيروت: مركز الجزيرة للدراسات، 2013)، 77.
2- تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان- دراسة في العوامل المؤثرة في السياسة السودانية 1898-1985، ترجمة: الفاتح التجاني ومحمد علي جادين (الخرطوم: مطبعة جامعة الخرطوم، 1990)، 6.
3 - عبد الوهاب الأفندي، الثورة والإصلاح السياسي في السودان (لندن: منتدى ابن رُشد، 1995)، 86.
4- نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان، 182.
5- عصام الدين ميرغني: الجيش السوداني والسياسة (القاهرة: آفرو ونجي للتصميم والطباعة، 2002)، 31.
6- http://csis.org/files/media/csis/pubs/sudan.pdf .  U.S. policy to end Sudan’s war. By  J. Stephen Morrison, Report of the CSIS Task Force on U.S.-Sudan Policy. Feb 1, 2001
7- Hilde F. Johnson، Waging Peace in Sudan (Eastbourne: Sussex Academic Press، 2011)،42.
8- جون قرنق: رؤية السودان الجديد، قضايا الوحدة والهوية، تحرير وترجمة الواثق كمير (القاهرة: الشركة الإعلامية للطباعة والنشر "ستامبا"، 1998 )، 39.
9 http://www.usip.org/publications/pathway-national-dialogue-in-sudan  Pathway for national dialogue in Sudan By: Jon Temin and Princeton Lyman. Published : August 13, 2013.
10- عطا البطحاني: أزمة الحكم في السودان: أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة؟ (الخرطوم: مطبعة جامعة الخرطوم، 2011)، 309.

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب