المصدر (الجزيرة) |
ملخص يمثل المسلمون في كرواتيا أقلية لا تتجاوز نسبتها 1.5% من السكان (حوالي 62,977 لتعداد 2011)، لكنهم يشهدون نموًا ديمغرافيًا في مقابل تراجع عدد بقية السكان (4,284,889 بحسب تعداد 2011)، وينتمي 60% من مسلمي كرواتيا، من حيث أصولهم الإثنية، إلى القومية البوشناقية, وهي ثاني أكبر أقلية قومية في كرواتيا. شارك المسلمون في الدفاع عن كرواتيا بين عامي 1991- 1995 ضد الاعتداء الصربي، وركزوا بعد الحرب على تنميتهم الذاتية وتثبيت وضعهم القانوني. تعتبر الجمعية الإسلامية في كرواتيا المرجع الرسمي للمسلمين الكروات، نتيجة عقد أبرمته مع الحكومة الكرواتية، ينظم وجودهم ويحدد مسؤوليات الدولة تجاههم. من أهم التحديات التي يواجهها المسلمون كيفية الحفاظ -من جهة- على استقلال الجمعية الإسلامية في كرواتيا عن الجمعية الأم في البوسنة والهرسك، ليتمكن المسلمون الكروات من التفاوض مع السلطات على حل الإشكالات التي تعترضهم في بلدهم. مع الإصرار من جهة أخرى على الحفاظ على وجود رباط وثيق الصلة بالجمعية الأم، لوجود مخاوف -إذا ما استقلت تمامًا- من تراجع قوة الجمعية في كرواتيا وظهور جمعيات إسلامية أخرى موازية. يستطيع المسلمون في كرواتيا أن يلعبوا دورًا في تنشيط الصادرات الصناعية الكرواتية إلى أسواق الدول الإسلامية، وهذا سيفتح أمامهم فرص العمل في مؤسسات الدولة في مجال العلاقات الدولية، وهي وظائف حُرم منها المسلمون من غير الأصول الكرواتية حتى اليوم. |
إن وضع مسلمي كرواتيا يُعتبر جيدًا مقارنة بالأقليات المسلمة الأخرى التي تعيش في أوروبا، نظرًا لوجودهم المُنظم بقانون، ولمستوى اندماجهم الاجتماعي، وتأكيد مهنيتهم العالية كأفراد مشاركين في حياة المجتمع الكرواتي، رغم أنهم لا يمثلون سوى أقلية لا تتجاوز 1.5% فقط من مجموع سكان كرواتيا.
معطيات إحصائية
وفقًا للإحصاءات السكانية لسنوات 1991 ثم 2001 وصولاً إلى الإحصاء الأخير عام 2011، تشهد كرواتيا تراجعًا ديمغرافيا حادًا في عدد سكانها الإجمالي وفي مختلف أغلب الإحصاءات الفئوية.
يُمكن قراءة التراجع الديمغرافي المسجل عام 2001 بالعودة إلى العدد الإجمالي للسكان الذي كان يبلغ 4,437,460 نسمة، في حين كان يبلغ 4,785,265 عام 1991؛ ما يعني وجود تراجع بنسبة 7.27%، ويُمكن إرجاع هذا إلى النتائج طويلة المدى للحرب التي عاشتها كرواتيا خلال بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي.(1)
والملاحظ أنه حتى في ظل عقود من الاستقرار والسلم والنمو الاقتصادي، لاسيما عام 2011 سُجّل تراجع ديمغرافي حيث بلغ عدد السكان 4,284,889 نسمة، أي بتراجع نسبته 3.44% مقارنة بعام 2001؛ ما يؤشر بوضوح إلى وجود إشكالية ثقافية-حضارية عميقة يشهدها المجتمع الكرواتي، ويعاني من تأثيرات ما يُسمى بمرحلة التحول التي طرأت عليه. ويزداد الأمر فداحة إذا عرفنا أن الفئة العمرية الأكثر تأثرًا بهذا التراجع الديمغرافي هي فئة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 0 و19 عامًا، والذين سُجلت معدلات تراجع لأعدادهم بلغت 14.9% عام 2011 مقارنة بعام 2001.
إن معالجة آفاق تطور أية جماعة إثنية في كرواتيا لا يمكن إجراؤها إلا في إطار تأثير هذه النسب العالية لتراجع معدلات النمو الديمغرافي للمجتمع الكرواتي في مجمله.
النمو السكاني للمسلمين
رغم أنهم مجموعة قليلة العدد، فإن مسلمي كرواتيا يمثلون واحدة من المجموعات الإثنية القليلة التي عرفت نموًا ديمغرافيًا متواصلاً، كما تشير الإحصاءات. فبحسب الأرقام التي يقدمها الإحصاء السكاني لسنة 2011، بلغ عدد مسلمي كرواتيا 62,977 أي ما نسبته 1.47% من مجموع سكان كرواتيا، مسجلاً بذلك ارتفاعًا في النمو الديمغرافي وصل إلى 10.92% مقارنة بما كان عليه سنة 2001 عندما كان إجمالي المسلمين في كرواتيا 56,777 نسمة، أو ما كان يعادل حينها 1.28% من مجموع سكان البلاد.(2)
البوشناق: الأغلبية المسلمة
ينتمي 60% من مسلمي كرواتيا، من حيث أصولهم الإثنية، إلى القومية البوشناقية,(3) وتشكّل هذه الإثنية أكبر ثاني أقلية قومية في كرواتيا. تشمل هذه النسبة البوشناقيين الذين يعرّفون أنفسهم على أنهم مسلمون أو بوسنيون، في حين تبلغ نسبة من يعرّفون أنفسهم على أنهم كرواتيون 15% من مجموع المسلمين، وهي تقريبًا نفس النسبة التي يمثلها الألبانيون. وتحتل قومية الغجر الروما ضمن النسيج المجتمعي الكرواتي المسلم المرتبة الرابعة من حيث نسبة تمثيلها التي تبلغ 8%، في الوقت الذي تتوزع فيه الأقليات المسلمة الأخرى في كرواتيا بنسب ضعيفة بين المنتمين إلى القوميات العربية والتركية والفارسية وغيرها.
ربما يُفسّر ازدياد أعداد المسلمين في كرواتيا بأن أعدادًا من المهاجرين القادمين من البوسنة والهرسك، وغيرهم من المهاجرين من جمهوريات يوغسلافيا السابقة، قد حصلوا خلال العقد الماضي على الجنسية الكرواتية أو على حق الإقامة الدائمة بما يتجاوز التوقعات؛ إلا أن الحقيقة هي أن الإحصاء السكاني الأخير لعام 2011 أظهر أن 6733 بوسنيًا لم يحصلوا بعد على الجنسية الكرواتية، ويمكن تفسير ذلك في ضوء محاولات الاستيعاب والضغوط التي تمارسها بعض الأطراف الكرواتية على المسلمين ليتنازلوا عن ثقافتهم في مقابل تجنيسهم.
يعيش مسلمو كرواتيا اليوم موزعين على كل مدن كرواتيا تقريبًا، ويتركز وجود أغلبيتهم في المدن الصناعية والثقافية الكبرى مثل العاصمة الكرواتية زغرب ومدن رييكا وسيساك ودوبروفنيك وبولا.
دور المسلمين في كرواتيا
يحظى الإسلام في كرواتيا منذ عام 1916 باعتراف السلطات الرسمية، ويعود ذلك إلى تبني البرلمان الكرواتي قرار سلطات الإمبراطورية النمساوية-المجرية عام 1912؛ ومنذ ذلك التاريخ والجمعية الإسلامية في كرواتيا تعمل ضمن إطار مؤسسي متواصل.
لم تتعرض هوية الجمعية الإسلامية أو وحدتها منذ 1916 إلى أية تهديدات، ولم توجد أية مؤسسات موازية تجرأت على منازعتها سلطاتها أو شرعيتها ومشروعيتها المكتسبة.
حصل الاعتراف بالإسلام كدين رسمي في كرواتيا، بفضل استعمار الإمبراطورية النمساوية-المجرية للبوسنة والهرسك عام 1878 ثم بضمها إلى أراضي الإمبراطورية في العام 1908؛ حيث أصبح مسلمو البوسنة والهرسك، المعترف بهم من قبل سلطات الإمبراطورية، أولى الجماعات المسلمة المُعترف بها بصفتها الدينية في المجتمعات الأوروبية الحديثة.(4)
وقد عملت الإمبراطورية النمساوية-المجرية على احترام التقاليد التي نشأ عليها معتنقو الإسلام، وكذلك فعلت في تعاملها مع مسلمي كرواتيا؛ فوضعت الأسس القانونية لمأسسة الإسلام والاعتراف به كدين، وبذلك اكتسب مسلمو البوسنة والهرسك ومسلمو كرواتيا، حقوقهم المواطنية.
الحضور التاريخي للمسلمين
استمر المسلمون الكروات في الحفاظ على تقاليدهم في اتباع المذهب الحنفي الموروث عن الإمبراطورية العثمانية. وكان البوشناق قد شرعوا في الهجرة من كرواتيا بشكل مكثُف بحثًا عن فرص تعليم جامعي أفضل لأبنائهم، وعن فرص عمل تفتح أمامهم آفاقًا أوسع ليتمكنوا من العودة لاحقًا إلى كرواتيا، ويواصلوا تأكيد حضورهم التاريخي فيها -والذي يعود إلى حقبة العصور الوسطى- رغم محاولات طمسه قسرًا خلال القرن الثامن عشر.
سجّل وجود المسلمين في كرواتيا حضوره التاريخي قبل أن تعرف دول أوروبية أخرى هذا الدين ومعتنقيه على أراضيها، فضلاً عن أن مأسسة الإسلام ودرجة اندماج المسلمين في المجتمع الكرواتي كانت جلية الوضوح. ويكفي أن نستعرض لوائح المُسجلين على الدليل المهني ودليل الموسوعة الكرواتية لنلاحظ أن أفراد الجماعة البوشناقية أكثر تألقًا وبروزًا مهنيًا واجتماعيًا من المسلمين الألبانيين والغجر الروما. وعلى خلاف الأقليات المسلمة الأخرى في أوروبا، فإن البوشناق قريبون جدًا، على المستوى الثقافي، من كل الشعوب المجاورة لهم؛ فاللغة لا تختلف عمليا عن لغات الشعوب الجارة لهم، وتنتمي إلى الأصول الجنوب سلافية المشتركة، كما أن كل تلك الشعوب عاشت نفس التاريخ، وخضعت لسلطة إمبراطوريتين تختلفان كليًا حضاريًا وثقافيًا (الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية-المجرية)، وقد تركت تلكما الثقافتان آثارهما النسبية في حياة الشعبين البوشناقي والكرواتي.
يمثل القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بدء الحملات القسرية التي استهدفت وجود المسلمين في كرواتيا وقطعت استمرارية وجودهم التاريخي على مر عقود طويلة؛ فقد كانت أغلب المناطق الواقعة إلى الشرق والجنوب من دولة كرواتيا الحالية، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، تُشكّل جزءًا من إمارة البوسنة الخاضعة للباب العالي.
أما مسيحيو مناطق كرواتيا الشرقية والغربية، فقد كانوا يتمتعون بحماية حقوقهم الدينية والمؤسسية؛ وهو الأمر الذي أثّر بشكل مباشر وقوي خلال العصر الحديث على تطور مؤسساتهم الوطنية وعلاقتها بالمسيحية.
وفي مثل تلك الأجواء من التقارب الثقافي، كان من اليسير أن يُصبح الإسلام أهم مكونات الهوية القومية للبوشناقيين.
كانت زغرب، من بين عواصم جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق الأخرى، تمثل وجهة مثالية للمهاجرين البوشناقيين بما تُتيحه لهم من فرص عمل ودراسات جامعية، وبالتالي تفسح أمامهم مجالات واسعة لارتقائهم المهني وتأكيد دورهم في المجتمع الكرواتي، واستمرت زغرب جاذبة للبوشناق إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لهذه الأسباب، أصبحت مشاركة الأقلية البوشناقية في الحياة الحضرية والجامعية والصناعية في كرواتيا أكثر بروزًا وأعلى مستوى من المعدل العام المسجل في كرواتيا.
شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين كفاحًا سياسيًا لشعوب جنوب سلافيا من أجل تأكيد وجودهم ودورهم في المملكة اليوغسلافية التي كانت تحت حكم السلالة الصربية. البوشناق، من جانبهم وخاصة في كرواتيا، ساندوا نضال الشعب الكرواتي في تأكيد قوميته، وكانوا يفضلون زغرب على بلغراد من حيث الإقامة والعمل والدراسة، حيث كانوا يجدون ترحابًا بهم ويُعترف لهم بحقوقهم كاملة في المملكة اليوغسلافية.
إنكار مكتسبات وخصوصيات المسلمين، ومعارضة فكرة وحدة جمهورية البوسنة والهرسك الترابية لدى بعض الدوائر والقوى السياسية، قاد إلى صراع سياسي مع البوشناق، والذي بلغ ذروته عند تأسيس نظام "الأوستاشا" سنة 1941، ثم خلال الحرب الكرواتية-البوسنية عام 1993. (5)
لم تعرف الساحة السياسية الكرواتية على الإطلاق مشاركة بارزة للمسلمين فيها، على الرغم من وجود طاقات فردية مسلمة كفؤة. ولم يكن للمسلمين تحت أي نظام سياسي جماعات ضغط تُسندهم للوصول إلى مراتب قيادية تتيح لهم المشاركة في صنع القرارات السياسية، لكنهم كانوا يعملون بجد ومثابرة من أجل تقديم مستويات عالية من الكفاءة المهنية والوظيفية باعتبارها الضمانة الوحيدة لاستمرار وجودهم الاجتماعي. ونجد اليوم أن نسبة الموظفين من المسلمين في الدوائر الحكومية، وخاصة منهم أولئك الذين لا يعرّفون أنفسهم إثنيًا بأنهم كرواتيون، متدنية جدًا مقارنة بالنسبة العددية التي يمثلونها داخل المجتمع.
بعد مشاركتهم الفعلية، عسكريًا ومدنيًا في الدفاع عن كرواتيا، ومساندتهم لشعبها خلال الاعتداء الصربي بين 1991 إلى 1995، ركّز مسلمو كرواتيا اهتمامهم على تنميتهم الذاتية وتأسيس مؤسسات قومية بوشناقية، وانخرطوا في كفاح مستمر ينشدون اعترافًا كاملاً بحقوق أقليتهم وتثبيت وضعهم القانوني، وتحقيق اندماجهم الكامل في النسيج الاجتماعي الكرواتي.
أبرز مؤسسات مسلمي كرواتيا
تعتبر الجمعية الإسلامية في كرواتيا المرجع الرسمي للمسلمين الكروات، وعلى غرار أغلب الكنائس الكاثوليكية الرومانية، أبرمت عقدًا مع الحكومة الكرواتية حدد نسبة مساهمة الدولة في دعم التعليم الديني في المدارس والمجالس الإسلامية منذ استقلال كرواتيا، والذي يشمل آلاف الطلبة وعددًا من المرشدين الدينيين المتطوعين في صفوف الجيش والشرطة والمستشفيات والسجون.
مؤسسات سياسية واجتماعية أخرى
يعود تأكيد المشاركة البوشناقية في المشهد السياسي الكرواتي إلى حزب جبهة العمل الديمقراطية-فرع كرواتيا؛ والذي هو سليل الجبهة الأم التي تأسست في البوسنة عام 1990، ولفرع جبهة العمل الديمقراطية اليوم 19 مكتبًا في أنحاء كرواتيا.
يتركز النشاط السياسي لجبهة العمل الديمقراطية في كرواتيا على نقد السياسة الخارجية الكرواتية تجاه دولة البوسنة والهرسك في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي، وكذلك على تحقيق الاعتراف بالأقلية البوشناقية وتمكينها من جميع حقوقها بشكل يضمنه القانون.
-
تأسست جبهة العمل الديمقراطية في كرواتيا، والتي تُصنّف وفقًا لبرنامجها السياسي ضمن أحزاب يسار الوسط، عام 2008. وفي آخر انتخابات برلمانية لسنة 2011، أصبح رئيس جبهة العمل الديمقراطية، نجاد هودجيتش، نائبًا ممثلاً لخمس أقليات من جمهوريات يوغسلافيا السابقة، ورئيس كتلة النواب عن الأقليات القومية في كرواتيا. ولجبهة العمل الديموقراطية في كرواتيا اليوم 15 مقرًا فرعيًا.
-
يلعب منتدى "الصحوة" الاجتماعي البوشناقي في كرواتيا المؤسس سنة 1991، دورًا مهمًا في تأكيد المخزون الكبير لدى الفاعلين الثقافيين البوشناقيين وتشكيلهم مصدرًا ومعينًا مميزًا تنهل منه الثقافتان البوشناقية والكرواتية. ويضم منتدى "الصحوة"، إلى جانب خيرة المؤهلات والنخبة البوشناقية في كرواتيا، متعاونين من كرواتيا وباقي دول المنطقة. وينشط المنتدى في مجالات ثقافية متعددة منها النشر والتوزيع والمسرح والفنون الشعبية... إلخ.
-
تأسست الجمعية الوطنية البوشناقية في كرواتيا سنة 1993، وتضم 11 فرعًا، وتهدف إلى النضال من أجل حماية وتنمية حقوق المواطنين المنحدرين من القومية البوشناقية بصفتهم مواطنين كرواتيين كاملي الحقوق، وأيضًا بصفتهم جماعة أقلية. وتُصدر هذه الجمعية عددًا من الكتب والمجلات لأقلام بوشناقية.
-
تأسست رابطة "قدامى المحاربين حُماة الديار الكرواتية" عام 2000، وهي الرابطة الوحيدة المُمثلة للأقليات من قدامى المحاربين الذين قاتلوا دفاعًا عن استقلال كرواتيا. وفي العام 2012 افتُتحت، بالقرب من المركز الإسلامي في زغرب، حديقة يتوسطها نصب يخلّد أسماء من سقطوا قتلى دفاعًا عن استقلال وأمن كرواتيا من المحاربين البوشناقيين.
-
يضم ائتلاف الجمعيات البوشناقية في كرواتيا 23 جمعية بوشناقية ويُصدر دورية شهرية وينشط في مجال تنمية الفولكلور الشعبي ونشره في أوساط البوشناقيين المقيمين في كرواتيا.
يُعتبر المجلس الوطني للأقليات، الذي يُختار أعضاؤه في انتخابات محلية، جهة استشارية للسلطات المحلية في علاقتها مع الأقليات الإثنية وفقًا للتشريعات الأوروبية المقررة في هذا الشأن. ومن أهم إنجازات المجلس، مساهماته في جملة من البحوث والدراسات الاجتماعية-الثقافية التي كان موضوعها دراسة وضع البوشناق ومكانتهم في ما يُسمى بمسلمي مدينة زغرب.(6)
التحديات التي تواجه مسلمي كرواتيا
من التحديات الكبرى التي يواجهها مسلمو كرواتيا، تبرز مسألة الحفاظ على استمرار ووحدة واستقلالية الجمعية الإسلامية في كرواتيا، باعتبارها فرعًا أصيلاً من الجمعية الإسلامية الأم في البوسنة والهرسك.
هذه الاستقلالية -المطلوبة للحفاظ على وحدة واستمرارية نشاط الجمعية الإسلامية في كرواتيا- ستوضع تحت محك حقيقي عندما يتم تقديم مشروع الدستور الجديد (القانون الأساسي) المنظم لعمل الجمعية الإسلامية في البوسنة والهرسك، خاصة بعد حدوث تطورات وتغيرات جذرية أدت إلى إيجاد حقائق جديدة، وبروز أصحاب مصالح متضاربة خلال العقدين الماضيين.
لقد أدى تفكك الاتحاد اليوغسلافي، وحصول الجمهوريات المؤلفة له على استقلالها، ومن ثم سعي تلك الدول الجديدة إلى بناء وحدتها وتنفيذ مشاريعها الوطنية، أدى ذلك إلى اعتماد سياسات مختلفة من قبل كل دولة في كيفية تعاملها مع مواطنيها المسلمين، وتراوح ذلك التعاطي بين ارتكاب جرائم تصفية عرقية في حقهم، إلى فتح مجالات إدماجهم وتحقيق مطالبهم المشروعة.
مخاوف مشروعة وتفاؤل مبرر
قد يمكن تفهم تقلص عدد فروع الجمعية الإسلامية في البوسنة والهرسك بسبب الأوضاع التي شهدتها منطقة البلقان في فترة الحرب، لكن ما لا يمكن تقبله هو قرار الجمعية الإسلامية طويل المدى في سراييفو، بتأسيس جمعيات محلية في البوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا والسنجق ولكل الجماعات البوشناقية في المهجر، باستثناء صربيا والجبل الأسود وكوسوفو ومقدونيا، وقد تُؤدي هذه السياسة في الغالب إلى تهديد وحدة الجمعية الإسلامية.
ولا يخفى أن الجمعية الإسلامية في كرواتيا تجد نفسها في موقع حساس، لأن الاستقلال بشكل نهائي عن المركز في سراييفو ستكون له عواقب جد وخيمة إن حدث؛ إذ إن قوة الجمعية في كرواتيا ستتراجع دون دعم الجمعية الإسلامية الأم مما يُتخوف معه من ظهور جمعيات إسلامية موازية تكون تابعة أو خاضعة لإملاءات الدول الجارة، خدمة لأهداف تلك الدول السياسية والجيوستراتيجية، واستغلالاً وتوظيفًا للعوامل الإثنية وللتفاوت الاقتصادي بين فئات مسلمي كرواتيا؛ ومن ثم قد تتبعها محاولات دول أخرى من خارج البلقان، لتنفيذ سياساتها تحقيقًا لمصالحها المشتركة مع أطراف مسلمة محلية، وتصدير "نظرتها الخاصة للإسلام".
وقد يحل أيضا محل المستوى الراقي والمثالي من التنظم الذي تتبعه الجمعية الإسلامية في كرواتيا في معالجة قضايا المسلمين، مستوى آخر معقد من التشتت التنظيمي الذي تعمل ضمنه المنظمات الإسلامية الأوروبية. وقد بدأت تُسمع، في هذا السياق، انتقادات صادرة عن الدوائر الدبلوماسية في زغرب لمساندة الجمعية الإسلامية العلنية مشاركة كرواتيا في مشاريع حلف شمال الأطلسي.
من ناحية أخرى، هناك ما يدعو إلى التفاؤل بشأن قدرات الجمعية الإسلامية في كرواتيا على إعادة بناء وتوسعة حضور شبكة مؤسساتها في مختلف مناطق البلاد. كذلك هناك معطى إيجابي آخر يتمثل في طلب مسلمي المجر الالتحاق بمؤسسة الجمعية الإسلامية في البوسنة والهرسك؛ ما يعني أيضًا شكليًا، التحاقهم بالجمعية الإسلامية في كرواتيا.
وبما أن الجماعات المسلمة الأخرى التي تعيش في أوروبا الوسطى وفي جنوب شرق القارة الأوروبية قد عُرفت بمحورية ومركزية مؤسساتها الإسلامية، فإن هدف الجمعية الإسلامية في البوسنة والهرسك، يكمن عمليًا في أن يضمن دستورها تأسيس جمعية إسلامية إقليمية "عابرة للدول"، تكون قادرة، في سياقات الحقائق التاريخية والثقافية والحضارية المتاحة، وبفعل تنظيمها الدقيق وانفتاحها على محيطها، على تلبية مختلف احتياجات الجماعات المسلمة في وسط وجنوب شرق أوروبا، وتفتح الباب أمام استقلالية ذاتية واسعة للجمعيات الإسلامية المحلية العاملة في مختلف دول المنطقة.
خاتمة
إن الفهم العميق للأبعاد التاريخية والاجتماعية المتداخلة في تشكيل هوية مسلمي كرواتيا، يقودنا إلى التأكيد على أن مواصلة العمل على تأسيس منظمات بوشناقية/إسلامية أصيلة في كرواتيا، وتطويرها في أشكال مختلفة من جمعيات مدنية ونواد ومنتديات ستضمن بشكل دائم بقاء ونمو الجماعات المسلمة بمختلف انتماءاتها وتُنعش ثقافاتها.
وسيكون على الجمعية الإسلامية في كرواتيا من جانبها، أن تكافح حفاظًا على درجة الاستقلالية التي حققتها عن المركز في سراييفو؛ وذلك بهدف توفير أرضية تعاون مباشر مع الدولة الكرواتية سعيًا منها للتوصل إلى إيجاد حلول مقبولة لتسوية الإشكالات التي تعترض الجماعة البوشناقية في كرواتيا. وسيكون مطلوبًا أيضًا بذل مجهودات جبارة لتذليل العقبات وتقريب وجهات النظر للتوصل إلى صيغة اتفاق حكيم لا تُجبَر معه الجمعية الإسلامية في كرواتيا على الاستقلال الكامل عن الجمعية الإسلامية الأم في سراييفو.
ويجب التأكيد في هذا السياق، على أن الآمال التي يطمح إليها المسلمون في كرواتيا، لا يمكن تحقيقها دون التوصل إلى إمضاء مذكرة تفاهم ثنائي بين دولتي البوسنة والهرسك وكرواتيا، وتقديم سراييفو لجميع أنواع الدعم والمساندة لنشاطات الجمعية الإسلامية الثقافية والاجتماعية في كرواتيا، وهو دعم غائب في الحقيقة، خاصة في ظل الأوضاع المعقدة التي تمر بها البوسنة والهرسك، وفي ظل افتقاد سراييفو لرؤية واضحة تُحدد مجموعة من المبادئ تُوجه مسلمي الخارج وتحثهم على احترام التزاماتهم الوطنية.
ومن الضروري أيضًا تكثيف النشاطات ومضاعفة الجهود المتعلقة بتأسيس كلية العلوم الإسلامية واللغة العربية في العاصمة زغرب، التي ستساعد في تكوين كفاءات عالية تحتاجها الجمعية الإسلامية في تطوير وتحديث عملها، كما ستساعد تلك الكفاءات في تنمية وتنويع العلاقات الدبلوماسية لدولة كرواتيا مع دول العالم الإسلامي. خاصة وأنه من المؤمل أن يلعب مسلمو كرواتيا في المستقبل المنظور دورًا لا يمكن تجاوزه في محاولة إعادة نشاط الصادرات الصناعية الكرواتية إلى أسواق الدول الإسلامية.
إن إيجاد فضاء سياسي واقتصادي مثل هذا يدفع بالمسلمين في كرواتيا إلى النضال من أجل توفير فرص عمل تستوعب الطاقات المسلمة وتُوظفها في قيادة بعض المشاريع، وتفتح أمامهم فرص العمل في مؤسسات الدولة وفي الدوائر الحكومية الناشطة في مجال العلاقات الدولية، وهي وظائف حُرم منها المسلمون من غير الأصول الكرواتية حتى اليوم.
____________________________________________
سناد نانيتش - باحث في التاريخ والحضارة، رئيس المنتدى الثقافي البوشناقي "الصحوة" في زغرب، كرواتيا.
ترجم النص إلى العربية كريم الماجري – باحث وإعلامي تونسي
الهوامش
(1) التعداد السكاني وفقًا للجنسية والانتماء العرقي واللغة الأم والدين، تعداد السكان،31 مارس/آذار 2001، زغرب: المعهد الوطني للإحصاء، 2003.
(2) سجلت معدلات النمو الديمغرافي في صفوف مسلمي كرواتيا قفزات ملحوظة على امتداد القرن العشرين، حيث كان إجمالي عدد المسلمين المقيمين بشكل دائم في كرواتيا بالكاد يبلغ 3.145، ليرتفع في العام 1931 إلى 4.750 نسمة. وبحسب إحصاءات عام 1991 كان عدد المسلمين لا يتجاوز 54.814 أو ما يعادل 1,15% فقط من مجموع السكان قبل أن يسجل نموًا متزايدًا. لمزيد من الإحصاءات عن التعداد السكاني التفصيلي في كرواتيا وفقًا للقوميات والانتماء الديني والسن والجنس، وما إلى ذلك لعام 2011، يمكن الاطلاع على: http://www.dzs.hr /
(3) وهو الوصف الذي اختاره مسلمو البوسنة والهرسك لتمييزهم عن القوميات الأخرى، ويعني وصف البوشناق عادة أن الموصوف به مسلم.
(4) نانيتش، أ: الأقليات في نظر القانون، وضع الأقليات الوطنية في دولة كرواتيا: دراسة حالة البوشناق في ضوء القانون الدستوري الكرواتي، زغرب: الجمعية الثقافية البوشناقية في كرواتيا، 2012.
(5) إماموفيتش، م: الأوضاع الداخلية والتطور السياسي للبوسنة والهرسك من 1878 إلى 1914، سراييفو: سفيتلوست، 1976.
(6) حسانبيغوفيتش، ز: الجمعية الإسلامية في زغرب بين 1918-1945، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة سفي أوتشليتشي في زغرب، كلية الفلسفة، زغرب 2005.
المراجع
• تعداد السكان،31 مارس/آذار 2001، زغرب: المعهد الوطني للإحصاء، 2003.
Stanovništvo prema dr?avljanstvu, narodnosti, materinskom jeziku i vjeri, Popis stanovništva, ku?anstava i stanova 31. o?ujka 2001., Zagreb: Dr?avni zavod za statistiku, 2003.
• تشيليبي، أ: مذكرات رحلة في الجمهوريات اليوغسلافية، ترجمة وتعليق، حازم شعبانوفيتش، سراييفو، صادر عن دار النشر: فسلين ماسايشا 1979، وعنوان المصدر الأصلي:
?elebi, E., Putopis – odlomci o jugoslavenskim zemljama, prijevod i komentar ŠABANOVI? Hazim, Sarajevo: IRO Veselin Masleša, 1979., naslov izvornika: Evliya Çelebi Seyahatnames?, Istanbul: 1896.-1900.
• حسانبيغوفيتش، ز: المسلمون في زغرب 1878-1945: فترة تأسيس الوجود، مجلس الجمعية الإسلامية في زغرب، زغرب 2007.
Hasanbegovi?, Z., Muslimani u Zagrebu 1878.-1945. – doba utemeljenja, Zagreb: Med?lis Islamske zajednice u Zagrebu, 2007.
• مواتشانين، ن؛ تركيا - كرواتيا، زغرب: أصل كرواتيا التراثي، 1999.
Moa?anin, N., Turska Hrvatska, Zagreb: Matica hrvatska, 1999.
• نانيتش، س: المونولوج المتعدد، زغرب: الجمعية الثقافية البوشناقية في كرواتيا، 2011.
Nani?, S., Multimonolog, Zagreb: Kulturno društvo Bošnjaka Hrvatske Preporod, 2011.
• عمر باشيتش، م: الإسلام والمسلمون في كرواتيا، زغرب: مشيخة الجمعية الإسلامية في كرواتيا، 1999.
Omerbaši?, M., Islam i muslimani u Hrvatskoj, Zagreb: Mešihat Islamske zajednice u Hrvatskoj, 1999.
• نانيتش أمينة: الأقليات في نظر القانون، وضع الأقليات الوطنية في دولة كرواتيا. دراسة حالة البوشناق في ضوء القانون الدستوري الكرواتي، زغرب: الجمعية الثقافية البوشناقية في كرواتيا، 2012.
Nani?, A., Manjine u pravu – Ustavnopravni polo?aj nacionalnih manjina u Republici Hrvatskoj s posebnim
osvrtom na Bošnjake, Zagreb: Kulturno društvo Bošnjaka Hrvatske Preporod, 2012.
• إماموفيتش،م: الأوضاع الداخلية والتطوّر السياسي للبوسنة والهرسك من 1878 إلى 1914، سراييفو : سفيتلوست، 1976.
Imamovi?, M., Pravni polo?aj i unutrašnji politi?ki razvitak Bosne i Hercegovine od 1878. do 1914., Sarajevo: Svjetlost, 1976.
عودة للصفحة الرئيسية للملف |