واقع البحث العلمي في الجامعات العربية

تعجز كل دولة عربية لوحدها عن القيام بالمهمة الملقاة على جامعاتها، مهما كانت إمكاناتها، فالوطن العربي بحاجة إلى مشروع نهضوي ذي إستراتيجية تعليمية وبحثية مشتركة، وإلى مؤسسة عربية تتابع على التطبيق والتنفيذ والإشراف







عبد العزيز المقالح



يمكن لنا أن نتحدث، وربما قد يطول هذا الحديث عن الأوضاع غير السوية التي تعاني منها الجامعات العربية، وعن هزال المناهج المتبعة، وتخلف أساليب التدريس، كما يمكن لنا أن نتحدث، ونطيل الحديث أيضاً عن تدني ميزانيات غالبية الجامعات العربية، وعدم توفر المال اللازم لتغطية الاحتياجات اليومية؛ فضلاً عن تغطية احتياجات البحث العلمي. مع ذلك كله لا يستطيع أحد أن ينكر، أن في هذه الجامعات عشرات، وربما مئات من الباحثين والعلماء الذين يحاولون تحدي هذا الواقع الجامعي المؤسف، ويفاجئون أنفسهم وجامعاتهم كل عام بقائمة من الأبحاث، التي لا ترى النور. وأعرف زملاء كثيرين من تخصصات مختلفة، مضت سنوات على إنجاز رسائلهم العلمية ولم تجد هذه الرسائل طريقها إلى النشر بعد، على الرغم من وجود هذا الكم الهائل من دور النشر العربية، التي تبحث عن الهابط والرديء من الكتابات، التي تتناسب مع العقلية السائدة، والواقعة تحت وطأة التخلف والخرافة، تلك التي تستسلم لمخرجات الوعي الزائف، وما ينتج عنه من أساليب التضليل والإقناع السطحي.


الأبحاث العلمية العربية.. تزايد مطرد
البحث العلمي آخر ما تفكر فيه الأنظمة العربية
هجرة الأدمغة العربية
تجارب مريرة


الأبحاث العلمية العربية.. تزايد مطرد






المشكلة ليست في غياب البحث العلمي في الجامعات العربية وإنما في غياب الدوافع الحقيقية والرغبة الصادقة في الاستفادة منها فالأبحاث النظرية ما فتئت تشكو غياب الاهتمام الحقيقي بالجهد والعلم، وتبكي السنوات الطوال التي بذلت فيهاوتبقى نائمة في أدراج الكليات، أو في منازل أصحابها


إني لأخالف كل الأقوال السائدة، والمسلمات الشائعة عن غياب البحث العلمي في الأقطار العربية، وسأحاول أن أثبت أن الأبحاث العلمية منذ مطلع القرن العشرين، وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين -بغض النظر عن دور الجامعات- في تزايد، وإن كان أغلب تلك الأبحاث في الجانب النظري. ولو استعرضنا عدد الرسائل الجامعية (ماجستير ودكتوراه، وهي أبحاث علمية) لأدركتنا حالة من الدهشة، ولتكن لنا من أوراقها إذا ما تكومت مدينة مترامية الأطراف. والسؤال أو بالأحرى الأسئلة التي ينبغي أن تطرح، ولا نمل جميعاً من طرحها هي: ما مصير هذه الأبحاث، وألا يوجد فيها ما هو جدير بالتطبيق ولو بنسبة 5%؟، ثم هل هناك في حكوماتنا الموقرة مؤسسات تتابع ما يتم إنجازه من أبحاث في مجال العلوم والآداب والاقتصاد، وتسعى إلى وضع الصالح منه والمفيد موضع التنفيذ؟

قد يقول البعض إن أكثر الأبحاث الجامعية تتم على المستوى النظري، وهذا صحيح، لكن أليس هناك عشرات الكليات العلمية، يصدر عنها في كل عام عشرات الأبحاث المتخصصة سواء في الهندسة أو الزراعة أو الطب أو الفيزياء.. إلخ. من المؤكد ، كغيرها من الأبحاث النظرية، نائمة في أدراج الكليات، أو في منازل أصحابها تشكو غياب الاهتمام الحقيقي بالجهد والعلم، وتبكي السنوات الطوال التي بذلت فيها. المشكلة إذاً، ليست في غياب البحث العلمي، وإنما في غياب الدوافع الحقيقية والرغبة الصادقة في الاستفادة من الأبحاث العلمية، ومن جهد العلماء العرب في مختلف التخصصات، وهو الأمر الذي يدفع بعضهم إلى الهجرة والاستقرار في الخارج حيث يتم الاستفادة من جهودهم العلمية، وحيث تتوفر المزيد من وسائل تعميق هذه البحوث، والإنفاق عليها بسخاء.


لهذا لا نستطيع أن نقول إن البحث العلمي في الأقطار العربية معدوم أو متوقف. ولا أتفق مع تلك الأصوات التي ترتفع من هنا وهناك ناعية غياب الجهود العلمية وضمور البحث العلمي. الأبحاث العلمية حاضرة وموجودة، لكن التطبيق هو الغائب، والاستفادة مما يتم إنجازه، ولو في إطار محدود هو ما نفتقده، وما تنشره المجلات العلمية المحكمة في الجامعات العربية، وفي المجلات غير الجامعية من أبحاث سديدة، لا تجد أدنى اهتمام، لأن الأمة المنصرفة بكامل طاقتها للعمل السياسي، لا تجد وقتاً للنظر في هذه الأبحاث، ويكاد لا يعنيها من قريب أو بعيد تقدم أو تعثر البحث العلمي. هذه هي الحقيقة المـُرَّة التي يجب أن نصارح بها أنفسنا، ولا نقبل إخفاءها تحت أي ظرف أو مناسبة. وما دامت السياسة، في الوطن العربي تأكل أوقات الناس وأموالهم واهتماماتهم، فلا أمل يُذكر -سواء على المدى القريب أو البعيد- في إعطاء البحث العلمي ما يستحقه من رعاية ومخصصات، قد تساعد الباحثين والعلماء على إظهار مواهبهم، وخلاصة تجاربهم.


ويتبين من هنا بوضوح، حقيقة أن البحث العلمي ليس ما ينقص الوطن العربي، وإنما التنظيم والأخذ بأساليب التطور وأسبابه، ورفض الاكتفاء بما يقدمه لنا الآخر من إنتاجه الغذائي والصناعي والمعرفي، والاعتماد على استيراد كل شيء ابتداء من الإبرة إلى الصاروخ ، ومن الرغيف إلى الماء المعلب. وهنا، أكرر القول بأن الواجب يدعونا إلى أن نكون على درجة عالية من الصراحة، وأن نواجه أنفسنا بالحقائق، وإن كانت مؤلمة ومريرة وإذا أردنا البدء في التغيير ينبغي أن لا نغضب أو نثور إذا قيل عنا إننا أمة مكوّنة من مجموعات من الكسالى والعجزة، نريد أن ننام في دعة ونصحو، فنرى كل شيء في انتظارنا من السيارة اليابانية إلى الثلاجة البريطانية، ومن الجبنة الهولندية إلى الثوم الصيني!


البحث العلمي آخر ما تفكر فيه الأنظمة العربية





أبسط استنتاج يؤكد لنا أن الوطن العربي لم يكن في يوم من الأيام ضعيفاً في قدراته الاقتصادية، ولا في قدراته العلمية، لكن ضعفه الحقيقي يتجلى في التمزق السائد بين أبنائه، ثم في الجهل بتقدير ما يمتلكه هذا الوطن من مقومات مادية وروحية، وكوادر قادرة على إثبات كفاءتها والتفوق على أمثالها في أكثر أقطار العالم المعاصر تقدماً وتركيزاً على المقاربات العلمية
إذا كان ما تمت الإشارة إليه بعض حالنا قبل العولمة فإنه سيبدو أو سيغدو بعد العولمة أكثر سوءاً أو أشد بؤساً. وكان لزاماً علينا منذ وقت مبكر أن ندرك أن البحث العلمي ليس ترفاً ذهنياً، وأن إنشاء الجامعات ومراكز البحوث ليس الغرض منه إظهار الزينة والتظاهر الكاذب بالتحديث، والأخذ الشكلي بأسباب النهوض المرجو، وأن البحث العلمي ضرورة تقتضيها مصالح الشعوب، وحاجتها إلى امتلاك مقومات التطور ووسائل المعرفة الشاملة، وما نتج عن هذه وتلك من امتلاك لمعايير القوة الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا كانت الجامعات العربية قد وصلت من حيث الكم والعدد إلى خانة المئات، وما يسمى بمراكز البحوث قد وصل إلى خانة الألوف، فإن أوضاعنا لم تتغير واحتياجنا إلى الآخر يزيد. وسؤال ما فائدة هذا العدد من الجامعات، وهذا العدد من مراكز البحوث سوف يتكرر، ولا ولن يتوقف حتى تثبت هذه المؤسسات وجودها وكفاءتها؟!


هل أقول إن أمتنا العربية بحاجة إلى مشروع نهوض حقيقي، يكون البحث العلمي القابل للتطبيق جزءاً من مفردات نهوضها، وهل أرفع صوتي عالياً في مطالبة الأنظمة العربية بأن تبدأ البحث والتقصي في أدراج وزارتها ومكتبات جامعاتها، عن آلاف الأبحاث العلمية المجمدة والمهملة والنائمة على الأرفف، وفيها ما يشكل مداخل منهجية كاملة التجهيز لولوج أبواب التغيير الملحّ والمطلوب؟ وهل أرفع مستوى الصراحة فأقول: إن البحث العلمي -رغم ما يقال عنه رسمياً في المناسبات- هو آخر ما تفكر فيه الأنظمة العربية، التي تشغلها هموم الحكم وأحزانه عن كل ما من شأنه أن يساعد قانون الحركة والتغيير في بنيان الحياة التي تتغير من الخارج وفي الظاهر فقط؟!


ولعل أبسط استنتاج يؤكد لنا أن الوطن العربي لم يكن في يوم من الأيام ضعيفاً في قدراته الاقتصادية، ولا في قدراته العلمية، لكن ضعفه الحقيقي يتجلى في التمزق السائد بين أبنائه، ثم في الجهل بتقدير ما يمتلكه هذا الوطن من مقومات مادية وروحية، وكوادر قادرة على إثبات كفاءتها والتفوق على أمثالها في أكثر أقطار العالم المعاصر تقدماً وتركيزاً على المقاربات العلمية، وأن كثيراً مما يقال عن التخلف في مجال البحث العلمي يعكس حالة من فقدان الإحساس بالحياة والعجز عن مواجهة الإشكاليات، التي تقف في وجه كل محاولة جادة لتحرير العقل العربي من حالات الإهمال والاعتماد الكلي على الآخر، والنظر بكل ازدراء وشك إلى كل إنجاز يقوم به الباحثون العرب.


والسؤال المهم بعد كل ما سبق هو، لماذا نحرص على أن يكون للعرب نشاط علمي وأبحاث تتفق مع حاجتهم إلى مغادرة حالة التخلف؟ وإذا ما تواصل النشاط البحثي، فإلى أين تذهب الأبحاث وفي أي مكان تستقر؟ وهل ستجد من يحاول مجرد محاولة وضعها في نطاق التطبيق؟ يضاف إلى ذلك أن الصلة مقطوعة بين الجامعات ومواقع الاستفادة من أنشطتها المختلفة، فالوزارات العربية، وهي مواقع تنفيذ وحقول تطبيق لا علاقة تذكر بينها وبين الجامعات، ونادراً ما تطلب وزارة ما، أو مؤسسة بحثاً في موضوع من الموضوعات الملحة والطارئة لذلك، وبسبب هذا الانقطاع بين الجامعات والواقع أصبحت مهمتها مقصورة على تخريج أرتال من الكتبة، وحملة الشهادات الكاسدة في سوق الحياة وسوق العمل على حدٍ سواء. فهل اتضحت الصورة وتبيَّنت مواطن الخلل في حياتنا العلمية والعملية؟


إنني بهذه الإشارات لا أدافع عن الجامعات العربية ومراكز البحوث، ولا أزكي دورها في مجال البحث العلمي، وأعلم جيداً ما تعانيه من خلل شديد، فضلاً عن أن ميزانية عشرات الجامعات العربية لا تساوي ميزانية جامعة أمريكية واحدة، وأن ما ينفق في جامعاتنا العربية كلها على البحث العلمي لا يساوي شيئاً، ورغم ذلك، فإن غالبية هذه الجامعات استطاعت أن تقدم أبحاثاً بالغة الأهمية، وأخرجت إلى الوجود مجموعة من الباحثين المتخصصين الذين صرفوا جزءاً من أعمارهم، أو أعمارهم كلها في إعداد أبحاث على درجة عالية من الدقة والموضوعية، وإن ذهبت أدراج الرياح ولم يسمع بها ولا عنهم أحد في هذا الوطن الكبير، الذي يشكو ويئن تحت وطأة الجهل المركب، والادعاء الكاذب بالسعي الحثيث نحو امتلاك آليات التطور ومقوماته الحديثة.


هجرة الأدمغة العربية


من الأسئلة الصارخة التي كانت وما فتئت تتردد في جنبات الوطن العربي، تلك التي تتساءل عن آلاف العلماء الذين يقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية وفي غيرها من بلدان الغرب، ولماذا لا يعودون إلى ديارهم ويضعوا خبراتهم في خدمة أوطانهم، وهي أسئلة تصطدم بإجابات غاية في الألم. وبعض هذه الإجابات تشير إلى عشرات من الباحثين والعلماء الذين عادوا إلى أقطارهم العربية، ليتلقاهم الروتين الحكومي بقواعده الجامدة، وإحباطاته التي نجحت في تجميد أنشطتهم العلمية، وأحالتهم إلى إدارات ومؤسسات ميتة، وبعيدة كل البعد عن مجال اختصاصاتهم. وفي مذكرات العالمين المصريين فاروق الباز وأحمد زويل ما يكفي للتدليل على بشاعة الظروف الطاردة لعلماء الأمة وباحثيها المتميزين، وإثبات عدم الرغبة الرسمية في الاستفادة من العلماء العرب والانتفاع بمواهبهم.


وفي هذا ما يؤكد استحالة التوفيق بين المناخ اللاعلمي الذي يخيم على الجامعات العربية وطلائع العلماء العرب، الذين وجدوا لدى الآخرين من التقدير ومن التسهيلات ما شجعهم على مواصلة أبحاثهم، والخروج بها إلى حيز التنفيذ، بعيداً عن الروتين الساحق الماحق، وفي منأى عن أعداء النجاح، وما أكثرهم في أقطارنا العربية، وبعضهم يتبوأ مراكز عالية وذات نفوذ في الدولة، ولا عمل لهم سوى نشر الإحباط في الأوساط العلمية، وتطفيش المواهب ووأد كل إنجاز من شأنه أن يحقق انتصاراً ولو جزئياً في أي منحى من مناحي الحياة. وكم قيل عن مدن علمية عربية يجتمع فيها شتات العلماء العرب المهاجرين خارج أوطانهم، وتحويلها إلى مدن نموذجية للبحث العلمي، ودراسة الأسباب الكامنة وراء أبدية التخلف العربي، وتمر الأيام والأعوام، ولا يرى الناس أو يسمعون شيئاً عن تلك المدن الموعودة .


وتأسيساً على ما سبق، سأحاول أن أقدم مثالاً محسوساً من واقع بلادي اليمن، فمنذ بداية السبعينيات من القرن الماضي والهضبة الجبلية من البلاد بما فيها من مدن وقرى وحقول، تتعرض لنضوب المياه الجوفية نتيجة التوسع السكاني في المدن، وتغير المناخ وما رافق هذا التغير المتسارع من قلة في هبوط الأمطار الموسمية، وقد ظهرت على مدى الثلاثين عاماً الماضية عشرات الدراسات والأبحاث العلمية التي تتناول المشكلة، وتدعو إلى وضع حد لاستنـزاف المياه الجوفية، واقتراح نظام لترشيد الاستهلاك، ومنع الحَفْر العشوائي للآبار، لكن المختصين تجاهلوا تلك الدراسات والأبحاث إلى أن بلغت الخطورة حدها الأقصى، وباتت تهدد المدن الكبرى بالعطش ومنها العاصمة صنعاء. ولو أخذ المسؤولون ببعض ما جاء في تلك الأبحاث العلمية لما وصلت الحال إلى ما وصلت إليه.


تجارب مريرة





كل قطر عربي لوحده أعجز من أن يقوم بالمهمة الملقاة على جامعاته، مهما كان له من الإمكانات، أو أن ينجح في تنفيذ بعض ما تضمنته الأبحاث المنجزة أو التي سوف تنجز من التصورات والمقترحات
ولا يخرج عن موضوعنا ذلك الحديث الحزين الذي أسرَّ به لي أستاذ جامعي مرموق ينتمي إلى إحدى كليات العلوم العربية، وأوضح فيه أنه أمضى أربعين عاماً في كتابة أبحاثه العلمية التي بلغت أكثر من مائة بحث، معظمها إن لم تكن كلها، منشورة في أهم المجلات العلمية في الولايات المتحدة وبريطانيا، ونال على بعضها عدداً من الجوائز. والمحزن بالنسبة له، ولا بد أن يكون محزناً بالنسبة لنا أيضاً، أن كل هذه الأبحاث تمت على نفقته وحسابه الخاص، وأن الجامعة التي ينتمي إليها أو الدولة التي هو واحد من رعاياها لم تمده بفلس واحد. وهذه هي الصورة النمطية التي تتخذها كل الجامعات العربية تقريباً تجاه المتميزين من علمائها، والباحثين الجادين في رحابها.

ويقابل هذه الصورة النمطية صورة أخرى يرسمها الأستاذ المرموق نفسه عن سنة تفرغ أمضاها في بلد يختلف في مستوى جامعاته، وفي رعايته للأساتذة والباحثين من أبنائه وغير أبنائه، وفي عام التفرغ –كما يقول- استطاع أن يقوم بإعداد مجموعة أبحاث على درجة عالية من الأهمية، وبمساعدة سخية من الجامعة التي استضافته أستاذاً زائراً، وفتحت له مكتباتها ومعاملها لينجز ما لم ينجزه في سنوات. وعندما رجع إلى وطنه بعد تلك الإجازة العلمية أدرك أبعاد الهوة السحيقة التي تفصلنا عن الآخر أو بالأصح الآخرين . وكيف يصنع الجهل حالة من الاكتفاء الوهمي والادعاء بأن كل شيء على ما يرام.


وكثيرٌ هم العلماء العرب الذين يحتفظون بمثل هذه الحكايات الحزينة عن معاناتهم عند إعداد أبحاثهم العلمية، ومنهم أولئك الذين يحاولون التكيف مع واقعهم الذي يفتقر إلى كل شيء يتصل بوسائل البحث العلمي بعد عودتهم من الابتعاث إلى الخارج، وبعد تمتعهم المؤقت بكل ما يتوفر لزملائهم الأجانب من وسائل تدفع بهم دفعاً إلى القيام بواجباتهم العلمية. وبعض هؤلاء يقطعون صلتهم بالبحث العلمي، ويختارون طريقاً لا يلتقي مع تخصصاتهم وطموحاتهم الأولى، وهو طريق الانتماء السياسي على أمل أن يحققوا لأشخاصهم من خلاله ما فشلوا في تحقيقه علمياً، وتكون الجامعات بذلك قد فقدت الكثير من الكفاءات المتخصصة التي خسرتها معامل العلوم، ولن تستفيد منها مكاتب السياسة، لأنه من المؤكد أن بلداً يفشل فيه رجال العلم من المحتم أن يفشل فيه رجال السياسة.


وأخيراً، أكرر مؤكداً على ما سبقت الإشارة إليه عن حاجة الوطن العربي إلى مشروع نهضوي واحد، وإلى إستراتيجية تعليمية وبحثية مشتركة، وإلى مؤسسة عربية تتابع على التطبيق والتنفيذ والإشراف، وإلى ما هو أهم، وهو الإيمان بأن قطراً واحداً من أقطار هذه الأمة سيكون على الدوام أعجز من أن يقوم بالمهمة الملقاة على جامعاته، مهما كان له من الإمكانات، أو أن ينجح في تنفيذ بعض ما تضمنته الأبحاث المنجزة أو التي سوف تنجز من التصورات والمقترحات . ولا أنسى في السطور الأخيرة من هذا المقال أن أتساءل: هل نريد حقاً جامعات متقدمة وبحثاً علمياً تتوفر له كل شروط البحث الحديث ووسائله؟ إذا كان ذلك ما نريده، فما علينا إلاَّ أن نتغير، وأن نوثق صلتنا بالعصر ومقوماته، وأن نظل على صلة وثيقة بينابيع المعرفة العربية، وأدوارها التاريخية حتى لا نكون ضحايا للاغتراب أو الاستلاب، أو كلاهما معاً.


وعلينا كذلك، أن نضع نصب أعيننا تجارب الأمم الأخرى، ولتكن في المقدمة منها تلك التي كانت إلى وقت قريب تعاني مثلنا من حالة التخلف الشامل، فإذا بها فجأة تحقق قفزة حضارية على كل المستويات، وبعد أن كانت من الدول المستهلكة المستوردة صارت من الدول المنتجة والمصدِّرة، ودخلت نادي الأغنياء والصناعيين من أوسع الأبواب.