الملفات الساخنة في العلاقات اليابانية الصينية

تعاني الصين واليابان من مخاوف متبادلة، وتقدر طوكيو أن الإنفاق العسكري الصيني تضاعف ثلاثين مرة ما جعل نظرية "الخطر الصيني" يتصدر اهتماماتها. وتتخوف الصين من نجاح الحكومة اليابانية الجديدة في مساعيها لتغيير الدستور السلمي للبلاد فتعيد تسليح نفسها وتصبح قوة عسكرية عظمى.
c07ee997c12a48be8bac0134cd6abc6c_18.jpg
تقدر طوكيو أن الإنفاق العسكري الصيني تضاعف ثلاثين مرة ما جعل نظرية "الخطر الصيني" يتصدر اهتماماتها. وتتخوف الصين من نجاح الحكومة اليابانية الجديدة في مساعيها لتغيير الدستور السلمي للبلاد فتعيد تسليح نفسها وتصبح قوة عسكرية عظمى (الجزيرة)

شهدت العلاقات الصينية-اليابانية تغيرات عميقة منذ تطبيع العلاقات بينهما سنة 1972 برعاية أميركية. وقد تعرضت هذه العلاقات لهزات كثيرة مع بداية القرن الحادي والعشرين. وأدى تجدد النزاع على جزر سنكاكو/دياويو الواقعة في بحر الصين الشرقي إلى صعود الخلافات بين البلدين إلى الواجهة. وبالرغم من التوتر الكبير الذي يطبع العلاقات بين البلدين على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، فإن العلاقات الاقتصادية بينهما ما زالت متينة، بعد ارتفاع الحجم التجاري والزيادة الكبيرة في الاستثمارات بين البلدين.

أما على الصعيد العسكري فيسود مناخ من عدم الثقة بين الجارين؛ ذلك أن اليابان تعبّر باستمرار عن مخاوفها من عمليات التحديث الواسعة التي تجريها الصين الشعبية على جيشها ومستويات الإنفاق العسكري العالية. في حين تتوجس الصين من احتمال تخلي اليابان عن توجهاتها السلمية التي اتبعتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتُعيد تسليح نفسها من جديد.

في أسس العلاقات بين البلدين: ترابط اقتصادي وتنافس عسكري

علاقات اقتصادية وتجارية مترابطة
اتبعت الصين منذ أواخر القرن الماضي إستراتيجية آسيوية تعتمد على التعاون الاقتصادي والابتعاد عن التنافس الإستراتيجي والمواجهة مع جيرانها. وكان الهدف من ذلك هو الحفاظ على مناخ إقليمي ودولي سلمي ومستقر يسمح لها بالتركيز على مشاكلها الداخلية ومواصلة نموها الاقتصادي، ويسمح أيضًا بتدفق رؤوس الأموال والسلع بينها وبين شركائها. وهكذا خلقت الصين مجالاً اقتصاديًا تقوم فيه بالدور المحوري، وكنتيجة لذلك تطورت العلاقة الاقتصادية بين الصين واليابان بشكل كبير خلال العقد الماضي. وبحلول سنة 2007، أصبحت الصين أكبر شريك اقتصادي لليابان، وفي سنة 2011 بلغ الحجم التجاري بينهما حوالي 345 مليار دولار، أي ما يعادل 9% من التجارة الخارجية للصين، و21% من الحجم التجاري الكلي لليابان(1)، ويزيد حجم الاستثمارات اليابانية في الصين عن 12 مليار دولار سنة 2011، أي ما يعادل 11% من الاستثمارات اليابانية في الخارج(2)، ليصل حجم الاستثمارات اليابانية المتراكمة في الصين منذ 1996 إلى 83 مليار دولار.

ويدل هذا على أن العلاقة الاقتصادية بين البلدين أصبحت متداخلة ومتينة جدًا. وهكذا أصبح البلدان يعتمدان على بعضهما في الاستيراد والتصدير والاستثمار وخلق الفرص التنموية. وتستورد الصين المنتجات نصف المصنعة والآليات والمعدات عالية التكنولوجيا التي تُعتبر حيوية لقطاعها الصناعي وتمكنها من تصدير منتجاتها إلى الأسواق الخارجية خصوصًا أوروبا والولايات المتحدة. ونقلت الشركات اليابانية الصناعات التي تعتمد على اليد العاملة بكثرة إلى الصين لتجعل منها قاعدة صناعية للشركات اليابانية، وقد ساعدها ذلك كثيرًا في الحفاظ على تنافسيتها على المستوى العالمي. ويعمل ما يزيد عن 23,000 شركة يابانية في الصين وتوفر ما يزيد عن 10 ملايين فرصة عمل(3) . وتعتبر الصادرات إلى الصين مهمة بالنسبة لليابان التي عانت من مشاكل اقتصادية كثيرة في العقدين الأخيرين؛ حيث توفر السوق الصينية، التي ستصبح أكبر سوق استهلاكية في العالم في غضون سنوات، سوقًا كبيرة جدًا للمنتجات اليابانية.

التنافس العسكري والمعضلة الأمنية بين البلدين
إذا كانت العلاقات الاقتصادية بين البلدين قد بلغت مستويات عليا من الترابط والتداخل، فإن السمات الأساسية للعلاقات بينهما على الصعيد العسكري هي التنافس وعدم الثقة وتشكيك كل طرف في نوايا الطرف الآخر، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود إرث من التوتر بين البلدين ناتج عن الماضي الاستعماري للإمبراطورية اليابانية الذي شمل معظم شرق آسيا.

فمنذ تسعينيات القرن الماضي، تسابق الصينُ الزمنَ لتطوير قدراتها العسكرية وخصوصا البحرية منها. وكان الهدف الأساسي المعلن من طرف الأوساط الرسمية الصينية هو حماية أمنها ووحدتها الترابية ومصالحها الحيوية وخطوطها البحرية وخطوط إمدادات الطاقة. وبعد حوالي عقدين من التحديث والتطوير أصبحت الصين أكبر قوة بحرية في آسيا، وتتوفر على ثلاثة أساطيل، هي: أساطيل البحر الشمالي والبحر الجنوبي والبحر الشرقي. وتملك الصين 27 مدمرة و51 فرقاطة و27 سفينة إنزال كبيرة و54 أخرى صغيرة، وأكثر من 200 قارب سريع. كما تملك الصين أسطولاً من الغواصات هو الأكبر في آسيا ويتكون من 8 إلى 10 غواصات تعمل بالطاقة النووية و48 تعمل بالديزل(4). وشملت عمليات التطوير أسلحة أخرى، مثل الصورايخ العابرة للقارات، والصورايخ المضادة للسفن وللغواصات، وأنظمة الاستطلاع البحري، وصورايخ أرض-جو، وطائرات من دون طيار. وتعمل الصين أيضًا على تطوير صناعاتها العسكرية الداخلية؛ حيث أدخلت الصين للخدمة طائرات متطورة محلية الصنع من نوع  جي10 ابتداء من 2006، لتتبعها بعد ذلك بنوع جي31 الشبح. وحققت الصين تقدمًا كبيرًا في الصناعات الفضائية بتطويرها لأقمار اصطناعية عسكرية تُستعمل للاتصالات والمراقبة والملاحة. كما طورت الصين صواريخ محلية مضادة للأقمار الاصطناعية ASAT. وفي سنة 2011 بدأت الصين في تجريب أول حاملة طائرات لها. وجاءت الورقة البيضاء للدفاع التي نُشرت في 2011 لتؤكد أن "القوة الوطنية الشاملة للصين قد دخلت مرحلة جديدة"، وأن الجيش الصيني حقّق تقدمًا كبيرًا بفعل عمليات التحديث الأخيرة. غير أن الصين تردد باستمرار أنها ملتزمة بنهج سياسة عسكرية دفاعية هدفها الأساسي حماية "صعودها السلمي" إلى مصاف القوى العظمى.

أدت هذه التطورات إلى إثارة الكثير من المخاوف لدى الجار الياباني الذي بدأ يتساءل عن نوايا الصين التي بنت إستراتيجيتها الآسيوية على أساس "التنمية السلمية"، لكنها تعمل على بناء قدراتها العسكرية بالتوازي مع ذلك؛ مما جعل نظرية "الخطر الصيني" تكتسب أهمية عند صنّاع القرار في اليابان، وترَسَّخت لديهم قناعة بأن الإنفاق العسكري الصيني سيتزايد مع نمو قوتها الاقتصادية. وعبّرت اليابان أيضًا عن مخاوفها من الإنفاق العسكري الصيني الذي ارتفع بشكل لافت في السنوات الأخيرة. وتقدّر اليابان أن الإنفاق العسكري الصيني تضاعف ثلاثين مرة خلال الأربع والعشرين سنة الماضية، وتجاوز في سنة 2011 حاجز المائة مليار دولار لأول مرة(5). وإذا استمر الإنفاق العسكري الصيني على هذه الوتيرة فإنه سيتجاوز نظيره الأميركي بحلول 2035(6).

ولمواجهة ما تعتبره تهديدًا صينيًا وتهديدات أمنية أخرى بدأت اليابان تعيد التفكير في دور قواتها العسكرية؛ فبعد التجربة الصاروخية التي قامت بها كوريا الشمالية عام 1998، بدأت اليابان في تطوير نظام الدفاع الصاروخي البالستي DMB بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية. وفي مارس/آذار من 2006، اختبرت اليابان بنجاح صاروخًا بحريًا اعتراضيًا متطورًا من نوع SM-3، وبالرغم من أن اليابان أعلنت أن هدفها هو التصدي للصواريخ الكورية الشمالية فإن هذه الأسلحة يمكن أن تحد من القدرة الصاروخية للصين(7).  وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أرسلت اليابان، في بادرة هي الأولى من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية، عددًا من أفراد الجيش الياباني (قوات الدفاع الذاتي) إلى أفغانستان والعراق، وبالرغم من أن دور هذه القوات لم يكن قتاليًا، إلا أن العديد من المراقبين رأوا فيه تغيرًا رمزيًا في العقيدة العسكرية اليابانية. وفي سنة 2009 أرسلت اليابان مدمرتين للمشاركة في محاربة القرصنة في خليج عدن، كما خففت اليابان مؤخرًا من الحظر الذي تفرضه على صادراتها العسكرية. وبالإضافة إلى ذلك فإن البحرية اليابانية ستتزود بمعدات قتالية مهمة أهمها طائرات الدورية البحرية من نوع "كاوازاكي بي-1"، وحاملة هيليكوبتر من نوع22DDH ، ومدمرة مضادة للغواصات، وتحديث أنظمة قيادة وسيطرة واتصالات وحاسبات واستخبارات ومراقبة واستطلاع (8) C4ISR. هذه التطورات أثارت مخاوف الصين، لكن ما يخيفها أكثر -وهي مخاوف يتقاسمها العديد من دول الجوار مع الصين- هو أن تنجح الحكومة اليابانية الجديدة في مساعيها لتغيير الدستور السلمي ثم تستغل بعد ذلك قدراتها الصناعية والتكنولوجيا المتطورة جدًا لتعيد تسليح نفسها وتصبح قوة عسكرية عظمى.

تعتبر اليابان أن توجهاتها نحو تعزيز قدراتها العسكرية أمر طبيعي وأنه تأخر كثيرًا، في حين ترى الصين أن تحديث قواتها العسكرية وتطويرها وزيادة نفقاتها العسكرية، أمر طبيعي أيضًا، لأنها تحتاج قوة عسكرية مناسبة لقوتها الاقتصادية(9). ومع إصرار كل طرف على المضي قدمًا في تطوير قدراته العسكرية باعتباره أمرًا طبيعيًا، أصبح البلدان يواجهان معضلة أمنية حقيقية تزيد من تعقيد علاقاتهما العسكرية؛ فكل إجراء تتخذه الصين لتعزيز قدراتها الدفاعية يزيد من درجة التهديدات الأمنية المحدقة باليابان والعكس صحيح.

الملفات الساخنة بين البلدين

منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت العلاقة بين الصين واليابان تشهد بين الفينة والأخرى توترًا حول القضايا العالقة بينهما. ويتلخص أهم هذه القضايا في:

 أ- النزاع حول جزر سنكاكو/دياويو
تقع هذه الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، وهي عبارة عن ثماني جزر صخرية غير مأهولة تسميها اليابان "سنكاكو" وتُعرف في الصين باسم "دياويو". يتراوح الاحتياطي النفطي في هذا البحر بين 60 و100 مليون برميل من النفط، في حين يوجد احتياطي مهم من الغاز الطبيعي يتراوح بين 1 و2 تريليون قدم مكعب، حسب تقديرات إدارة المعلومات حول الطاقة (EIA) التابعة للحكومة الأميركية(10)، بينما تقول المصادر الصينية بأن الاحتياطي النفطي يتراوح بين 70 و160 مليون برميل(11)، ويحوي هذا البحر أيضًا ثروات معدنية مهمة مثل الأحجار المرجانية الثمينة والزركون والذهب والتيتانيوم والبلاتين. بالإضافة إلى وجود هذه الثروات الطبيعية فإن للجزر قيمة إستراتيجية للبلدين معًا بفعل موقعها الإستراتيجي؛ فالسيادة على هذه الجزر ستسمح لليابان أو الصين بالمطالبة باستغلال 40,000 كيلومتر مربع من المياه المحيطة بها باعتبارها منطقة اقتصادية خالصة، كما يمكن استغلال الجزر عسكريًا؛ فالصين تخشى أن تقيم اليابان نظم استطلاع جوية وبحرية تضع الخطوط البحرية والجوية في المنطقة وفي مناطق صينية مثل "وينزهو" و"نينغ بو"  تحت المراقبة المباشرة لليابانيين، ويرى الصينيون في هذا تهديدًا أمنيًا وعسكريًا خطيرًا.

جزر "دياو يو داو" حسب الاسم الصيني وجزر "سنكا كو" كما تسميها اليابان، أحد أهم الملفات الساخنة بين البلدين (رويترز-أرشيف)

الجزر تابعة فعليًا للإدارة اليابانية، لكن الصين تطالب بها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. وتقول الصين إن الجزر تقع تحت سيادتها بناء على الحقائق التاريخية؛ فالجزر كانت تابعة للصين منذ القدم، وظهرت على الخرائط كجزء من الأراضي الصينية ابتداء من عهد أسرة "مينغ" 1368-1644، كما توجد كتب تتحدث عن تبعية هذه الجزر للصين يعود تاريخها إلى 1424، أي ما يزيد عن أربعة قرون من التاريخ الذي اكتشفت فيه اليابان هذه الجزر (1884). وبعد انتصار اليابان في الحرب الصينية اليابانية الأولى سنة 1895، تنازلت الصين حينها عن سيادة هذه الجزر بالإضافة إلى جزيرة تايوان لصالح اليابان بموجب اتفاقية "شيمونوسكي". وبعد هزيمة اليابان تمت إعادة هذه الجزر إلى الصين وفقًا لإعلان القاهرة سنة 1945، وفي 1951 ألحقت الولايات المتحدة سنكاكو/دياويو بالإدارة المدنية التي أقامتها في جزيرة "أوكيناوا" بموجب اتفاقية سان فرانسيسكو، وفي سنة 1972 سلّمت الولايات المتحدة "أوكيناوا "والجزر الملحقة بها إلى اليابان بالرغم من اعتراض كل من تايوان والصين(12).

من جهة أخرى، تحاجج اليابان بأنها صاحبة السيادة بناء على حقائق تاريخية أيضًا؛ فالجزر –حسب وجهة نظر اليابان- جزء لا يتجزأ من جزر "نانسي" "شوتو" اليابانية، وأصبحت، ابتداء من سنة 1884، جزءًا من أراضيها بعد المسح الذي أجرته مقاطعة "أوكيناوا". وتضيف اليابان: إنه لا توجد أية آثار تدل على تبعيتها لمملكة أسرة "تشينغ" الصينية، وتنفي أن تكون جزر سنكاكو/دياويو تابعة لجزيرة تايوان أو جزر "بيسكادوريس" التي تنازلت عنها الصين لصالح اليابان سنة 1895؛ فالحكومتان الصينية والتايوانية طالبتا بهذه الجزر بعد أن أظهرت دراسة أجرتها الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي احتمال توفر المنطقة على إمكانيات مهمة من الطاقة(13).

تتعدد الأسباب التي أدت إلى إثارة النزاع حول الجزر، وتتلخص أهمها في: التغيرات الهيكلية التي تشهدها المنطقة وتغير ميزان القوى بين البلدين لصالح الصين، وتنامي نزعات التعصب القومي والمشاعر الوطنية في البلدين، وعودة اليمين المحافظ في اليابان، واكتساب الصين لمزيد من الثقة بفعل عقود من النمو الاقتصادي الكبير.

أصبح النزاع حول هذه الجزر الصغيرة، في السنوات الأخيرة، المصدر الرئيسي للتوتر في العلاقة بين الصين واليابان، وساءت العلاقة بشكل كبير بين البلدين بعد قرار الحكومة اليابانية القاضي بشراء ثلاثة من الجزر الخمسة وتأميمها في سبتمبر/أيلول من العام الماضي. ويبدو أن التصعيد سيبقى سيد الموقف بعد وصول "شينزو آبي" للحكم، خصوصًا وأن حزبه -الحزب الليبرالي الديمقراطي- تعهد خلال حملته الانتخابية بتعزيز القدرات العسكرية اليابانية لمواجهة المواقف العدائية للصين في بحر الصين الشرقي، وتطوير عمليات الصيد في جزر سينكاكو/دياويو. هذا بالإضافة إلى أن البلدين أغلقا باب التفاوض وينفيان وجود نزاع حول الجزر ويتمسك كل طرف بحقه السيادي دون تقديم أي تنازل أو محاولة لإيجاد أرضية مشتركة للحوار.

ب- الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية
بالإضافة إلى الجزر، يختلف البلدان حول قضيتين بحريتين:

  • القضية الأولى تتمحور حول ترسيم وامتداد الحدود البحرية لكل بلد داخل بحر الصين الشرقي، وقد نتج النزاع عن تباين في تأويلات البلدين لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. فقد اقترحت اليابان ترسيم الخط البحري بين البلدين استنادًا على المادة 57 من قانون البحار التي تنص على أن المنطقة الاقتصادية الخالصة لبلد ما لا تتجاوز 200 ميل بحري(14)، وبما أن عرض البحر بين البلدين لا يتجاوز 400 ميل بحري، فإن اليابان رسمت من جانب واحد خطًا حدوديًا على مسافة متساوية من ساحلي البلدين، وهو ما رفضته الصين. هذه الأخيرة طالبت  بترسيم حدودها وفقًا للمادة 76 فقرة 5 أي على أساس مبدأ "الامتداد الطبيعي لجرفها القاري" وهو ما سيسمح للصين باستغلال منطقة ممتدة على مسافة 350 ميل بحري(15)؛ وهي المسافة التي يمتد عليها جرفها القاري. وفي سنة 2008، توصل البلدان، بعد 12 جولة من المحادثات، إلى اتفاق يقضي بتطوير مشترك لمنطقة بحرية تمتد على جانبي الخط الذي رسمته اليابان وتضم حقل الغاز والنفط "لونغ جينغ" أو "أسونارو" وفقًا للتسمية اليابانية، ومشاركة اليابان في تطوير الحقل الغازي "تشون شياو"/"شيراكابا"، لكن هذا التعاون لم يحقق أي تقدم يُذكر. وفي 2009، بدأت الصين في تطوير حقل "تيان ويتين"/"كاشي"، من جانب واحد باعتباره يدخل ضمن الحدود البحرية للصين؛ مما أثار احتجاج اليابان. وفي سنة 2010، توقفت المحادثات حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بعد الأزمة السياسية التي تسبب بها اصطدام قارب صيد صيني بسفينة لخفر السواحل اليابانية بمحيط جزيرة سنكاكو/دياويو، لتعود الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية إلى نقطة الصفر.
  • أما القضية الثانية فتتعلق بـ "أوكينو توريشيما"، وهي شعاب مرجانية تقع على مسافة 1100 ميل شرقي طوكيو. ولا تدعي الصين سيادتها على هذه الشعاب، لكنها ترفض استعمالها من طرف اليابان للمطالبة بمنطقة اقتصادية خالصة في غرب المحيط الهادي لأن الصين تعتبرها مجرد صخرة وليست جزيرة.

ج- الاختلافات في الكيفية التي يرى بها كل طرف الماضي الاستعماري لليابان
الخلاف حول الجرائم التي ارتكبتها اليابان إبان حروبها السابقة يشكّل نقطة سوداء بين البلدين ودفع بعلاقاتهما نحو التوتر في غير ما مرة؛ ففي الفترة الممتدة بين 2001 و2006، ساءت العلاقة بين البلدين بسبب صعود الخلافات حول التاريخ الاستعماري لليابان إلى الواجهة. وأثارت الزيارات المتكررة التي قام بها رئيس الوزراء "كيوزومي" لضريح "ياسوكوني" -الذي يضم رفات العديد من مجرمي الحرب العالمية الثانية- ردود فعل صينية غاضبة على المستويين الشعبي والرسمي وساءت العلاقة بين البلدين بشكل كبير. ورأت الصين أن الزيارات تدل على عودة اليمين الياباني إلى الحياة السياسية حينها. وفي نفس الفترة تأزمت العلاقة بين البلدين بسبب نشر كتب مدرسية، ارتأت الصين أنها تحوي الكثير من المغالطات اليابانية المتعمدة لتزوير الحقائق التاريخية. فقد ذكرت الكتب المدرسية في إطار حديثها عن مجزرة "نانكينغ" التي حدثت سنة 1937 أن "العديد من الأشخاص قد قُتِلوا"، في حين تتحدث كتب التاريخ عن مجزرة بشعة ذهب ضحيتها 300,000 صيني.

وفي سبتمبر/أيلول من العام الماضي، شهدت الصين احتجاجات كبيرة شملت مدنًا عدة واستهدف المتظاهرون العديد من الشركات اليابانية، بسبب حلول ذكرى حادث "موكدن" (18سبتمبر/أيلول 1931)، أسبوعًا واحدًا فقط بعد شراء الحكومة اليابانية لثلاثة من الجزر المتنازع عليها. وقد طفت قضية زيارة ضريح "ياسوكوني" إلى السطح مرة أخرى؛ حيث ذكرت تقارير صينية(16) أن "شينزو آبي" عبّر لوسائل إعلام محلية عن أسفه الشديد لعدم زيارته الضريح خلال فترة حكمه السابقة. وفي حالة قيام "آبي" بالزيارة فإن العلاقات الثنائية ستعرف تدهورًا أشد.

وترفض أغلبية كبيرة من الطبقة السياسية اليابانية الانتقادات التي توجهها الصين لليابان، تتهم فيها هذه الأخيرة بأنها لم تعتذر بصورة صحيحة عن جرائمها التي ارتكبتها في الصين؛ فهذه الأخيرة تؤكد أن الاعتذار يتناقض مع الزيارات التي قام بها المسؤولون اليابانيون لضريح "ياسوكوني" والكتب المدرسية التي تنفي جرائم الحرب اليابانية. في حين تؤكد اليابان أنها اعتذرت بطريقة لائقة وأنها تعبت من كثرة الاعتذار، وأن الهدف الرئيسي من إثارة هذا الموضوع من طرف الصين هو الدفع باليابان من دورها الريادي إلى وضعية ثانوية في إطار الصراع حول الزعامة في منطقة شرق آسيا. وهكذا يستمر الماضي الاستعماري في مطاردة اليابان وإثارة التوتر مع الصين ودول الجوار الأخرى ما لم تُصَفّ اليابان كل الملفات العالقة منذ الحرب العالمية الثانية.

تداعيات النزاع على الجزر

كانت الصين -ولا تزال- تؤكد من خلال إستراتيجيتها الإقليمية أنها تسعى إلى تحقيق نمو اقتصادي بشكل سلمي وذلك للتخفيف من مخاوف جيرانها بخصوص نوايا الصين المستقبلية. فإذا اختارت الصين اتخاذ موقف متصلب من النزاع أو محاولة حسم النزاع عسكريًا فإنها ستثير مخاوف الدول التي تتنازع السيادة مع الصين على مجموعة من الجزر في بحر الصين الجنوبي والدول الأخرى مثل الهند التي لها مشاكل حدودية مع الصين. كما أن الحل العسكري قد يجر الولايات المتحدة إلى براثن النزاع؛ فالولايات المتحدة أكدت على لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون خلال مؤتمر صحفي عُقد عقب انتهاء لقائها مع وزير خارجية اليابان "فوميو كاشيدا" في 18 يناير/كانون الثاني2013، أن الجزر المتنازع عليها تقع تحت السلطة الإدارية لليابان وبالتالي فهي تدخل في إطار الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان.

من جهتها تحاول اليابان، في السنوات الأخيرة، إعادة التوازن بين علاقاتها مع الولايات المتحدة من جهة وعلاقاتها مع الجوار الآسيوي من جهة أخرى، عبر التركيز على بناء تجمع شرق آسيا East Asian Community؛ ففي سنة 2008، قدّم الحزب الديمقراطي الياباني "رؤية أوكيناوا" التي دعت إلى نقل القاعدة الأميركية خارج "أوكيناوا" أو حتى خارج اليابان. وعندما وصل الحزب إلى الحكم بقيادة "يوكيو هاتوياما" سنة 2009، رفض تجديد فترة عمل السفن الحربية اليابانية في المحيط الهندي ضمن الحرب التي تقوم بها الولايات المتحدة في أفغانستان، وصرّحت الحكومة ضمنيًا بأن نشر جنود يابانيين بالخارج لن يكون بناء على طلب أميركي، بل وفقًا للمصالح الوطنية(17)، غير أن النزاع مع الصين غيّر توجهات اليابان وألقى بها مرة أخرى في أحضان الولايات المتحدة، ومنحها فرصة بناء العلاقات الأمنية مع اليابان-بعد التصدعات التي عرفها التحالف بين اليابان والولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب الباردة- وتحويلها إلى حليف إستراتيجي لمواجهة الصعود الصيني.

لقد دفع النزاع حول هذه الجزر اليابان إلى تغيير جذري في إستراتيجية الدفاع الوطني؛ فبعد تراجع دور اليابان عالميًا بفعل سنوات من التباطؤ الاقتصادي وتخوفها من تأثير الأزمة المالية في أميركا على الدور الأمني الذي تلعبه أميركا في منطقة شرق آسيا، بدأت اليابان في بناء قدراتها العسكرية بشكل تدريجي، وتطوير علاقاتها الأمنية والعسكرية مع دول مثل الهند وأستراليا، وبناء علاقات عسكرية مع الدول التي تشارك اليابان مخاوفها تجاه الصين. وتدخل في هذا الإطار إستراتيجية "الماسة الديمقراطية الأمنية" التي تحاول اليابان عبرها احتواء الصين. فقد عبّر "آبي" بصراحة شديدة عن رفضه لتحول بحر الصين الشرقي إلى بحيرة صينية ورغبته في إنشاء "عقد أمني ديمقراطي"، يضم اليابان والهند وأستراليا وولاية هاواي الأميركية، من أجل حماية حرية الإبحار عبر المحيطين الهندي والهادي(18) كما خففت الحكومة اليابانية من الحظر التي تفرضه على تصدير الأسلحة إلى الخارج منذ 1967، مما سيسمح لصناعاتها الدفاعية بتطوير مشاريع مشتركة مع الدول الأجنبية. وتخطت اليابان، في السنة الماضية، عتبة مهمة في إطار تحول إستراتيجيتها الدفاعية عندما قدمت معونات عسكرية بقيمة مليوني دولار لكل من كمبوديا وتيمور الشرقية، وهذه أول مساعدات عسكرية تقدمها اليابان للخارج منذ الحرب العالمية الثانية. وتحاول الحكومة الجديدة مراجعة دستور البلاد السلمي الذي يُعمل به منذ 1947 وإدخال تعديلات عليه تسمح لها بالمشاركة بلعب دور أمني أكبر على المستوى الدولي، وبالتالي مواجهة القوة الصينية المتنامية بشكل سريع.

وفي ظل استمرار التوتر، تأثرت العلاقات الاقتصادية المتميزة بين ثاني وثالث أكبر اقتصادين عالميين؛ فقد انخفضت مبيعات السيارات اليابانية في الصين بشكل حاد في الأسابيع الأولى بعد اندلاع التوتر في 11 سبتمبر/أيلول من العام الماضي وأغلقت العديد من الشركات  اليابانية مصانعها في الصين، وفي شهر ديسمبر/كانون الأول تواصل انخفاض الصادرات اليابانية إلى الصين للشهر الخامس على التوالي ليبلغ الانخفاض 11,6%، وتعرضت صادرات السيارات إلى انخفاض هو الأكبر منذ 11 سنة(19)، وفي حالة اندلاع حرب تجارية شاملة بين البلدين لن يكون هناك طرف رابح؛ فالعلاقات التجارية بين البلدين جد مترابطة ومحاولة فسخها قد تتسبب في جر الاقتصاد العالمي الهش إلى الهاوية.

خاتمة

يمثل بحر الصين الشرقي منطقة إستراتيجية حيوية، ليس للصين واليابان فقط بل للولايات المتحدة وكوريا أيضًا، ويبدو أن الأسباب الداخلية (مرحلة انتقال السلطة من الجيل الرابع إلى الجيل الخامس في الصين، وعودة "شينزو آبي" إلى هرم السلطة اليابانية بأجندة متشددة تجاه الصين) إضافة إلى أسباب جيوإستراتيجية (الأهمية الإستراتيجية لبحر الصين الشرقي مع تغير مركز الثقل الاقتصادي العالمي إلى شرق آسيا، وتحويل الولايات المتحدة لتركيزها إلى منطقة آسيا-الباسيفيك، ووجود موارد طبيعية متنوعة وهائلة في هذا البحر)، تدفع كل طرف إلى التشبث بمواقفه والامتناع عن تقديم أية تنازلات؛ مما يؤشّر على أن فرص تسوية الخلاف قليلة وأن الخلاف سيستمر بين البلدين لمدة طويلة، غير أن تشابك المصالح الاقتصادية بين البلدين وأهمية المنطقة للولايات المتحدة قد يحول دون تحول النزاع بين اليابان والصين إلى مواجهة مسلحة، ولو في المنظور القريب على الأقل.
___________________________________________
عبد الرحمن المنصوري - باحث في الشؤون الأسيوية

المصادر
1- وول ستريت جورنال
China Real Time Report:  What at stake in China-Japan spat: 345 billion dollars to start
http://blogs.wsj.com/chinarealtime/2012/09/17/whats-at-stake-in-china-japan-spat-345-billion-to-start/
2- وكالة شينخوا للأنباء،
Yearender: Japan’s new government faces multiple economic challenges
http://news.xinhuanet.com/english/world/2012-12/24/c_132060283.htm
3- معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية، دونغ وانغ،
China-Japan relations, now what? 17/1/2013.
 http://csis.org/publication/pacnet-6-china-japan-relations-now-what
4- مجلة دراسات شرق آسيا الصادرة عن معهد إستراتيجية الأمن الوطني في كوريا، ربيع-خريف 2012، كتاب 26 عدد1
The Great Leap Outward: China’s Maritime Renaissance - Howard J. Dooley2012 
5- وزارة الدفاع اليابانية، الورقة البيضاء للدفاع 2012.
http://www.mod.go.jp/e/publ/w_paper/pdf/2012/07_Part1_Chapter1_Sec3.pdf
6- واشنطن بوست، 23 أكتوبر/تشرين الأول.
 2012 China military spending unnerves neighbers.
http://articles.washingtonpost.com/2012-10-23/world/35501019_1_chinese-diplomats-luo-yuan-military-growth
7- معهد الاقتصاد الكوري في أميركا، مارس/آذار 2007.
Richard Weitz, The Korean pivot : challenges and opportunities from evolving Chinese Russian and US-Japanese securities ties.
http://keia.org/publication/korean-pivot-challenges-and-opportunitites-evolving-chinese-russian-and-us-japanese-secu
8- مجلة الدبلوماسي المتخصصة بآسيا والباسفيك، 21 يناير/كانون الثاني 2013.
James Hardy ; Japan’s Navy : Sailing Towards the Future. The Diplomat:
http://thediplomat.com/2013/01/21/japans-navy-steaming-towards-the-future/2/
9- مجلة جنوب شرق آسيا المعاصرة، كتاب 31، عدد 1، إبريل/نيسان 2009.
Leszek Buszynski Sino-Japanese Relations: Interdependence, Rivalry and Regional Security, 155.
http://muse.jhu.edu/journals/contemporary_southeast_asia_a_journal_of_international_and_strategic_affairs/v031/31.1.buszynski.html
10- إدارة المعلومات حول الطاقة.
http://www.eia.gov/countries/regions-topics.cfm?fips=ECS
11- المرجع السابق.
12- موقع الصحيفة الصينية الحكومية.
China Daily
http://www.chinadaily.com.cn/china/2012Diaoyu/node_1089388.htm
13- موقع وزارة الخارجية اليابانية.
http://www.mofa.go.jp/region/asia-paci/senkaku/basic_view.html
14- اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
http://www.un.org/Depts/los/convention_agreements/texts/unclos/unclos_a.pdf
15- المرجع السابق.
16- وكالة شينخوا للأنباء.
Yearender: Japan’s new government faces multiple economic challenges
http://news.xinhuanet.com/english/world/2012-12/24/c_132060283.htm
17- منتدى شرق أسيا.
Aurelia George Morgan ;What the new Hatoyama government means to US-Japan alliance, 12/11/2009.
http://www.eastasiaforum.org/2009/11/12/what-the-new-hatoyama-government-means-for-the-us-japan-alliance
18- بروجكت سينديكايت.
Shinzo Abe, Asia’s Democratic Security Diamond,15/10/2012. Project Syndicate
http://www.project-syndicate.org/commentary/a-strategic-alliance-for-japan-and-india-by-shinzo-abe
19- وكالة شينخوا للأنباء.
Yearender: Japan’s new government faces multipe economic challenges 
http://news.xinhuanet.com/english/world/2012-12/24/c_132060283.htm

نبذة عن الكاتب