الإسلام والمسلمون في الإعلام الأميركي: الصورة النمطية والمُتخيَّل الراهن

ترصد الدراسة التفاعل بين الخطاب الإعلامي والسياسي ومدى تداخلهما في إعادة تركيب صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الأميركيين خلال عام 2015؛ الذي شهد مستوى قياسيًّا في حوادث العنف، وما أنتجه الخطاب السياسي السَّلبي لبعض مرشحي انتخابات الرئاسة الأميركية.
201622293827495734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تُفَكِّك الدراسة التفاعل بين الخطاب الإعلامي والخطاب السياسي ومدى تداخلهما في إعادة تركيب صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الأميركيين خلال عام 2015؛ الذي شهد مستوى قياسيًّا في حوادث العنف، وما أنتجه الخطاب السياسي السَّلبي لبعض مرشحي انتخابات الرئاسة الأميركية؛ وترصد الدراسة الأبعاد السياسية والأيديولوجية التي وجَّهت السرديات التي قدَّمتها ثلاث من وسائل الإعلام الأميركية "سي إن إن CNN" و"فوكس نيوز Fox News" و"إم إس إن بي سي MSNBC" الأكثر تأثيرًا في بلورة المتخيَّل الأميركي عن الإسلام والمسلمين، وهي قنوات تتباين في خطِّها التحريري ومرجعيتها الفلسفية بين ثلاثة اتجاهات رئيسية: مستقلة، محافظة، ليبرالية.

وتكمن أهمية الدراسة في إيجاد فَهْمٍ جديد للمُتخيَّل الأميركي الراهن عن المسلمين بدلًا من اجترار الصورة النمطية المرجعية التي نسجتها هوليود في العقود الثمانية السابقة. وتركِّز على الصورة المتداولة حاليًّا، أو التي أنتجها الخطاب العام في فترة الحملات الانتخابية؛ وذلك من خلال التلويح بما يعتبره البعض "تعارُضًا" بين الإسلام من جهة، وبين الحرية والديمقراطية والحداثة والقيم الكونية من جهة أخرى.

وتنطلق الدراسة من مفهوم البنائية كإطار نظري، ونظرية التَّحكُّم الإعلامي كخلاصة تلاقح بين مدرسة شيكاغو في علم الاجتماع والمدرستين الألمانية والإسكندينافية في علم الاتصال؛ وذلك لتفكيك مقولة "استعمار" الفضاء العام من قبل الإعلام، وتعتمد الدراسة -أيضًا- مفهوم الغزْل السياسي الذي أصبح يُعمِّق الهوة بشكل متزايد بين صحافة الوقائع وصحافة الرأي.

وتوصلت الدراسة إلى أن الصورة الذهنية للإسلام والمسلمين لدى الأميركيين تدور في فلك ثلاث سرديات إعلامية: سرديات اتهام؛ تعزَّزت بدعوة بعض الجماعات اليمينية للتمييز بين "الأنا" الجماعية البيضاء و"الآخر" المسلم؛ الذي "ينحرف" عن مسار الهوية والقيم الأميركية المعاصرة، وسرديات معيارية تعاملت مع المسلمين الأميركيين كأحد المكوِّنات العضوية للمجتمع الأميركي، ثم سرديات وصفية تتبنَّى الحياد.

وتخلص الدراسة إلى ستة استنتاجات حول تذبذب صورة المسلمين لدى الأميركيين بفعل تلك السرديات المتنافسة في الفضاء العام، ومنها تغيُّر المعايير المهنية وتراجع تأثير المؤسسات الإعلامية التي تتمسَّك بالخطِّ الاحترافي المتوازن، وحركية صورة الإسلام والمسلمين عبر الباب الدوار حسب تدفُّق تلك السرديات، وميول بعض وسائل الإعلام إلى صناعة الـ"نحن" و"الآخر"، ومشروع تغييب الآخر "المسلم" من الخطاب العام، والكيل بمكيالي منطق "الإرهاب الجهادي" ومنطق "الخلل العقلي" في تغطية حوادث العنف، ومحاولة تبرير النيل من سمعة الإسلام أو المسلمين بضرورة "حماية" مبدأ حرية التعبير وفقًا للدستور الأميركي.

مقدمة

تعزَّز الخطاب السياسي اليميني في الولايات المتحدة خلال عام 2015 بتركيز وسائل الإعلام الأميركية على حوادث العنف والهجمات الدموية؛ التي شنَّها أفراد مسلمون، أو جماعات متطرفة، باسم "الدفاع عن الإسلام"؛ وشكَّلت تلك الحوادث محور تغطية إعلامية مستفيضة؛ مثل: مقتل خمسة جنود في ولاية تينيسي برصاص الشاب الأميركي محمد يوسف عبد العزيز، ومهاجمة إلتون سيمسون ونادر الصوفي مقرَّ تنظيم مسابقة للرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد في مدينة غارلاند بولاية تكساس.

وازداد سياق التهويل والتشكيك في نوايا المسلمين، ومن بينهم المسلمين الأميركيين، وطبيعة دينهم بعد هجمات باريس في 13 من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ومقتل أربعة عشر شخصًا بسلاح المسلم الأميركي سيد فاروق وزوجته في سان بارنادينو بولاية كاليفورنيا في 12 من ديسمبر/كانون الأول 2015، وتعزَّز هذا السياق المتنامي في التأثير على صورة الإسلام والمسلمين بالخط التحريري لوسائل الإعلام؛ التي قد تتوحَّد في تلويحها بميثاق "الشرف" المهني في تقديم الأخبار وتوفير المعلومات للجمهور بشكل آنيٍّ؛ لكنها تتباين إلى حدٍّ كبير في تفسير ما يحدث، أو بالأحرى تأويله، تبعًا للمنحى السياسي المحافظ أو الليبرالي الذي تميل إليه كل مؤسسة إذاعية أو تلفزيونية أو صحفية.

وَجَدَ بعضُ السَّاعين لتزكية الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة؛ مثل دونالد ترامب (Donald Trump)، ضالَّتهم في تلك الحوادث لبلورة سرديات تتماشى مع حماسة اليمين المحافظ وجماعات المبشِّرين الذين صفقوا لاقتراحاته، ومنها منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. وتمَّ دَمْغُ صورة الإسلام والمسلمين بألوان التطرُّف، والتعصُّب للعنف أيضًا، بالدعوة إلى إقصاء المسلمين الأميركيين من السباق إلى البيت الأبيض في المستقبل؛ فقد شدَّد بين كارسون (Ben Carson)-وهو المرشح الوحيد من أصل إفريقي- في سبتمبر/أيلول 2015 على أن "الإسلام لا يتماشى مع قيم الدستور الأميركي"، مُعلنًا معارضته تولِّي "أي مرشح مسلم زعامة الولايات المتحدة"؛ وإِنْ كان الدستور الأميركي لا يشترط اعتناق الرئيس دينًا بعينه.

ومع تداول هذه التصريحات المثيرة عبر وسائل الإعلام المختلفة على مدار الساعة، أصبح الخطاب العام في أميركا يميل نحو اليمين، ويتخلَّى تدريجيًّا عن قيم التسامح والتعدُّدية والبوتقة الثقافية المنفتحة على العالم؛ ليُكرِّسَ دعوات التمييز العنصري، ودَمْغ المسلمين بأوصاف التعصُّب والإرهاب ومنافاة قيم الدستور الأميركي. وبدا جليًّا أن بعض وسائل الإعلام الأميركية تعاملت مع الإسلام والمسلمين بشكل يختلف عن تعاملها مع فئات اجتماعية وديانات أخرى، وبرز هذا المنحى خلال تغطية حوادث راح فيها بعض المسلمين الأميركيين ضحايا التصفية الجسدية؛ مثل: قتل أحد المتعصبين البيض غريغ هيكس ثلاثة طلاب مسلمين في جامعة نورث كارولينا الشمالية في فبراير/شباط 2015.

ونتيجة لهذا المنحى، تدنَّت معايير التوازن والحياد والمصداقية في وسائل الإعلام اليمينية بفعل تنامي الغزْل الصحفي "Spin Journalism" وغلبة إعلام الرأي حاليًّا على إعلام الخبر أو الوقائع، أو إعلام الاستقصاء؛ الذي اشتهرت به الصحافة الأميركية في الستينات والسبعينات، عندما كانت تُشكِّل قوة النقد الرئيسة في وجه المؤسسات السياسية، وأسهمت بالتالي في إنهاء حرب فيتنام واستقالة الرئيس نكسون مرغمًا بفعل فضيحة ووترغيت.

وفي هذا السياق، يأخذ الخطاب الإعلامي أحيانًا أبعادًا سياسية وأيديولوجية وثقافية غير متناهية في تعزيز الـمُتخيَّل الذهني والناتج المعرفي بين الـ"نحن" الأميركيين، كهوية جماعية وقيمة حضارية إيجابية، و"الآخر" الذي يشمل المسلمين؛ باعتبارهم مجموعة اجتماعية "مجبولة دينيًّا وثقافيًّا" على التطرُّف والعنف؛ "تنحرف" عن مسار الهوية والقيم الأميركية المعاصرة.

وتكمن القضية المحورية هنا في تفكيك التفاعل بين الخطاب الإعلامي والخطاب السياسي ضمن تركيب صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الأميركيين خلال عام غير اعتيادي في مستوى حوادث العنف، وصيرورة حملات انتخابات الرئاسة الأميركية؛ ومن التحوُّلات المثيرة في هذا التفاعل -مثلًا- ارتفاع شعبية دونالد ترامب -أقوى المرشحين الجمهوريين- بعد تمرُّده على منطق اللياقة السياسية؛ الذي حوَّله إلى محور تغطية إعلامية دسمة يستغلُّها كأداة فعَّالة ضمن استراتيجيته الإعلامية للفوز بتزكية الحزب الجمهوري على أمل الوصول إلى البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

1. الإطار المنهجي للدراسة

‌أ. مشكلة الدراسة
تراجعت صورة الإسلام والمسلمين في أعين الأميركيين من صورة نمطية مرجعية صاغتها هوليود خلال القرن العشرين إلى صورة متداولة أكثر قتامة ينسُجُها الإعلام اليميني؛ وذلك في ظلِّ تزايد أعمال العنف واستخدام السلاح اليدوي خلال عام 2015، ولا تختلف الصورة الراهنة للإسلام والمسلمين في أذهان الأميركيين كثيرًا عمَّا لاحظه الراحل إدوارد سعيد قبل خمسة وثلاثين عامًا في كتابه تغطية الإسلام: كيف يحدد الإعلام والخبراء رؤيتنا إلى بقية العالم، عندما قال: "قد تكون مبالغة طفيفة إذا قلنا: إن تغطية المسلمين والعرب ومناقشة أمورهم وفهمهم لا تخرج عن صورتيْ مُورِّدي نفط أو إرهابيين محتملين، ولم يصل سوى القليل جدًّا من التفاصيل وكثافة البعد الإنساني وشغف الحياة العربية والإسلامية إلى وعي أولئك الأفراد الذين تقوم وظيفتهم على تغطية العالم الإسلامي"(1).

واليوم تتشبَّع الصورة المتداولة حاليًّا عن الإسلام والمسلمين بالعلاقة الجدلية بين ما يُقدِّمه الخطاب السياسي لبعض مرشحي الحزب الجمهوري، وبين ما تُنتِجُه وسائل الإعلام خلال موسم حملات انتخابات الرئاسة؛ ونتيجة لهذا التحوُّل انقلبت الصورة المعيارية التي كانت تُقدِّم الولايات المتحدة؛ باعتبارها بوتقة ثقافية منفتحة على العالم، أو تعايشت فيها مختلف الأقليات والثقافات والأديان، إلى حلبة صراع اجتماعي مفتوح؛ يقوده التيار المحافظ؛ الذي يسعى إلى تطهير "مناقب" أميركا من "رذائل" المسلمين؛ وذلك حفاظًا على ما يتغنَّى به كثيرون بشأن "الاستثناء الأميركي" و"صفاء" المرجعية المسيحية-اليهودية لقيام أميركا في منتصف القرن الثامن عشر.

وظهرت متغيرات جديدة لهذا التحوُّل في صورة الإسلام والمسلمين في أعين الأميركيين مع تزايد تأثير وسائل الإعلام على توجيه الفضاء العام نحو تكريس أنماط ذهنية معينة في تركيب تلك الصورة وتداولها دون تحفُّظ، أو مُسَاءَلة أخلاقية، في أغلب الأحيان؛ وقد يتساءل المرء عمَّا إذا كان الإعلام لا يزال مجرَّد أداة لنقل معلومات أساسية عن الأحداث باستخدام قاعدة الأسئلة الخمسة؛ أم أن هناك سرديات مُبطَّنة تقف خلف السردية الإعلامية ويتعيَّن تفكيكها لمعرفة النَّسق الذهني والثقافي الذي ينطلق منه القائم بالاتصال في بلورة الخطاب العام.

وتبعًا لهذا التحوُّلات، تركِّز الدراسة على تحليل السياق السياسي والثقافي الذي يُغطِّي بظلاله عمل المؤسسات الإعلامية في تقديم الخزَّان الإخباري والمعرفي الذي يستند إليه الأميركيون في متابعة شؤون الساعة وبلورة فهمهم لما يحدث من حولهم وبقية العالم.

‌ب. تساؤلات الدراسة
تنطلق الدراسة من متابعة الخطاب الإعلامي الأميركي وتفكيكه لفهم مُحدِّداته في تركيب صورة الإسلام والمسلمين خلال عام مضطرب بفعل العدد القياسي لحوادث العنف، وتحليل حالات تتقارب في مداها الزمني وإطارها السياسي؛ خاصة خلال حملات الانتخابات الرئاسية؛ التي تُغذِّي حيوية التنافس بين المؤسسات الإعلامية؛ وتبعًا لهذه التحولات تبرز التساؤلات الآتية: 

  • كيف أسهمت وسائل الإعلام الأميركية في تغيُّر الصورة الذهنية للإسلام والمسلمين خلال عام 2015؟ 
  • ما قوة الدفع الرئيسة وراء تنامي الخوف من المسلمين والإسلام، أو ما يُعرف بـ"الإسلاموفوبيا"، إلى مستوى أعلى مما كان عليه الحال عقب هجمات سبتمبر/أيلول 2001؟ 
  • كيف تَعَزَّز الخطاب الإعلامي الأميركي بالأبعاد السياسية والأيديولوجية في تعميق الهوة بين "الأنا" الجماعية الأميركية، و"الآخر" المسلم الذي "ينحرف" عن مسار الهوية والقيم الأميركية المعاصرة؟

وتتشابك هذه التساؤلات فيما بينها بالنظر إلى أن عام 2015 اتَّسم بتحوُّل أكثر سلبية بين ما يمكن تسميَّته بـ"الصورة المرجعية" للإسلام والمسلمين في أعين الأميركيين، كما ركَّبتها أفلام هوليود بعد استبدال "العدو الأحمر" من صورة الشيوعي السوفيتي، إلى صورة المسلم المتعصِّب؛ خاصة عقب الثورة الإيرانية عام 1979، والصورة المتداولة حاليًّا والملازمة للخطاب اليميني في فترة الحملات الانتخابية؛ وذلك من خلال التلويح بما يعتبره أغلب اليمينيين الأميركيين "تعارُضًا" بين الإسلام من جهة، وبين الحرية والديمقراطية والحداثة والقيم الكونية من جهة أخرى.

‌ج. أهداف الدراسة
تسعى الدراسة إلى تفكيك الـمُتخيَّل الأميركي الراهن عن المسلمين بدلًا من اجترار الصورة النمطية التقليدية؛ التي نسجتها هوليود أكثر من وسائل الإعلام خلال العقود الثمانية السابقة؛ وبالنظر إلى التقاطع بين الإعلامي والسياسي ضمن مجاراة الخط التحريري لدى مختلف وسائل الإعلام الأميركية، ترصد هذه الورقة البحثية عددًا من السرديات الإعلامية، وما تنطوي عليه من حمولة سياسية تبلور التصوَّر الذهني والناتج المعرفي عن الإسلام والمسلمين. وتُفكِّك في الوقت ذاته عينات من التغطية لحوادث تتباين بين المسلم المهاجم والمسلم الضحية، وبين السردية الإنسانية مقابل السردية الأمنية في التعامل مع تفاصيل كل حادث على حدة.

‌د. مجتمع الدراسة
يتشكَّل مجتمع البحث من ثلاث قنوات تلفزيونية: "سي إن إن CNN"، و"فوكس نيوز Fox News"، و"إم إس إن بي سي MSNBC"؛ وقد بلغ عدد وحدات أو مفردات العينة القصدية 64 تقريرًا ومقابلة إخبارية ومقالًا؛ بثَّتها أو نشرتها مؤسسات إعلامية أميركية في ذروة السِّجال السياسي حول المسلمين خلال الفترة الممتدة من الأول من يونيو/حزيران إلى 31 من ديسمبر/كانون الأول 2015، وتوزَّعت هذه الوحدات بين 15 تقريرًا إخباريًّا و5 مقابلات من "سي إن إن"، و18 تقريرًا إخباريًّا و6 مقابلات من "فوكس نيوز"، و15 تقريرًا إخباريًّا و5 مقابلات من "إم إس إن بي سي". وجرى -أيضًا- مسح أكثر من 80 تقريرًا إخباريًّا، ومقابلات أخرى تم بثُّها على الهواء؛ فضلًا عن 20 مقالًا منشورًا على المنصات الإلكترونية المتخصِّصة في تقييم أداء الإعلام الأميركي؛ منها مركز بيو لاستطلاع الرأي العام (Pew Research Center)، ومؤسسة أهمية الإعلام بالنسبة إلى أميركا (Media Matters For America)، ومؤسسة السبق الصحفي السليم (The Right Scoop)، ومجلة جامعة كولومبيا للصحافة (Columbia Journalism Review)، وصحيفة نيويورك تايمز (The New York Times).

وتتصدَّر تلك القنوات التلفزيونية المراتب الثلاث الأولى من حيث شعبيتها وإقبال الأميركيين على مشاهدتها، وتتمتَّع بتأثير قويٍّ ليس في توجيه الرأي العام فحسب؛ بل -أيضًا- في صياغة الخطاب العام بين الطبقة السياسية في الولايات المتحدة؛ وذلك خلال عام غزير بأحداث العنف وتصادم السرديات السياسية لمرشحي الانتخابات.

وهناك سبب آخر لاختيار هذه القنوات؛ التي قدَّمت أكبر قدر من تغطية الحوادث المتصلة بالمسلمين؛ سواء داخل الولايات المتحدة أو بقية العالم بشكل منتظم خلال ساعات وأيام على الهواء، مقارنة بوسائل الإعلام الأخرى (تلفزيونات، وإذاعات، أو صحف)؛ كما يُعزى اختيار هذه القنوات بعينها -أيضًا- إلى تباين خطِّها التحريري، ومرجعيتها الفلسفية بين ثلاثة أبعاد رئيسة: مستقلة، ومحافظة، وليبرالية: 

  • سي إن إن؛ التي تجمع بين مخاطبة الجمهور الأميركي والدولي من خلال قنوات قومية وأخرى دولية، وتتوخَّى الاستقلال والحياد في تعاملها مع الشؤون الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء.
  • فوكس نيوز؛ التي موَّلها روبرت مردوخ (Rupert Murdoch)، ويديرها روجر أيلز (Roger Ailes) منذ عام 1996 لتُشكِّل جناحًا إعلاميًّا للحزب الجمهوري؛ وذلك للردِّ على ما اعتبره بعضهم "سيطرة الروح الليبرالية" على وسائل الإعلام وقتها؛ غير أن القناة أظهرت ميولًا متزايدة منذ ستِّ سنوات نحو حركة الشاي (Tea Party Movement)؛ التي انبثقت من رحم الحزب، واستقطبت أصوات اليمين والجماعات الدينية المتشدِّدة، وساعدت بالتالي في وصول عدد من مرشحي الحركة إلى عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ داخل الكونغرس؛ منهم تيد كروز أحد أقوى الساعين إلى تزكية الحزب الجمهوري لسباق البيت الأبيض خلال عام 2016.
  • إم إس إن بي سي؛ وهي حديثة الولادة هي الأخرى عام 1996 نتيجة التنافس بين التيارين الليبرالي والمحافظ في الحقل الإعلامي؛ وتتبنَّى القناة منطلقًا ليبراليًّا معلنًا في تعاملها مع القضايا القومية والدولية، وتحافظ على علاقات حميمية مع التيارَيْن الديمقراطي والمستقلِّ في السياسة الأميركية.

 2. المدخل النظري للدراسة

التَّحكُّم الإعلامي
أصبح الإعلام بصنفيه القديم والجديد قوة الدفع الرئيسة أو أكثر المؤسسات تأثيرًا من خلال حيويته وتفاعله ضمن الفضاء العام إذا سلَّمنا بنظرية التَّحكُّم الإعلامي (Mediatization Theory)؛ التي ظهرت قبل ثماني سنوات فقط؛ وذلك كحصيلة للتفاعل بين المدرستين الألمانية والإسكندينافية في نظرية التواصل. وتسعى هذه النظرية لتفكيك دور الإعلام المتنامي بالنظر إلى أن الإعلام القديم والجديد أصبحا حاضريْن باستمرار "ضمن النظام الاجتماعي والثقافي؛ الذي يُنتج رموزًا وعلامات وبلاغات ومعاني وقيمًا معينة، ويتولَّى بثَّها ونشرها والترويج لها بين الجمهور"(2).

غير أن النظرية لا تقتصر على التقدُّم التكنولوجي للإعلام فحسب؛ بل تشمل -أيضًا- التحوُّلات التي تطرأ على كيفية التواصل بين الأفراد عندما يَبْنُون (من البنائية) الواقع الداخلي والخارجي في أذهانهم؛ وذلك من خلال الاعتماد على ما يتلقَّوْنه من وسائل الإعلام(3)؛ وتشمل النظرية شقَّيْن أساسين؛ أولهما: أوجه التحوُّل المجتمعي بين الشعوب الممعنة في الحداثة، وثانيهما: دور الإعلام في نقل تلك التحوُّلات المجتمعية ونشرها. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبارها على غرار موجات التحوُّل التاريخية الكبرى؛ مثل الثورة الصناعية وعصر التنوير والحداثة والعولمة؛ وتبعًا لهذا التحول أصبح الإعلام يتولَّى وظائف أكبر في حياة الأفراد من خلال التفاعل المستمرِّ عبر أدوات التواصل المتطوِّرة، وهنا يلاحظ فريدريك كروتز (Fredrik Creutz) من جامعة بريمن الألمانية أن "تركيب المعرفة عن العالم ومعناه يتغيَّرا باستمرار(4).

ويلاحظ بعض الباحثين أن نظرية التَّحكُّم الإعلامي لا تقتصر على مدى تأثير الخطاب السياسي العام فحسب؛ بل تتعقب -أيضًا- مختلف عمليات التحوُّل المجتمعي بشكل شامل(5)؛ وعلى هذا المنوال ينطوي تحكُّم الإعلام على "مدى الاختراق والاندماج والتشبُّع و"استعمار" مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية من قِبَل وسائل الإعلام المختلفة" حسب رؤية نورم فريسن (Norm Friesen) وتيو هاغ (Theo Hug)(6)؛ ونتيجة لهذا الاختراق الإعلامي لأذهان الأفراد، يتقوَّى مستوى التلقين الذاتي والطوعي في عصر التَّحكُّم الإعلامي.

الحتمية الإعلامية
مع تطوُّر الثورة الرقمية، أصبح الطرح الإعلامي لشؤون الساعة يلازم حياة الأميركيين على مدار الساعة؛ إذ تملك نسبة 64% منهم هواتف ذكية، وتأتي متابعة الأخبار العاجلة على رأس قائمة أوجه استخدام تلك الهواتف بنسبة 68%؛ مما يعكس تحرُّرهم من شرط المكان ومرونة خدمات الإنترنت(7).

على هذه الوتيرة، يتَّسع سوق استهلاك المادة الإخبارية على مدار الساعة إلى حدِّ أن نسبة 46% من الأميركيين لا يستطيعون العيش دون هواتفهم الذكية؛ وهكذا تصبح الحاجة لمتابعة شؤون الساعة والتواصل مع الآخرين عبر اللغة النصية ضمن مصافِّ الحاجات البشرية الأخرى؛ كالمأكل والملبس والعلاقات الأسرية. وهذا ينمُّ عن تحوُّل سلوكي وثقافي أصبح مغروسًا في حياتهم اليومية بفعل تغلغل الثورة الرقمية، ويُجسِّد بالتالي ما يعتبره يورغن هابرماس "استعمار عوالم الحياة من قِبَل الإعلام" تبعًا لتفكيك الأشكال التقليدية للحياة، وتغيُّر الأدوار الاجتماعية، ودور الحداثة في انتشار مفاهيم فردية متباينة بشأن العقلانية؛ وذلك تحت وطأة المال والقوة(8).

ويعني لفظ "استعمار" في هذا السياق عرقلة قدرة الأفراد العاديين على بلورة فهم خاصٍّ بهم لما يدور من حولهم في العالم، وتوجيه سلوكهم ومواقفهم في ذلك الاتجاه، ويلاحظ هابرماس -أيضًا- كيف أن "تركيب الفضاء العام كنسق في حياتنا الاجتماعية يضمن الدخول إليه من قِبَل جميع المواطنين، ويتجلَّى جزء من هذا الفضاء العام من خلال كل محادثة تجمع أفرادًا عاديين ضمن تشكيل هيئة عامة"(9).

غير أن الخطاب الذي ينتجه إعلام المال والقوة يحلُّ محلَّ العقلانية في تلك المحادثات؛ وذلك من خلال الاستناد إلى آراء المحلِّلين على شاشات التلفزيون والمنابر الصحفية المختلفة، ويلاحظ وليام غامسن (William Gamson) وأندريه موديغلياني (Andre Modigliani) كيف يتبنَّى الأفراد المادة الإعلامية على أساس أنها "تركيبة تفسيرية تُقدِّم المعنى لأي حدث أو قضية". وتشمل هذه التركيبة التفسيرية لخطاب الإعلام بنية داخلية قائمة بذاتها؛ إذ تنطلق من "فكرة أو إطار تنظيمي رئيس في تحديد معنى لقضية ما في ضوء سلسلة من الأحداث"(10).

في الوقت ذاته تتحوَّل هذه التركيبة التفسيرية إلى مرجعية للاستيعاب المعرفي، ونسج المتخيَّل الذهني لدى كل فرد، ويشير الباحثان غامسن وموديغلياني إلى أننا "نتحرَّك في المجتمع ونحن نحمل في أذهاننا صورًا أنتجها الإعلام عن العالم، ونستخدمها في بناء مفهومنا للقضايا السياسية والاجتماعية؛ بيد أن العدسة التي ننظر من خلالها إلى تلك الصور ليست محايدة بل تُجسِّد وجهة نظر النخب السياسية والاقتصادية التي تصيغها، وتشجِّع التركيز عليها"(11).

كمثال على مدى تأثير تلك العدسة والصياغة الصحفية، أو ما يُسمِّيه الباحث "الحتمية الإعلامية" (Media Determinism) على المتخيَّل الذهني لدى الأميركيين، يتذكَّر باراك أوباما كيف نسج الأميركيون تصوُّراتهم عن "المرشح أوباما" عام 2006؛ إذ يقول في كتابه بعنوان "جرأة الأمل": "بالنسبة إلى الرأي العام، أتحدَّد أنا بما تقوله وسائل الإعلام عنِّي؛ فأنا أقول ما تُقَوِّلُنِي إيَّاه، وتتغيَّر صورتي حسبما تنشره وسائل الإعلام عنِّي"(12).

ويميل بعض الباحثين نحو إلغاء فكرة المجتمع كوجود مادي أو بشري غير مرتبط بالتفاعلات بين الأفراد، ويعتبرون المجتمع ذاته نتاج تلك التفاعلات، وكيف أن المجتمع يقود طبيعة التواصل بيننا، وهذا ما يُفَسِّر "فن البناء الاجتماعي (ذهنيًّا) الذي يظل غير ظاهر" كما يقول وليام غامسن وأندريه موديغلياني(13)؛ وإذا اعتمدنا فكرة الحتمية الإعلامية في بعدها المعرفي وقوتها السيكولوجية عبر الصوت والصورة والنص الملائم لهما، يصبح إدراك الفرد محكومًا بعنصرين أساسين؛ أولهما: البنائية كمفهوم للتركيب الذهني للواقع بدلًا من وجوده المادي بشكل مستقلٍّ عن تصوُّراتنا، وثانيهما: ما اصْطُلِحَ عليه بالعلائقية؛ وأعني بذلك أهمية العلاقة بين الفرد ووسائط التواصل، وكيف يرتاح لمؤسسة إعلامية دون الأخرى أكثر من تقييم المحتوى الإعلامي؛ الذي يتحوَّل إلى خزَّانه المعرفي بشكل متدفِّق.

بين المال والإعلام
يظل نشاط كل مؤسسة إعلامية مرتبطًا بملكية رأسمالها، والتركيبة البنيوية التي تقوم عليها، وقد تَقَلَّص عدد الشركات الخمسين التي كانت تملك وسائل الإعلام المختلفة عام 1981 إلى ستِّ شركات كبرى فقط عام 2011: جي إي (General Electric)، ونيوز كورب (News Corp)، وديزني (Disney)، وفياكوم (Viacom)، وتايم وارنر (Time Warner)، وسي بي إس (CBS). وتحتكر هذه الشركات الإعلامية صياغة ما يستهلكه 277 مليونًا من الأميركيين مقابل عائدات ضخمة بلغت قرابة 276 مليار دولار عام 2010؛ وهي بالتالي تتقاسم الفضاء الإعلامي بكافة أبعاده المالية والسياسية والثقافية أيضًا.

وقد لاحظ إدوارد سعيد تبعية تغطية الإسلام والمسلمين لاعتبارات بنيوية واستراتيجية، أو ما يمكن أن نسمِّيَه الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام حتى بعض الجامعات الأميركية؛ فهو يُوَضِّح كيف أن تكوين المعرفة عن العالم الإسلامي وتغطيته الإعلامية "يتحدَّدان من خلال المصالح الجيوسياسية والاقتصادية بالنسبة إلى الفرد على وتيرة ضخمة للغاية؛ وذلك بمساعدة وتحريض بنية معينة لإنتاج المعرفة؛ وهي بنية شاسعة ولا يمكن التَّحكُّم فيها"(14)؛ وذلك في إشارة إلى بعض المتخصِّصين الأكاديميين والكتاب الصحفيين عن شؤون العالم الإسلامي؛ الذين تستند إليهم الدوائر الرسمية في تحديد سياساتها العامة إزاء الدول الإسلامية.

وفي ظل هذه العلاقة الحميمية بين المال والإعلام، تكبر فرص الغزْل السياسي الذي بلوره وليام سفاير؛ الذي كان محرِّر خطب الرئيس نيكسون وكاتب تعليقات في نيويورك تايمز، كنواة لصحافة الرأي منذ عام 1986، وهو القيام بوصفٍ أو تأويلٍ بشكل انتقائي لحدث ما بما يتمشَّى مع مصلحة حزبية معينة؛ وعلى هذا المنوال أصبح الإعلام الأميركي يميل نحو صحافة الرأي والغزل السياسي؛ الذي أصبح العملة الأكثر رواجًا بفعل المنافسة المحتدمة؛ خاصة بين محطتي فوكس نيوز وإم إس إن بي سي، ومن خلفهما التياران المحافظ والليبرالي.

ويقول وليام بينيت في كتابه بعنوان "الأخبار: سياسة الوهم": إن "علاقة الدفء الجديدة (بين السياسة والإعلام) أدَّت إلى مزيج تافه لآراء في الأخبار تضرب الحسبة من أجل تحقيق توازن بين المصالح المباشرة للزبون وبعض المصالح المتضاربة أحيانًا لزبائن آخرين وبين سمعة المستشار (أو المحلل) الذي يعرف بواطن الأمور ويسعى المراسلون للتعاون معه في تغطياتهم"(15). ويشير تيموتي كوك من جامعة لويزيانا إلى أن "الإعلام يُشَكِّل نتاجًا للسياسة، وأنه في الوقت ذاته يُغذِّيها ويُؤَثِّر فيها"، ويؤدِّي هذا الوضع إلى أن عملية صياغة الأخبار "تشمل ممثلي الحكومة كمشاركين أساسيين في صنع منتوج الأخبار"(16).

يعتقد بعض محلِّلي الإعلام أن التغطية -خاصة التلفزيونية- ركَّزت على كافة أوجه ممارسة القوة؛ سواء على المستوى السياسي أو غيره؛ مما يُعزِّز العلاقة الحميمية بين صُنْع السياسة وصُنْع الأخبار وصُنْع المال. وقد ارتفعت التبرعات المالية للمرشح بين كارسون بعد تصريحه بأن "الإسلام لا يتمشى مع قيم الدستور الأميركي" إلى عشرين مليون دولار نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015.

ويتعزَّز تحليل هذا المدِّ المتنامي لإعلام المال والقوة على الرأي العام بدراسات حديثة تُظهر تقسيم المجتمع إلى مجموعة شبكات تواصُلٍ وحركات اجتماعية تضمُّ مجموعات من ذوي تصوُّرات متشابهة ومواقف سياسية وفلسفية متقاربة، يقول نيك كولدري وجيمس كوران: "إن قوة الإعلام تُجَسِّد شكلًا ناشئًا للقوة الاجتماعية في مجتمعات مركَّبة، تتوقَّف بنيتها الأساسية بشكل متزايد على سرعة الانتشار والمعلومات والصور"(17).

من هذا المنطلق تصبح وسائل الإعلام آلية مؤثرة في بلورة التفكير؛ فهي "لا تقدم الشرط السابق للمعرفة في ممارساتنا اليومية فحسب ضمن أنظمتنا السيميائية؛ بل تُحدِّد -أيضًا- ما يمكن معرفته، وكيفية التفكير بشأنه" كما يقول أستاذا دراسات التواصل نورم أفريسن وتيو هاغ(18).

3. استراتيجيات الإعلام الأميركي في تغطية الإسلام والمسلمين

أ‌. فوكس نيوز: صوت الاستثناء اليميني وشَيْطَنَة المسلمين
يسعى الخطُّ التحريري لقناة فوكس نيوز منذ تأسيسها قبل عشرين عامًا إلى خدمة الفكر اليميني وتعزيز دور المحافظين الجدد وجماعات المبشِّرين البروتستانت في السياسة وبقية مجالات الحياة العامة؛ ولا يُخْفِي أغلب مذيعي ومُحلِّلي هذه القناة مُيولَهم إلى التشكيك في "النوايا المبيتة" لدى المسلمين، والتلويح بوجود قرينة قوية بين التعصُّب والإرهاب والإسلام، ويستندون في ذلك إلى نظرية "صراع الحضارات"؛ التي جعلت من فكرة صمويل هانتنغتون منذ 1993 نسقًا ملائمًا للدفاع عن خطاب اليمين المتشدِّد ضدَّ المهاجرين والأقليات والمسلمين؛ وذلك للردِّ على "قناعتهم" بنشوب حروب ثقافية ودينية يتعيَّن كسبها باستخدام القوة وإلغاء الآخر وتعزيز مركزية الحضارة الغربية كمحور ثقافي وحضاري عالمي.

بعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001 أَوْجَدت هذه القناة منبرًا للمُشكِّكين والمنتقدين؛ حتى المتحاملين على الإسلام والمسلمين، ويقول غريغ سارجانت في الواشنطن بوست: "إننا لن نعرف ما إذا كان مشاهدو فوكس نيوز يحملون تلك الأفكار بسبب أنهم يتابعون تلك المحطة؛ أم أنهم يشاهدونها بسبب تمسُّكهم بتلك الأفكار. هذه قضية مثل السؤال عن أصل الدجاجة والبيضة؛ ومن الأفضل تركها للفلاسفة، وقد يكون الاحتمالان متداخليْن يُعزِّز كلٌّ منهما الآخر؛ ومهما كان الأمر، فإذا كان هدف فوكس العلني هو تأسيس واقع بديل يحافظ على استمراره بذاته كما يدِّعي الكثيرون، فإن هذه المحطة قد حقَّقت نجاحًا بارعًا بشأن تصورات الأميركيين عن المسلمين"(19).

أسهمت القناة في الترويج لبعض السرديات المتطرفة عن الإسلام والمسلمين ردًّا على ما تعتبره "تطرفًا إسلاميًّا" من منطلق أيديولوجي؛ تُكرِّس من خلاله حمولة سياسية وثقافية سلبية خلال تغطية الأحداث التي تتعلَّق بالمسلمين كما سنرى لاحقًا في هذه الدراسة، كما وجَّهت اللوم مرارًا إلى الرئيس باراك أوباما لعدم استخدامه عبارة: "إرهاب الإسلام الراديكالي".

تتباين المعايير المهنية المتبعة لدى هذه القناة في التعامل مع حوادث العنف أحيانًا حسب هوية الشخص الذي نفَّذها من خلال التلويح المبكر بالاشتباه في الإرهاب، أو معاناة الاضطرابات النفسية؛ ففي حادث مقتل خمسة جنود في مركز تجنيد في ولاية تينيسي بمسدس الشاب محمد يوسف عبد العزيز في منتصف يوليو/تموز 2015 -مثلًا- حاولت التقارير الأولية التي قدَّمتها فوكس نيوز تقديم صورة عن هوية المهاجم وخلفيته الاجتماعية؛ وذلك من منطلق الاشتباه في "ميوله الإرهابية" قبل إجراء التحرِّي المطلوب؛ وعلى الرغم من شُحِّ المعلومات وقتها، يجد المرء عدَّة جمل تفتح الباب أمام مجموعة من التخمينات التلقائية حول علاقته هو أو تورُّط والده في الإرهاب؛ يقول التقرير: "لقد قال المركز القومي الأميركي لمكافحة الإرهاب: إنه لم يجد شيئًا يدلُّ على علاقة عبد العزيز بأي منظمة إرهابية. لكنه أشار إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وأرض الشام يشجِّع المتطرفين على شنِّ هجمات في الولايات المتحدة"(20).

وتنمُّ مثل هذه العبارات المفتوحة عن زرع ذكي لبذور الشكِّ في ذهن المشاهد، وتعزيز احتمالات أن يكون المهاجم من "خلية إرهابية"، وإن كان المركز القومي الأميركي لمكافحة الإرهاب قد نفى كلية علاقة الشاب محمد يوسف عبد العزيز بأية منظمة إرهابية. ويزداد إمعان محرر فوكس نيوز في الغزْل السياسي عندما يُقحم والد المهاجم في دائرة التشكيك المبطَّن بالقول: إن "نيويورك تايمز نقلت عن بعض ضباط الأمن قولهم: إنه تمَّ التحقيق قبل عدَّة سنوات بشأن والد عبد العزيز حول احتمال علاقته بأي منظمة إرهابية أجنبية، وأنه تمَّ شطب اسمه بعد ذلك من قائمة المراقبين المشتبه فيهم"(21).

وهذا مثال آخر على التحايل على معلومات النفي حتى تُمهِّد للمعنى المعاكس في محاولة لتركيب معلومات تُعزِّز "الرتوشات الإرهابية" ليس بشأن المهاجم فحسب؛ بل -أيضًا- والده رغم ما توصلت إليه السلطات الأميركية. وهنا لا تقبل المحطة لغة اليقين التي عبَّر عنها رجال الأمن والتحقيقات على ما يبدو؛ بل تَدَع الباب مفتوحًا أمام اجتهادات ذاتية تجد تبريرها في الصورة المرجعية السلبية أصلًا عن المسلمين.

في مشهد أكثر اندفاعًا نحو استخدام "وصمة الإرهاب"، كان المراسل جون روبرس يشرح على الهواء كيف أن عبد العزيز تمكَّن من إخفاء معاناته من كآبة مستحكمة وإدمان على المخدرات؛ لكن إحدى مذيعات فوكس نيوز غريتا فان سوستيرن قاطعته قائلة: "إن حالة الكآبة لا تغفر له فعلته الإرهابية، وإن عائلته لا تريد أن تواجه حقيقة أنه إرهابي عبر أفكاره المعادية لأميركا ذلك اليوم عندما قرَّر إزهاق أرواح خمسة من الأفراد"(22).

ويظل مثل هذا التسرُّع في إصدار أحكام جاهزة على المسلمين يظلُّ أمرًا عاديًّا في سلوكيات بعض وسائل الإعلام؛ التي لا تتورَّع في التدقيق أو مراعاة مشاعر المسلمين الأميركيين؛ بل لا تقيم حسابًا لردود فعل المنظمات الإسلامية؛ وعلقت مارينا فانج في صحيفة هاف بوست بالقول: "مراسل فوكس نيوز يقول لمذيعة فوكس نيوز: إنها أصبحت من منظِّري المؤامرة"(23)!

وبعد مهاجمة إلتون سيمسون ونادر الصوفي مكان انعقاد مسابقة للرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد في ولاية تكساس، ذكر تقرير فوكس نيوز أنه "تمَّ التعرُّف على هوية المهاجمين؛ هما: إلتون سيمسون ونادر الصوفي"، وأوحى بوصمة الإرهاب بشكل ضمني: "على الرغم من أنه لم يمكن تأكيد علاقة المشتبه فيهما بأية منظمة إرهابية محدَّدة؛ فإن سيمسون كان معروفًا لدى المخابرات الأميركية، وإنه كان موضع تحقيق إرهابي مؤخرًا بسبب ما زُعم عن محاولته السفر إلى إفريقيا معقل جماعة الشباب الموالية للقاعدة؛ وفقًا لمصادر فوكس نيوز"(24). وبجرة قلم تصبح نية السفر "مخططًا إرهابيًّا"، وتغدو إفريقيا كقارة مترامية الأطراف "معقلًا" لتنظيم إرهابي؛ وهذه سردية جامعة شاملة تُقدِّمها فوكس نيوز عمَّا تعتبره إرهابًا دوليًّا؛ ومن خلالها تختزل حصيلة الصورة التي ستتولَّد في أذهان جمهورها.

فيما أبدت المحطات الأخرى بعض التريُّث؛ سارع مذيعو فوكس نيوز إلى تسمية مسابقة الرسوم الكاريكاتيرية بأنها "تجمُّع لحرية التعبير". وظهرت باميلا غارنر -رئيسة مبادرة الدفاع عن الحريات الأميركية- على الشاشة تقول لثلاثة من محاوريها على الهواء: إن "التجمع كان حيويًّا بمشاركة ثلاثمائة من مناصري حرية التعبير، وكانت الحاجة تدعو إلى عقده بالنظر إلى الحرب العنيفة على حرية التعبير... وسأواصل عقد هذه التجمعات في الولايات المتحدة"(25).

يتحوَّل حادث ولاية تكساس -أيضًا- إلى فرصة مواتية للدخول في سجال سياسي مع البيت الأبيض؛ فقد استغلت المذيعة غريتا فان سوستيرن الحادث للنيل من موقف الرئيس أوباما قائلة: "إلى الآن لم يصرِّح البيت الأبيض بوجود علاقة بين المهاجمين وتنظيم الدولة الإسلامية، ولم يصف الحادث بأنه إرهابي؛ هل حكومة أوباما على هذا القدر من الاحتراس، ويمكن بالتالي أن تُلْحِقَ الضرر بالأمن القومي"(26).

تُظهر دراسة بعض العينات من تغطية فوكس نيوز الميول نحو ترجيح الاضطرابات النفسية لدى مَنْ يهاجمون المسلمين الأميركيين في أغلب الحالات؛ فقد أطلق غريغ هيكس البالغ من العمر 46 عامًا النار على جيرانه المسلمين الثلاثة (ضياء بركات وزوجته يسر وأختها رزان) بولاية نورث كارولينا في منتصف فبراير/شباط 2015، وكان بركات يدرس في قسم الدكتوراه في الكيمياء في جامعة نورث كارولينا قبل أن يسقط جثة هامدة إلى جانب زوجته وشقيقتها، وتباينت التفسيرات حول أسباب الجريمة بين ما اعتبره بعضهم "خلافًا" على استخدام موقف السيارات، وبين "جريمة كراهية" لهؤلاء الطلاب المسلمين.

كان هيكس قد نشر على الفيسبوك أنه "ضد الإيمان"، وأنه يريد "نهاية الدين"، وأضاف: "منذ اللحظة التي تُعلن فيها ديانتك.. فإنك تُوجِّه إليَّ الشتيمة إلى حدٍّ لا تستطيع فهمه؛ حتى إذا كانت معتقداتك تقوم على مضمون جيد؛ فإن غطرسة تلك المعتقدات تكون بما يكفي لتشكِّل شتيمة بحقي؛ لكن عندما لا تنمُّ تلك المعتقدات عن أي مضمون جيد، وليست سوى مجموعة شفَّافة من الأكاذيب والأوهام؛ فإن ذلك يقوي الشتيمة إلى حدٍّ كبير"(27).

تناولت فوكس نيوز الحادث ضمن تقارير مقتضبة؛ ذكرت فيها أن سبب الحادث كان "خلافًا على موقف السيارات" بين القاتل والضحايا، ومن تجليات الغزْل السياسي التي خضعت له تغطية هذا الحادث ما جاء في مقدمة "نقاط الحديث" لبيل أوريلي مقدم أشهر برنامج على محطة فوكس نيوز بعنوان (The O’Reilly Factor) قائلًا: "فقرة نقاط الحديث اليوم تحزن للشبان الثلاثة الذين تعرَّضوا للقتل؛ إنهم أبرياء قضى عليهم شخص يعاني اضطرابات نفسية، تمامًا ككل البشر الأبرياء الذين يقتلهم الجهاديون في شتى أرجاء العالم"(28).

ثم ينتقل أورلي إلى الدفاع عن حاكم ولاية لويزيانا بوب جندل؛ الذي تعرض لبعض الانتقادات؛ فقد صرح شفيع خان صديق الضحايا الثلاثة قائلًا: "أريد أن أستغل هذه اللحظة لأقول للعاملين في فوكس نيوز ولبوبي جندل أن يتوقفوا عن تجريد المسلمين من صفات الإنسانية. لقد أصبح هذا الفعل يأتي بعواقب وخيمة"(29). فردَّ أوريلي قائلًا: إن "حاكم ولاية لويزيانا جندل رجل جيد، ويتمتع بروح وطنية، ويساعد ملايين المواطنين"(30).

إذا وضعنا ما قاله أوريلي على الهواء على مشرحة تحليل السرديات، فثمة عبارة مهمة للغاية تُجسِّد فنَّ التركيب الذكي لصورة مقابل أخرى؛ فهو عندما يقول: "إنهم أبرياء قضى عليهم شخص يعاني اضطرابات نفسية". فإنه يرمي أولًا بورقة البراءة التي قد توحي بالإنسانية، وربما بالتعاطف مع ذويهم كتخفيف للفاجعة؛ لكنه في الجملة ذاتها يصف الجاني بأنه يعاني "اضطرابات نفسية"؛ وهنا يتخيَّل المتلقي مشهد المختل العقلي الذي يقوم بأعمال العنف بشكل غير إرادي كصورة مرجعية تظل مخصصة للبيض من الأميركيين.

يأتي هذا المشهد في متخيَّل الأميركيين مناقضًا للصورة المرجعية عن الجاني المسلم في حالة عبد العزيز عندما شدَّدت المذيعة الأخرى في فوكس نيوز غريتا فان سوستيرن على أن "حالة الكآبة لا تغفر له فعلته الإرهابية، وأن عائلته لا تريد أن تواجه حقيقة أنه إرهابي عبر أفكاره المعادية لأميركا ذلك اليوم، عندما قرَّر إزهاق أرواح خمسة من الأفراد". ويقول والد الضحية أبو صالحة: "بالنظر إلى أن وسائل الإعلام تمطر كل أميركي كل يوم بأخبار عمَّا تعتبره إرهابًا إسلاميًّا، وهو ليس إسلاميًّا البتة؛ فإنها تحضِّر الأميركيين لمثل هذه الفواجع وتحرِّض عليها"(31).

على منوال هذا التعامل مع تغطية الحوادث المتصلة بالمسلمين أو المسلمين الأميركيين، تغلب سرديات الاتهام في مضمون فوكس نيوز أكثر من السرديات الوصفية المحايدة، وينطوي هذا البعد على حقيقة أن القناة تمزج الرؤية السياسية والأيديولوجية مع قواعد العمل الإعلامي.

ب‌. إم إس إن بي سي: صوت اليسار المدافع عن التعدُّدية
سخَّرت هذه القناة -وهي المعروفة بتوجُّهها الليبرالي وأسلوبها النقدي- قدرًا وافرًا من بثِّها على الهواء على مدار عام 2015 للتعامل مع السرديات المؤيدة للمسلمين، وأيضًا المعادية لهم، والتهديدات التي لاحقتهم كأفراد أو مؤسسات دينية، وفي مقدمتها المساجد، ودخل عدد من مذيعات ومذيعي القناة أحيانًا في سجالات حادة مع بعض السياسيين وأنصار اليمين المتشدِّد لتوجيه الخطاب العام نحو تحليل الوقائع والحقائق بدلًا من مجاراة منطق الاتهام والنيل من سمعة المسلمين وقيم الإسلام، وخلال شهر ديسمبر/كانون الأول 2015 بثت القناة سلسلة تقارير حول تنامي النزعة المعادية للمسلمين الأميركيين بعد هجمات باريس وكاليفورنيا، واستعرض أحدها ثلاثة تسجيلات صوتية تتوعَّد اثنين من المساجد فيما يسخر الثالث من موظفي مكتب التحقيقات الفيدرالية بسبب حمايتهم لتلك المؤسسات الإسلامية(32).

كثيرًا ما أثارت تغطية القناة بعض الجدل، وأحيانًا الاحتجاج من بعض مناصري التيار اليميني؛ كما حدث عندما استضاف تشاك تود في برنامجه التحليلي (Meets the Press Daily) الناشطة المسلمة داليا مجاهد؛ التي أوضحت أن أغلب الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة وقعت على أيدي أشخاص مسيحيين بيض"(33).

فقد أجرى تشارلز كورزمان من جامعة نورث كارولينا وديفيد شانجز من جامعة ديوك خلال شهر يونيو/حزيران 2015 مقابلات مع 382 من مديري ورجال الشرطة من مختلف أرجاء الولايات المتحدة لمعرفة تصوُّراتهم حول مصدر التهديدات الرئيسة بأعمال العنف.. وأظهرت الدراسة التي أشرفت عليها مؤسسة نيو أميركا (New America) أن قرابة ضعف عدد الضحايا نتيجة أعمال العنف خلال الأعوام الأربعة عشر؛ التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، قُتلوا على أيدي العنصريين البيض، أو النازيين الجدد، أو المتعصبين المناهضين للحكومة الأميركية والمتطرفين من غير المسلمين؛ الذين نفذوا تسعة عشر هجومًا مقارنة مع سبعة هجمات أقدم عليها بعض المتطرفين المسلمين(34).

يقول كورزمان: إن وكالات تنفيذ القانون في الولايات المتحدة أكدت أن مخاطر العنف من المتطرفين المسلمين لا تصل إلى مستوى ما هو عليه من متطرفي الجناح اليميني(35)، وأن أعمال العنف المناهضة للحكومة تشكُّل نسبة 74% مقابل 39% من أعمال العنف المستوحاة من سلوكيات تنظيم القاعدة. وتأتي في المرتبة الثالثة أعمال العنف التي تستهدف البيئة بنسبة 33%(36).

أسهمت القناة إلى حدٍّ كبير في نشر السرديات المعيارية التي تتعامل مع المسلمين والإسلام على غرار سائر المجتمعات والأديان؛ وسعت -أيضًا- لتذكير الأميركيين بدور المسلمين الأميركيين عبر التاريخ للتخفيف من خشية اليمين المحافظ من التعدُّدية والاختلاف العرقي والديني في الولايات المتحدة.

ج‌. سي إن إن: التحقُّق والأسئلة العميقة
دأبت قناة سي إن إن على إبداء تريُّث مهني ملموس في التعامل مع حوادث العنف التي تورَّط فيها أو راح ضحيتها بعض المسلمين، ولم تُسقط أحكام القيمة عليها، أو تُجاري بعض الضيوف من خبراء الدراسات الأمنية، أو محلِّلي شؤون الشرق الأوسط ممن يدفعون أحيانًا بعيدًا بتأويلاتهم في نسج علاقة مباشرة بين المسلمين والتطرف والإرهاب، وتمسَّكت القناة -أيضًا- بتصوير المسلمين الأميركيين كبقية الأقليات دون استخدام عبارات تنمُّ عن استبعادهم نحو خانة الآخر، أو شَيْطَنَتِهم كما فعلت بعض القنوات اليمينية؛ وفي عدة مناسبات، اعتمدت سي إن إن تقنية التحقُّق من بعض الوقائع في وجه بعض التصريحات غير الموضوعية حول الإسلام والمسلمين، وفي ذروة الجدل حول دعوة دونالد ترامب منع المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة -مثلًا- نشرت القناة مقالًا على موقعها الإلكتروني في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 2015 بعنوان: "الحقيقة حول المسلمين في أميركا"، قالت فيه: إن "تلك الحقيقة قد تكون مفاجئة؛ ولكنها ليست بالطريقة التي يتصوَّرها ترامب ومؤيدوه"(37).

سرد المقال عددًا من الخصائص التي يتسم بها المسلمون الأميركيون؛ مثل: مستوى تحصيلهم الدراسي الذي يفوق متوسط الحصول على درجات جامعية متقدمة بين سائر الأميركيين؛ فهم يأتون في المرتبة الثانية في قائمة الأقليات الأكثر تعلُّمًا بعد اليهود الأميركيين، وأوضحت القناة أن أغلب المسلمين الأميركيين متدينون جدًّا، وأن تشبثهم بعقيدتهم على غرار تمسُّك المسيحيين بديانتهم.

استضافت القناة عددًا ليس بالقليل من النشطاء وزعماء الجالية المسلمة في الولايات المتحدة؛ وذلك لتحقيق التوازن والردِّ على تصريحات ترامب، ووضعت على الشاشة عنوانًا عريضًا ذات مرة خلال البرنامج الصباحي (Newsday) يقول: "المسلمون الأميركيون يردُّون على خطة ترامب المقترحة". وقالت سعدية خالق التي كانت من بين ضيوف البرنامج: "إنها خطة تتنافى مع الدستور، وتتعارض مع روح أميركا، وهي ليست ما يتوقَّعه المرء من رئيس الولايات المتحدة؛ بسبب أنه يهاجم قانون الحريات الذي يضمن الحرية الدينية، وهذا أمر خطير"(38).

ومن الأمثلة الأخرى على توخي القناة مواجهة الغزل السياسي اعتماد تقنية السؤال المفتوح في التعامل مع تأويلات بعض الضيوف؛ كما فعلت المذيعة أليسين كاميروتا عندما وجهت هذا السؤال إلى ضيفيْها في البرنامج: "استخدم ترامب ألفاظًا قد تكون مربكة، أو أحيانًا مخيفة بالنسبة إلى الأميركيين من غير المسلمين؛ فهو يُردِّد لفظ الجهاد والشريعة بطريقة تجعلهما يتساويان مع التطرف؛ فما الذي لا يفهمه الأميركيون العاديون عندما يسمعون الشريعة والجهاد. ماذا يتعين أن يعرفه الأميركيون عن كيفية اتباع المسلمين الأميركيين مثل هذه الأمور". وفسحت المجال أمام ضيفيها من نشطاء الجالية المسلمة لتوضيح معنى تلك العبارات، وتجاوز المنطقة الضبابية التي أثارتها تصريحات ترامب في أذهان مؤيديه من الأميركيين.

سعت القناة في عدة مناسبات إلى تحفيز أذهان ضيوفها وجمهورها لعقد مقارنة بين وضع المسلمين ووضع أقليات أخرى في الولايات المتحدة؛ فقد سألت المذيعة أشلي بانفيلد -مثلًا- أحد مؤيدي ترامب: "إنْ كان يتعين منع إصدار تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة إلى المسلمين بالنظر إلى أعمال العنف التي قام بها بعضهم". وعندما ردَّ الضيف قائلاً: "إن المسلمين يحاولون السيطرة على العالم". في إشارة إلى احتمال وجود مؤامرة إسلامية؛ تساءلت أشلي: "هل أفهم من كلامك أن هناك مؤامرة يهودية دولية للسيطرة على العالم؟!"(39). وتتكرَّر مثل هذه الأسئلة التحفيزية للتفكير المتأنِّي بدلًا من الانجراف خلف بعض السرديات المعادية للمسلمين.

4. توجيه المُتخيَّل الأميركي عن المسلمين

يمكن تحديد الفرق بين السرديات الإعلامية التي بلورت صورة المسلمين في أذهان الأميركيين من خلال عينة الدراسة في ثلاث فئات رئيسة؛ وذلك بالتوازي مع خطِّ التحرير المستقلِّ أو الليبرالي أو المحافظ؛ الذي تبنَّته تلك القنوات الثلاث:

أولًا: سرديات الاتهام: تعاملت مع تغطية تلك الحوادث من منطلق لا يتردد أحيانًا في إصدار بعض الأحكام الجاهزة؛ مثل: تصوير المسلمين كشعوب غير مُتحضِّرة تميل إلى العنف وإلغاء الآخر ومعاداة أميركا؛ ومن خلال فوكس نيوز امتدَّت هذه الصورة نحو المسلمين الأميركيين -أيضًا- كأقلية "لا تنسجم" مع مقومات المجتمع الأميركي، وأصبح لفظ "مسلم" في أذهان كثير من الفئات اليمينية التي تشاهد هذه القناة باستمرار ينمُّ عن تخيُّلات التعصب والعنف والانغلاق الفكري، وقوالب أخرى تعزُّزها السرديات المتداولة؛ سواء في فوكس نيوز أو قنوات يمينية أخرى؛ مثل: قناة ( (CBNالمسيحية، وقناة (OAN)؛ التي تُقدِّم نفسها كقناة أميركا الموحَّدة.

ثانيًا: سرديات معيارية: استندت إلى التقييم المحايد للإسلام كإحدى الديانات السماوية الثلاث التي تدعو إلى السلام والتعايش وسلسلة أخرى من القيم الكونية؛ وقد تعاملت قناة إم إس إن بي سي أكثر من غيرها مع المسلمين الأميركيين كأحد المكوِّنات العضوية للمجتمع الأميركي، وسعت في الوقت ذاته إلى تصحيح صورتهم ضمن أمَّة قامت ولا تزال على أكتاف المهاجرين، وضرورة احترام المواصفات الدينية والاجتماعية والثقافية لجميع الأقليات؛ غير أن هذه السرديات المعيارية لم تتوالد بفعل الوازع الأخلاقي أو المعنوي لدى الصحفيين الليبراليين لإنصاف الإسلام والمسلمين بالضرورة؛ بل جاءت بفعل تداعيات اللياقة السياسية؛ التي تظل محورية في الخطاب العام الأميركي خارج دائرة الحمى الانتخابية التي غذَّتها تصريحات بعض المرشحين؛ مثل دونالد ترامب، والمثير هنا أن تكون السرديات المعيارية هي أصل التقييمات الأخلاقية أو المعنوية؛ وهي بالتالي ما يبلور منظومة القيم التي يتمسَّك بها الأميركيون في تصوُّراتهم عن المجتمعات والثقافات والديانات الأخرى.

ثالثًا: سرديات وصفية: تداولتها قناة سي إن إن؛ ومن يقترب من خطها التحريري في نقل مشاهد التفجير، أو القتل، أو غيرها من الحوادث المرتبطة بأشخاص مسلمين، ولم تفسح الباب للاجتهاد أو تأويل المعطيات والوقائع على الأرض من قِبَل مذيعيها أو مُحلِّليها من خلال التمسُّك بميثاق الشرف المهني.

5. نقاط فراغ بين السرديات والأرقام
في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2015، أبدى الرئيس باراك أوباما انزعاجًا واضحًا من تلاحق عمليات القتل بسبب انتشار الأسلحة اليدوية بعدما قتل شاب أميركي تسعة من الطلاب والأساتذة في أحد المعاهد العليا في ولاية أوريغان؛ وقد وجد أوباما نفسه يتحدَّث عن معضلة العنف في المجتمع الأميركي للمرة الخامسة عشرة على التوالي منذ دخوله البيت الأبيض عام 2009، وعبَّر عن امتعاضه الشديد مما أسماه "الحديث الروتيني والتغطية الإعلامية الروتينية" لمثل تلك التصفيات الجسدية المتكررة؛ ودعا أوباما وسائل الإعلام لعقد مقارنة بالأرقام بين ضحايا العنف المسلح، وبين ضحايا ما تعتبره الحكومة الأميركية إرهابًا؛ سواء في الخارج أو الداخل خلال السنوات العشر بين 2004 و2013؛ وكشفت الإحصائيات الرسمية أن 316.545 من الأميركيين لقوا مصرعهم بسبب انتشار الأسلحة اليدوية، فيما أودت حوادث الإرهاب بحياة 313 شخصًا (277 ضحايا الإرهاب الدولي و36 بسبب الإرهاب الداخلي).

الشكل البياني رقم 1 يوضح عدد ضحايا العنف المسلَّح وما تعتبره أميركا إرهابًا بين 2004 و2013(40)

 

يلاحظ جون هوغان -أستاذ دراسات الإرهاب في جامعة ماستشوستس في مدينة لويل- أن الباحثين الأكاديميين أصبحوا يلمسون عدم التناسب الواضح بين التصوُّرات العامة حول المسلمين في وسائل الإعلام وبين الحالات والإحصائيات الملموسة لأعمال العنف؛ ويشير إلى "التوافق في الرأي بينهم حول تضخيم خطر الإرهاب الجهادي في الولايات المتحدة، وسوء تقدير لحجم الخطر الماثل من قبل جماعات الجناح اليميني والمناهضين للحكومة؛ وإذا كان هناك درس ينبغي استيعابه فهو أننا تناسينا خلال الأعوام العشرين الماضية ما حدث في مدينة أوكلاهوما، وأن العنف المتطرف يأتي بكل الأشكال والأحجام، ويقع في الغالب في أماكن قلَّما يحوم الاشتباه حولها"(41).

على الرغم من وفرة مثل هذه الدراسات وأهميتها في تصحيح الكثير من عناصر الصورة النمطية تجاه المسلمين في المتخيَّل الأميركي، تظل أغلبية التغطية الإعلامية تعيد إنتاج سرديات سلبية عنهم بفعل التداخل بين الخطابين السياسي والإعلامي.
 
أ‌. في ظل الصورة المرجعية
لم تخلِّف تلك الإحصائيات والدراسات الجديدة أثرًا تصحيحيًّا ملموسًا بعد للصورة المتداولة عن الإسلام والمسلمين؛ بل ازدادت سلبيتها مع وقع بث تعليقات بعض "خبراء" الإرهاب والشرق الأوسط على الشاشة بشكل غير محدود في تحديث ما يختزله ذهن الأميركي العادي عن المسلمين، ولا تقوم الصورة المتداولة كنتاج ذهني يأتي من عدم؛ بل تَتعزَّز وتُعزَّز في الوقت ذاته الصورة المرجعية التي توالدت خلال القرن العشرين عبر أفلام هوليود، ويلاحظ إدوارد سعيد وجود "سوق التمثُّلات عن إسلام متجانس يقوم انتشاره على الغضب والتهديد والتآمر، وهو سوق أكبر وأكثر إفادة وقدرة على توليد مزيد من الإثارة"(42).

ثمة مؤشرات جديدة على تزايد مفعول السرديات الإعلامية المعادية للعرب والمسلمين بين الجيل الجديد من الأميركيين؛ فقد تبيَّن أنّ نسبة 55% منهم يتمسَّكون بتصوُّرات سلبية عن الإسلام مقابل 7% فقط من ذوي التصوُّرات الإيجابية.

وتزيد نسبة ذوي التصوُّرات الإيجابية بين الشباب ومؤيدي الحزب الديمقراطي بست عشرة نقطة عما هو عليه الحال بين مناصري الحزب الجمهوري؛ لكن الاستطلاع الذي أُجري خلال شهر مارس/آذار 2015 توصَّل -أيضًا- إلى خلاصة تدعو إلى بعض التأمل في صيرورة تلك الصورة السلبية بين أجيال الأميركيين؛ وهي أن 40% ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والتاسعة والعشرين لا ينظرون بعين الرضا إلى الإسلام مقارنة مع نسبة 63% وسط الفئة العمرية بين الخامسة والأربعين والأربعة والستين، ونسبة 58% في الخامسة والستين أو ما يزيد(43).

وتُثير هذه النسبة المرتفعة بمعدل أربعة من كل عشرة شبان أميركيين غير راضين عن الإسلام والمسلمين التساؤل حول مدى ارتباطها بنوعية المضمون الإخباري الذي يستقبلونه عبر هواتفهم الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة؛ فضلًا عن شاشات التلفزيون على مدار الساعة. ويأتي هذا التحوُّل الذهني ضمن خلفية سياسية واجتماعية مُركَّبة في الولايات المتحدة؛ إذ يوجد الإسلام في أعين الأميركيين في أسفل السلم بين شتى بقية الأديان.

وفقًا لدراسة قام بها مركز بيو لدراسات الرأي العام (Pew Research Center) عن تحوُّلات مواقف الأميركيين تجاه أتباع الديانات والمعتقدات، ومدى تباينها بين مناصري الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي منتصف 2014، يأتي المسلمون في المرتبة الأخيرة بنسبة 33% في أعين الجمهوريين والمتعاطفين معهم، يسبقهم الملحدون (34%)، والهندوس (47%)، والبوذيون (49%)، والمورمون (52%)، والكاثوليك (66%)، واليهود (67%)، ويأتي في المرتبة الأولى المسيحيون الإنجيليون (71%) وهم يُشكِّلون القاعدة الرئيسة للتيار المحافظ المؤثر في توجُّهات الحزب الجمهوري.

الشكل البياني رقم 2 يُبيِّن مواقف الجمهوريين والديمقراطيين من أتباع الديانات والمعتقدات في 2014(44)

 

بيد أن هذه الصورة تختلف نسبيًّا لدى المؤيدين للحزب الديمقراطي؛ الذي يستقطب إلى صفوفه الكثير من ممثلي مختلف الأقليات العرقية؛ وبالنظر إلى المرجعية الليبرالية للديمقراطيين، فإنهم يضعون المورمن في المرتبة الأخيرة بنسبة 44%، وقبلهم الملحدون (46%)، فيما يأتي المسلمون في المرتبة الثالثة من الأسفل بنسبة 47%؛ وهم بذلك أقل شعبية من المسيحيين الإنجيليين (53%)، ثم الهندوس (54%)، فالبوذيون (57%)، والكاثوليك (61%)، ويوجد في المرتبة الأولى اليهود بنسبة 62%.

يبدو من استقراء هذا الرسم البياني أن صورة المسلمين بعيدة عن المرتبة الأولى؛ التي تظل لـ"المسيحيين الإنجيليين" في نظر مؤيدي الحزب الجمهوري، فيما يُخصِّصها الموالون للحزب الديمقراطي لـ"اليهود"؛ ويأتي المسلمون في المرتبة الأخيرة لدى اليمين وفي المرتبة الثالثة ما قبل الأخيرة لدى اليسار، ولا يستغرب المرء من مدى مناصرة الديمقراطيين الأميركيين لليهود بالنظر إلى مدى إسهام عدد كبير من المنظرين ورجال السياسة في صياغة الفلسفة الليبرالية للحزب الديمقراطي من منطلق خدمة وضعهم كأقلية عبر تاريخ أميركا.

ويوضح صامويل شورشتاين مؤلِّف كتاب "الشعب الذي يختار: السياسة المحيِّرة لليهود الأميركيين" كيف ظلَّ التناغم السياسي بين اليهود الأميركيين والحزب الديمقراطي على الوتيرة ذاتها منذ العشرينات من القرن الماضي، ويعزو ذلك إلى تبنِّي أغلب اليهود الفلسفة الليبرالية التقليدية بشأن العلاقة بين الدين والدولة كخطٍّ رئيسٍ لدى الحزب الديمقراطي، فيما يعتبرون هيمنة فكر المبشِّرين البروتستانت على قاعدة الحزب الجمهوري تهديدًا لذلك النظام الليبرالي(45).

ب‌. قوة السرديات الإعلامية مقابل قوة الأرقام
تنطوي الصورة المتداولة حاليًّا عن المسلمين على تسييس الخطاب العام؛ وذلك بالتلويح بما قد يُشكِّل تهديدًا لأمن الولايات المتحدة في الداخل ولمصالحها الاستراتيجية في الخارج؛ خاصة لدى مهندسي استراتيجية الحزب الجمهوري، ولا غرابة أن يكثر الاستدلال بحوادث متفرِّقة من قبيل عمليات التفجير والقتل التي يرتكبها بعض المتطرفين المسلمين من خلال تجانسها مع الخلفية السوداوية التي تعكس الشبح المتنامي لتنظيم الدولة الإسلامية.

بيد أن الصورة المرجعية تشبَّعت في الماضي بخصوبة الخيال السينمائي من خلال إنتاج هوليود لأكثر من تسعمائة فيلم تُقدِّم شخصيات سلبية قاتمة عن العرب والمسلمين؛ بداية بفيلم (The Palace of Arabian Nights) الذي أخرجه جورج ميليس عام 1905، ويقول جاك شاهين الذي كرَّس عقودًا من حياته لدراسة تلك الصور النمطية: إن هوليود عمومًا لم تقدِّم شخصية إيجابية يمكن أن يستريح إليها المشاهد الأميركي، "أو يقبله كجار له بالنظر إلى مدى التشابه بينهما"؛ بل إن تكرار تلك الصور السلبية لشخصية العربي في السينما تحمل في طياتها تمثُّلات سلبية عبر الأجيال"(46). غير أن التحوُّل بين الصورتين المرجعية والمتداولة لا يتمشى مع ما تُظهره الإحصائيات الجديدة عن طبيعة التهديدات القائمة وهوية مدبِّري أعمال العنف.

6. استنتاجات

بعد تحليل أسباب التحوُّل من الصورة المرجعية إلى الصورة المتداولة للإسلام والمسلمين، تُقدِّم هذه الدراسة ستة استنتاجات رئيسة حول النسق الراهن الذي يتحرَّك من خلاله الإعلام الأميركي:

حركية صورة الإسلام والمسلمين عبر الباب الدوار
تظل صورة الإسلام والمسلمين في الـمُتخيَّل الأميركي رهينة بالتفاعل بين سرديات الاتهام؛ التي تتردَّد في مضمون فوكس نيوز وغيرها من القنوات اليمينية، والسرديات المعيارية من خلال إم إس إن بي سي، ثم السرديات الوصفية كما لاحظنا في أداء سي إن إن؛ وهي بالتالي تتأثَّر سلبًا وإيجابًا بمستوى تغيُّر الصورة الذهنية؛ التي يتبنَّاها الفرد الأميركي تبعًا لمدى اقتناعه أو رفضه لما تُقدِّمه تلك القنوات، وفي ضوء هذا التنافس بدأ تقلُّص إعلام السرديات الوصفية المحايدة لصالح إعلام الرأي والغزل السياسي.

وفي لحظة تأمُّل عند مفترق الطرق بين هذه التيارات الثلاثة المتنافسة، يبدو أن الإعلام الأميركي يمرُّ حاليًّا بمرحلة انفصام بين شخصية المجتهد في البحث عن الأخبار العاجلة وكشف الأسرار المثيرة المرتبطة بزمنه الذهبي قبل بضعة عقود، وبين شخصية العارض لآراء وتحليلات محترفي "التحليل السياسي"؛ لتقديم قراءات للأحداث بما ينمُّ عن أهواء سياسية وأيديولوجية مبطَّنة في أغلب الحالات؛ ويشغل هؤلاء المحلِّلون في الغالب حيِّزًا زمنيًّا على الهواء أطول من مدة التقارير الصحفية الميدانية، وأيضًا من وقت مقدِّمي البرامج الإخبارية.

تغيُّر المعايير المهنية
تراجع تأثير المؤسسات الإعلامية التي تتمسَّك بالخطِّ الاحترافي المتوازن تحت وطأة المنافسة؛ التي ابتدعتها قناة فوكس نيوز كمعقل لتعزيز الخطاب المحافظ اليميني مقابل قناة (إم إس إن بي سي)؛ التي ترفع راية الفلسفة الليبرالية؛ باعتبارهما قطبيِ الرحى في المشهد الإعلامي الأميركي؛ ومن تجلِّيات هذا التمرُّد على المدرسة التقليدية في الإعلام الأميركي الذي قادته شبكات NBC وABC وCBS لعقود طويلة، تظلُّ فوكس نيوز قناة "الريادة" ليس في حجم مشاهديها فحسب؛ بل في قدرتها -أيضًا- على توجيه الخطاب العام نحو اليمين، وأحيانًا اليمين المتطرف.

يضع هذا الزخم المتنامي في الخطاب اليميني في بعديْه الإعلامي والسياسي تحديات جديدة أمام جهود تغيير الصورة النمطية؛ سواء المرجعية أو المتداولة حاليًّا عن المسلمين؛ خاصة إذا ترقَّب المرء بعض الاحتكام إلى منظومة القيم الإنسانية، والعودة إلى مناصرة فكرة البوتقة التي تطفو من حين إلى آخر في تصريحات الساسة ومرشحي اليسار الليبرالي، وأصبح النيل من سمعة المسلمين أحد أسلحة المواجهة الذي يستخدمه اليمين في مواجهة اليسار؛ بداية بالمستوى الإعلامي، ومرورًا بالمستوى السياسي، ونهاية بالمستوى الثقافي.

صناعة الـ"نحن" و"الآخر"
أسهمت وسائل الإعلام اليمينية من خلال سرديات الاتهام في تعزيز الانشطارية بين الـ"نحن" الأميركيين والـ"هم" المسلمون، وتعزَّز هذا المتخيَّل القائم على تكريس ميزان الضدية والاعتداد بما يُسمِّيه العالم النفساني سيغموند فرويد بنرجسية الفوارق الضئيلة بين "نحن الإيجابيون" وبين "هم السلبيون".

وقد تكاثرت سرديات الانقسام واستبعاد الآخر خلال عام 2015 من خلال فوكس نيوز وبقية وسائل الإعلام اليمينية المحافظة؛ وأوجدت تبريرًا لنظام التصنيف الذي يعتبره هنري تاجفيل (1919-1982) -مُؤَسِّس نظرية الهوية الاجتماعية- حجر الزاوية في صناعة المتخيَّل السلبي عن الآخر، واحتكار المتخيَّل الإيجابي عن الذات أو الأنا الجماعية؛ ويقوم نظام التصنيف على ثلاث عمليات ذهنية في تقييم الفوارق بين الـ"نحن" كمجموعة داخلية وبين الـ"هم" كمجموعة خارجية؛ أولها: التصنيف الاجتماعي؛ الذي يُسقط على المجموعتيْن أوصافًا تنمُّ عن الاختلاف العرقي، أو الديني، أو الجغرافي، أو غيره. ثانيًا: تحديد هوية الانتماء إلى المجموعة الداخلية بما يتمشى مع قيمها وثقافتها المشتركة. ثالثًا: المقارنة الاجتماعية؛ وهي الأخطر من سابقتيْها عندما يحتكر أعضاء كل مجموعة "الفضائل" للمجموعة الداخلية، ويُسقطون "النواقص" على المجموعة الأخرى.

مشروع تغييب الآخر "المسلم"
أصبحت وسائل الإعلام اليمينية في عصر صحافة الرأي في الولايات المتحدة تعمل أسوة بكتُّاب الاستشراق في نهاية القرن التاسع عشر؛ عندما حوَّلوا العربي أو المسلم إلى خانة الآخر الصامت؛ بل تسعى -أيضًا- لتكريس هيمنة الخطاب اليميني المتشدِّد بين الأميركيين؛ وذلك أملًا في أن يصبح العربي أو المسلم متقوقعًا ضمن خانة الآخر المغيَّب، أو ما يُسمِّيه الباحث تغييب الآخر بذريعة أنه "إرهابي"؛ حتى يُثْبِتَ براءته.

ينطوي هذا المد على مشروع شَيْطَنَة المسلمين في أميركا؛ وأحيانًا تخوينهم، وتضييق الخناق عليهم إعلاميًّا وسياسيًّا؛ وقد تعالت بعض الأصوات عبر شاشة فوكس نيوز تطالب بعدم منح تأشيرات الدخول إلى أميركا للراغبين في الهجرة أو السفر إليها من مواطني الدول العربية والإسلامية، وأصبحت تشكِّل في أذهان بعض الأميركيين "حلًّا عمليًّا" في مواجهة التطرف والإرهاب، والأكثر من ذلك، أصبح الإعلام اليميني ينادي بمحاكاة بعض الخطايا التي ارتكبتها أميركا في حق بعض الأقليات وتكرارها مع المسلمين؛ وقال فرانكلين غراهم -ابن وخليفة بيلي غراهم، أبرز مُبشِّر إنجيلي في البلاد منذ السبعينات، والمستشار الروحي لثلاثة من الرؤساء الأميركيين- في مقابلة مع فوكس نيوز عقب حادث ولاية تينيسي: إنه "ينبغي منع جميع المسلمين من الهجرة إلى أميركا، وأن تتم معاملتهم على غرار معاملة اليابانيين والألمان عقب الحرب العالمية الثانية". وأضاف: إن المسلمين الذين يأتون أميركا "لديهم القدرة على أن يصبحوا متشدِّدين"، وبالتالي "يسهمون في أعمال القتل دفاعًا عن شرف دينهم وشرف محمد"(47).

منطق "الإرهاب الجهادي" ومنطق "الخلل العقلي"
ثمة ازدواجية تكرَّرت في الطرح الإعلامي خلال عام 2015 وأيضًا منذ 2001؛ عندما لا يتردَّد بعض المذيعين والمحللين في "استخلاص" الأسباب الكامنة خلف الهجمات المسلحة بالنظر إلى اسم المهاجم وأصله العرقي؛ وكما لاحظنا لوَّحت فوكس نيوز بورقة الخلل العقلي أو الاضطرابات النفسية في أغلب الحالات إذا كان اسم المهاجم أميركيًّا أبيض؛ وفي المقابل، يكون تغليب احتمال النوايا الإرهابية إذا كان الاسم عربيًّا أو مسلمًا، وتنعكس هذه الازدواجية سلبًا على الجالية المسلمة والعربية؛ وذلك في ظلِّ مُركَّب الخوف المتنامي بسبب سهولة استخدام ورقة الاضطرابات النفسية؛ سواء في وسائل الإعلام، أو أمام المحاكم لصالح المهاجمين البيض.

صورة الإسلام والمسلمين خلف مبدأ الحريات
مع تنامي صحافة الرأي كسمة بارزة فيما تُقدِّمه فوكس نيوز وغيرها، يلاحظ المرء اتجاهًا متزيدًا نحو تبرير النيل من سمعة الإسلام أو المسلمين أو العرب بضرورة "حماية" مبدأ حرية التعبير؛ ولو إزاء الأمور الحساسة ثقافيًّا، أو المقدسات من الناحية الدينية، ووجدت مذيعة فوكس نيوز ميغن كيلي -مقدمة ثاني أشهر برنامج على هذه القناة- ضالتها في التمسُّك بحرية التعبير والتشجيع على نشر الصور الكاريكاتيرية عن النبي محمد، وهي تعلِّل ذلك بالتساؤل: "ماذا نريد أن نفعل إزاء مجموعة تريد قتلنا؟" وتختم برنامجها بالقول: "إنني قلقلة من أميركا التي تريدوننا أن نعيش فيها"(48).

وفي هذا السياق، تزداد التحديات في طريق النشطاء والداعين إلى تصحيح صورة الإسلام، والدفاع عن خصوصيته على غرار بقية الأديان في الولايات المتحدة؛ وتبقى المسافة متباعدة بين التأكيد على حرية التعبير كما يضمنها الدستور الأميركي من جهة، وبين حرية العقيدة واحترامها كإحدى تفريعات الدستور والفلسفة السياسية القائمة لدى الأميركيين، وتقول مها الجنيدي -رئيسة جمعية المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة: إن الحاجة تدعو إلى أكثر من القانون لمكافحة الصور النمطية والمواقف عميقة الجذور في أغلب الحالات. وتدعو إلى التفاعل المباشر والتعليم والتعايش والتفاعل بين مختلف الأديان من أجل التحرُّر من قبضة المشاعر المعادية للإسلام في هذه البلاد(49).
_________________________ 
د. محمد الشرقاوي: أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسين، وزميل في مركز تحليل السرديات وتسوية النزاعات- واشنطن.

الهوامش
1. Said, E. Covering Islam: How the Media and the Experts Determine How to See the Rest of the World, (Vintage Books, Random House, First edition 1981), p. 26.
2. Stromback, J., Esser, F., “Shaping Politics: Mediatization and Media Interventionism”, in Knut Lundby (ed.) Mediatization, (Peter Lang Publishing, 2009), p. 209.
3. Krotz, Friedrich, “The Meta-process of ‘Mediatization’ as a Conceptual Frame”, Global Media and Communication, (2007, 3), p. 259.
4. Ibid, p. 256.
5. Stromback, J., Esser, F., “Shaping Politics: Mediatization and Media Interventionism”, op, cit, p. 208.
6. Friesen, N., Hug, T., “The Mediatic Turn: Exploring Concepts FOR Media Pedagogy”, in Lundby Knut, (ed.) Mediatization: Concept, Changes, Consequences, (Peter Lung Publishing, 2009), p. 70.
7. Smith, Aaron, “U.S. Smart Phone Use in 2015”, Pew Research Center, 1 April 2015 (Visited on 25 December 2015):
 http://www.pewinternet.org/2015/04/01/us-smartphone-use-in-2015/
8. Habermas, J. The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society, Translation by T Burger with F Lawrence, (Polity Press, Cambridge, 1989), p. 136.
9. Ibid, p. 136.
10. Gamson, William A, Croteau, David, Hoynes, William and Sasson, Theodore, “Media Images and the Social Construction of Reality”, Annual Review of Sociology, (Vol. 18, 1992), p. 374.
11. Ibid, p. 374.
12. Obama, B. The Audacity of Hope: Thoughts on Reclaiming the American Dream, (Random House Large Print, 2006), p. 121.
13. Gamson, William A, Croteau, David, Hoynes, William and Sasson, Theodore, “Media Images and the Social Construction of Reality”, op, cit, p. 374.
14. Said, E. Covering Islam: How the Media and the Experts Determine How to See the Rest of the World, (Vintage Books, Random House, Revised edition 1997), p. 154.
15. Bennett, William L. News: The Politics of Illusion, (University Of Chicago Press; Ninth Edition, 2015), p. 208.
16. Timothy, Cook, “The News Media as a Political Institution: Looking Backward and Looking Forward”, Political Communication, (2, 2006), p. 159-171.
17. Couldry, N. Curran, J. Contesting Media Power: Alternative Media in a Networked World, (Rowman and Littlefield, Maryland, 2003), p. 4.
18. Friesen, N., Hug, T., “The Mediatic Turn: Exploring Concepts FOR Media Pedagogy”, op, cit, p. 66.
19. Sargent, Greg, “Poll: Fox News watchers far more likely to have negative views of Muslims”, The Washington Post, 16 February 2011, (Visited on 25 December 2015): إضغط هنا.
20. “Gunman identified in shooting deaths of 4 Marines at Tennessee Navy Facility”, Fox News, 17 July 2015, (Visited on 25 December 2015):
http://www.foxnews.com/us/2015/07/17/shooting-reported-at-chattanooga-army-recruiting-center-college-on-lockdown/
21. Ibid.
22. Fang, Marina, “Fox News Reporter Tells Fox News Host She Might Be A Conspiracy Theorist”, Huffpost, 20 July 2015, (Visited on 25 December 2015)
http://www.huffingtonpost.com/entry/greta-van-susteren-conspiracy-theorist_55ad9825e4b065dfe89f35bc
23. Ibid.
24. “Texas Officer saved Lives in Shooting Outside Muhammad Cartoon Context”, Fox News, 4 May 2015, (Visited on 25 December 2015):
http://www.foxnews.com/us/2015/05/04/police-shooting-at-muhammad-cartoon-contest-in-texas
25. Ibid.
26. Williams, Jimmy, “The Day Fox News Blatantly Lies About Barack Obama. Wait, That’s Every Day”, Blue Nation Review, 6 May 2015, (Visited on 25 December 2015):
http://bluenationreview.com/the-day-fox-news-blatantly-lies-about-barack-obama-wait-thats-every-day/#ixzz3nZS88deD
27. Talbot, Margaret, “The Story of a Hate Crime”, The New Yorker, 22 June 2015.
28. O’Reilly, Bill, “Three Muslims Murdered in North Carolina. Was it a Hate Crime?”, Fox News, 16 February 2015, (Visited on 25 December 2015):
http://www.foxnews.com/transcript/2015/02/16/bill-oreilly-three-muslims-murdered-in-north-carolina-was-it-hate-crime/
29. Ibid.
30. Ibid.
31. Ibid.
32. “Backlash! MSNBC Reports 'Uptick' In 'Attacks' On Muslims, Cites Mean Voicemail”, 9 December 2015, (Visited on 24 January 2016)
http://www.truthrevolt.org/news/backlash-msnbc-reports-uptick-attacks-muslims-cites-mean-voicemail
33. “MSNBC guest says Muslims are the LEAST terrorist faith group in America”, The Right Scoop, 27 November 2015, (Visited on 25 January 2016)
http://therightscoop.com/msnbc-guest-says-muslims-are-the-least-terrorist-faith-group-in-america/#ixzz3yxJ7t150
34. Shane, Scott, “Homegrown Extremists Tied to Deadlier Toll Than Jihadists in U.S. Since 9/11”, The New York Times, 24 June 201, (Visited on 25 December 2015):
http://www.nytimes.com/2015/06/25/us/tally-of-attacks-in-us-challenges-perceptions-of-top-terror-threat.html?_r=0
35. Ibid.
36. Kurzman, Charles, Schanzer, David. “Law Enforcement Assessment of the Violent Extremism Threat”, The Triangle Center on Terrorism and Homeland Security, 25 June 2015.
37. Yan, Holly, “The truth about Muslims in America”, CNN, 9 December 2015, (Visited on 24 January 2016):
http://www.cnn.com/2015/12/08/us/muslims-in-america-shattering-misperception/
38. “On CNN, Two Muslim Activists Explain How Trump's Rhetoric Can Lead To Backlash Against Muslims And Other Minorities”, Media Matters for America, 8 December 2015, (Visited on 24 January 2016):
 http://mediamatters.org/video/2015/12/08/on-cnn-two-muslim-activists-explain-how-trumps/207317
39. Chariton, John, “CNN’s Ashleigh Banfield Asks Trump Supporter If Jews Should Be Banned Like Muslims”, The Wrap, 8 December 2015, (Visited on 24 January 2016)
http://www.thewrap.com/cnns-ashleigh-banfield-asks-trump-supporter-if-jews-should-be-banned-like-muslims-video/
40. Jones, Julia, Bower, Eve. “American deaths in terrorism vs. gun violence in one graph” CNN, 2 October 2015, (Visited on 25 December 2015):
http://www.cnn.com/2015/10/02/us/oregon-shooting-terrorism-gun-violence/
41. Shane, Scott, “Homegrown Extremists Tied to Deadlier Toll Than Jihadists in U.S. Since 9/11”, op, cit.
42. Said, E. Covering Islam: How the Media and the Experts Determine How to See the Rest of the World, (Vintage Books, Random House, Revised edition 1997), p. xxviii.
43. Kaleem, Jaweed, “More Than Half of Americans Have Unfavorable View of Islam, Poll Finds”, Huffpost, 10 April 2015, (Visited on 25 December 2015): http://www.huffingtonpost.com/2015/04/10/americans-islam-poll_n_7036574.html
44. “How Americans Feel About Religious Groups. Jews, Catholics & Evangelicals Rated Warmly, Atheists and Muslims More Coldly” PewResearchCenter, 16 July 2014, (Visited on 25 December 2015):
http://www.pewforum.org/2014/07/16/how-americans-feel-about-religious-groups
45. Sides, John. “Why Most American Jews Vote for Democrats”, The Washington Post, 24 March 2015.
46. Shaheen, J. Reel Bad Arabs: How Hollywood Vilifies a People, (Olive Branch, New York, 2001), p. 11.
47. Merritt, Jonathan, “Franklin Graham's Turn Toward Intolerance”, The Atlantic, 19 July 2015, (Visited on 25 December 2015):
http://www.theatlantic.com/politics/archive/2015/07/franklin-grahams-turn-toward-intolerance/398924/
48. ‘Confused and Wrong’: Megyn Kelly Blows Up at O’Reilly, Guest over Muhammed Cartoons, mediaite, 5 May 2015, (Visited on 25 December 2015)
http://www.mediaite.com/tv/confused-and-wrong-megyn-kelly-blows-up-at-oreilly-guest-over-mohammed-cartoons/
49. Elgenaidi, Maha, “Addressing Islamophobia, One Person as a Time”, ISLAMiCommentary, June 29 2015, (Visited on 25 December 2015):
http://islamicommentary.org/2015/06/addressing-islamophobia-one-person-at-a-time-by-maha-elgenaidi/

نبذة عن الكاتب