تركيا والثورة الليبية: الدبلوماسية أولا

راهنت تركيا في الأزمة الليبية على الدبلوماسية أولا، لأنها اعتبرت الخيار العسكري مكلفا وغير حاسم، وقد يجعل ليبيا نسخة أخرى من العراق والصومال.
1_1057713_1_34.jpg







 

برهان كوروغلو


شهدت الفترة التي تسلم فيها حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا إصلاحات اقتصادية وديمقراطية وحقوقية، كما شهدت تقدمًا في مجال الحريات والرفاه الاجتماعي. ومن هنا فقد شكّلت هذه الحكومة برئاسة طيب أردوغان نموذجًا إيجابيًّا للدول العربية التي تشترك مع تركيا في عناصرها التاريخية والثقافية، حتى أن العديد من المحللين السياسيين اعتبروا النموذج التركي أحد أهم مصادر الإلهام للثورات العربية الشعبية والتي بدأت بتونس.


وقد تفاعلت الحكومة التركية مع الثورتين الشعبيتين في تونس ومصر منذ بدايتهما بشكل إيجابي؛ إذ طلب رئيس الوزراء التركي من رئيسي الدولتين الاستجابة السريعة لمطالب شعبيهما. أما مع الثورة الليبية فقد تفاعلت كذلك معها منذ البداية، إذ باشرت منذ بداية التحرك الثوري على تأمين الرعايا الأتراك الذين يعملون في ليبيا، وقد عمدت في تلك الفترة إلى إظهار نوعٍ من الصمت إزاء ما يقع في ليبيا من قتل للثوار والمتظاهرين. وقد قامت الحكومة التركية فعليًّا في تلك المرحلة الحرجة جدًا بإجلاء عشرين ألف شخصٍ من الرعايا الأتراك، بالإضافة إلى إجلاء خمسة آلاف شخص من رعايا أربعة وخمسين دولة أخرى عن طريق البر والبحر والجو، وكان من الصعوبة البالغة على الحكومة التركية أن تنجح في تنفيذ عملية الإجلاء هذه بدون إجراء اتصالات مباشرة مع الحكومة الليبية والثوار في آن واحد.


إلا أن الثورة الليبية قد اتخذت مسارًا مختلفًا عن مسار سابقتيها في تونس ومصر، ومن هنا فقد تم تناول هذه الثورة بشكلٍ مختلفٍ سواءً من قبل القوى الغربية أو الحكومة التركية. ومن أجل فهم هذا، فمن المفيد التعرض للموقف التركي ولتطورات الأحداث منذ بداية هذه الثورة.


تركيا ومخاوف السيناريو العراقي
تركيا والدور الإنساني في ليبيا
مجلس الأمة التركي: ضوء أخضر للعمل العسكري
الديمقراطية بأقل تكاليف


تركيا ومخاوف السيناريو العراقي 





بإمكاننا أن نقول أنه ساد نوعٌ من الصّمت من قِبل الحكومة التركية في بداية الأزمة الليبية حتى تمَّ إجلاء الرعايا الأتراك وغيرهم من رعايا الدول الأخرى، وبعدها صرَّحت تركيا بمعارضتها للتدخل العسكري كما فعلت في الأزمة العراقية.
بعد التهديدات التي شكلتها قوات القذافي لمدينة بنغازي، وبعد صدور قرار مجلس الأمن رقم: 1973 في السابع عشر من مارس/آذار، والقاضي بجواز استخدام القوة في ليبيا، اتجهت فرنسا لعقد اجتماع دولي لبحث هذه القضية، والذي لم يتم فيه توجيه الدعوة لتركيا بهدف تهميشها، ثم بدأت فرنسا مباشرة بعملية عسكرية بشكل أحاديّ، نفذتها مقاتلاتها الجوية، ودون تنسيق مع قوات الناتو.

وقد عبّرت الحكومة التركية على لسان رئيس حكومتها ووزير خارجيتها -في تلك الآونة- غير مرةٍ عن قلقها من العملية العسكرية التي تم تنفيذها على ليبيا منذ البداية، وذلك خوفًا من حدوث تطوراتٍ مشابهة لما حصل وما زال يحصل في العراق وأفغانستان، إذ كانت المقاربة التركية لحلِّ هذه الأزمة وغيرها من المشكلات الإقليمية تتجه إلى تغليب الوسائل والطرق والمبادرات الدبلوماسية السلمية.


ومع ذلك، كان هناك استمرارٌ وحرص من الحكومة التركية للتأكيد على ضرورة "تطبيق الديمقراطية" و"مراعاة حقوق الإنسان والحريات" و"إجراء إصلاحات جذرية في الدول العربية"، وقد قامت بدعم الثورتين الشعبيتين في كلٍّ من تونس ومصر، وطلبت من قادة هاتين الدولتين الاستماع لمطالب الشعب. وبنفس الطريقة وعين المنطق اتصل رئيس الحكومة التركي في بداية الأزمة مع القيادة الليبية وطالب بحلّ الأزمة بالطريق السلمية، وقد أعلن أردوغان لوسائل الإعلام بعد تطور الأزمة الليبية للنزاع المسلح، معارضته الكلية لاستخدام السلاح والقتال لحلّ الأزمة، مع تأكيده على ضرورة تنفيذ طلبات الثوار والشعب الليبي فورًا، مع التأكيد على حقن الدماء قدر الإمكان، وإتباع كل الطرق الدبلوماسية المؤدية لذلك.


وبإمكاننا أن نقول أنه ساد نوعٌ من الصّمت من قِبل الحكومة التركية في بداية الأزمة الليبية حتى تمَّ إجلاء الرعايا الأتراك وغيرهم من رعايا الدول الأخرى، وبعدها صرَّحت تركيا بمعارضتها للتدخل العسكري كما فعلت في الأزمة العراقية. واعتبرت تركيا أن الخطوة التي اتخذتها فرنسا في البداية -كمحاولةٍ من ساركوزي لتحسين وضعه في الانتخابات المقبلة- لا يمكنها أن تحقق نتائج جدية في الجانب العسكري الإستراتيجي، بل بإمكانها أن تزيد من سوء الأوضاع في ليبيا. وطالبت تركيا بدل ذلك بتدخل قوات دولية بقيادة الأمم المتحدة بناء على القرارين 1970 و 1973 أو بتدخل قوات الناتو تحت مراقبة الأمم المتحدة.
وقد فسَّر رئيس الحكومة التركي ووزير خارجيته تحول القوى الغربية المفاجئ من العلاقات الطيبة مع نظام القذافي إلى تشكيل قوة تدخل عسكرية متحالفة مع قوى المعارضة للتخلص منه بشكل سريع، على أنه ليس رغبة من هذه القوى في تطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل على أنه رغبة من هذه الدول في استغلال الموارد النفطية لهذه الدولة.


وفي هذه الفترة ومن خلال إقناع دول الناتو بالمبادرة التركية، حصل تفاهمٌ دوليّ على تولي قوات الناتو العمليات العسكرية في ليبيا.


وقد بيّن أردوغان أن العملية العسكرية التي قام بها ساركوزي تنطوي على منافع وأهداف أخرى؛ منها ما يتعلق بالانتخابات الفرنسية المقبلة. وفي أثناء حديثه لوسائل الإعلام بيّن أن العملية العسكرية التي تجري في ليبيا بإمكانها أن تنتج عنها ظروفٌ مشابهة للعملية العسكرية التي جرت من قبل للعراق. وفي جواب عن سؤال يتعلق بهذا الموضوع قال أردوغان:


"قلنا هذا منذ البداية، لا نريد أزمةً عراقيَّةً ثانية، لقد شاركت حوالي أربعين دولة مع الولايات المتحدة لمحاربة العراق، ولم تشارك قوات الناتو في هذه العملية، وقد مضت منذ الآن ثماني سنوات تم خلالها تدمير العناصر الحضارية لهذه الدولة، كما تم قتل أكثر من مليون شخص، وإلى الآن لا توجد سيادة عراقية حقيقية، ولم يرغب الشعب بدخول تركيا للعراق فلم ندخل، وعندما كنَّا نقابل القادة العراقيين كانوا يطلبون منّا عدم الدخول".


وقد أكد أردوغان أيضًا في سياق تصريحاته على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية من التقسيم، وأكدَّ على ضرورة أن يستمع القذافي إلى مطالب الشعب الليبي، وعبّر أردوغان عن إيمانه بصحّة توجهات الشعب الليبي نحو الحرية والديمقراطية، وقال: "ويجب أن لا تكون المسألة الليبية مجالاً للحسابات القائمة على النفط، ويجب التعامل مع هذه المسألة باعتبار أن ليبيا هي لليبيين"،  وأكد على ضرورة تغيير النظام في ليبيا من خلال المحافظة على مبدأ حقن الدماء قدر الإمكان.


وقد حاولت تركيا أن لا تقطع علاقاتها مع الثوار الليبيين ومع نظام القذافي حتى تتاح لها الفرصة فيما بعد للقيام بجهود للوساطة السلمية، وقد عملت في نفس الوقت على إبقاء طرق وصول المساعدات السلمية مفتوحة.


تركيا والدور الإنساني في ليبيا 


وبعد بدء العمليات العسكرية للناتو، تم إجلاء 550 جريحا حالاتهم حرجة من مصراتة وبنغازي بواسطة الطائرات الحربية والفرقاطات، وقد أوضحت الحكومة أن علاقة تركيا مع طرفي النزاع كانت وراء نجاح عملية الإجلاء هذه، وأن تركيا ما زالت مستمرة في إيصال المساعدات والاحتياجات الإنسانية الضرورية إلى الشعب الليبي، وذلك من خلال تنسيقها مع الهلال الأحمر التركي، وبمساهمة من دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي نتج عنها إرسال سفينتين ضخمتين محملتين بمساعدات إنسانية إلى بنغازي في الرابع عشر والخامس عشر من مارس/آذار، كما ساهم الهلال الأحمر التركي في تقديم خدماته الطبية بشكلٍ مكثّف في مصراتة وبنغازي.





قد بيّن أردوغان أن العملية العسكرية التي قام بها ساركوزي تنطوي على منافع وأهداف أخرى؛ منها ما يتعلق بالانتخابات الفرنسية المقبلة.
وقد نظرت الحكومة التركية بنوع من الريبة لتدخل قوات الناتو في ليبيا، إلا أن أردوغان ذكر -في حديثه للصحافة أثناء وجوده في العاصمة البريطانية لندن في الأول من شهر نيسان/أبريل- ، أن تدخل الناتو بإمكانه أن يكون إيجابيًّا بشرط أن لا يحصل مثل ما حصل في أفغانستان. كما عارض أردوغان في السياق ذاته تسليح الثوار الليبيين لما سينتج عنه من آثار سلبية؛ منها ما يتعلق باستغلال السلاح من قبل جماعات إرهابية. وقد اعتبرت قوى المعارضة الليبية هذا الموقف موقفًا سلبيًّا من قبل الحكومة التركية، إلا أن الحكومة أكدت وبيّنت أنها تسعى لحل الأزمة الليبية سلميًّا، وأنها تنتهج مبدأ التوصل إلى حل بدون استخدام السلاح قدر الإمكان.

ولعل ما يسند تشاؤم الموقف التركي من الحسم العسكري، أن بعض المراكز البحثية تناولت الإستراتيجية العسكرية المعتمدة في ليبيا من هذا المنطلق، ويمكن أن نصنف التحليلات التي تناولتها تحت العناوين الرئيسية التالية:


لقد بني التدخل العسكري منذ البداية على التخلص من القذافي، فلقد صرّح أوباما بأن على القذافي أن يترك الحكم، ولم تظهر مبادرة منذ بداية الهجمات الفرنسية تدل على إمكانية أن يحدث نوع من التفاوض مع النظام الليبي. وبقيت هذه المقاربة موجودة رغم وعد القذافي بوقف إطلاق النار، مما يمكن أن يضع العملية العسكرية، بسبب محدوديتها واقتصارها على العمليات الجوية فقط دون أن يكون هنالك تدخل بريٌّ، في طريق مسدود، حيث يظهر أن القذافي قد وضع لنفسه خيارًا وحيدًا وهو القتال في ظل هذه الظروف، كما بات الثوار مقتنعين أن القتال هو المخرج الوحيد الذي يحققون من خلاله أهدافهم. وبالتالي فقد أصبح القتال المحتدم هو الخيار الوحيد بين الطريفين.


ولم تمارس قوى التدخل الغربي في ليبيا تصميمًا عمليا واضحًا يؤكد على ضرورة تنحي القذافي عن الحكم، وأنه لا يوجد أمامه سوى هذا الخيار، وفي ظل هذه الظروف لا يتوقع أيضًا أن يقبل القذافي بالتنحي عن كرسي الحكم بسهولة إذا لم يواجه موقفا حازما. وفي هذه الأثناء يقوم القذافي بعرض خطط سلام من خلال عدّة قنوات، إلا أنه مستمر في توجيه ضربات موجعة للقوى الثورية التي تعارضه، حتى يقوّي موقفه التفاوضي.


لقد عملت قوى التحالف في بداية تدخلها على إنقاذ قوى المعارضة من هجمات القذافي، مع تبلور الرؤية لدى الثوار الليبيين بضرورة التخلص من نظام القذافي باستخدام القوة العسكرية، من خلال توسيع عملية التدخل العسكري للناتو، لكنهم اتهموا قوات الناتو بالتباطؤ، وأعربوا عن إصرارهم على تنحية القذافي في أي جلسة تفاوضية يمكن أن تعقد، فكان الخيار القتالي هو الخيار الوحيد لديهم. إلا أن التدخل الغربي أسند مهمة الدفاع للناتو، وألقى على عاتق الثوار مهمة التقدم البري، رغم عدم امتلاكهم القوة البرية الكافية، ولذلك لا يمكن القول بأن ضربات الناتو الجوية مع تحركات الثوار البرية ستشكل نوعًا من التنفيذ العسكري الفعال، فتتضاءل آمال النجاح لهذه القوى في التوصل إلى إنجازات جدية حتى الآن.


وعندما بان أن قوى الثوار لا تملك القوة الكافية في المعارك البرية على الأرض لعدم خبرتها وقلة العسكريين لديها، وافتقارها للسلاح، بدأت المطالب من القوى الدولية الكبرى أو القوات الأمريكية بالتدخل والمساعدة في هذا المجال، إلا أنه لا يتوقع من قوات الناتو في هذه الآونة أن تدخل في عملية عسكرية برية نتيجة لاختلاف وجهات النظر في الحلف نفسه. كما أنه من الصعب على الولايات المتحدة أن تقوم بمثل هذه العملية لوحدها، حيث ظهرت في الداخل الأمريكي ردود أفعال معارضة حتى لعملية عسكرية محدودة. كما أنه يمكن أن تلقى هذه العملية معارضةً كبيرةً من الرأي العالمي وخصوصًا من جامعة الدول العربية. وفي ظل هذه الظروف لا يتوقع أن يتخلى القذافي بسهولة عن مواقفه، بل على العكس من ذلك، ربما يحاول أن يقوي من ثقته بنفسه من خلال جهود الواسطة التي تقوم بها دول الاتحاد الإفريقي. فالوضع يشهد عمليا حالة من اضطراب التوازن في القوى، وهذا يعني أن الوساطة لن تقوي من موقف الثوار إلى الدرجة الكافية لتغليب كفتهم، كما أنه لا يعني أيضًا أن بإمكان القذافي أن يتغلب عليهم وأن يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل قيام الثورة.


والنتيجة، أن لدينا طرفي نزاع يحاول كلٌّ منهما التغلب على الآخر، وهو يؤمن بأن القتال هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق أهدافه، وتعمل قوى التدخل الخارجي في هذه الحالات على زيادة لهيب النزاع بين الطرفين، ولذلك كانت تركيا تنظر إلى العمليات العسكرية في ليبيا على أنها ليست حلا مناسبًا، وأن الحل المناسب هو التفاوض السلمي. ومن ناحيةٍ أخرى، تظهر صورة النزاع المسلح في ليبيا بأن التوصل إلى حل سلمي أمر بعيد المنال، وإذا ما استمر توازن القوى في هذه الدولة على نفس الكيفية فمن المتوقع أن تستمر خسارة الأرواح في الطرفين حتى تصل إلى حدٍّ لا يمكن تحمله؛ وحينها ربما يقتنع الطرفان بالحل السلمي، وبمعنى آخر: إن بقاء الوضع في ليبيا على ما هو عليه لن يجلب معه سوى المزيد من القتلى والجرحى.


مجلس الأمة التركي: ضوء أخضر للعمل العسكري 





حاولت تركيا أن لا تقطع علاقاتها مع الثوار الليبيين ومع نظام القذافي حتى تتاح لها الفرصة فيما بعد للقيام بجهود للوساطة السلمية، وقد عملت في نفس الوقت على إبقاء طرق وصول المساعدات السلمية مفتوحة.
صادق مجلس الأمة التركي في الرابع والعشرين من مارس/آذار على مذكرة منح رخصة للحكومة تخولها اتخاذ قرار التدخل العسكري في ليبيا، وجاء في نص المذكرة المصادق عليها ما يلي: "يمنح البرلمان رخصة أمدها عامٌ واحدٌ للحكومة، تخوّلها صلاحيةَ إصدار التعليمات للجيش بالتدخل العسكري في ليبيا بهدف المساهمة مع القوات الدولية في ترسيخ الأمن والاستقرار، وذلك في إطار قرار الأمم المتحدة الصادر بتاريخ 26 فبراير/شباط 2011".  كما يخوّل البرلمان الحكومة بتحديد الزمان والمكان وشكل وحجم وطريقة التدخل العسكري في ليبيا، دون أخذ قرار جديد من البرلمان.

وتختلف هذه الرخصة عن سابقاتها -من الرخص التي صادق عليها مجلس الأمة التركي في أفغانستان والبوسنة وغيرها من الدول- في المرونة التي منحها المجلس للحكومة لتحديد طبيعة ومهام هذه القوات. وفي هذا المجال، يمكن أن نستنتج النقاط التالية:



  1. فيما يتعلق بطبيعة القوة ومهمتها: رغم أن كل القوات البحرية التركية المرسلة مكونة من خمس سفن بحرية وغواصة، وقد بدأت بالتحرك من قواعدها قبل صدور القرار من البرلمان، إلا أن القرار الذي صادق عليه مجلس الأمة التركي، يخول جميع أصناف القوات التركية البحرية منها والجوية والبرية التدخل في أيّة عملية تراها الحكومة مناسبةً في ليبيا.

    أما القوة العسكرية التي تم إرسالها إلى الصومال مثلا، في العاشر من فبراير/شباط سنة 2009، فقد حدّد مجلس الأمة التركي تخويله للقوات البحرية فقط دون غيرها من القوات العسكرية. وهكذا كان الأمر في لبنان، فقد حدد مشاركة القوات التركية في الخامس من مارس/آذار من عام 2006 بالقوة البحرية اللازمة، وتأمين النقل الجوي للدول المتحالفة والصديقة، وتدريب الجيش اللبناني، وقوة إسناد وحماية يتم تحديد حدودها وعددها من قبل الحكومة.


  2. فيما يتعلق بالمساحة الجغرافية التي تشملها المهمة: جرت العادة في قرارات التخويل السابقة أن يتم تحديد النطاق الجغرافي لعمل القوات بشكلٍ تفصيلي، وهذا ما حصل في المهمتين السابقتين للقوات التركية في كل من الصومال ولبنان، أما فيما يتعلق بالقرار المتعلق بليبيا فلم يتم تفصيل النطاق الجغرافي لمهمة هذه القوات، وتمت فقط الإشارة إلى قراري مجلس الأمن الدولي 1970 و 1973، واللذين يشيران إلى منطقة العمليات العسكرية بشكل ضمني عام.


  3. فيما يتعلق بطبيعة مهمة القوات: جرت عادة مجلس الأمة التركي أن يحدّد مهمة القوات التركية التي يراد إرسالها إلى المناطق الخارجية، وكان يحدد مهمة هذه القوات بشكل تفصيليٍّ مادة مادة، حتى أنه اشترط في مهمة القوات التي تم إرسالها إلى لبنان –مثلاً- أن لا تقوم بأي عملٍ يخرج عن المهمات التي تم تحديدها بشكل تفصيليٍّ، إلا أن هذا الأمر لم يندرج ولم يطبق على القوات التي تمت المصادقة على إرسالها إلى ليبيا، والتي وضع المجال أمامها مفتوحًا لتنفيذ متطلبات قراري الأمم المتحدة اللذين سبق ذكرهما.

    بل إن مجلس الأمة التركي ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد فتح المجال أمام القوات التركية للمشاركة مع قوات الناتو فيما إذا أسندت إليها مهماتٌ عسكرية في ليبيا، وأوصت الحكومة التركية بأن يكون هناك دورٌ فاعلٌ للقوات التركية في عمليات الناتو المحتملة، لتظهر مكانة تركيا كعضو فاعل في الحلف، وتحقق المصالح الإستراتيجية للدولة التركية.

    ومن خلال هذا التخويل للحكومة والمقدم من مجلس الأمة التركي، نستذكر هنا قرار إرسال القوات التركية إلى كوسوفو في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول من عام 1998، فقد استخرجت الحكومة تخويلاً من البرلمان باستخدام القوة العسكرية في إطار مهمات الناتو والقوات المتعددة الجنسيات. وبعد هذا القرار مباشرةً، شاركت المقاتلات التركية في العمليات الجوية في مناطق يوغسلافيا السابقة والتي نظمها حلف الناتو، رغم عدم صدور أي قرار من مجلس الأمن للتدخل في كوسوفو في تلك المرحلة الزمنية.


  4. المهمة المفتوحة: خوّل البرلمان الحكومة من خلال رخصة أمدها عام واحد، تحديد الزمان والمكان وشكل وحجم وطريقة التدخل العسكري في ليبيا، دون أخذ قرار جديد من المجلس. وبقيت منطقة المهمة العسكرية غير محددة، وطبيعتها كذلك غير محددة. ومن خلال ذلك، تم تخويل الحكومة التركية لتتخذ ما تراه مناسبًا حسب تطورات الوضع مع قوات حلف الناتو.

الديمقراطية بأقل تكاليف 


كنتيجة عامة، يمكن القول بأن الحكومة التركية تتعامل مع المسألة الليبية ضمن مبادئ سياستها الخارجية التي اتبعتها منذ تسلمها للسلطة عام 2002، وذلك من خلال ما يلي:



  1. إتباع منهجية الحلول الدبلوماسية بدل النزاعات المسلحة، وذلك من خلال إتاحة الفرصة للدبلوماسية الفاعلة واللقاءات المشتركة والمفاوضات السلمية، والعمل تحت مظلة وسقف الأمم المتحدة، وتقديم المساعدات الإنسانية بكافة الوسائل المتاحة.


  2. من خلال استقراء التدخلات العسكرية الأجنبية في كل من أفغانستان والعراق والصومال، ظهر أن مثل هذه التدخلات العسكرية لم تعد بالفائدة على شعوب هذه الدول، بل خلَّفت وراءها مزيدًا من الاقتتال والدمار، ومن هنا يجب التعامل مع كل منطقة من مناطق التأزم وفق موازين القوى وديناميكياتها الخاصة بها، وإلا لن ينتج عن التدخلات العسكرية إلا مزيدٌ من الاقتتال والدمار.





  3. قدمت القيادة التركية للرأي العام العربي موقفها من الأزمة الليبية بأنه يأتي في إطار تحقيق مصلحة الشعب الليبي، من خلال سعيها للتّوصل إلى حلٍ سلميٍ يحقن دماء المدنيين.
    لابد أولا من إعطاء فرصةٍ للمبادرات الدبلوماسية السلمية لحلِّ الأزمة، ويبقى الحل العسكري الحل الأخير الذي يمكن اللُّجوء إليه، وذلك عند استنفاذ كافة الحلول السلمية المتاحة، وكما يقال: "آخر الدواء الكي".

    ولذلك، عارضت تركيا التوجه الفرنسي الذي انتهز فرصة قرار مجلس الأمن، زيادة على أن تركيا قد اعتبرت عدم دعوتها إلى الاجتماع الذي عقد في باريس عقب قرار مجلس الأمن، رغم أهمية الدور التركي في المنطقة وفي الأزمة الليبية خصوصًا، على أنه نوعٌ من سوء النية والطوية من قبل الحكومة الفرنسية. ومن ثمّ كانت الدعوة إلى أن يكون التدخل العسكري في إطار حلف الناتو، الذي يمكن أن يظل سير عمله محددًا وظاهرًا، بخلاف التحركات الفرنسية الفردية التي يمكن ربطها بالماضي الاستعماري لهذه الدولة بالمنطقة وخصوصًا في دول شمال أفريقيا.


  4. تعتبر الحكومة التركية أن تقديم المساعدات أثناء الأزمات الدولية، ضرورة لابد من القيام بها من خلال كافة السبل المتاحة. وفيما يختص بالأزمة الليبية فقد بدأ الهلال الأحمر التركي وبالتعاون مع السلطات في دولة الإمارات العربية المتحدة، بتقديم مساعداته الإنسانية من معالجة للجرحى، وتقديم الغذاء والدواء للمواطنين. ويذكر أن هذا العمل يقام بالتنسيق مع المجلس الوطني والهلال الأحمر الليبي، ولا ننسى أيضًا الجهود والمساعدات التي تقوم بها المؤسسات الأهلية مثل "وقف الحق والحرية للمساعدات الإنسانية (IHH)"، بالإضافة إلى عمليات سابقة كإجلاء الرعايا الأتراك ورعايا الدول الأخرى.


  5. قدمت القيادة التركية للرأي العام العربي موقفها من الأزمة الليبية بأنه يأتي في إطار تحقيق مصلحة الشعب الليبي، من خلال سعيها للتّوصل إلى حلٍ سلميٍ يحقن دماء المدنيين، وقد انزعجت الحكومة التركية من بعض ردود الأفعال في الرأي  العام العربي، والتي صوّرت تركيا وكأنها تريد الحفاظ على بقاء القذافي ونظامه، لكن الحكومة التركية من خلال استقراء الموقف الليبي من ناحية توازن القوى، وجدت أن السيناريو الذي يراد أن يطبق في ليبيا في ظلّ الظروف الراهنة، لن يؤدي إلى نتائج سريعة على النحو الذي تم في كل من تونس ومصر، بل سيؤدي إلى مزيد من الاقتتال والدمار على النحو الذي حصل في الصومال وأفغانستان. ومن ثمّ فسيكون الخاسر الأكبر في هذا السيناريو هو الشعب الليبي. ولذلك، رأت الحكومة التركية ضرورة أن تتحقّق الحرية للشعب الليبي  في اختيار من يحكمه، وأن يتم التوصل إلى ذلك بالمبادرة أولاً إلى الطرق الدبلوماسية والتفاوض السلمي مع الأطراف المختلفة.

__________________
خبير في الشأن التركي