الإعلام الاجتماعي وثورة الجيل العربي الجديد

الإعلام الاجتماعي وفر للتونسيين فضاء آمنا نسبيا لحرية الكلمة والصورة، جعلهم قادرين على فضح أكاذيب نظام بن علي الاستبدادي، والترابط فيما بينهم، وإدارة حركتهم الثورية.

 

ألفة لملوم

في يناير/كانون الثاني 1978 وقع إضراب عام قررته المركزية النقابية في تونس أفضى إلى فرض، لأول مرة في تاريخ البلاد، استقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل عن مؤسسات الدولة البورقيبية، وفسح المجال للمنظمة العمالية للعب دور سلطة مضادة في البلاد.

وفي يناير/كانون الثاني 1984، وقعت انتفاضة جماهيرية عارمة في مختلف أرجاء تونس فرضت، لأول مرة، على الرئيس الحبيب بورقيبة التراجع عن قرار لا شعبي يقضي برفع الدولة الدعم عن أسعار المواد الأولية.

في يناير/كانون الثاني 2011 انطلقت ثورة شعبية من أحد أكثر الجهات حرمانا في تونس لتدشن بعد 3 أسابيع ما سيسجله التاريخ على أنه أول هروب لحاكم عربي خوفا من غضب الشارع.

 


لعبت الجزيرة دورا هاما، إلى جانب فضائيات إخبارية أخرى لحقتها، في إحداث نوع من الفضاء العام الرقمي البديل، يتداول فيه الشأن السياسي والاجتماعي ويناقش دون محرمات ويعبر فيه عن تطلعات الناس دون رقيب.

المحطات الثلاث التي بصمت أحداثها تاريخ تونس الحديث مثلّت مراحل مركزية في سيرورة تفكك ثم انهيار الحزب الحاكم الذي شكل عمود دولة ما بعد الاستقلال في 1956. تمخضت الأولى عن خسارته الاتحاد العام التونسي للشغل كحليف طيّع وإطار جماهيري لتدجين وتذييل الحركة العمالية. أما المرحلة الثانية فقد دفعت إلى تنظيم انتخابات برلمانية في1981 أماطت اللثام عن وجود معارضة سياسية داخل البيت الواحد ممثلة آنذاك بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين المنشقة عن الحزب الحاكم. في حين سرّعت المرحلة الأخيرة بدق نعش الحزب/الدولة الذي واصل زين العابدين بن علي الاعتماد عليه في فبراير/شباط 1988 (1) إثر تقلده الحكم ليكون ركيزة بيروقراطية متضخمة لسلطته، بوصفه الشبكة الرئيسية لتنضيد الزبائنية وممارسة الرقابة الاجتماعية.

تشترك المراحل الثلاث في سمات عدة من حيث قوة زخمها الاحتجاجي الذي لا يضاهيه إلا قوة القمع الذي جوبهت به. كما أنها جعلت اللاعب الاجتماعي المحرك الذي اضطلع في كل محطة بالدور الرئيسي في نزع الشرعية عن النخبة الحاكمة وإجبارها على تكييف أو إعادة النظر في منظومة حكمه. إذ كشفت المحطة الأولى عن انفراط سيطرة الحزب الحاكم على أوساط واسعة من الشغيلة. بينما رفعت المحطة الثانية النقاب عن قوة العاطلين والمهمشين في الفضاءات الحضرية المتاخمة للعاصمة وضواحيها. في حين دفعت المحطة الثالثة إلى مجال الرؤية الاجتماعية والسياسية العاطلين الحاملين للشهادات الجامعية، هذه الفئة التي صنعتها سياسات الليبرالية الاقتصادية وتحرير السوق وخوصصة الدولة والنهب المنظم والممنهج للثروات العامة.

لكن لعل السمة الأبرز في اختلاف المحطات الثلاث هي نجاح ثورة 2011، خلافا للإضراب العام وثورة الخبز، في تعبئة وحشد فئات واسعة من التونسيين، من مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية ومن الجنسين، في تحركات عارمة استحضرت بل واستنبطت أشكال للتنظيم الذاتي والحراك السياسي لا عهد لتونس به. هذه السمات وإن كانت نتاجا مباشرا لتراكم الاحتقان والرفض للقبضة التي حكمت البلاد على مدار 23 سنة من حكم بن علي وحاشيته، فإنها تبرز فرضية التأثير المباشر للإعلام الجديد، الفضائي منه والاجتماعي، الذي مثّل الحاضن الأساس لهذه الثورة، ووفر بعضا من شروط تداولها، كما كان لسنوات قبل اندلاعها الملاذ الأخير لكل الأصوات الرافضة لمصادرة الحريات وكل التجمعات المدنية والسياسية المقصية من الفضاء السياسي في تونس.

الرقيب والملاذ الإلكتروني
الشبكة العنكبوتية: من العصيان إلى الحرب الالكترونية
خلاصات أولية

الرقيب والملاذ الإلكتروني 

في يناير/كانون الثاني 1978، حين تم قمع الإضراب العام كان الصوت الوحيد المسموع آنذاك هو الصوت الذي كانت تتداوله موجات الأثير الرسمية الخاضعة لسيطرة السلطة. ثم تكرر المشهد مع ثورة الخبز فلم تعلو إلا أصوات المنكلين بالمتظاهرين مصورة إياهم على أنهم "شريحة تصطاد في الماء العكر". ثم تتالت الاحتجاجات ومعها حملات القمع والمحاكمات بينما الفضاء الإعلامي التونسي مدجن ومصادر إلا في بعض الحقبات القصيرة التي كانت استثناءات لم تعمر طويلا (2). وزاد الوضع سوءا مع بداية التسعينات حين تمكنت السلطة من قمع الحركة الإسلامية عبر المحاكمات العسكرية، ثم زادت تباعا من إحكام قبضتها الأمنية على كل المنابر والفضاءات المستقلة.

1996 مثّل دون شك منعرجا هاما فتح الباب أمام تغييرات عميقة في المشهد الإعلامي العربي أرخى بظلاله على الوضع في تونس. فمع ظهور الجزيرة والتحولات التي أحدثتها على صعيد التأسيس لنمط سردي صحافي جديد نقيض ومنافس للنمط الرسمي المكرس لتسويق الأنظمة الحاكمة والدعاية لسياساتها وتحالفاتها الإقليمية، أحدث ذلك ثغرات في احتكار السلطة في تونس للإعلام السياسي. إذ لم تتح الجزيرة فقط مجال الرؤية لمعارضين وناشطين حقوقيين وسياسيين محظورين في تونس بل وطرحت كذلك في التداول، ضمن الفضاءات العائلية والخاصة، قضايا كانت قد أمست من محرمات الفضاء العام المقيد في تونس مثل مسائل الفساد، ومصادرة الحريات والتعذيب والحركة الإسلامية وتزوير الانتخابات.

ورغم حظر نشاط الجزيرة ورفض تسليم مراسليها تراخيص لنشاطهم، فقد كانت القناة سبّاقة في تغطية محطات سياسية عديدة في تونس. مما جعلها تلعب دورا هاما، إلى جانب فضائيات إخبارية أخرى لحقتها، في إحداث نوع من الفضاء العام الرقمي البديل، يتداول فيه الشأن السياسي والاجتماعي ويناقش دون محرمات ويعبر فيه عن تطلعات الناس دون رقيب.

يوم 14 يناير/كانون الثاني تظاهر الآلاف لأول مرة أمام مقر وزارة الداخلية، كان أحدهم يحمل لافتة كتب عليها "شكرا الجزيرة". الصورة غير مألوفة في شوارع تونس، وهي تعكس تعاطف المنتفضين مع القناة بسبب تغطيتها للثورة. فرغم الانتقادات التي وجهها بعضهم للجزيرة، إلا أن كثيرين يشهدون لها بتغطية مواكبة وقوية للاحتجاجات منذ أيامها الأولى. فخلافا لوسائل الإعلام الأجنبية التي جعلت من احتفالات رأس السنة الميلادية حدثها الأول خلال النصف الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول، أو عربية أخرى تجاهلت الانتفاضة في مرحلتها الأولى، أسرعت الجزيرة إلى إعطاء ما يحدث في تونس حيزا هاما من تغطيتها وكثفت من برامجها الحوارية متابعة للحدث.

هذه التغطية، بقطع النظر عن نقائصها، كان لها أثران هامان بحكم موقع الجزيرة ووزنها ضمن المشهد الإعلامي المعولم. أولهما خلق حالة تنافسية على السبق الصحفي في تونس، مما أشعل اهتمام مجمل وسائل الإعلام العربية، خاصة الفضائية، بمجريات الأحداث في تونس، ووسع من صدى الانتفاضة عربيا، وزاد من ثمة من ثقة المنتفضين في انتصارهم. الأثر الثاني كان على الإعلام الغربي، إذ استرعى اهتمام الجزيرة الكبير بالحدث القنوات الغربية فانتهى بها الأمر للاستدارة إلى تونس مما زاد من إرباك النظام الذي حرص دوما على صورته الإعلامية في الأوساط الغربية.

لكن في المحصلة الأخيرة فإن ما يمكن اعتباره أول تغطية مباشرة وآنية لثورة شعبية على مستبد عربي، انخرطت فيه في المرحلة الأخيرة مجمل وسائل الإعلام، ما كان ليحدث نفس الوقع لو لم يكن متناسقا لا وبل معتمدا بالأساس على شكل آخر من الإعلام أثبت صدقيته والتصاقه بالثورة.

الشبكة العنكبوتية: من العصيان إلى الحرب الالكترونية 

 


ما يمكن اعتباره أول تغطية مباشرة وآنية لثورة شعبية على مستبد عربي، انخرطت فيه في المرحلة الأخيرة مجمل وسائل الإعلام، ما كان ليحدث نفس الوقع لو لم يكن متناسقا لا وبل معتمدا بالأساس على شكل آخر من الإعلام أثبت صدقيته والتصاقه بالثورة.

يمكن أن نؤرخ لبداية الحراك الالكتروني في تونس في يناير/كانون الثاني 1998 حين بعث شابان تونسيان، كان يوقعان باسمين مستعارين فوتس Foetus ووترمان Waterman، قائمة توزيع الكترونية أطلقوا عليها إسم تكريز (أي طفح الكيل باللهجة التونسية). بعد سنتين من إنشائه تحول الموقع إلى بوابة أسست لنمط جديد من الاحتجاج العابر للحدود، المتحرر جزئيا من كماشة الرقابة، والبعيد من حيث شكله عن النمطية السائدة ضمن الحراك الاحتجاجي التقليدي، مجندا للمرة الأولى شبابا من حديثي الانخراط في الفضاء العام.

"تكريز" فتح الباب أمام مبادرات الكترونية أخرى ربما كانت أهم محطاتها:

- تونس نيوز http://www.tunisnews.net الموقع الإخباري الذي انطلق بمبادرة من خمسة شبان من اللاجئين السياسيين الإسلاميين المقيمين في أوروبا. وقد عرف نجاحا سريعا نتيجة الفراغ الذي كان سائدا آنذاك نتيجة غياب أية مساحة إعلامية مستقلة، وبفعل أيضا المادة الإخبارية اليومية الجامعة التي قدمها والتي شملت المقالات الصحفية الممنوعة في تونس، وأخبار القمع وبيانات الأحزاب والتجمعات غير المسموح بها في البلاد.

- موقع تونسزين الذي أسسه في يوليو/تموز 2001 الشاب زهير اليحياوي الذي كان يمضي تحت اسم التونسي مقالات نقدية لاذعة كان ينشرها باللهجة العامية، وقد كانت مبادرته هذه ريادية من حيث أنها جسدت الموقع الأول للاحتجاج الالكتروني من داخل البلاد. وقد دفع زهير اليحياوي ثمن ذلك باهظا إذ تم إيقافه في يونيو/حزيران 2002 ومحاكمته بسنتين سجنا، قضى منها سنة ونصف كاملة، وبعد إطلاق سراحه، وعلى خلفية ظروف اعتقال صعبة وإضراب عن الجوع توفي زهير في 13 مارس/آذار 2005 عن سن تناهز ال37 سنة.

- موقع استفاقة تونس http://www.reveiltunisien.org الذي وقع تأسيسه سنة 2002 ، وقد ظهر في شكل جريدة الكترونية مفتوحة على المساهمات الخارجية، وضم في صفوفه بعض الناشطين الفرنسيين إلى جانب ناشطين تونسيين.

- نواة http://nawaat.org/portail ويعد اليوم أحد المواقع الأكثر شهرة. تم تأسيسه في إبريل/نيسان 2004، وضم إليه شبابا تونسيا مقيما في الخارج وهو عبارة عن مدونة جماعية.

"تكريز" كان العلامة الأولى البارزة لظهور جيل جديد من الشباب الذي لم يخض في مجمله تجربة الحراك السياسي المنظم لسنوات الثمانينات وبداية التسعينات، ولم يتأثر من ثمة بتراجع الحركة اليسارية في تونس ولا بهزيمة الحركة الإسلامية أمام الآلة القمعية لبن علي. جيل بقي لصغر سنه خارج تجارب العمل الحزبي التقليدي وفي منأى عن آلة القمع التي أسكتت أفواها كثيرة من قبله. جيل زمن العولمة التي اختصرت المساحات وأفرزت أنماطا جديدة في خوض وإدارة الصراع، فبرزت معه أشكال جديدة من الحراك الجمعي، كان من ضمنها المظاهرات التي احتضنها الانترنت، كتلك التي تمت تحت شعار "يزي فك" (كفى اتركنا)، التي قامت على إسهام كل مشارك فيها بوضع صورته على الانترنت مصحوبة بشعار "يزي فك".

مع نهاية سنة 2006، عرف الاحتجاج الالكتروني دفعا كبيرا بازدياد عدد المدونين. وقد قدرت منظمة فريدوم هاوس في تقريرها لسنة 2009عددهم بـ 600 (3). وقد صاحب ذلك ظهور وانتشار نسق جديد من السرد والكتابة السياسية والاجتماعية، والتعليق على الخبر، وضرب لهالة ابن علي وعائلته عبر النكتة والصورة والكريكاتير والفيديو، وترويج فضائح استيلائهم على المال العام.

ورغم حملات القمع الذي مست المدونين (4) وجهود الوكالة التونسية للانترنت، الجهاز الرسمي لمطاردة حرية التعبير على الشبكة العنكبوتية إلا أن قدرة هؤلاء النشطاء الفائقة في استنباط الحيل التقنية للذود عن مساحة حرية الرأي التي وفرها الإنترنت (5) لهم قد حالت دون إخماد صوتهم.

وكانت الثورة الشعبية التي انطلقت في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2010 الحدث الأغر الذي مكن هذه المجموعات الشبابية من لعب دور الحافز الجماعي والحلقة المنظمة التي استنفرت الزخم المعنوي للتحركات، وأعطت لجسد البوعزيزي المحترق فضاء للوجود، ولضحايا القمع والقتل وجوها وأسماء عبر نشر صورهم وبث الوقائع الموثقة الشاهدة على بطش الأجهزة القمعية واستخدامها الرصاص الحي للقتل. فمنذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة، واكب فايسبوك والتويتر المظاهرات بل ونظم بعضها، وكان الوسيلة الأكثر التصاقا بالحراك والأكثر تعبيرا عن حجمه وقوته. فمن سيدي بوزيد إلى قصرين حين كان نظام بن علي يجهد في ترويع والتنكيل بالشباب المتظاهر الأعزل بعيدا عن الأضواء، وفّرت الشبكات الاجتماعية الخبر والصورة، واستطاعت أن تشكل بمنخرطيها المليونين  حلقة الوصل الأولى بين المحتجين من جهة وبينهم وبين مسانديهم وكذلك الإعلام التقليدي والفضائي الذي كان في سواده خارج موقع الحدث بفعل المنع أو التواطؤ، فأجبرت نظام بن علي على الاعتراف العلني بالقتل، ودحضت مزاعمه في السيطرة على الشارع، وتمكنت بالأخص من أن تكون الشاهد الأول على سقوط جدار الخوف في تونس وعلى عزم المتظاهرين البطولي على المضي قدما نحو الإطاحة بنظام 7 نوفمبر.

حينها عجلت السلطة باعتقال نشطاء بارزين على الانترنت، وأطلقت محاولتها اليائسة والعقيمة لتحسين أدائها الإعلامي عبر تعيين ناطق باسم الحكومة. فكانت ردة فعل نشطاء الانترنت على هذه الإجراءات أن نظمت الانقضاض الأول ولو كان افتراضيا ورمزيا على مؤسسات النظام الحاكم، إذ هاجم ما يقارب 900 ناشطا عالميا، من بينهم تونسيون، مواقع حكومية ورسمية فيما أسمته بعض وسائل الإعلام الغربية "بالحرب الالكترونية"، أفضى إلى إغلاق ثمانية منها ومن ضمنها تلك التابعة للقصر الرئاسي وللوكالة التونسية للانترنت.

لكن اللحظة المفصلية كانت بلا شك الليلة الفاصلة بين 13 و 14 يناير/كانون الثاني. حينها ظن ابن علي بخطابه الأخير أن إعلانه عن عدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة وتكوين حكومة جديدة سيجعله يحتوي غضب الشارع والسيطرة من جديد على الوضع. لكن تفاعل عاملين عجل نهاية حكم بن علي. العامل الأول كان الزخم النضالي للجماهير المنتفضة، خاصة أولائك الذين خرجوا، في تلك المرحلة، من أحزمة الفقر في العاصمة وضواحيها ليعبروا عن إصرارهم على رحيله. أما العامل الثاني فكان الإعلام الاجتماعي، وبالتحديد الفايسبوك والتويتر، الذي سجل استعمالهما أرقاما قياسية يوم 14 يوم 14 يناير/كانون الثاني (6)، موفرا بذلك وسيلتين ثمينتين لتداول الدعوة، مباشرة بعد انتهاء الخطاب، إلى مواصلة الاحتجاج والالتحاق بمظاهرة العاصمة التي تحولت يوم 14 يناير/كانون الثاني، وهي تعبئ الآلاف أمام مقر وزارة الداخلية في قلب شارع الحبيب بورقيبة، إلى ما أطلق عليه المفكر الفلسطيني عزمي بشارة "زمن وطني متجانس"، وحّد أطيافا واسعة من شباب ونساء ورجال تونس حول مطلب رحيل الجنرال.

خلاصات أولية 

 


الإعلام الاجتماعي كشف للملأ نضالية وجذرية جيل جديد من الشباب، متيحا له احتلال موقع هام في طرد ابن علي بشكل يشرع للعبه دورا أساسيا ضمن المرحلة التالية.

1 - إن الإعلام الاجتماعي بطابعه الشبكي والمنتدياتي يجسد لا محالة شكلا من أشكال التنظيم الذاتي الذي استطاع أن يضطلع، ضمن شروط الانتفاضة في تونس، بدور الجماعة الفاعلة التي عوضت بعض الشيء انحلال أواصر العلاقات الاجتماعية والتضامنية الأفقية التي حرص نظام بن علي، كسائر الأنظمة الاستبدادية، على فكها وتقويضها والاستعاضة عنها بالولاءات الزبائنية العمودية. غير أن دور هذا الإعلام يبقى بالأساس واجهة معبرة ومكثفة لما يجري على ارض الصراع. لأن الإعلام الاجتماعي وإن جند شبابا مسيسا ومنخرطا في الشأن العام يبقى في التحليل الأخير وسيلة افتراضية نخبوية لا يمكنها أن تغني عن فعل الجماعات الحزبية والنقابية والشعبية على الأرض. ولا يمكنها منفصلة أن تحدد موازين القوى الاجتماعية والسياسية في البلد. مع ذلك ستبقى هذه الوسيلة ضرورية في المرحلة الانتقالية التي تمر بها تونس اليوم لتنظيم ومركزة الحراك ضد مؤسسات الاستبداد التي وإن أربكها هروب بن علي فهي تجهد اليوم لإعادة تنظيم نفسها والتأقلم مع المعطيات الجديدة.

2- الإعلام الاجتماعي كشف للملأ نضالية وجذرية جيل جديد من الشباب، متيحا له احتلال موقع هام في طرد ابن علي بشكل يشرع للعبه دورا أساسيا ضمن المرحلة التالية. فهذا الجيل لم يأت من العدم ولا يمكن اختزاله ضمن بعض نجوم المساحة الافتراضية التي تداولها الإعلام التقليدي مؤخرا. بل هو جيل أفرزته نضالات شبابية واجتماعية عفوية عاشتها تونس في السنوات العشر الأخيرة، والتي وإن لم تتمخض عن تحولات سياسية مفصلية، فإنها شكلت محطات هامة تراكمية لتجارب جديدة من التنظيم الذاتي (مثل لجان شعبية في حوض قفصة)، والذاكرة الجمعية له، كان من أبرزها حركة الاحتجاج التي عرفتها المعاهد التونسية في بداية الألفية وحركة الحوض المنجمي في قفصة في مطلع 2008. يبدو ذلك جليا بالنظر إلى شعارات الثورة المتداولة اليوم والمطالب السياسية المرفوعة في وجه الحكومة المؤقتة. لذلك فإن دور هذا الشباب لن ينتهي مع فرار بن علي. والحال أن مؤسسات الدولة القمعية لم تحل بعد. وعليه يبدو اليوم هذا الجيل مرشحا ليكون قوة الدفع المحورية في الحراك ضد الاستراتيجيات التي تحاك داخليا وخارجيا لالتفاف على الثورة في تونس. 

3- فرار بن علي بيّن أن نظامه كان الحلقة الأضعف ضمن المنظومة الاستبدادية العربية. السبب يعود لاشك إلى الانحلال الذي ساد هرم النخبة الحاكمة وعجزها العضوي عن تثبيت دعائم شرعيتها من خارج الخيارات الأمنية. ولكنه يحيلنا في الآن نفسه إلى المخزون النضالي الكامن ضمن شرائح واسعة من المجتمع لم يستطع القمع المنظم استئصاله. ثقافة سياسية وتجارب جمعية يسارية وقومية وإسلامية ونقابية ونسوية وحقوقية وجمعوية عرفتها تونس سنوات 1980-1990 حضنت آلاف النشطاء، وإن اختلفت حدتها وطبيعتها، لكنها جميعا أسست وأعادت إنتاج قطيعة مع السلطة ومؤسساتها. بيد أن استفحال المنظومة الاستبدادية على مدار 23 سنة نزع من هؤلاء كل قدرة على المبادرة السياسية بعد أن تفاعلت ظروف إقليمية (الحرب الأهلية الجزائرية) ودولية (الحرب على "الإرهاب") لتشرع سطوة الحكم على البلاد. لذلك فلاشك أن الإعلام الاجتماعي كما بان ذلك بالخصوص إبان 14 يناير/كانون الثاني سيكون حلقة من حلقات الربط بين جيل السبعينات والثمانينات والجيل الجديد، إن من حيث تداول التجارب أو من حيث تأثير الأخير في اتجاه تجذير بعض المطالب كما حصل إبان الاعتداء الذي قامت به السلطة على المعتصمين بساحة الحكومة الرافضين لشرعية الحكومة المؤقتة.
___________________
باحثة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى- بيروت

هوامش
1- غداة ما أسمته احد افتتاحيات لوموند الفرنسية " بالانقلاب الصحي" في إشارة لإقالة بن علي على بورقيبة في 7نوفمبر  1987 على خلفية عجزه الصحي عن مواصلة الحكم، وفي أول اجتماع لها بعد هذا الحدث قررت اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري تغيير اسم الحزب الحاكم وتسميته بالتجمع الدستوري الديمقراطي.

2- تجدر هنا مراجعة مجمل تقارير المنظمات الحقوقية حول أوضاع الإعلام في تونس ومن بينها تقارير منظمة صحفيين بدون حدود

3- للاطلاع إضغط هنا.

4- انظر إلى مثال هذا التقرير، إضغط هنا.

5- حول موضوع الحيل انظر بالخصوص إلى مقالة:
CHOUIKHA L., 2002, « Autoritarisme étatique et débrouillardise individuelle », dans O. LAMLOUM et B. RAVENEL (dir), La Tunisie de Ben Ali. La société contre le régime, Paris, L’Harmattan, p.197-212.

6- انظر إلى الأرقام التي قدمها Backtype حول استعمال التويتر في تونس يوم 14يناير/كانون الثاني,
http://techcrunch.com/2011/01/14/tunisia
http://techcrunch.com/2011/01/16/tunisia-2