إسرائيل وأذربيجان... المصالح المتبادلة والتحالف الإستراتيجي

شهد العقد الأخير توجهًا إسرائيليًا حثيثًا لإقامة علاقات متقدمة مع دول عربية وإسلامية لا ترى حكوماتها مانعًا من إقامة ألوان من التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري معها، باعتبارها جزءا من ملامح الإستراتيجية الدبلوماسية التي شرعت تل أبيب بتطبيقها في السنوات الأخيرة. وقد تصدرت جمهورية أذربيجان القائمة.
16 مايو 2012
2012516113814615734_20.jpg
 

شهد العقد الأخير توجهًا إسرائيليًا حثيثًا لإقامة علاقات متقدمة مع دول عربية وإسلامية لا ترى حكوماتها مانعًا من إقامة ألوان من التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري معها، باعتبارها جزءًا من ملامح الإستراتيجية الدبلوماسية التي شرعت تل أبيب بتطبيقها في السنوات الأخيرة. وقد تصدرت جمهورية أذربيجان قائمة هذه الدول لاعتبارات عديدة، أهمها:

  1. موقعها الجيو-سياسي بالغ الأهمية الممتد في منطقة ما وراء القوقاز؛ مما جعلها "حديقة خلفية" لروسيا بمساحة تصل إلى 86,600 كم2، يعيش عليها 9 ملايين و500 ألف نسمة، أغلبيتهم العظمى من المسلمين (أكثر من 93%)، وأكثر هؤلاء من الشيعة الاثني عشرية(1).
  2. تغطي أذربيجان ما يقرب من 48% من حاجيات إسرائيل من النفط والغاز - بحسب وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي الأسبق "بنيامين بن أليعازر- وهما يشكلان عماد الاقتصاد الأذري المتطلع لتنمية موارده منهما، بحكم الإطلال على بحر قزوين الذي يثير توزيع ثرواته الهائلة بين الدول الست المطلة عليه خلافات معقدة. 
  3. مجاورة إيران لأذربيجان جغرافيًا، ومشاركتها لها نفس المذهب، والتداخل العرقي على المناطق الحدودية المشتركة، إلا أن علاقتهما عرفت بعض التوتر، نظرًا لاختلاف الأنظمة السياسية بين علماني يسوس باكو، وآخر ديني يحكم طهران، فضلاً عن موقف الأخيرة من النزاع المسلح بين أذربيجان وأرمينيا.

وتعود بداية العلاقات السياسية إلى اعتراف تل أبيب باستقلال باكو بتاريخ 25 ديسمبر/كانون الأول 1991، لتكون من أولى الدول التي بدأت العلاقات الدبلوماسية معها بتاريخ 7 إبريل/نيسان 1992، ولذلك أحيا البلدان الشهر الماضي مرور 20 عامًا على مرورها.

وحين استلم وزير الخارجية الإسرائيلي "أفيغدور ليبرمان" وزارته قبل ثلاثة أعوام، أنشأ قسمًا جديدًا باسم "أوراسيا"، يضم دولاً عديدة أهمها أذربيجان، وشكّل له 17 طاقمًا دبلوماسيًا معظمهم من اليهود ذوي الأصول الروسية، برئاسة د. عيران عتسيون رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية السابق، وكُلّفوا بتنمية العلاقات مع تلك الدول، بالتنسيق مع أجهزة الموساد والاستخبارات العسكرية ومكتب رئيس الحكومة(2).

سياسة شد الأطراف

لم يأتِ التوجه الإسرائيلي نحو أذربيجان مفاجئًا، أو منقطعًا عن جذوره، بل منسجمًا مع سياستها التقليدية التي ابتدعتها منذ السنوات الأولى لإنشائها وعُرفت باسم "شد الأطراف"، وتقضي بإشعال الفتن، وخلق الأزمات في أطراف العالم العربي، مستغلة التنوع الإثني والعرقي والمذهبي لإثارة أصحابها ضد حكوماتهم المركزية، وكل ذلك بهدف شل قدرات أطراف العالم العربي.

وقد استمرت إسرائيل بهذه السياسة، لاستكمال تطويق الدول العربية بدول الجوار، حتى وإن كان بعضها إسلاميًا، تَمثّل بعضها بدول آسيا الوسطى، وعلى رأسها أذربيجان، لتتحول إلى قوة إقليمية في الشرق الأوسط، تهيمن على موارده الإستراتيجية، وتبسط نفوذها السياسي على الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية الناشئة فيه لاحقًا، وهنا يمكن الحديث عن دور إسرائيلي لا تخطئه العين في حجم التدخلات الإسرائيلية في هذه الدول، على جميع الأصعدة، وفي كل المجالات، بحيث بدت كما لو كانت جزءًا مكونًا من الجغرافيا السياسية لهذه المنطقة الحساسة من العالم.

أكثر من ذلك، فقد لجأت سياسة شد الأطراف الإسرائيلية إلى أساليب "محدَّثة"، ومطورة، إلى جانب الأساليب التقليدية، من خلال إصرارها في السنوات الأخيرة على إشراك المجتمع الدولي في تجاربها السياسية والأمنية والتطويرية في المجالات الحياتية العادية، وبناءً على ذلك تم تأسيس مركز التعاون الدولي في وزارة الخارجية، ويُعرَف اختصارًا باسم (3) "MASHAV".

ويُعتبر المركز الواجهة "الإنسانية" العلنية لتطبيق شد الأطراف الإسرائيلية على مستوى العالم؛ حيث تعتمد مشاريعه على نقل المعلومات التكنولوجية، وإغناء الموارد البشرية، وتعزيز القدرات المهنية، وتكييف تكنولوجيات جديدة لتلبية أولويات التطوير في الدول المستهدفة، ويكفي القول: إنها أرسلت أكثر من 10 آلاف خبير إسرائيلي لفترات قصيرة وطويلة للتعاون مع نظرائهم في الدول المستهدفة، وتبلغ 140 دولة نامية، بالتعاون مع وكالات إغاثة دولية.

وتطبيقًا لهذه السياسة، سعت إسرائيل لتوثيق علاقات التعاون والتحالف مع الدول المحيطة بالعالم العربي، لإقامة "حلف المحيط أو الجوار"، باعتبارها الركن الركين في جدار سياستها الخارجية، ونجحت جهودها بإقامة علاقات خاصة مع بعض تلك الدول، بإدارة فريق من الخبراء المخضرمين للضغط على العرب، وتهديد أمنهم من مختلف زوايا المثلث: جنوبًا وشرقًا وشمالاً، وهو ما تحدث به رئيس الحكومة "بنيامين نتنياهو" حين قام بباكورة زياراته إلى أذربيجان عام 1997(4).

مع العلم بأن سياسة شد الأطراف الإسرائيلية نحو أذربيجان، ارتكزت على عدة عناصر عرقية وعسكرية وسياسية، منها تأجيج الاختلافات الإثنية والعرقية والمذهبية لأذربيجان مع الدول المجاورة لها، لاسيما الاختلاف العرقي مع إيران والمذهبي مع تركيا. وقد ركّز الخطاب الإسرائيلي على حشد الأذريين في خندق واحد، بإثارة النوازع النفسية لديهم والخوف من المحيط ما أمكنها ذلك باعتباره أساسًا لقيام علاقة تحالفية بينهم وبين إسرائيل.

وبالتالي، اعتمدت الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية الشاملة لنظرية "شد الأطراف" على خلق اصطفاف سياسي متجانس ومترابط ومتحالف معها، وحرصت أن تقدم نفسها كدولة تمثل امتدادًا للغرب وعمقًا إستراتيجيًا له، علمًا بأن النتيجة المُثلى لهذه السياسة تمثلت بكسر جدار العزلة السياسية المفروضة عليها من حولها.

كما وفّر تعاملها مع دول الجوار غير العربية إمكانية التحرك إقليميًا ودوليًا باعتبارها دولة عادية في المنطقة، ما يعني أن تحقيقها لغاياتها السياسية في إستراتيجية شد الأطراف لم يتأتَّ لولا مساعدة القوى الغربية، التي وجدت أن مصالحها تتوافق مع إقامة هذه الشبكة من التحالفات.

وتسعى إسرائيل من تطبيقها لسياسة "شد الأطراف"، في علاقتها مع أذربيجان للوصول إلى مركز نفوذ في الشرق الأوسط، يتيح لها التأثير بتشكيل الإستراتيجيات في مناطق العالم، وليس حصر نفسها في الإطار الجغرافي لها وحدها، فضلاً عن التحرك بالتوازي مع الاتجاه الأميركي لبلاد آسيا الوسطى الإسلامية، لإيجاد وجود إسرائيلي قوى فيها، وإقامة حواجز أمام وصول النفوذ العربي والإسلامي إليها.

محاور العلاقات الإسرائيلية الأذرية

يمكن تحديد أبرز الأهداف الإسرائيلية من علاقاتها بأذربيجان بالتالية:

1- اعتبارها سوقًا مهمة لصفقات الأسلحة المقدرة بمئات ملايين الدولارات؛ حيث وقعت أذربيجان عدة صفقات مع شركات صناعية عسكرية إسرائيلية بينها "سولتام" لإنتاج قذائف هاون، ومنصات لإطلاقها، وشركة "تاديران" لتزويدها بوسائل اتصال، وهيئة "رفائيل" للصناعات العسكرية ببيعها قذائف صاروخية، وتحسينها لقدرات صواريخ "كاتيوشا" من طراز "غراد" روسية الصنع، فضلاً عن راجمات ذخيرة وأجهزة اتصال ومدفعية لإطلاق قذائف صاروخية(5).

كما قامت هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية بتوريد مائة دبابة من طراز "ميركافا" و30 طائرة حربية إلى أذربيجان، وأنشأت فيها خطًا لإنتاج الطائرات بدون طيار، وأسلحة مضادة للطائرات، وأنظمة دفاع مضادة للصواريخ، لتصبح بديلاً لتركيا في صادراتها العسكرية؛ مما يؤكد أن الجيش الأذري يعمل بتزامن كامل مع أنظمة الدفاع الإسرائيلية.

ووقع الجانبان اتفاقية بشأن مشروع مشترك لصنع طائرات صغيرة بدون طيار، تمتلك الصناعات العسكرية الإسرائيلية 51% من أسهمه، بهدف الحفاظ عليها حليفة ضد أعدائهما المشتركين، ورافعة للحصول على معلومات استخبارية، وسوقًا لمنتجاتها العسكرية، علمًا بأن تلك الصفقات تتيح لأذربيجان الحصول على منظومات أسلحة متقدمة، للحفاظ على قدراتها العسكرية في ضوء احتمال اندلاع حرب لها مع أرمينيا.

وقد افتتحت شركة "ألتاسيستمز" أكبر شركة إسرائيلية متخصصة في المعدات الدفاعية الإلكترونية فرعًا ضخمًا لها في باكو يمكِّنها من التقاط صور بالغة الدقة، في أسوأ الظروف الجوية، وإطلاق نظام قمر اصطناعي يمكنه الوصول إلى محطات مهمة جدًا بالنسبة لإسرائيل.

2- التعاون الاستخباراتي والأمني بين إسرائيل وأذربيجان، خاصة تدريب الأولى للأجهزة الأمنية والاستخبارتية للأخيرة, وإشرافها على الطاقم الأمني للرئيس الأذري خلال زياراته الخارجية، وتبادل المعلومات السرية حول أعدائهما بشكل روتيني، وتحليل الصور الملتقطة بواسطة أقمار صناعية إسرائيلية؛ مما يعطي التسريبات الصحفية حول طلب تل أبيب من باكو وضع محطات تنصت إلكترونية على طول بحر قزوين كثيرًا من المصداقية.

كما ازدادت العلاقات الأمنية رسوخًا بين الجانبين، بعد أن أعلنت أذربيجان عن إحباطها ما وصفته بأنه "مخطط تفجير" أعد له حزب الله لتفجير السفارة الإسرائيلية في باكو، وإلقائها القبض على 22 ضابطًا من الحرس الثوري الإيراني بتهم ارتكاب أعمال معادية ضد السفارات الأميركية والإسرائيلية وعدد من الدول الغربية.

والجدير بالذكر أن السلطات الأذرية حظرت خلال الحرب على غزة 2008-2009 تنظيم مظاهرات احتجاجية قبالة السفارة الإسرائيلية، وهو ما دفع بدبلوماسي إسرائيلي سابق للقول: إن الاستخبارات الإسرائيلية في أذربيجان تشعر كأنها في بيتها، وأن أذربيجان تحولت إلى "جسر استخباراتي" لأجهزة الأمن الإسرائيلية، التي ثبتت أقدامها على الحدود مع إيران(6).

وقد أكد "أرستو أورويلو"، المسؤول العسكري الأذري السابق أن عملاء جهاز الموساد موجودون بعدد أقل بكثير من نظرائهم الإيرانيين الموجودين في بلاده، لكنهم يعملون بشكل أكثر كفاءة ودهاء.

3- التبادل الثقافي والتربوي بين الجانبين, وعقد مهرجانات ثقافية مشتركة، والتعاون في مجالات تحلية المياه، والطاقة، والتعليم والصحة، وتوقيع اتفاقية حول تجنب الازدواج الضريبي، وإلغاء نظام التأشيرة بينهما، بفضل وجود طائفة يهودية في باكو ساهمت بشكل كبير بتعزيز العلاقات(7).

4- تُعد إسرائيل جزءًا من المحور الغربي الذي يخدم مصالح شركات النفط العملاقة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وإذا ما قُدّر لخط أنابيب باكو أن ينقل النفط للأسواق الغربية، فسيعني أن تل أبيب سيكون لها أثر كبير في توجيه السياسات العالمية، لتحقيق مصالحها الخاصة بالهيمنة والسيطرة مع الولايات المتحدة على المنطقة والعالم. وقد اقترح المشاركون في مؤتمر الطاقة العالمي المنعقد بجامعة حيفا عام 2006، إمكانية نقل نفط هذا الأنبوب إلى شرق آسيا من "جيهان التركية" عبر خط أنابيب "إيلات-أشكلون" الإسرائيلي، وبذلك يصبح من الممكن تسويق النفط والغاز الأذري إلى الأسواق العالمية، بسعر وكلفة أقل ومردود أعلى، ويكفي أن نعلم أنه يختصر المسافة المطلوبة من 2000 كلم إلى 600كلم، حتى ندرك مدى الأهمية التي يكتسبها على هذا الصعيد.(8)

5- وعود إسرائيل لأذربيجان بتحسين اقتصادها عبر تطوير علاقاتها التجارية، وشرائها النفط والغاز منها، وإرسال أطباء وخبراء متخصصين في التكنولوجيا والزراعة إليها، ولذلك تضم زيارات المسؤولين الإسرائيليين هناك وفودًا تضم العشرات من ممثلي الوزارات والشركات الخاصة لتوطيد العلاقات التجارية والاقتصادية معها، بجانب التعاون معها في مجالي الطاقة والـتكنولوجيا المتقدمة، وافتتاح مراكز إسرائيلية فيها(9).

مع العلم أن حجم تجارتهما البينية حاليًا يبلغ 4 مليارات دولار سنويًا، وهو أعلى رقم للأعمال التجارية الإسرائيلية مع أي من البلدان التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي السابق، كما وافقت أذربيجان على دفع 1,6 مليار دولار للصناعات الجوية الإسرائيلية مقابل مجموعة واسعة من المنتجات العسكرية، بما يضاهي ربع موازنتها الحكومية خلال عام كامل، فيما تؤمِّن تل أبيب 30% من احتياجاتها من الطاقة من باكو(10).

6- الإيقاع بين أذربيجان وإيران، لاسيما وأن تطور علاقاتها مع إسرائيل كان له رد فعل إيراني سلبي، باعتبارها "كبش الفداء" الأول لهما؛ مما جعل وسائلها الإعلامية تتخذ موقفًا انتقاديًا متزايدًا تجاه الأولى، تمحورت حول عدة قضايا رئيسية، أهمها تعميق التدخل الإسرائيلي فيها، بإعطائها "الضوء الأخضر" لتوسيع ذلك النفوذ، واستغلال تشابك وتوتر علاقات طهران وباكو من خلال الملفات التالية:

أ‌- تمثِّل أذربيجان الجارة الشمالية لإيران, وغالب سكانها ينتمون للمذهب الشيعي الاثني عشري الذي تنتمي إليه الأغلبية الساحقة من الإيرانيين, فيما يعيش داخل إيران من 20 إلى 25 مليون أذري يشكِّلون ثلث عدد سكانها تقريبًا، ويمثلون القومية الثانية بعد الفارسية.
ب‌- خلافات ترسيم الحدود, والأذريين المقيمين في إيران.
ت‌- دعم إيران لأرمينيا في حربها ضد أذربيجان حول إقليم "ناغورنو كاراباخ"، وانتهى باحتلال أرمينيا لـ20% من أراضيها، وقد وقفت إيران علنيًا معها, وأمدتها بالسلاح والعتاد، ووفرت لها قدرات من الدعم المالي والاقتصادي باسم "المصالح الإستراتيجية العليا" لإيران.
ث‌- رفض إيران تسليم أذربيجان متهمًا بتنفيذ محاولة انقلابية على الرئيس "حيدر علييف" عام 1995(11).

وبطبيعة الحال، تجد إسرائيل في خلاف إيران وأذربيجان أرضية خصبة لمد وتعزيز نفوذها في منطقة بحر قزوين ودول القوقاز وآسيا الوسطى, باعتباره محاولة لإكمال "طوق النار" الإسرائيلي حول إيران، وهو ما اعتُبِر تطبيقًا لمشروع إسرائيلي سري يعمل على تهويد أجزاء واسعة من العاصمة باكو، وإعطاء الآلاف من الوحدات السكنية لليهود، واتفاقها مع تل أبيب على اتخاذها مقرًا إستراتيجيًا رئيسيًا لتحقيق سياستها في المنطقة(12).

وفي ضوء ذلك، دأبت طهران على استدعاء سفيرها في باكو لغرض التشاور, كلما قام مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى بزيارتها، لأنها تعتقد أن ملفها النووي سيكون في صلب المحادثات(13).

فيما تورطت إيران في حملة مسلحة معادية تجاه أذربيجان في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وزودت أرمينيا بالغاز الطبيعي خلال حربها الدامية مع الأولى, مما ساعدها في الاستمرار بالعمليات العسكرية، في حين دعمت تل أبيب الجانب الأذري في الصراع، وزودته بصواريخ "ستينغر" المتطورة.

ويأتي دعم إيران لأرمينيا على حساب أذربيجان حتى تبقى الأخيرة في حالة استنزاف دائم، لأنه في حال امتلكت القوة، فإنها تستطيع تحريك ورقة الأذريين فيها، وتطالب بضمهم للدولة الأذرية الأم، حيث ينحدر بعض زعماء المعارضة الإيرانية من أصول أذرية، ومن أبرزهم "مير حسين موسوي".

وهنا نجحت إسرائيل في اللعب على المتناقضات، واستثمارها لمصالحها القومية، كون أذربيجان تشكل خاصرة ضعيفة لإيران بحكم الجغرافيا والتاريخ، وهنا تعتقد إسرائيل بأن عشرين عامًا من العلاقات الدبلوماسية بينهما ستجني ثمارها قريبًا، من خلال:

أ‌- إفهام طهران أن توجيه ضربة إسرائيلية لمنشآتها النووية قد ينطلق من باكو، بعد أن بات لها اليد الطولى في منطقة القوقاز.
ب‌- دعوة تركيا لإعادة العلاقات الثنائية، لأن المصلحة مشتركة بينهما، وتجربة علاقات إسرائيل بقبرص، وانعكاساتها السلبية على تركيا، قد تتكرر مع أذربيجان.

7- أن الدولتين في احتياج متبادل لبعضهما؛ فأذربيجان تسعى لشراء المزيد من الأسلحة الإسرائيلية، لتعزيز موقفها العسكري في حربها مع أرمينيا، وإسرائيل بحاجة للنفط الآذري لتعزيز مخزونها من الغاز والنفط.

وامتدادًا لذلك، تتجاوز تل أبيب الحاجة الموضعية الآنية لتصبح علاقات "تغلغل واضحة المعالم"، لترسيخ أقدامها هناك لتبدو منافسة لواشنطن وموسكو وبكين، باعتبار أن هذه المنطقة "كنز كبير" لا يجب التفريط به، لاسيما وأن باكو تُعتبر بالنسبة لها دولة "جسر"، ومصدرًا لتزويدها بالنفط والغاز، علاوة على أنها محاذية لإيران وروسيا وجورجيا، وتُعتبر حليفة إستراتيجية للغرب نظرًا لموقعها الإستراتيجي الخاص.

ويمكن استنتاج أن هذا التحول الإسرائيلي شرقًا باتجاه أذربيجان يعتبر تغييرًا للوضع الجيو-سياسي في المنطقة بأسرها, خاصة وأن هذه الدولة تواجه أوضاعًا متفجرة, ويبدو جليًّا أنها تعوِّل على الدعم العسكري والأمني الإسرائيلي، لقمع المعارضة الإسلامية لها, وليس مصادفة أن يسبق جهاز الموساد الاستخبارات الأميركية في الوصول إلى باكو، تحت لافتة مكافحة "الأصولية الإسلامية" التي تقض مضاجع النخبة الحاكمة فيها.

إيران ...الحاضر الأكبر

لا يبدو أن علاقات وطيدة لهذا المستوى بين تل أبيب وباكو، يغيب عنها معالجة التهديد القادم من طهران، حيث اعترفت الأولى بامتلاكها لقواعد عسكرية في أراضي الثانية، بعد حصولها على موافقتها، واستخدام أربع قواعد خاصة بالسلاح الجوي تقع قرب الحدود مع إيران، بما يتيح لها استخدامها لضربها، دون معارضة باكو.

ورغم عدم وجود اتفاق موقَّع بين الدولتين بخصوص ضرب إيران، لكن لا شك أنّه في حال أرادت طائرات إسرائيلية الهبوط في قواعد أذرية بعد الهجوم، فستسمح لها بذلك، خاصة قاعدة "سيتالكي"، البعيدة 500 كلم من إيران، و65 كلم من باكو، مع أن المسافة الفاصلة بين إسرائيل وإيران تبلغ 1500 كلم(14).

وقد كشفت تسريبات وثائق "ويكيليكس" أن إسرائيل تتخذ من أذربيجان مقرًا لها للتجسس على إيران، من خلال قاعدة متقدمة لجهاز الموساد لا تبعد سوى مسافة عدة ساعات من الحدود، يعمل فيها العشرات من عملائه في جو من الهدوء والطمأنينة، باستخدام وسائل متطورة من أجهزة التنصت(15).

كما اتهمت إيران أذربيجان بتقديمها تسهيلات لجهاز الموساد خلال اغتياله لعلماء نوويين إيرانيين في السنتين الأخيرتين، وتوجه بعض المنفذين إلى أراضيها، ثم سفرهم إلى إسرائيل.

ولعل ما يشجع إسرائيل على استخدام قواعد سلاح الجو الأذرية في ضربة محتملة ضد إيران، أنها ستخفّف اعتماد طائراتها على التزوّد بالوقود خلال العملية المحتملة، ما يعني أنّها قد لا تستخدمها للهجوم الأول، ولكن ستلجأ إليها لهبوط الطائرات، وتحضيرها لهجوم آخر، كما أن مروحيات أخرى ستنتظر هناك في حال طُلبت لمهمات إنقاذ أو تفتيش.

فيما أكد الكولونيل احتياط "سام غاردينير"، الذي أجرى عام 2010 بحثًا عن احتمال شنّ إسرائيل هجومًا على إيران، أنّ المشاكل الكامنة فيه لا تتعلق فقط بالطائرات المنفذة، بل بطائرات الـ" إف15" التي سترافقها، وستبقى فوق الأهداف لمواجهة الطائرات الإيرانية المُرسَلة لاعتراض الهجوم، لأنها ستحرق وقودًا كثيرًا فوقها، وسيكون عليها أن تهبط في الجوار، قاصدًا بذلك أذربيجان.

وهو ما ذهبت إليه مؤخرًا مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في عددها لشهر أبريل/نيسان 2012 حين ألمحت إلى أن إسرائيل وجدت موطئ قدم في القواعد الجوية لأذربيجان، الواقعة على حدودها الشمالية، ما يقرِّبها من احتمال ضرب إيران انطلاقًا منها، كاشفة عن قيام نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية في باكو "دونالد لو" عام 2009 بإرسال برقية لوزارة الخارجية بعنوان "التكافل الأذري الإسرائيلي المكتوم"، مشيرًا إلى وصف الرئيس الأذري "إلهام علييف" عام 2009 لطبيعة علاقة البلدين بأنها مثل "جبل جليدي يغوص تسعة أعشاره تحت سطح الماء"؛ ما يعني أن الجزء غير المعلن من التحالف الثنائي يتعلق بالتعاون الأمني بينهما، بما يعزز مخاطر توجيه إسرائيل ضربة لإيران.

وكل ذلك دفع بمسؤولين ورجال استخبارات أميركيين لإبداء قلقهم من أن التوسع العسكري الإسرائيلي تجاه أذربيجان من شأنه إضعاف جهود واشنطن لخفض التوتر مع طهران، ما يحتم عليها الأخذ بعين الاعتبار أن سيناريو الحرب لم يعد يشمل فقط منطقة الخليج العربي، بل بات يشمل بلاد القوقاز(16).

أكثر من ذلك، إن مسؤولاً استخباريًا أميركيًا لاحظ أن وزير الدفاع الأذري لم يُشِر إلى منع القاذفات الإسرائيلية من الهبوط في بلاده بعد توجيه ضربتها، أو تمركز فرق إنقاذ إسرائيلية على أراضي بلاده؛ ما يعني أن منح حق الهبوط واستضافة فرق الإنقاذ من شأنه جعل الهجوم على إيران أكثر سهولة، وهو ما دفع بعلاقات طهران مع باكو إلى التوتر وبشكل مطَّرد مع نشر هذه التقارير.

أخيرًا، يمكن القول: إن تفعيل التنسيق السياسي وترسيخ العلاقات الأمنية والترتيبات العسكرية بين إسرائيل وأذربيجان، يثير تساؤلات عديدة، يجعلها تخرج من إطار العمل السياسي إلى التمركز العملياتي، والرغبة بتقوية النفوذ الإسرائيلي في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، والبحث عن دور فيها، في ضوء أن تلك العلاقات تحفل بالكثير من اللقاءات على المستويات الرسمية، ومناقشة مستقبل تطوير العلاقات الثنائية بينهما، وتعزيزها، والدفع بها من مجرد علاقة اقتصادية وحسب، إلى علاقة إستراتيجية.
__________________________________________
د. عدنان أبو عامر-أستاذ القضية الفلسطينية في جامعة الأمة-فلسطين، وباحث في الشؤون الإسرائيلية

المراجع
1) لمزيد من المعلومات العامة عن أذربيجان، يمكن الرجوع إلى:
The world Fact Book, CIA
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/aj.html
أما ما ورد على لسان وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي الأسبق "بنيامين بن أليعازر"، خلال زيارته لأذربيجان بتاريخ 30/6/2009، على الرابط التالي:  http://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1000476293
2) قدم معلِّق الشؤون الخارجية في القناة الإخبارية الإسرائيلية العاشرة "روعي نحمياس"، ملخصًا لأهم المراحل التي مرت بها العلاقات الثنائية بين إسرائيل وأذربيجان، خلال زيارة "ليبرمان" إلى باكو، بتاريخ 22/4/2012، على الرابط التالي:
 http://news.nana10.co.il/Article/?ArticleID=891830
3) للتعرف على عمل ومهام وعلاقات مركز "مشاف" الإسرائيلي، يمكن زيارة موقعه باللغة الإنجليزية على النحو التالي:
http://mashav.mfa.gov.il/mfm/web/main/missionhome.asp?MissionID=16210
4) يُعتَبر الباحث الإسرائيلي في الشؤون الدولية "عومير غوندلير"، من أهم من شرح أسس ودوافع إسرائيل لإقامة التحالف مع أذربيجان، من خلال دراسته التي تحمل عنوان: الشراكة الإستراتيجية غير المتوقعة، المنشورة بتاريخ 2/4/2012، في دورية "المصدر الأول"، باللغة العبرية، على الرابط التالي:
http://deotmakor.wordpress.com
5) قدّم الخبير العسكري الإسرائيلي "أمير بوحبوت"، معطيات ومعلومات إحصائية مهمة عن حجم التعاون التسلحي بين الجانبين، منشورة على موقع "ويللا" الإخباري، بتاريخ 15/10/2011، على الرابط التالي:
 http://news.walla.co.il/?w=/16/1868525
6) لمزيد من المعلومات عن التحالف الأمني بين إسرائيل وأذربيجان يمكن الرجوع إلى تقرير للخبير الإسرائيلي "بوعاز مزراحي" بتاريخ 11/10/2011، على الرابط التالي:
 http://cafe.themarker.com/topic/2383614/ 
7) قامت وفود إسرائيلية وأذرية بزيارات متبادلة، للتعرف أكثر على بعضهما، وتوقيع اتفاقيات علمية واقتصادية وثقافية، وللتعرف على نتائجها، يمكن زيارة رابط صوت إسرائيل باللغة العبرية بتاريخ 2/4/2011، على الرابط التالي:
http://www.iba.org.il/bet/bet.aspx?type=32&entity=724226&page=306
8) لمراجعة دقيقة لطبيعة الرسم العملياتي لخط الأنابيب المذكور، يمكن الرجوع إلى جريدة هآرتس بتاريخ 5/11/2006، على الرابط التالي:
http://www.haaretz.co.il/misc/1.1151342
والموقع الخاص بخط "إيلات أشكلون"، على الرابط التالي:
http://www.eapc.co.il/hebrew/milestones.html
9) للتعرف على المزيد من أوجه التعاون التجاري والاقتصادي بين الجانبين، يمكن الرجوع إلى نشرة "غلوبس" الإسرائيلية، بتاريخ 29/6/2009، على الرابط التالي:
 http://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1000475922
10) عن حجم التبادل التجاري بين الدولتين، يمكن الرجوع إلى تقرير لـ"دودي كوهين" في صحيفة "يديعوت احرونوت" على الرابط التالي، بتاريخ 25/9/2011:
  http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4127027,00.html
11) لمزيد من الحديث حول الخلافات الإيرانية-الأذرية يمكن الرجوع إلى دورية "مختارات إيرانية"، العدد 17، ديسمبر/كانون الأول 2002، على الرابط التالي:
http://www.albainah.net/index.aspx?function=Item&id=1578&lang
12) قدّم الموقع الأمني الإسرائيلي "مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب"، بتاريخ 29/5/2011 معلومات تفصيلية باللغة العربية عن الجهد الإسرائيلي في أذربيجان، يمكن الرجوع إليه على الرابط التالي:
 http://www.terrorism-information.com/print.php?tab=Articles&id=2494&sid=21&ssid=0
13) لمزيد من التعرف على تفاصيل الخلاف الإيراني-الأذري حول أرمينيا، يمكن الرجوع إلى دراسة مهمة للباحثة الإسرائيلية، "ليندا شتراوس"، في دورية "نظرة عليا" الصادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي، التابع لجامعة تل أبيب، بتاريخ 12/10/2009، على الرابط التالي:
http://www.inss.org.il/heb/publications.php?cat=81&incat=0&read=3320
14) فاجأت القناة الإخبارية الإسرائيلية الثانية مشاهديها بتقرير حصري يكشف لأول مرة فرضيات ضربة محتملة ضد إيران، بتاريخ 29/3/2012، من قِبل مراسلها للشؤون الدولية "عاميت فيلدمان"، على الرابط التالي:
 http://www.mako.co.il/news-military/security/Article-a8903ca91fb5631018.htm
15) التقرير الكامل عن قاعدة جهاز الموساد في أذربيجان، توسعت فيه الصحف الإسرائيلية مجتمعة، لكن "يديعوت أحرونوت"، بتاريخ 12/2/2012، منحته تغطية مهمة، بالرجوع إلى مقابلات أجرتها مع خبراء أمنيين لفحص مدى أهميتها في توجيه ضربة خاطفة لإيران، على الرابط التالي:
 http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4188247,00.html
16) تقرير لـ"ديفيد بارون"، المراسل السياسي لصحيفة "إسرائيل اليوم" بتاريخ 30/3/2012، على الرابط التالي:
http://www.israelhayom.co.il/site/newsletter_article.php?id=15819&newsletter=30.03.2012

نبذة عن الكاتب