السياسة الخارجية التركية في ظل التحولات الإقليمية

مثَّل الربيع العربي لتركيا فرصة وعقبة، حيث ساندت في البداية المطالب الديمقراطية لكن استراتيجية مختلف القوى الإقليمية والدولية جعلت أنقرة تعجز عن قيادة التحولات بالمنطقة.
20131216103131862734_20.jpg
أردوغان يلّوح بشعار رابعة (أسوشييتد برس)
ملخص
تواجه السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط عددًا من العقبات الجديدة التي تعتبر بمثابة نتائج مباشرة أو غير مباشرة للربيع العربي. ومع ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها السياسة الإقليمية التركية تحديات بسبب عوامل ليست نابعة من أنقرة. وكما كانت الحال في التحديات السابقة، يستخدم مهندسو السياسة الخارجية التركية أدوات سياسية جديدة تسعى إلى الحد من الآثار السلبية للربيع العربي على الطموحات الإقليمية لأنقرة. وفي ضوء التطورات الأخيرة في المنطقة، تحاول هذه الورقة تحليل كيفية تشكيل السياسة الخارجية التركية عندما تواجهها تحديات ناتجة عن التحولات الإقليمية. وسوف تستكشف هذه الورقة بالمثل الآليات التي تؤثر على السياسة الخارجية التركية في هذه العمليات.

تمهيد

تتصدر السياسة الخارجية التركية "الجديدة" في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية عناوين الأخبار، وتمثل قضية ملحة لا تزال تثير الحوار والجدل. وعادة ما تركز النقاشات الدائرة في هذا الصدد على التفضيلات السياسية والاستراتيجية التي تتبناها تركيا خلال فترة الربيع العربي وما بعده، والتي غيرت كثيرًا من التركيب الجيوبوليتيكي للسياسات الإقليمية والدولية. ويذهب عديد من النقاد إلى أن التطورات غير المتوقعة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أضعفت كثيرًا مسيرة تركيا لأن تصبح قوة إقليمية مؤثرة.

وبالرغم من أن الربيع العربي أطلق آمالا جديدة تمامًا عمَّت الإقليم الأوسع من حيث إمكانية تقوية الأنظمة القديمة ديمقراطيا وإعادة بناء استراتيجية للقوى السياسيىة التقليدية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أنه مثّل فعلاً تحديًا جوهريًا لتركيا. وفي البيئة السياسية الجديدة لما بعد الربيع العربي، سيتمثل التحدي الحقيقي لتركيا في مسألة ما إذا كان بوسع أنقرة القيام بالمهمة الشاقة المتمثلة في استعادة السلام في المنطقة أم لا.

وبالرغم من أن تركيا كانت تحاول بناء "وعي جماعي جديد" في المنطقة من خلال تقديم أولويات المطالب الجماهيرية، والتعايش السلمي والنظام العادل، إلا أن التحول الراديكالي للسياق الإقليمي والتغيرات الجوهرية المشهودة على المستوى الدولي تجبرنا على التدقيق في المراجعات والتغيرات في سياسة تركيا الخارجية؛ حيث تتطلب مسألة حيوية الخطاب التركي وممارسات السياسة الخارجية تجاه التطورات الحديثة في الشرق الأوسط تحليلاً للآليات الجديدة وسعي تركيا لإعادة تحديد موقفها في مواجهة التطورات التي أثارها الربيع العربي.

وقد وصل الجدل حول السياسة الخارجية التركية إلى ذروته عقب تحديات الربيع العربي، والأزمة السورية بصفة خاصة. ولذلك، هناك تساؤل له أهمية خاصة لكي نفهم كيف ستستجيب تركيا للتحديات التي ظهرت مؤخرًا: هل وصلت تركيا إلى الحد الأقصى لمدى قوتها في الشرق الأوسط؟

تحاول الورقة التي بين أيدينا الإجابة على هذا السؤال بالتركيز على التحديات التي تواجه تركيا، وتحليل أبعاد التحديات التي ستؤثر مباشرة على وضع تركيا الدولي وأنشطتها الإقليمية وسياساتها المحلية في المستقبل القريب.

ثلاثة تحديات أمام السياسة الخارجية التركية

يمكن تحليل السياسة الخارجية التركية خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية في ثلاث فترات مختلفة، بناء على ثلاثة تحديات إقليمية ودولية في العقد الأخير؛ ففي الفترة الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، تبنت النخب السياسية الجديدة نموذج سياسة خارجية جديدة تعطي الأولوية القصوى للتكامل والتعاون مع الدول الإقليمية، خاصة في مجالات الاقتصاد والدبلوماسية التي ستحوِّل السياسة الإقليمية من التفاهم المدفوع بالمصالح الأمنية المشتركة إلى علاقة أكثر مرونة ذات قيم مشتركة (1).

لقد أصبحت سياسة المشاكل الصفرية (Zero Problem Policy ZPP) في هذه الفترة بمثابة حجر الأساس في منهج السياسة الخارجية التركية، فأعادت صياغة أنشطتها الإقليمية في الشرق الأوسط، وتراجعت تدريجيًا عن الخطاب السياسي التقليدي للنخب البيروقراطية الأتاتوركية. ومع ذلك، مثّلت حرب العراق في 2003 تحديًا مباشرًا لأولويات السياسة الخارجية الإقليمية التي تشكّلت في ظل مبدأ سياسة المشاكل الصفرية، فقوضت أعمدة خطابها السياسي بشأن النظام الإقليمي. فمن خلال استخدام الدبلوماسية متعددة المستويات والأبعاد على المستوى الإقليمي والدولي، ساندت تركيا باستمرار التكامل الإقليمي للعراق، وحاولت بناء تفاهم مشترك وآلية دبلوماسية جماعية لاحتواء أزمته. ومن خلال الابتعاد عن التدخل بقيادة الولايات المتحدة، وسَّعت تركيا علاقاتها مع دول المنطقة بقدر بالغ من العناية (2).

وفي الفترة الثانية من حقبة حزب العدالة والتنمية، ومع تزايد قوة تركيا الاقتصادية ودورها كوسيط سلام في المنطقة، بدأت أنقرة في تعميق علاقاتها مع الشرق الأوسط. وتزايدت "الاستقلالية الاستراتيجية" لتركيا في هذه الفترة تدريجيًا بفضل تنويع أنشطة السياسة الخارجية مع مختلف المناطق (3). ومع ذلك، وجّه الحلفاء الغربيون انتقادًا لـ"سياسة الانخراط الجديدة" التي اتبعتها تركيا، فضلاً عن الانتقاد المستمر الذي وجهته المعارضة المحلية تجاه ما اعتبرته "تغييرًا في المحور الجيوستراتيجي" وانصرافًا عن التحالف الطويل المنتظم مع الغرب.

وأدى انتقاد تركيا الرسمي لإسرائيل، وموقفها الاستراتيجي المختلف في المسألة النووية الإيرانية، وعلاقتها الوثيقة مع حماس، إلى زيادة حدة انتقاد سياسة "تغيير المحور الاستراتيجي"، وما إذا كانت تركيا تعمل كشريك للغرب في الشرق الأوسط، أم أنها تمنح أولوية للشرق الأوسط على توجهها الغربي. وبالرغم من الانتقادات الحادة من جانب أطراف داخلية وخارجية لتغيير أنقرة بوصلة سياستها الخارجية، إلا أنها حافظت بنجاح على سياسة المشاكل الصفرية كمحدد رئيس لأنشطة سياستها الخارجية.

وفي الفترة الثالثة من حقبة حزب العدالة والتنمية، حدث تغير في كل من السياسة الخارجية التركية والدور الذي تلعبه أنقرة في السياسة الإقليمية. فمبدئيًا، كانت تركيا تخطط لتكثيف علاقاتها مع الدول العربية، وتحاول تحقيق نموذج "التكامل الإقليمي". وكان ذلك جليًا في أنشطة أنقرة التي تهدف إلى المزيد من التكامل في المنطقة، مثل إلغاء تأشيرات الدخول مع عدد من الدول العربية، وتأسيس "مجالس تعاون إستراتيجي رفيعة المستوى" مع الدول الإقليمية الرئيسة، وتكثيف التعاون الثقافي في المنطقة. وكانت تركيا تهدف من خلال هذه الأنشطة إلى إحداث تغيير في سياسة "الأمر الواقع" في الإقليم (4).

وقد شكّل الربيع العربي في 2011 تحديًا حقيقيًا لاستراتيجية السياسة الخارجية التركية؛ فقد كانت الثورات في العالم العربي مرغوبة، ولكنها غير متوقعة بالنسبة لأنقرة. وكان هذا هو السبب في أن حكومة أردوغان في البداية لم تكن حاسمة بشأن كيفية الاستجابة لهذه الانتفاضات الشعبية، مثلها في ذلك مثل حكومات معظم دول العالم. ومع ذلك، كان هناك شيء واحد واضح، ألا وهو الوقوف في صف المطالب الشعبية المشروعة في هذه الدول. ومع ذلك، اختلفت طريقة إظهار هذه المساندة من حالة لأخرى. وكان هذا يوضح كيف استجاب أردوغان فعلاً للتحديات التي واجهت سياسته الخارجية في المنطقة نتيجة الصحوة العربية؛ حيث انحاز إلى الشعوب التي كانت تثور ضد الديكتاتوريات المدعومة عبر عقود طويلة من الغرب.

وكما ذكرنا سلفًا؛ فإن مقاربة تركيا المضادة للمقاربة الغربية تجاه الربيع العربي فاقمت الخطر على ريادتها الإقليمية. هذا التهديد الذي فرضه الربيع العربي على الاستراتيجية الكبرى لتركيا يمثل تهديدًا مفتوحًا لهدف أنقرة المتمثل في زعامة التغيير في الشرق الأوسط. ولكن الأهداف الأولية للربيع العربي -مثل تطبيق الديمقراطية، وزيادة الحريات، وتلبية الحقوق الاجتماعية والأساسية- تحولت بسرعة إلى حالة من الاضطراب، خاصة فيما يتعلق بالبيئة السياسية الفوضوية في هذه البلاد والأزمة المتردية في سوريا. وتحولت البيئة الاستراتيجية التركية جوهريًا من الاستقرار إلى الفوضى البنيوية، والتي يمكن تعريفها بـ"حالة من الاضطراب" تأثرت مباشرة بالأزمة في كل من سوريا ومصر وليبيا واليمن وتونس والعراق (5).

وفي هذه الفترة، لم تقتصر التحديات التي تواجه تركيا على التحديات المتعلقة بالاستقرار الإقليمي، ولكنها تأتي أيضًا من الجماعات المنشقة في السياسة المحلية في تركيا. وبينما كانت الأزمة السورية تؤثر مباشرة على العلاقات الثنائية بين تركيا وكل من العراق وإيران وروسيا على المستوى الإقليمي، بالإضافة إلى تعاونها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة على المستوى الدولي، إلا أن تشظي الصراع داخل سوريا كان يمثل تحديًا مباشرًا للأمن المجتمعي التركي على المستوى المحلي (6). وشهدت تركيا تعثرًا في سعيها لحل الأزمة في المنطقة بسبب الافتقار إلى إجماع بين الأحزاب السياسية ومختلف المجموعات الاجتماعية تجاه كل من الأزمة السورية والانقلاب العسكري في مصر. وعلى هذا النحو

من التفصيل، أدى الربيع العربي -باعتباره التحدي الرئيس للطموحات الإقليمية التركية- إلى تحديث خطاب أنقرة الاستراتيجي في مواجهة الأزمة متعددة الأبعاد في المنطقة.

تركيا: إعادة التوجه الاستراتيجي

في خضم ما سبق، ثمة شيء وحيد جليّ، وهو أن الربيع العربي دخل الآن مرحلة تحول جديدة. وفي ظل ذلك التحول، يجب أن نحلل إعادة التوجه الاستراتيجي لتركيا في الشرق الأوسط الجديد في ضوء ثلاثة أبعاد متصلة؛ ففي المراحل الأولى من الثورات الشعبية، نجد أن مساندة تركيا لتغيير الأنظمة، بدلاً من مساندة حالة "الأمر الواقع"، سمحت لأنقرة بصياغة خطاب سياستها الخارجية بمزيد من الثقة والشجاعة.

وأخذًا ذلك في الاعتبار، ركَّزت حكومة أردوغان على قيادة التحولات في المنطقة، ولكن موقف تركيا اصطدم أولاً بالوضع المتدهور والمتفاقم في سوريا، ثم بالانقلاب العسكري في مصر، وتطلب ذلك منها إعادة النظر في استراتيجياتها تجاه التحول الإقليمي على أساس نفس مبادئ السياسة الخارجية التي كانت تتبعها خلال العقد الأخير.

وبعبارة أخرى، كانت تركيا تغير استراتيجياتها في مواجهة التطورات في المنطقة، ولكنها استخدمت نفس نمط المبادئ السابقة في تحقيق ذلك. فبينما كانت تركيا تعترف بتعزيز الديمقراطية كفلسفة محورية للربيع العربي، كانت تهدف في ذات الوقت إلى قيادة هذا التحول الإقليمي من أجل تحقيق هذه العملية بدون تدمير الاستقرار الإقليمي. ومع ذلك، لا تزال هناك ثلاثة أبعاد تتحدى رؤية تركيا للمنطقة بصورة مباشرة؛ حيث تقابل هذه الأبعاد الثلاثة أيضًا جوانب محددة من إعادة التوجه الاستراتيجي التركي فيما يتعلق بالتطورات السياسية الجديدة في المنطقة.

البعد الدولي
يتشكل السلوك السياسي للمجتمع الدولي أساسًا من خلال مساندته العملية والمنطقية للتحولات في المنطقة. وكان هذا أحد أهم الجوانب المساندة للخطاب السياسي لحكومة أردوغان، والذي كان يجب أن يتحقق من أجل تنفيذ السياسة الخارجية لتركيا، وتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية في مواجهة الغموض السائد في المنطقة. ومن خلال حشد تأييد المجتمع الدولي، حاولت تركيا أيضًا تطبيق سياسة أكثر نشاطًا في مواجهة عملية التحول الإقليمية. ومع ذلك، لم يكن لهذه الجهود أي أثر جيوبوليتيكي جوهري لاحتواء الاضطراب الذي وُلِد في فترة ما بعد الربيع العربي في المنطقة.

وقد أدى تعارض المصالح وتباين الخيارات السياسية للأطراف العالمية والإقليمية تجاه الأزمة السورية والمأساة السياسية في مصر، إلى تكبيل تركيا عن حل الأزمة الإقليمية باستخدام الآليات السلمية؛ فقد أدى التنافس الاستراتيجي وتباين المنطلقات الفكرية بين الأطراف العالمية والإقليمية إلى تعميق الأزمة بسبب تصاعد النهج المتطرف، خاصة في سوريا؛ مما أدى إلى قلق القوى الغربية من دعم جماعات المعارضة السورية (7).

وإضافة إلى ذلك، فإن مقترحات تركيا لحل الأزمة لم تستطع إقناع المجتمع الدولي؛ إذ يجب أن نتذكر أن تركيا نصحت حلفاءها الغربيين بالتدخل العسكري في سوريا لإسقاط بشار الأسد، رغم ما في ذلك من مخاطرة كبيرة على أمنها الداخلي؛ فقد كان أردوغان يرى أن هذا خيار ضروري لوقف المذابح الدموية التي ترتكبها القوات التابعة للأسد في الداخل والأطراف الداعمة لها من الخارج. وكانت أنقرة تدرك أيضًا حقيقة أن خصائص الجماعات المعارضة المقاتلة في سوريا أدت إلى تزايد التطرف في البيئة السياسية؛ مما سبّب توترًا للعواصم الغربية التي تعارض بشدة أن يكون لأي نوع من الحركات المتشددة دور في الوضع السياسي في سوريا بعد بشار. ونتيجة لهذه المواقف المتناقضة، فإن الحراك السياسي المحدود، مثل اجتماعات "أصدقاء سوريا" أصبحت مجرد تجمعات غير مؤثرة في وقائع الأمور؛ إذ أخذ الانقسام بين الأطراف في التزايد بدلاً من التراجع.

وهناك مشكلة مماثلة أخرى واجهت تركيا، وهي الانقلاب العسكري في مصر في يوليو/تموز 2013؛ فبدلاً من استنكار التدخل العسكري، أظهرت الأطراف الغربية والإقليمية موقفًا سياسيًا براغماتيًا جدًا مساندًا للتدخل العسكري في الشأن السياسي المصري. وبذلك أكدت هذه الأطراف أنه حين تتعرض مصالحها للخطر؛ فإنها مستعدة لإغماض أعينها عن التحركات غير الديمقراطية في السياسة في مرحلة ما بعد الربيع العربي.

ومع ذلك، كان هذا النوع من ردود الأفعال الغربية يستهدف أيضًا الطموحات التركية قصيرة وطويلة الأجل في الإقليم، والتي كانت ستفيد كل الدول في المنطقة فعلاً؛ فعندما وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة، اعتبرت أنقرة مصر واحدة من أهم حليفاتها في ترجمة رؤيتها للشرق الأوسط. غير أن القاهرة تحولت بعد الانقلاب إلى قيد استراتيجي أمام تركيا. ومع عدم رغبة المجتمع الدولي في التدخل الإيجابي، وتزايد التهديدات الأمنية النابعة من الشرق الأوسط، فضلت تركيا تعزيز علاقاتها الأمنية بحلف الناتو والدول الغربية.

البعد الإقليمي
بالإضافة إلى البعد الدولي، لا يمكن فهم إعادة التوجه الاستراتيجي الجديد لتركيا نحو الشرق الأوسط دون مراعاة الآثار الناجمة عن الآليات الإقليمية الجديدة. ولعل أحد أهم الجوانب الملموسة في الواقع السياسي الإقليمي الجديد يكمن في حالة التقلب السياسي التي تمر بها المنطقة منذ ثلاث سنوات.

فقد أدى الاضطراب السياسي بطريقة ما إلى زيادة الشقاق بين الأطراف الإقليمية، ومهّد الطريق لعداء استراتيجي جديد بين الأطراف الإقليمية مثل السعودية وإيران وتركيا. ويعد ذلك بمثابة القوة الدافعة الرئيسة وراء النتائج الكارثية للقتل الجماعي للمدنيين ونزوح الآلاف من الشعب السوري.

ففي السنوات الأخيرة، كانت تركيا تعمل حثيثًا للقضاء على الخصومات بين الأطراف الإقليمية، ومحاولة دمجها في النظام الجيوبوليتيكي العالمي ككل. ومع ذلك، فإنه نتيجة للصراع في سوريا، كانت الرؤية الاستراتيجية لأنقرة مختلفة عن تلك الخاصة بكل من طهران، ودمشق، وصارت مختلفة مؤخرًا عن نظيرتها في القاهرة، وقد ترك ذلك آثارًا سلبية على أشكال الانخراط التركي على المستوى الإقليمي بدرجة تفوق تلك الآثار على المستوى الدولي. ولذلك كانت أنقرة حائرة في دوافعها لحل القضايا الإقليمية بين ربط نفسها بالأطراف الدولية الكبرى من ناحية، وممارسة دور اللاعب الإقليمي الرئيسي من ناحية أخرى.

البعد الداخلي
وبالإضافة إلى ذلك، كان البعد الإقليمي لإعادة التوجه الاستراتيجي التركي -وهو بدوره صدى قوي آخر للتحولات الإقليمية لسياسة تركيا الخارجية- ظاهرًا جليًا على المستوى الوطني؛ حيث استغلت حكومة أردوغان نشاط السياسة الخارجية كدافع لتحويل هيكل القوى في السياسة المحلية؛ إذ إن الموقف التركي تجاه الأزمة السورية، والعلاقات المتوترة مع مصر، والمشاكل مع الحكومة المركزية في العراق، وتدهور التعاون مع إسرائيل، قد فتح مجالاً سياسيًا جديدًا أمام جماعات وأحزاب المعارضة لاستغلال إخفاقات السياسة الخارجية بفعالية في حساباتها السياسية المحلية.

فقد اتهمت المعارضة التركية حكومة أردوغان بأنها غير قادرة على العمل بشكل فعال، وأنها تستخدم تفضيلات سياسية مدفوعة أيديولوجيًا في السياسة الإقليمية. ونتيجة لذلك، تذهب المعارضة إلى أن الحكومة فقدت مرونتها الاستراتيجية وتجد نفسها وحيدة في ممارسة سياستها المتعلقة بالشرق الأوسط.

وكانت الحرب الأهلية في سوريا تؤثر أيضًا على السياسة الكردية على المستوى الإقليمي؛ مما تطلّب من السياسة الخارجية التركية أن تكيّف نفسها سريعًا مع الآليات المتغيرة للسياسة في المنطقة؛ فبالرغم من أن أنقرة اعتبرت أن الربيع العربي يتفق مع التطلعات الديمقراطية للشعوب المقهورة في المنطقة، إلا أن التزام أردوغان بالديمقراطية أصبح موضع تساؤل في ضوء الاحتجاجات التي وقعت في صيف 2013 في أرجاء البلاد. واستجابة لهذه الاتهامات، أصبح خطاب أردوغان المساند للمؤسسات الديمقراطية أكثر قوة من ذي قبل، خاصة بعد الانقلاب العسكري في مصر؛ حيث أدى موقف تركيا المناهض بقوة للانقلاب إلى مزيد من القلق لبعض الأطراف الإقليمية والدولية التي تساند التدخل العسكري في الشأن السياسي (8).

الخاتمة

تعتبر تركيا الطرف الإقليمي الرئيس الذي ربما يستطيع أن يلعب أهم دور في الحفاظ على النظام والأمن الإقليمي. لقد كانت المرونة الاستراتيجية لحكومة أردوغان في ممارسة سياستها الخارجية تمثل حجر الأساس في قصة نجاح تركيا في السياسة الإقليمية في العقد الأخير. ومع ذلك، تسببت عدة تطورات بنيوية في تهديد أهداف سياسة تركيا الخارجية؛ مما تطلب من أنقرة إعادة تنظيم سياساتها في ضوء التطورات الإقليمية؛ حيث كشفت هذه البيئة السياسية الجديدة عن الحاجة الملحة إلى قيام تركيا وأطراف إقليمية أخرى بتخفيف مواقفها تجاه الصراعات في المنطقة.

ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا عن طريق عملية للتحول الإقليمي تتفق فيها جميع الأطراف على المواقف السياسية الأساسية التي تعظم مصالحها. ويتمثل أهم جوانب هذا التحول الإقليمي في التخلص من العقبات والخصومات السياسية التي تعرقل الشراكات الاستراتيجية في الأجل الطويل؛ إذ إن تركيا -التي كانت تعتبر الطرف الرابح في بواكير الربيع العربي- أصبحت تواجه الآن تحديات ناتجة عن نفس هذا التحول.

وفي هذا الصدد يذهب البعض إلى أنه ليس بمقدور تركيا تحقيق النتائج التي تتطلع إليها. وفي الحقيقة، لا يمثل هذا مشكلة لتركيا فحسب؛ حيث تثبت المتغيرات الدولية والآليات الإقليمية الجديدة أنه لا يستطيع أي طرف إقليمي أو دولي بمفرده -بما في ذلك الولايات المتحدة- أن يقود التحولات بأمان. ولذلك، فإنه إذا كان يعيب تركيا قدراتها المحدودة في هذا الصدد، فإن نفس الشيء ينطبق على الأطراف الأخرى بالمثل.

وفي ضوء الملابسات السابقة، ثمة ثلاثة مستويات جيوبوليتيكية تقوم عليها السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق الأوسط في الأجل القصير. ويمكن أن يكون أي من هذه المستويات مساندًا أو مدمرًا؛ فأولاً، تعتبر السمات الجيوسياسية للقضية الكردية ذات أهمية كبيرة لنجاح أنقرة في عملية التحول هذه.

وقد شهدت الفترة الأخيرة تحولاً لافتًا في هذا الشأن؛ فبدلاً من استخدام تلك اللغة التي لا تصلح سوى على المستوى المحلي، وضعت تركيا القضية الكردية على مستوى أكثر إقليمية؛ إذ إن استخدام أردوغان علانية لمصطلح كردستان -وهي كلمة محظورة في السياسة التركية منذ فترة طويلة- في اجتماع في أكبر مدينة كردية (ديار بكر)، يمكن أن يعتبر بمثابة قبول أنقرة لهذه الحقيقة.

وحري بنا أن نكون أكثر وضوحًا، فمصالح تركيا تتوازى مع مصالح الأكراد. وبعبارة أخرى، فإن المكاسب الديمقراطية والاقتصادية للأكراد في المنطقة يمكن أن تعتبر أيضًا بمثابة فائدة لتركيا. ويمكن أن يؤدي هذا غالبًا إلى مزيد من التعاون بين الطرفين. وسيؤثر هذا التطور كثيرًا على البعد الثاني، وهو العلاقة مع العراق؛ إذ إن المؤشرات الأولية على التقارب بين بغداد وأنقرة ظهرت مع الزيارة التي قام بها مؤخرًا أحمد داود أوغلو إلى كل من العاصمة العراقية بغداد ومدينة كربلاء ذات الأهمية المقدسة لدى الشيعة؛ حيث كانت هذه الزيارة مهمة جدًا لتلطيف الأجواء العدائية بين السنة والشيعة في العراق بصفة خاصة والشرق الأوسط بصفة عامة.

ويتمثل البعد الأخير في إعادة التوجه الاستراتيجي لحكومة أردوغان في صنع بيئة إيجابية تستطيع فيها أطراف إقليمية أربعة -تركيا وإيران ومصر والسعودية- أن تصنع الأمن مستقبلاً للمنطقة ككل وبصورة مشتركة.

وأخيرًا، يجب أن يتضح أن تركيا تمنح أولوية لتحول الإقليمي آمن من أجل الحفاظ على التعايش السلمي لكل الأطراف في المنطقة. ولتحقيق هذا الهدف، فإن حكومة أردوغان ستركز على التخلص من الخصومات الاستراتيجية بين الأطراف الإقليمية باستخدام المرونة الاستراتيجية التركية كمنهج رئيس للسياسة الخارجية. وطبقًا لأنقرة، فإن هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق إلا بالتركيز على تكامل مصالح كل الأطراف الإقليمية في مواجهة الأزمات.
__________________________
مراد يشيلطاش - أستاذ مشارك في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة ساكاريا، وتركز دراساته على كل من الجيوبوليتيكا، الجغرافيا السياسية، النظرية النقدية، السياسة الخارجية التركية، والشرق الأوسط.

إسماعيل نعمان تيلچي - باحث دكتوراه في قسم العلاقات الدولية في جامعة ساكاريا، وهو باحث أيضًا في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة ساكاريا، وقد اختتم مؤخرًا زيارة بحثية لمدة عام بجامعة القاهرة في مصر، وتركز أعماله على الربيع العربي والسياسة المصرية والعلاقات التركية-المصرية.

ملاحظة
• ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية عاطف معتمد وعزت زيان.
• يود المؤلفان تقديم الشكر لكل من صبان كارداس، بولانت أراس، نبي ميس، وزانا بايكال، وذلك لما قدموه من آراء ثرية.

الهوامش
1- Ahmed Davutoglu (2008), “Turkey’s Foreign Policy Vision: An Assessment of 2007”, Insight Turkey, Vol. 10, No. 1, pp. 77-96.
2- Murat Yesiltas (2009), “Soft Balancing in Turkish Foreign Policy: The Case of the 2003 Iraq War”, Perception: Journal of International Affairs, Spring-Summer, pp. 25-51.
3- Bulent Aras (2009), “Turkey’s Rise in the Greater Middle East: Peace-building in the Periphery”, Vol. 11, No. 1 March, 29-41.
4- SabanKardas (2012), “From Zero Problem to Leading the Change: Making Sense of Transformation in Turkey’s Regional Policy”, 5th Edition.
5- ZiyaOnis (2012), “Turkey and Arab Spring: Between Ethics and Self-Interest”, Insight Turkey, Vol. 14, No. 3, pp. 45-63.
6- NebiMis (20013), “Kurt SorunununBolgeselAnalizi (Regional Analysis of Kurdish Issue), Star, 3, August 2013, http://haber.stargazete.com/acikgorus/kurt-sorununun-bolgesel-analizi/haber-778638 .
7-Kemal Inat (2013), “Turkiye’ ninSuriyeRotasi (Turkey’s Route for Syria”, Star, 18 May 2013, http://haber.stargazete.com/acikgorus/turkiyenin-- suuriye-rotasi/haber-755106 .
8-NebiMis and Ismail NumanTelci (2013), “DevrimdenDarbeye: Misir’daAskariVesayetDonemi (From Revolution to Coup: Military Tutelage in Egypt”, OrtadoguAnaliz (Middle East Analysis), August, Vol. 5, No. 56, pp. 20-29.

نبذة عن الكاتب