تونس: قراءة في التجربة الدستورية

تحرص أية عملية تحول في التاريخ الحديث والمعاصر بتونس على التمتع بشرعية دستورية. ولا يعكس دستور ما بعد الثورة إرادة شعبية عبّرت عن نفسها عبر المجلس التأسيسي، بقدر ما هو تسوية تاريخية بين قوى سياسية تقليدية وأخرى حديثة، نجحت في استدعاء عوامل خارجية لوضع بصمتها على الدستور.
201411310338236734_20.jpg
الدستور الذي جاء بعد الثورة لا يعبّر تمامًا عن إرادة شعبية وطنية عبّرت عن نفسها من خلال نوابها في المجلس التأسيسي، بقدر ما يعبّر عن تسوية تاريخية بين قوى سياسية (الأوروبية)

ملخص
يحيل الجدل الدستوري التأسيسي في تونس على فكرة أساسية تعكس إلى حد كبير التجربة والخصوصية التونسية في التحول السياسي، في العصر الحديث والمعاصر؛ إذ يظهر أن هذا التحول ارتبط دومًا بشكل مباشر أو غير مباشر باجتهاد دستوري، يؤسس لفكرة مركزية، وهي الحرص المستمر على أن يكون التحول أو الانتقال أو التغيير أو حتى الثورة، تحظى بشرعية دستورية، حتى لا تبدو ارتماءً في المجهول.

ولعل إطلالة على التجربة السياسية التونسية الحديثة والمعاصرة، تكشف عن خيط ناظم يميزها، وهو تأصيل كل عملية تحول أو تغيير في مرجعيتها الدستورية؛ فمع منتصف القرن التاسع عشر، وبداية تشكل معالم الدولة التونسية الحديثة، تكرس في التجربة السياسية ما يشبه خبرة أو تراثًا، يقوم على محاولة التأسيس على وثيقة دستورية أو ما يماثلها.

ولا يبدو أن الدستور الذي جاء بعد ثورة أطاحت بنظام حكم لأكثر من نصف قرن، يعبّر تمامًا عن إرادة شعبية وطنية عبّرت عن نفسها من خلال نوابها في المجلس التأسيسي، بقدر ما يعبّر عن تسوية تاريخية بين قوى سياسية، بعضها تقليدي وأخرى حديثة، نجحت مرة أخرى في استدعاء العوامل الخارجية لوضع بصمتها على الدستور.

أطلقت الثورات العربية المتلاحقة الجدل القديم الجديد بشأن مرتكزات المشروع النهضوي والتنموي العربي، سواء لجهة النظام السياسي، أو لجهة المنوال التنموي. واستُدعي من جديد الحوار والجدل الواسع حول "التأسيس" وطبيعته، من خلال الدستور ومكانته ودوره في تحديد معالم وطبيعة الدولة العربية القادمة. وقد أشّر هذا "الجدل الدستوري التأسيسي" المتواصل على دلالات وأطروحات كبرى، قد لا يعيها حتى الكثير ممن هم أطراف في هذا الجدل.

"الجدل الدستوري التأسيسي" المتجدد

يحيل "الجدل الدستوري التأسيسي" الجاري على فكرة أساسية يبدو أنها تعكس إلى حد كبير التجربة والخصوصية التونسية في التحول السياسي، في العصر الحديث والمعاصر؛ إذ يظهر أن التحول السياسي في تونس ارتبط دومًا بشكل مباشر أو غير مباشر باجتهاد دستوري، يؤسس لفكرة مركزية وهي الحرص المستمر على أن يكون التحول أو الانتقال أو التغيير أو حتى الثورة، تحظى بشرعية دستورية بشكل من الأشكال، حتى لا تبدو قفزًا في الفراغ أو ارتماء في المجهول.

ولعل إطلالة على التجربة السياسية التونسية الحديثة والمعاصرة، تكشف عن خيط ناظم يميزها، وهو تأصيل كل عملية تحول أو تغيير في مرجعيتها الدستورية؛ فمع منتصف القرن التاسع عشر، وبداية تشكّل معالم الدولة التونسية الحديثة، تكرس في التجربة السياسية ما يشبه خبرة أو تراثًا، يقوم على محاولة التأسيس على وثيقة دستورية أو ما يماثلها.

ومنذ أن بدأت مسيرة الإصلاحات السياسية، برزت نزعة واضحة باتجاه المرجعية الدستورية؛ إذ كانت وثيقة عهد الأمان الذي صدر عام 1857، دستورًا تحولت به تونس من حقبة إلى أخرى، ودشنت عهدًا جديدًا اصطُلح عليه بـ"عهد الأمان". والحقيقة أنه إلى جانب العوامل الداخلية الكثيرة التي مهدت لوضع عهد الأمان، الذي جاء في سياق إصلاحي وتحول سياسي، دشنه البايات (لقب حكام تونس أنذاك) منذ بداية القرن التاسع عشر؛ فإن للعوامل الخارجية أدوارًا أساسية في تعزيز و"فرض" هذه الإصلاحات.

وإلى جانب تأثر البايات واستفادتهم من حركة الإصلاحات المبكرة التي عرفها الباب العالي منذ بداية القرن الثامن عشر والتي عبّرت عن نفسها في قوانين وإصلاحات إدارية، لعبت القوى الغربية، لاسيما فرنسا وبريطانيا دورًا أساسيًا في دفع البايات في تونس إلى تبني إصلاحات وقوانين حديثة. وقد كان عهد الأمان نفسه، خلاصة تلك الضغوطات، بل وحتى في بعض وجوهه "إملاءات" من كل من فرنسا وبريطانيا عبر قنصليهما في تونس، عندما مارسا ضغوطات وصلت حد دعوة الأسطول الفرنسي ليرسو على الشواطئ التونسية، في ضغط على محمد باي للمصادقة على وثيقة عهد الأمان، التي عرفت البلاد من خلالها تغيرات اقتصادية واجتماعية كبيرة.

لم يمض على عهد الأمان أقل من أربع سنوات، حتى نجحت الضغوطات الخارجية مرة أخرى في الدفع بباي تونس محمد الصادق باي إلى إصدار ما يُعرف بدستور عام 1861، الذي يرى كثير من خبراء القانون الدستوري أنه أول دستور في العالم العربي والإسلامي. وتجب الإشارة هنا إلى أن محمد الصادق باي أطلع نابليون الثالث على دستور 1861، وبعد أن أقر الأخير مضامينه قرر الباي إصداره. وقد كان هذا الدستور بمثابة تحول جديد باتجاه التأسيس للملكية الدستورية؛ وهو نظام يقوم على مسؤولية الوزراء أمام ما يعرف بـ"المجلس الأكبر" الذي ترأسه لأول مرة أحد أبرز رجالات الإصلاح آنذاك، وهو خير الدين باشا. وقد كان من المفارقات أيضًا وجود أعضاء لم يبدوا أية حماسة لتلك الإصلاحات، على غرار مصطفى خزندار. ويسجّل في هذا الصدد أن العلماء قد تغيبوا عن المداولات بشأن وثيقة دستور عام 1861، بل ونظّموا احتجاجات ضدها، واعتبرت فرنسا أنها جرت بتحريض من خزندار الرافض لتعزيز الشفافية والمحاسبة في الحكم.

ومن المفارقات أيضًا في موضوع تأصيل الممارسة السياسية والتحولات الكبرى في إطار مرجعية دستورية قانونية، أن الأمر قد جرى حتى عندما اتجهت فرنسا الاستعمارية إلى وضع تونس تحت حمايتها؛ حيث مورست ضغوطات كبيرة على محمد الصادق باي من قبل الفرنسيين لتوقيع اتفاقية باردو في مايو/أيار 1881، والتي وضعت البلاد تحت الانتداب الفرنسي.

ومع الإرهاصات الأولى لحركة التحرر الوطني وبداية نضجها في مقاومة الاستعمار الفرنسي، لاسيما مع الزعيم التونسي الشيخ عبد العزيز الثعالبي، كان أهم المطالب التي سبقت حتى المطالبة بالاستقلال "دستور تونسي". بل ذهب الشيخ الثعالبي رغم خلفيته التعليمية الدينية، إلى تسمية الحزب الذي أعلن في مارس/آذار 1920 بـ"الحزب الحر الدستوري التونسي"؛ وهو تأكيد آخر على تمسك حركة التحرر الوطني بفكرة الدستور والدستورية، كشرعية لنضالها وكفاحها ضد الاستعمار.

ورغم تفاقم الخلاف والتباين مع تيار جديد ظهر في الحزب، مشكّلاً من نخبة حداثية التعلم، على غرار الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، إلا أنه بقرارهم تأسيس حزب جديد في سياق حركة التحرر الوطني، يكون هذا التيار قد تمسك هو الآخر بفكرة الدستور من جهة، ومن جهة ثانية ورغم محاولة إضعاف حزب الشيخ الثعالبي، إلا أن هذا التيار حرص على نهج الشرعية الدستورية القانونية، فجرى عقد مؤتمر قصر هلال عام 1934؛ حيث أُعلن عن الحزب الجديد تحت اسم "الحزب الحر الدستوري الجديد".

وقد بادرت تونس عقب إعلانها الحصول على الاستقلال عام 1957 إلى تشكيل ما سُمّي بالمجلس التأسيسي، الذي كُلّف بوضع أول دستور للبلاد، مؤسسًا للجمهورية، وواضعًا حدًا للملكية التي حكمت البلاد لقرون من الزمن. وقد كانت الإطاحة بالملكية وإعلان تونس جمهورية هو الآخر عبر الدستور الذي تبنته تونس عقب استقلالها. ولم تجر العملية بشكل قد يطعن في شرعيتها؛ فكان إلغاء الملكية عملية دستورية، وإعلان "تونس جمهورية" عملية دستورية أيضًا. ويؤكد هذا النهج رسوخ الفكرة "الدستورية" في التجربة السياسية التونسية الحديثة والمعاصرة.

بعد مرور عشر سنوات على الاستقلال وتولي الحبيب بورقيبة مقاليد الحكم، ورغبة منه في الاستمرار رئيسًا للجمهورية، لم يجد مدخلاً لذلك إلا عملية تعديل للدستور دفع إليها مجلس الأمة (البرلمان) ليتم التنصيص بصريح العبارة والنص على أن الرئيس بورقيبة، رئيس مدى حياته لتونس، وذلك عام 1967.

وفي السياق ذاته بعد عشرين عامًا أطاح زين العابدين بن علي بالرئيس بورقيبة عبر "انقلاب طبي"، كانت المرجعية فيه للدستور أيضًا عبر استعمال الفصل 57 من الدستور التي تتحدث عن حالات العجز لرئيس الجمهورية. بيد أن بن علي ذهب بعد ذلك بعيدًا في استعمال الدستور لإضفاء شرعية على طموحاته ونزواته ليس فقط في الاستمرار في الحكم وإنما أيضًا في استعماله بشكل تسلطي، ووجد في ذلك ظهيرًا من جزء من نخبة البلاد من رجال القانون والجامعات؛ ما سمح له بتحويل الدستور إلى "وثيقة خطابية"، يغيرها كلما أحس بالحاجة إلى ذلك، فتحولت من كونها أعلى وثيقة في المنظومة القانونية إلى وثيقة خطابية يتم تعديلها دون مراعاة لعلويتها.

عودة للفكرة الدستورية بعد الثورة

عندما هرب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011، عقب انتفاضة شعبية انطلقت في ديسمبر/كانون الأول 2010، جرى مرة أخرى اللجوء للفكرة "الدستورية" في محاولة تبرير انتقال السلطة من الرئيس الهارب لوزيره الأولى محمد الغنوشي، عبر استعمال الفصل 55 من الدستور التونسي، الذي يتناول النقل الجزئي للسلطة من الرئيس إلى الوزير الأول، في حالة التعذر المؤقت لممارسة المهام؛ وهي وضعية لم تُرضِ القوى التي ساهمت في الثورة؛ حيث إن الأمر لا يتعلق بنقل السلطة وإنما تغييرها والاطاحة بها. ولكن اللافت في الأمر أن قوى الثورة ركنت هي الأخرى لاستعمال الدستور نفسه لفرض التغيير؛ وهو الذي جرى بمقتضاه نقل السلطة من محمد الغنوشي إلى رئيس البرلمان فؤاد المبزع، بمقتضى نص الفصل 57 الذي يتحدث عن شغور في منصب رئاسة الجمهورية، وليس تعذرًا مؤقتًا كما ينص الفصل 56.

ولعل توافق المعارضين بشكل أو بآخر على هذه الصيغة في نقل السلطة، بديلاً عن الانسجام مع الثورة الشاملة التي تطيح بنظام الحكم وتعلق العمل بقوانين -كان وضعها هو نفسه- ترسخ فكرة وثقافة الركون إلى "الفكرة الدستورية" في كل المحطات السياسية في البلاد سواء كانت هذه المحطات جزئية أم شاملة كالثورة التي وقعت في شتاء عام 2011، وتعكس نزوعًا سلميًا يتجنب الحسم والجذرية في التعاطي مع الأحداث ومعالجتها.

خاتمة

إذ تتجه تونس اليوم للاحتفال بدستورها الجديد المنبثق عن المجلس الوطني التأسيسي، لتؤسس من خلاله لحقبة جديدة في تاريخ البلاد المعاصر، فإن قواها السياسية وجدت نفسها وهي تتوافق على المعالم الأساسية لهذا الدستور الجديد، تحت إكراهات وضغوطات داخلية وخارجية، تركت بصماتها المبثوثة بين ثنايا الفصول 246 المشكّلة لهذا الدستور.

كما أن هذا الدستور الذي جاء بعد ثورة أطاحت بأركان نظام حكم البلاد على مدى أكثر من نصف قرن، لا يبدو أنه يعبّر تمامًا عن إرادة شعبية وطنية عبّرت عن نفسها من خلال نوابها في المجلس التأسيسي، بقدر ما عبّر هذا الدستور عن تسوية تاريخية بين قوى سياسية، بعضها تقليدي وأخرى حديثة، نجحت مرة أخرى في استدعاء العوامل الخارجية لوضع بصمتها على الدستور.

تمثل هذه الخطوة التأسيسية الجديدة، التي انتهت بإعلان دستور 2014، إضافة أخرى في تراث التجربة الدستورية التونسية، التي كما حاولنا أن نبين، تبدو عريقة وأصيلة. بيد أن السؤال الذي يبقى أساسيًا: هل تنجح هذه الثقافة الدستورية في تأسيس تجربة تحول حقيقي في البلاد، تنهض به نموذجًا يستفاد منه في العالم العربي، مثلما حققت تونس السبق في منتصف القرن التاسع عشر في وضع أول دستور في العالم العربي؟
___________________________________
جلال الورغي - كاتب وباحث تونسي

نبذة عن الكاتب