نشأت "حركة النهضة" في ظرف كانت تمثِّل فيه مسألة الهوية في تونس إشكالًا وموضوع صراع، وذلك بسبب نزعة الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، إلى تحديث المجتمع والدولة وفق مثال صَدَم الثقافة الإسلامية. وبدأت الحركة تُدرِك مساوئ الازدواجية الوظيفية في وقت مبكر نسبيًّا، إلا أن النقاشات الداخلية الأولى التي كانت تجري في كنف السرية لم تُفْضِ إلى قرار حاسم بهذا الشأن، والسبب الأساسي في ذلك يرجع إلى أن نظام الحكم في عهد الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، لم يوفر القدر الأدنى من الحقوق المدنية والحريات العامة اللازمة لأن يكون أي تغيير تجريه الحركة على استراتيجية عملها قابلًا للتنفيذ على أرض الواقع بالشكل المطلوب.
وتعتبر الحركة أنه لم يعد ثمة ما يدعو إلى استمرارها حركة احتجاجية ضد الاستبداد، ولا معنى من باب أولى لاستمرارها حركة عَقَدية تخوض معركة الهوية بعد أن تضمَّن دستور الجمهورية الثانية قواعد وأحكامًا تكفل مصالحة الدولة مع الإسلام ومع الثقافة العربية.
مقدمة
منذ أكثر من أربعين عامًا، أثمر اللقاء في تونس بين عدد من شيوخ الجامعة الزيتونية وآخرين من خريجي الجامعات الحديثة ميلادَ حركة إحياء ديني أطلقت على نفسها اسم "الجماعة الإسلامية". ورغم النبرة السلفية التي ميَّزت خطاب بعض قادة الجماعة في المنطلق، فإن نزعة الإحياء الديني التي غلبت على الذهنية العامة لقياداتها المخضرمة جعلت اهتمامها ينفتح على المجالين الاجتماعي والسياسي اللذين شهدا في سبعينات القرن الماضي صراعًا محتدمًا(1). وسرعان ما بادرت سنة 1981 إلى إعلان نفسها حزبًا سياسيًّا حمل في البداية اسم "حركة الاتجاه الإسلامي" ثم "حركة النهضة"(2)، وظلَّ الحزب يطالب بإطلاق الحريات، وتشريع التعددية الحزبية، وإحلال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لم تلقَ هذه النقلة من الجماعة الدينية إلى الحزب السياسي في حينها ترحيبًا من قِبل عدَّة حركات إسلامية في العالم، أبرزها جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية. لكن محاولات التأسيس النظري والمراجعات النقدية التي حصلت في أكثر من بلد، والمكاسب الميدانية التي حققها الإسلاميون التونسيون منذ ثمانينات القرن العشرين بتأثير أطروحاتهم الديمقراطية، كل ذلك جعل الحركات التي اعترضت على تلك الأطروحات تتراجع وتتجه إلى تبنيها تدريجيًّا.
وإذا كانت نقلة الماضي قد لقيت حظًّا من القبول والنجاح، نظرًا إلى أن استيعاب القيم الديمقراطية قد وقع في سياق المزاوجة بين الدعوة الدينية والعمل السياسي، فإن القرار الجديد الذي اتخذته الحركة في مؤتمرها العاشر (20-23 مايو/أيار 2016) باستبعاد المهام الدعوية من وظائفها الأصلية والتمحض للعمل السياسي دون سواه قد جعل ردود الأفعال عليه تتوزع بين الترحيب والتشكيك، ووصل بعضها إلى التنديد. ففي حين رأى كثير من المراقبين في التوجه الجديد خطوة محمودة نحو تَمثُّلِ قيم المعاصرة والاستجابة الذكية لمتغيرات الواقع المحلي والإقليمي ولمستلزَمات القانون؛ اعتبر آخرون، ومنهم جانب من أنصار "حركة النهضة" ذاتها، أن قرار التخصص الحزبي يمثِّل انزياحًا عن السمت الإسلامي قد يعرِّض الحركة لخطر العَلْمَنَة مستقبلًا، ويقلِّص بالتالي من رصيد شعبيتها ومن حجم حضورها السياسي، علاوة على أنه سيُفسد علاقاتها بكثير من حلفائها التقليديين وأصدقائها في الداخل والخارج. ومن الناحية المنهجية، لا يمكن الحكم على مدى توفق قرار المؤتمر العاشر، وانعكاساته المتوقعة، إلا بعد الوقوف على حقيقته والدواعي الظرفية والمبدئية التي أدَّت إلى اتخاذه، وذلك من ثلاث زوايا: سياقية ومفهومية واستراتيجية.
قرار التخصص في سياقه التاريخي والواقعي
نشأت "حركة النهضة" في ظرف كانت فيه مسألة الهوية في تونس تمثِّل إشكالًا وموضوع صراع، وذلك بسبب نزعة الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، إلى تحديث المجتمع والدولة قسرًا وفق مثال علماني فرانكفوني صَدَم الثقافة الإسلامية وألغى كثيرًا من مؤسساتها وفي مقدمتها الجامعة الزيتونية التي سبق تأسيسُها جامعة "السوربون" الفرنسية. لهذه الأسباب خاضت الحركة منذ بدايتها معركة عقدية لمقاومة سياسات السلطة، متخذة من شمولية الدين الإسلامي مرجعًا أساسيًّا لنهجها في العمل على كل الأصعدة بدون استثناء.
وكان ذلك شأن عموم الحركات الإسلامية في العالم؛ فقد كانت تعيش ذات الحالة من ازدواجية الهوية بسبب جمعها بين الوظائف الدعوية الدينية والمجتمعية وبين وظائف السياسة التي تُعتبَر وفق التصور الحديث من اختصاص الأحزاب، لا من مشمولات الجماعات الدينية أو الجمعيات المدنية. ولعل هذا ما جعل بعض دوائر البحث الغربية تطلق عبارة "الإسلام السياسي" لتوصيف تلك الحركات. وقد انعكست تلك الازدواجية على واقع حركة النهضة التنظيمي، وعلى نوعية قادتها، وخطابها، وبرامجها، ومختلف شؤونها التي كان بعضها معلنًا في حين ظل بعضها الآخر تكتنفه السرية بسبب تلك الحالة.
بدأت الحركة تدرك مساوئ الازدواجية الوظيفية في وقت مبكر نسبيًّا، وقد أشارت لائحة التقييم التي صدرت عن مؤتمرها العاشر، تتويجًا لمحاولتين سابقتين في النقد الذاتي(3)، إلى أنَّ "من أبرز التناقضات (الناجمة عن ظاهرة الازدواجية) تلك التي تمثَّلت في استراتيجية التغيير بين أولوية النشاط الثقافي الدعوي وأولوية العمل السياسي..."(4). علمًا بأن التفكير في الخروج من هذا الإشكال قد بدأ داخل الهيئات القيادية للحركة منذ عدَّة أعوام تحت عنوان "سبل تصريف المشروع". كان القصد إذ ذاك هو التوصل إلى صياغة تصوُّر يسمح بتحقيق المقاصد الحضارية الشاملة التي تطمح إليها الحركة، بطريقة جديدة تقوم على التخصص الوظيفي وانتشار الموارد البشرية داخل المجتمع ضمن صيغ وهيئات مبتكَرة ومتنوعة لا ترهق كاهل التنظيم، وتضمن أسباب النجاح في كل مجالات العمل في آن(5).
لم تُفْضِ النقاشات الداخلية الأولى التي كانت تجري في كنف السرية إلى قرار حاسم بهذا الشأن، ونحسب أن السبب الأساسي في ذلك يرجع إلى أن نظام الحكم في عهد الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، لم يوفر القدر الأدنى من الحقوق المدنية والحريات العامة اللازمة لأن يكون أي تغيير تجريه الحركة على استراتيجية عملها قابلًا للتنفيذ على أرض الواقع بالشكل المطلوب. وهو ما جعل مقاربات التطوير المقترحة في تلك المرحلة أقرب إلى الأماني وإلى النظريات الحالمة.
وفرت ثورة 2011 السياق السياسي والمجتمعي الجديد الذي صار يسمح بالتفكير في الموضوع ليس بمفردات التنظير المجرد وإنما بمنطق التخطيط الاستراتيجي القابل للتحقق. فالثورة قد كفلت حق كل التيارات الفكرية والسياسية في تكوين الأحزاب (التي تجاوز عددها عمليًّا مئتي حزب مرخص له)، وحق الانتظام في جمعيات ذات صبغة مدنية لخدمة أغراض ثقافية ومجتمعية متنوعة، شريطة الالتزام بالقانون (وقد تجاوز عدد الجمعيات 18 ألفًا). وعزَّز المجلس التأسيسي المنتخَب بُعيد الثورة هذه التحولات بأن سَنَّ، في 27 يناير/كانون الثاني 2014، دستورًا جديدًا نصَّ فصله الأول على أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلامُ دينها، والعربية لغتُها، والجمهورية نظامُها"(6).
وجدت حركة النهضة في هذه المتغيرات التي أتاحتها مرحلة الانتقال الديمقراطي الناشئة عن "ثورة الحرية والكرامة" سندًا للتخفف من تبعات الجمع بين المشغلين الدعوي والسياسي؛ فاعتبرت أنه لم يعد ثمة ما يدعو إلى استمرارها حركة احتجاجية ضد استبداد آل به الأمر إلى الاندحار، ولا معنى من باب أوْلى لاستمرارها حركة عقدية تخوض معركة الهوية بعد أن تضمَّن دستور "الجمهورية الثانية" قواعد وأحكامًا تكفل مصالحة الدولة مع الإسلام ومع الثقافة العربية، وتمنع الاعتداء على المقدسات.
ومن الاعتبارات التي أسَّست عليها الحركة توجُّهها الاستراتيجي الجديد، أنه صار بإمكانها وإمكان غيرها من الجماعات أن تعمل في المجال السياسي بملء الطاقة بعد أن حصلت على رخصة اعتمادها القانوني باعتبارها حزبًا سياسيًّا. كما صار بإمكان كل من يريد التفرغ للعمل في المجالات الدعوية والثقافية والخيرية وغيرها أن يفعل ذلك بملء الطاقة أيضًا إمَّا من خلال مؤسسات الدولة الرسمية التي لم تعد تمارس الإقصاء ضد المخالفين، أو من خلال منظمات المجتمع المدني المتنوعة.
وبناء على أن القانون يشترط استقلال المنظمات المدنية عن الأحزاب خاصة فيما يتعلق بقيادات الصف الأول وبأمور التمويل، فقد صار لزامًا على الحركة أن تنضبط مثل غيرها من الأحزاب بالعمل السياسي دون سواه. فالمجال من هذه الزاوية لم يعد يسمح لها بحرية الاختيار وإنما صار يحتم عليها الانضباط للقانون.
وإذا تجاوزنا الدواعي التي أدَّت إلى قرار التخصص السياسي، يمكن القول: إن حركة النهضة قد عبَّرت باتخاذ ذلك القرار عن تبنيها الرؤية السياسية الحديثة التي تعتبر أن التنافس بين مكونات الساحة السياسية ينبغي أن يكون على أساس البرامج التنموية التي تقترحها للنهوض بالمجتمع والدولة، لا على أساس التبشير بالعقائد؛ وهي رؤية تسمح للأحزاب، في مقابل ذلك، بأن تتقدم بما تراه صالحًا من حلول ومقترحات تخصُّ إدارة وإصلاح المجالات الدينية والثقافية والمجتمعية، بحيث يتسنَّى لكل حزب أن يُدخل مقترحاته حيز التنفيذ بصورة قانونية في حال انتخابه ديمقراطيًّا لممارسة الحكم أو للمشاركة فيه، دون أن يُخرجه ذلك عن نطاق تخصصه السياسي.
تحوُّل في الهوية والمفاهيم
من أخطر وجوه التحدي التي طرحها قرار التخصص الحزبي على الحركة ما يتعلق بتجديد فكرها وإعادة صياغة مشروعها في ضوء هويتها الجديدة؛ فهي قد نشأت متأثرة بفكر جماعة "الإخوان المسلمين" وبتجربتها التنظيمية. ورغم أن قياداتها قد وجَّهت بعض النقد إلى جملة من أفكار تلك الجماعة ومواقفها السياسية القديمة والحديثة، وأن كثيرًا من مثقفي الحركة وشبابها قد تأثَّروا بروافد فكرية وسياسية متنوعة المرجعيات، إلا أن الرأي العام ظل ينظر إلى حركة النهضة على أنها أقرب إلى "الإخوان" ويصنفها معهم ضمن ما يسمى "الإسلام السياسي" الذي يشمل طيفًا واسعًا من التنظيمات الأخرى.
ولم يكن ذلك مثار تحفظ لدى الحركة أول الأمر؛ إذ لم يكن يزعجها أن يقع تصنيفها في خانة واحدة مع حركات يتكوَّن التيار الغالب فيها من تنظيمات عُرفت بخطها الوسطي ومنهجها السلمي ومشاركتها في الحياة السياسية عن طريق الانتخاب. لكن مع انتشار التيارات المتطرفة و"السلفية الجهادية" في الساحتين التونسية والدولية، لم يعد قادة الحركة ينظرون بعين الرضا إلى اعتماد عبارة "الإسلام السياسي" عنوانًا لتوصيف كل الجماعات السياسية التي تنسب نفسها إلى مرجعية إسلامية ما، من غير تمييز.
إن اشتراك أحزاب وجماعات في الاشتغال بالشأن السياسي وتبنيها الصفة الإسلامية لا يكفي، في نظر الحركة التونسية، للإقرار باشتراكها في الهوية، ذلك أن اختلاف المسلمين في فهم الإسلام قد يؤدي إلى تعارض بين مناهجهم في العمل السياسي وأحيانًا إلى صدامات بينهم، وهذا ما نراه في كثير من البلدان. لذلك رأت حركة النهضة أن تطور الساحة الإسلامية بات يحتم تصنيف الأحزاب والجماعات ليس على أساس عقائدي فحسب، وإنما بالاعتماد أيضًا على مقاييس حقوقية ومدنية في مقدمتها موقف تلك الأحزاب من الديمقراطية ومن متعلقاتها التي أهمها: الامتثال لشروط الاجتماع المدني، والالتزام بمنهج التغيير السلمي، واحترام الدولة القائمة والعمل من خلالها، من غير تمرُّد على القانون أو تنكُّر للوطن.
إن الموقف من هذه المفاهيم لم يعد في فكر حركة النهضة مجرد "وجهة نظر" يعذُر الإسلاميون بعضهم بعضًا إذا ما اختلفوا حولها، بل صار يمثِّل قاعدة فرز أساسية بين مختلف التنظيمات حتى وإن تبنَّت الهوية الإسلامية. إنها الفيصل الصارم بين نوعين متناقضين من التيارات أو التنظيمات: نوع يتبنى الخيار السلمي المدني الديمقراطي، ويسعى إلى توسيع دائرة الحريات العامة في مجتمعه وإقرار التداول السلمي على السلطة؛ ونوع آخر يراهن على خيار العنف، ولا يعترف بالحريات، بل يسعى عمليًّا إلى التسلط على ضمائر الناس ومؤسسات المجتمع، وإلى افتكاك السلطة بقوة السلاح حتى وإن أدَّى به الأمر إلى ممارسة الإرهاب. ولا إمكان في نظر الحركة لأي التقاء بين أنصار الخيارين تحت عنوان واحد؛ ومن ثَمَّ يمكن القول: إن الديمقراطيين من ذوي الخلفيات الأيديولوجية غير الدينية يعدون أقرب إلى الحركة التونسية من الإسلاميين الذين يعادون الديمقراطية. وهذا ما يفسر دعوة الحركة المتكررة إلى "الوحدة الوطنية" على أساس "التعايش الديمقراطي" في مواجهة تيارات التطرف والعنف والإرهاب.
وقد تضمَّن البيان الختامي لمؤتمر الحركة العاشر بيانًا مجملًا لهذه المعاني، وقدَّم بذلك رسمًا جديدًا لملامح هوية الحركة؛ إذ جاء فيه أن "حزب حركة النهضة قد تجاوز عمليًّا كل المبررات التي جعلت البعض يعتبره جزءًا مما يُسمَّى "الإسلام السياسي"، وأن هذه التسمية الشائعة لا تعبِّر عن حقيقة هويته الراهنة ولا تعكس حقيقة المشروع المستقبلي الذي يحمله. وتعتبر النهضة أن عملها مندرج ضمن اجتهاد لتكوين تيار واسع من "المسلمين الديمقراطيين" الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة"(7).
هذا التموضع الجديد ضمن "إسلام ديمقراطي" يتجاوز حدود وتناقضات "الإسلام السياسي" يمكن اعتباره، من جهة أولى، نقدًا لمقولة مستهلَكة أدركت الحركة أنها وُضعت في مختبرات الفكر الغربي وفق أنماط تقوم على مبدأ الفصل ليس فقط بين الدِّين والسياسة، وإنما بين الدين والحياة. وهو مبدأ ظلت الحركة ترفضه نظرًا إلى تعارضه مع أسس وخصائص الثقافة الإسلامية التي تعتبرها قادرة على استيعاب القيم الكونية والمدنية الحديثة، بما تمتلكه من آليات اجتهاد مشروعة.
ومن جهة ثانية، استندت الهوية المحيَّنة للحركة إلى مقاربة جديدة للديمقراطية في علاقتها بمبدأ الشورى الإسلامي؛ فهي لم تنظر إلى المفهوميْن من زاوية فلسفية عقدية بل نظرت إليهما من زاوية إجرائية. فاعتبرت الديمقراطية صيغة عملية حديثة لتطبيق مبدأ الشورى بمقاصده الصحيحة التي تضمنها الإسلام. وعبَّرت عن الالتزام الصريح بها على مستوى إدارة شأنها الداخلي، تنظيمًا واتخاذًا للقرارات وتحديدًا للسياسات، على نحو ما دعت إلى ذلك على مستوى الحياة السياسية العامة(8).
التخلي عن العمل الدعوي من منظور استراتيجي
بالرجوع إلى الاعتبارات الفكرية التي قادت مؤتمر حركة النهضة إلى اتخاذ قرار التخلي عن الوظائف الدعوية يتبيَّن أن القرار لم يستند إلى موقف عقدي أو فلسفي يتعلق بالفصل بين الدِّين والسياسة؛ فلوائح المؤتمر وكتابات القيادات وتصريحاتها تؤكد كلها أن الحركة ترفض العلمانية بهذا المعنى ولا تنوي التحول إليها في أية مرحلة لاحقة وإنما كان القرار مندرجًا ضمن توجه الحركة المبدئي على أن يبقى المسجد جامعًا لكل المواطنين والخطابُ الديني بعيدًا عن النزاعات الحزبية والمعارك الانتخابية. وهذا لا يتحقق في نظر الحركة إلا متى كان القائمون على شؤون الدعوة والإرشاد الديني غير متحملين لمسؤوليات حزبية، سواء أكانوا موظفين لدى الدولة أو يباشرون مهامهم الدينية بصورة طوعية أو عن طريق الجمعيات المدنية.
المنزلة المنشودة للمسجد ترتبط لدى الحركة برؤية أساسها "تحقيق التوازن بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع"(9) بما يضمن تأسيس سلطة الدولة على القانون من جهة، وقيام أوسع شبكة من التنظيمات المدنية التي تُمكِّن المجتمع من قيامه الذاتي وتحصنه إزاء محاولات تدجينه أو الهيمنة عليه من جهة أخرى. على أن المسجد في المنظور الاستراتيجي لـلحركة هو إحدى المؤسسات التي يوكل إليها الإسهام في تحقيق هذا التوازن وتقوية بنية المجتمع؛ فهو يفعل ذلك بمعية مؤسسات أخرى متنوعة الاختصاصات وظيفيًّا وفئويًّا.
يبدو أن مراهنة الحركة على فاعلية المجتمع في النهوض بواقع البلاد، لا تقل أهمية عن مراهنتها على الدولة. وهي تعتبر أن تفرغها للعمل السياسي دون سواه سيدفع أبناءها المشتغلين بالشؤون الدينية والمجتمعية إلى اختيار التحرر من المسؤوليات الحزبية، ومن إكراهات العمل السياسي بشكل عام، ويشجعهم على تنويع مبادراتهم وتوسيع دائرة شركائهم، فيتمكنون بذلك من تحسين أدائهم في مجالات تخصصهم الوظيفي حجمًا ونوعًا.
وترى الحركة أن هذا الخيار سيوفِّر لها حظوظًا أفضل للقيام بواجباتها الوطنية التي تفرضها عليها المرحلة الراهنة، باعتبارها حزبًا سياسيًّا لاسيما أن فترة ما بعد الثورة قد كشفت هشاشة الكيانات الحزبية القائمة، وأظهرت أن حركة النهضة، تملك من الانتشار الشعبي والتماسك التنظيمي وروح التوافق والواقعية، ما يجعلها عامل توازن سياسي لازمًا لإنجاح مهام الانتقال الديمقراطي الأساسية المتعلقة خاصة باستكمال بناء مؤسسات الدولة الجديدة، وبالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبمقاومة الإرهاب.
خاتمة
إذا كان بعض المعترضين على قرار حركة النهضة بالتخصص في مجال العمل السياسي قد بنَوا موقفهم على كون القرار قد شكَّل خطوة نحو العَلْمَنَة وقطعِ الصلة مع أوسع الحركات الإسلامية انتشارًا في العالم، فإن هذا الموقف قد استند إلى مخاوف وتوقعات، ولم يقف على العوائق والمحاذير الحقيقية التي قد تعطِّل قرار المؤتمر العاشر وتمنع تحوَّله إلى مصدر تجديد لبقية الحركات الإسلامية، وهي عوائق أغلبها ذو صبغة عملية لا فكرية.
ومن المؤكد أن التوجه نحو التخصص في المجال السياسي دون الدعوي، سيفرض على النهضة القيام بتحويرات إدارية وقانونية داخلية كثيرة قد يحتاج اكتمالها إلى بضع سنين. وليس من اليسير إعادة انتشار أعداد ضخمة من الموارد البشرية ومن الوسائل اللوجستية التي كانت تشتغل في أوعية تنظيمية موحدة، وإتاحة الفرص المناسبة لإعادة اشتغالها بطرق مبتكرة وفي فضاءات جديدة، وتمكينها بالتالي من القيام بمبادرات قادرة على تقديم الإضافة والإبداع في مجالات تخصصها المتنوعة.
على أن أخطر المحاذير القائمة يتمثَّل في ما يمكن أن يحدث من عدم انسجام بين عمل الحزب السياسي من ناحية (سواء كان في موقع الحُكم أو في موقع المعارضة)، وبين عمل التنظيمات المدنية والشخصيات المستقلة الفاعلة بحرية في مجتمع مفتوح من ناحية أخرى.
___________________________________
بنعيسى الدمني- متخصص في الشأن التونسي
1 ـ كان للجماعة مواقف معلنة من أحداث المواجهة بين نقابات العمال بقيادة "الاتحاد العام التونسي للشغل" وبين السلطة في يناير/كانون الثاني 1978، ومن الهجوم المسلح الذي شنَّته مجموعة ذات ميول قومية على مدينة قفصة الجنوبية في يناير/كانون الثاني 1980.
2 ـ كان قرار الحركة استبدال تسمية "حركة النهضة" بتسميتها الأصلية "حركة الاتجاه الإسلامي"، سنة 1988، خطوة أرادت بها التعبير عن حُسن نيتها بالاستجابة لطلب صريح كانت سلطة الرئيس المخلوع، ابن علي، قد وجَّهته لها بأن تتخلى عن اسمها القديم الذي يحمل دلالة دينية، كشرط لتمكينها من رخصة حزب سياسي.
3 ـ سبق لحركة النهضة أن قامت بمحاولتين لتقويم تجربتها التاريخية، كانت الأولى بالمهجر سنة 1995، والثانية داخل البلاد سنة 2008، وقد وقع نشر ملخص المحاولة الأولى، بينما ظلت المحاولة الثانية إلى الآن غير منشورة.
4 ـ حركة النهضة، مجلس الشورى، مشاريع لوائح المؤتمر العام العاشر، مايو/أيار 2016، ص 19.
5 ـ المصدر السابق، ص 35 وما بعدها.
6 ـ دستور الجمهورية التونسية، النسخة الرسمية:
7 ـ البيان الختامي للمؤتمر العام العاشر لحركة النهضة، 25 مايو/أيار 2016: