تركز هذه الورقة على موقع الحركة الدستورية الإسلامية في دولة الكويت من ثورات الربيع العربي، وكيفية تأثُّرها بصعود وتراجع الحركات الإسلامية في تونس ومصر بالتحديد، وكيف أسهم ذلك في دفع عملية المراجعة الفكرية والسياسية، وتطوير ما لا يتلاءم مع متطلبات النظام السياسي المعاصر، ومواءمة الواقع السياسي والاجتماعي. والهدف من دعم الحركة لعمليات التحول الديمقراطي في دول الربيع، هو توضيح موقعها من المسألة الإصلاحية الداخلية؛ أي أن صعود الإسلام السياسي شكَّل مدخلًا مهمًّا لممارسة الحركة دورًا إصلاحيًّا أكبر من السابق وأهم، وإذا كان هناك تحول في ممارسة الأدوار فهو لا يخرج عن الإطار الإصلاحي الذي حدده الدستور الكويتي.
مقدمة
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على أثر ثورات الربيع العربي على الإسلام الحركي في دولة الكويت؛ ولأن التيارات الإسلامية في الكويت متنوعة من حيث الفكر والمذهب، كالتيارات السُّنِّية (السلفية السياسية، والحركة الدستورية الإسلامية)، والشيعية بمكوناتها المختلفة، سنتناول الحركة الدستورية الإسلامية نموذجًا يمكن من خلاله سَبْر أغوار حجم التحولات الفكرية والسياسية الناتجة من الحراك الثوري العربي.
إن طبيعة النظام السياسي الكويتي وثقافة المجتمع السياسية عنصران ضابطان لشكل تفاعل الحركة الدستورية الإسلامية؛ خاصة في الصعيد السياسي؛ كما أن ديناميكية التحول والتطور التي تمر بها الحركة مرتبطة بشكل رئيس بخصوصية البيئة الكويتية بجانب تطورات المشهد الإقليمي، وأي تحول سياسي أو فكري ينبغي فهمه في إطار تمايز الأنظمة العربية. والتغيير الذي شهدته دول الربيع العربي زاد من حجم التطلعات الإصلاحية لدى الحركة، أما استيراد الفكرة الثورية لم تكن محط ترحيبها كما يزعم بعضهم؛ فإنه يؤكد خصوصية الحركة الإسلامية وتباين مسارها السياسي.
والحركة الدستورية الإسلامية مرت بعدة محطات تاريخية وسياسية، وبمراجعات فكرية، يمكن من خلالها رصد حجم التحولات الفكرية والسياسية، وأهم التغيرات التي طرأت في خطابها وسلوكها وتفاعلها السياسي، وموقعها من الدَّمَقْرَطَة والتحولات الإقليمية.
وتتطرق هذه الورقة -أيضًا- إلى أهم العوامل التي ستؤثِّر في مستقبل الحركة الدستورية الإسلامية، كالعامل المحلي وطبيعته السياسية (علاقة الحركة بالنظام الحاكم والقوى السياسية الأخرى)، والاجتماعي (عامل ضغط سوسيولوجي ومؤثر على توجهات الحركة)، والاقتصادي (أثر تحكم الدولة في مفاصل الثروة)، إضافة إلى العامل الإقليمي (الصراع السُّنِّي-الشيعي في المنطقة، والتجربة التركية).
الهدف من تناول التحولات السابقة هو تحديد أهم مكامن التطور؛ سواء في البنية التنظيمية، أو في خطاب الإسلام السياسي؛ الذي وُصِف بالجمود والانغلاق ورَفْض الآخر، إضافة إلى توضيح أهم المراجعات الفكرية الناتجة من صعود وتراجع الإسلام السياسي، التي لم تكن تكتيكية فحسب كما يقول بعضهم.
أولًا: تداعيات الإسلام السياسي الظرفية الراهنة على الحركة الدستورية الإسلامية
في الكويت تتمتع الحركة الدستورية الإسلامية بحضور سياسي وفكري واجتماعي منذ ستينات القرن المنصرم، وقد مرَّت نشأة هذه الحركة بعدة مراحل؛ أولها: المرحلة الدعوية على غرار جماعة الإخوان المسلمين في مصر، تحت اسم جمعية الإرشاد الإسلامي (جمعية الإصلاح حاليًّا)(1).
إن الارتباط الفكري منذ النشأة بجماعة الإخوان المسلمين جعل الحركة الدستورية الإسلامية (حدس) تحت تأثير صعود الجماعة أو الحركة الأم وتراجعها خاصة في الوقت الراهن؛ وبعبارة أخرى: إن الاستراتيجية الفكرية مشتركة بينهما؛ ولكن المخرجات أو التكتيك -خاصة في المسألة السياسية والاجتماعية- مختلف، وقد لا يتشابه في أغلب الظروف، وقد يعود ذلك في تقديرنا إلى طبيعة المجتمع الكويتي الفكرية والثقافية؛ لأن البيئة السياسية الكويتية في نهاية المطاف ليست كالمصرية، أو أية بيئة سياسية عربية أخرى؛ ولكن هذا لا يعني في الوقت نفسه أن الواقع الإقليمي للإسلام السياسي وتحولاته بعد ثورات الربيع العربي غير مؤثِّر على الحركة الدستورية الإسلامية.
إن جميع دول الربيع العربي التي شهدت دخول الحركات الإسلامية إلى تجربة تدبير الحكم -مصر وتونس والمغرب- أثَّرت في دور الحركة الدستورية الإسلامية السياسي وتطلعاتها، والدور السياسي في الكويت مرتبط بأمور عدة؛ أهمها حجم المشاركة السياسية في البرلمان الكويتي؛ فضلًا عن طبيعة العلاقة مع الحكومة الكويتية. ومن خلال ما سبق يمكن رصد أهم ملامح التحولات لدى الحركة الدستورية الإسلامية فيما يلي:
لقد رحبت الحركة الدستورية الإسلامية بالمظهر الإيجابي لثورات الربيع العربي باعتبارها تحولات ديمقراطية تصب في صالح الشعوب العربية(2)، بل زاد دعمها لهذه التحولات بعد نجاح الحركات الإسلامية ودخولها إلى تجربة الحكم في مصر وتونس؛ وهذا ما يمكن ملاحظته في تصريح أمين عام الحركة الأسبق، الدكتور ناصر الصانع، حول ثورات الربيع العربي التي وصفها بأنها "ربيع مبروك بزوال حكم الطغاة وإجراء انتخابات عربية شفَّافة حرة في مصر وتونس، وأن الحكومات المنتخبة إن لم تشارك شعبها بالقرار سيكون مصيرها كمصير سابقتها من حكومات"(3).
إن أهم أثر يمكن الوقوف عنده في خطاب الحركة السياسي، هو زيادة حجم تطلعاتها لمسألة الحكومة الكويتية المنتخبة، والدفع باتجاهها في إطار الإصلاح السياسي؛ لأن من يقارن خطابها السياسي قبل اندلاع ثورات الربيع العربي وبعده؛ خاصة في الفترة التي حكمت فيها الحركات الإسلامية في مصر وتونس، سيلاحظ اهتمامها وتفاعلها بشكل أكبر من السابق مع قضية تمكين الشعب الكويتي من حقه في اختيار رئيس الحكومة وفق صيغة ديمقراطية لا تتعارض مع مصالح الأسرة الحاكمة واستقرارها.
لقد دخلت الحركة الدستورية الإسلامية في طور جديد؛ وهو مقاطعة الانتخابات البرلمانية بجانب عدة تيارات سياسية معارضة (ائتلاف المعارضة)، بعد حكم المحكمة الدستورية ببطلان (برلمان فبراير/شباط 2012) ذي الأغلبية المعارضة في يونيو/حزيران 2012، وإصدار أمير البلاد "مرسوم ضرورة"، في أكتوبر/تشرين الأول 2012، يدعو إلى تغيير آلية الاقتراع ليصبح لكل ناخب صوت واحد بدلًا من أربعة أصوات مع الإبقاء على نظام توزيع الدوائر الانتخابية الخمس؛ وهذا ما زاد من تمسك الحركة بموقفها الداعم لفكرة الحكومة المنتخبة، وإجراء إصلاحات دستورية(4)، ويمكن اعتبار التزامن بين الصعود الإسلامي في تونس ومصر والمغرب، وبين التغيير الانتخابي في الكويت أحد أسباب تحول الحركة إلى أبرز التيارات الاحتجاجية ضد سياسات السلطة الحاكمة، ونقصد بالتيار الاحتجاجي هو ممارسة الحركة لدور معارض للسلطة خارج إطار العمل البرلماني، وهو دور جديد في تاريخ الحركة السياسي.
ولكن هناك جملة من العوامل الإقليمية، أسهمت في تغيير سياسة الحركة الدستورية الإسلامية السابقة بعد مراجعة طويلة -لمدة أربع سنوات منذ عام 2012 حتى عام 2016- للواقع السياسي وتطوراته من خلال الانتقال من خيار المقاطعة الانتخابية إلى قرار المشاركة، بعد إصدار الحركة بيانًا في مايو/أيار 2016 يوضح أهم أسباب المشاركة، وموقفها من المسألة السياسية الراهنة(5)، وتتمثل العوامل -الإقليمية- السابقة في:
- الانقلاب العسكري الذي شهدته جمهورية مصر العربية في يوليو/تموز 2013، وعزل الرئيس محمد مرسي.
- تنازل حركة النهضة التونسية عن الحكم في يناير/كانون الثاني 2014.
- محاربة الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون) في المنطقة بتدبير بعض الدول العربية بحجة الإرهاب والتطرف.
- تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة، ودخول المملكة العربية السعودية في عملية عسكرية في مارس/آذار 2015 (عاصفة الحزم) ضد الميلشيات الحوثية والقوات الموالية لها.
وتأكيدًا لما سبق، قال الصحفي داهم القحطاني: إن "الحركة الدستورية الإسلامية تعرضت خلال السنوات الأربع الماضية لهزائم سياسية عدة، إلا أنها انتصرت في معركة البقاء على الرغم من أن الوضع الإقليمي كان مرعبًا لها، ولولا تعامل السلطة في الكويت مع الأوضاع المحلية والإقليمية بهدوء وحكمة وقسوة ودهاء، ووفق إرث تاريخي منفتح لما نجحت الحركة حتى في معركة الوجود، مما يتطلب أن تقوم الحركة بإجراء دراسة موسعة، وحلقات نقاشية مغلقة للاستفادة من أخطاء هذه المرحلة"(6).
يمكن القول: إن أهم تحول سياسي مرت به الحركة الدستورية بعد مرور ست سنوات على ثورات الربيع العربي، هو إعادة التوازن والهدوء في علاقتها بالسلطة الحاكمة؛ وذلك من خلال قرار المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة (2017)، وقطع الطريق على سيناريو إقصاء الحركة وإبعادها عن أي مشاركة سياسية، أو حتى الوجود؛ مثل الذي حصل في بعض الدول العربية. وهنا يُسجَّل للسلطة الحاكمة في الكويت أنها حافظت على استقلالية سياستها تجاه المكون الإسلامي وخاصة الإخوان المسلمين، وعدم تأثُّرها بالموجة المضادة للإسلام السياسي؛ وهذا مما لا شك فيه أعاد حسابات قادة الحركة الدستورية الإسلامية وكوادرها في موقفهم السياسي المحلي كما أشرنا له سابقًا.
ثانيًا: موقف الحركة الدستورية الإسلامية من الأنظمة العربية القائمة
قبل التطرق لموقف الحركة من الأنظمة العربية القائمة، ينبغي تناول علاقتها بالنظام الحاكم في الكويت؛ إن أهم معيار يمكن من خلاله فهم علاقة التيارات السياسية في الكويت بالنظام هو الدستور الكويتي؛ الذي حدد شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ فهي علاقة توافقية حددت طبيعة الواجبات والحقوق؛ فضلًا عن البعد التاريخي الذي شكَّل قوة الترابط الاجتماعي ما بين النظام الحاكم والشعب الكويتي؛ ولقد عبَّرت الحركة عن موقفها الوطني من النظام الحاكم في مواقع عدة؛ أهمها الغزو العراقي للكويت، فقد رفضت الحركة وأدانت في أكثر من بيان الاحتلال الغاشم؛ وذلك إيمانًا منها بشرعية حكم أسرة الصباح. وموقف الحركة من النظام الكويتي قد حُدِّدَ عبر التاريخ، ولا يتغير بتغير الأنظمة السياسية العربية. وإذا كان هناك اختلاف بين الحركة الدستورية الإسلامية وبين النظام الحاكم فهو اختلاف حول السياسات وليس حول البقاء والاستقرار، ويُوَضِّح في هذا الصدد عضو الحركة الدستورية الإسلامية أسامة الشاهين موقف الحركة من النظام الحاكم بعد ثورات الربيع العربي قائلًا: "هناك فرق جوهري وأساسي بين دول محكومة بعصابات عسكرية وبديمقراطيات شكلية وبين النظام الكويتي؛ لأننا في مجتمع عشائري، الحديث فيه حول مساحة الديمقراطية وليس عن مناصب الحكم والإمارة، والخوف من الربيع العربي غير مبرر؛ لأننا ممالك وراثية"(7).
إن ما يحدد علاقة الحركة الدستورية الإسلامية بالأنظمة العربية القائمة، هو موقفها من قضية الديمقراطية، والتعددية السياسية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها مدخلًا لمشاركة الحركة. وهناك عدة آراء وطروحات تناولت موقع الديمقراطية في الخطاب الإسلامي المعاصر، أحدها رأي محمد سليم العوا حول ضرورة وجود أحزاب سياسية في المجتمعات الإسلامية لتقدمها ولحرية الرأي فيها، ولعدم تكريس الثقافة الفردانية في الحكم(8)، بالإضافة إلى رفض الشيخ راشد الغنوشي مصطلح الإسلام السياسي، داعيًا إلى ضرورة استبدال مصطلح الإسلام الديمقراطي به؛ لأن الدين الإسلامي -وفق رؤية الغنوشي- لا يتعارض مع حق الأمة في اختيار من يحكمها(9). والحركة الدستورية الإسلامية ترجمت هذه الآراء في خطابها وموقفها الراهن والرافض لـ"الحكم العسكري" في مصر، ونظام الأسد في سوريا؛ ودعت في بيان لها إلى عدم الاعتراف بسلطة الانقلاب العسكري في مصر، وضرورة دعم الشعب السوري في ثورته التاريخية(10). أما فيما يتعلق بموقف الحركة بتطورات المشهد السياسي في تونس الذي تنازلت فيه حركة النهضة عن الحكم، في يناير/كانون الثاني 2014، يرى مدير مكتبها السياسي، محمد الدلال، "أن النهضة أثبتت نضجها السياسي عندما تنازلت عن الحكم بصيغة توافقية؛ وذلك على الرغم من حجمها الانتخابي والاجتماعي الكبير، واستطاعت أن تقرأ الملف المصري بعمق، وهذا ما جنَّب تونس الدخول في مشهد مماثل للنموذج المصري"(11). ووفق هذه المواقف يمكن القول: إن الحركة لا إشكالية لها مع أي نظام يؤمن بالخيار الإصلاحي كالنموذج المغربي.
ثالثًا: الدولة الحديثة في ميزان الحركة
إن المقارنة بين موقف الحركة الدستورية الإسلامية تجاه الدولة الحديثة قبل ثورات الربيع العربي وبعدها لا تتضمن تحولات بالشكل الذي عرفته بعض التيارات الإسلامية في فكرها وخطابها السياسي؛ والمتتبع لخطاب وسلوك الحركة منذ بداية الألفية الجديدة حتى وقتنا الراهن؛ سيلاحظ أن موقفها من الديمقراطية والدولة المدنية والتعددية السياسية والدستور لم يتغير؛ بل أصبحت هذه المصطلحات مواضيع رئيسة وحاضرة في خطاب الحركة إزاء القضايا السياسية العامة؛ وفِكْر الإخوان المسلمين في هذا السياق لا يرى أية إشكالية شرعية بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية، أو الحكم الدستوري مستندًا في ذلك إلى نظرية العقود الإسلامية وعلاقتها بالشريعة المدنية.
إن التكيف مع التطورات السياسية والاجتماعية وفق النظرية المقاصدية، هو الذي يحدد علاقة الحركة بالدولة الحديثة؛ وهذا هو ما يميز الإخوان المسلمين عن بقية المكونات الإسلامية الأخرى، وذلك من خلال مراجعاته الفكرية -خاصة في علاقته بالدولة الحديثة- ويؤكد ذلك الباحث بلال التليدي بقوله: "إن المنظومة المقاصدية أقدر على التكيف مع ما تفرضه دينامية الاستراتيجيات المتفاعلة... ولهذا السبب تبررت الانعطافة نحو المقاصد، لفك أزمة انسداد النسق من جهة، وتنويع الخيارات من جهة ثانية، وإعطاء الفرصة لإعادة صياغة الموقف من جديد"(12).
إن أهم قرار اتخذته الحركة في هذا السياق هو الفصل ما بين العمل الدعوي -جمعية الإصلاح الاجتماعي- والعمل السياسي –الحركة الدستورية الإسلامية-(13)، والانتقال من خيار الدمج إلى خيار الفصل يؤكد تطور علاقة الحركة بالدولة الحديثة من جهة، واستيعاب ما يفرضه الواقع وتحولاته على مسار الإسلام السياسي من جهة أخرى؛ وبناءً على ما سبق، سينحصر عمل جمعية الإصلاح الاجتماعي في المجال القيمي والتربوي والدعوي دون التدخل في عمل الحركة السياسي.
وذكر الدكتور إسماعيل الشطي، قيادي في الحركة الدستورية الإسلامية، "أن نموذج حكم الإسلاميين للدولة المعاصرة يجب ألا يخرج عن طبيعة الدولة المعاصرة، ولا يتجاوز أصلها العلماني فيما يخص المواطنة، ولا يسعى إلى تغييره بأي حال من الأحوال؛ ولكنه يجب ألا يقل عن الحد الأدنى المتبع في الدول الإسلامية من التبني الرسمي لثقافة الإسلام بالمجتمع"(14). وقد تناول الشطي نموذج الحكم السابق في كتابه: "الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة"؛ الذي صدر أثناء الصعود الإسلامي في الدول العربية؛ التي اندلعت فيها ثورات الربيع، ودعا فيه إلى التوفيق ما بين الدولة الحديثة والفكرة الإسلامية، وهنا يمكن فهم اتجاه الحركة الدستورية الإسلامية السياسي حول (فكرة الدولة الإسلامية أو الدولة الأممية)؛ حيث بدا واضحًا أهمية العمليات التصحيحية والتجديدية للأفهام التي سبقت ثورات الربيع العربي.
رابعًا: المرجعية السياسية بعد الربيع العربي
تنطلق الحركة الدستورية الإسلامية في عملها السياسي من مرتكزين: الأول: أيديولوجي إسلامي، والثاني: الدستور الكويتي. وتعمل الحركة وفق هذين المرتكزين على موازنة الديمقراطية مع الشريعة الإسلامية، ويعتبر الدكتور عبد الغني عماد هذه الموازنة "تطورًا جديدًا في فكر الإخوان المسلمين في الكويت؛ حيث لا تزال جماعات إسلامية لا تؤمن أصلًا بالديمقراطية، كما هي حال بعض المجموعات السلفية؛ التي ترفض الانتخابات البرلمانية من الناحية العقائدية"(15).
في أكتوبر/تشرين الأول 2012، شاركت الحركة الدستورية الإسلامية في عدة اعتصامات ومظاهرات سلمية* بسبب إبطال برلمان فبراير/شباط 2012، وإصدار أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، مرسوم ضرورة -كما ذكرنا سابقًا- لتغيير آلية التصويت البرلمانية، وقد دعمت الحركة هذه المظاهرات إيمانًا منها بضرورة التغيير والإصلاح السياسي في إطار الدستور الكويتي(16).
والحركة تعمل وفق عقلية براغماتية تحدد من خلالها سُبُل التغيير السياسي، ولعل انتقالها من طور المقاطعة البرلمانية إلى المشاركة خير دليل على أن المقاييس السياسية غير ثابتة وتستند إلى إكراهات الواقع؛ وذكرت الحركة في بيانٍ لها أهم أسباب تغير موقفها من المقاطعة البرلمانية "ونظرًا إلى انسداد مسارات العمل الإصلاحي والحالة السلبية التي وصلت إليها التنمية والحريات العامة ومصالح الشعب الكويتي، ورغبةً منها في فتح مسارات أخرى للخروج من حالة الجمود السياسي والتنموي التي وصلت إليها البلاد، وسعيًا منها نحو المشاركة بإيجابية لتصحيح المسار... توصلت الحركة إلى إعادة النظر في موقف المقاطعة باتجاه المشاركة من جديد في العملية الانتخابية"(17). ويمكن القول: إن موقع الحركة من التفاعلات السياسية سواء في الداخل أو في الخارج هو الذي يفرض عليها شكل التغيير وطريقته.
خامسًا: الحركة ما بين الارتباط التنظيمي والاستقلال
كان عنوان الحركة، منذ ستينات القرن الماضي حتى مطلع التسعينات، هو الإخوان المسلمين؛ ولكن بعد موقف التنظيم الدولي للإخوان المسلمين السلبي من الغزو العراقي، تم تغيير اسم التيار في مارس/آذار 1991 إلى "الحركة الدستورية الإسلامية". وقد ذكر عدد من قادة الحركة وكوادرها قبل اندلاع ثورات الربيع العربي بسنوات، أن الارتباط بالإخوان المسلمين هو ارتباط على مستوى الفكر وليس التنظيم(18). ولكن هل سيدفع الاستقلال العضوي أو عدم الارتباط التنظيمي إلى تَبْيِئَة الأفكار واستقلالها أمام متغيرات الربيع العربي وتداعياته؟
ويذكر الشيخ راشد الغنوشي في مقابلة شخصية "أن كل ما يدخل إلى تونس من أفكارٍ يَتَتَوْنَس مع مرور الوقت"(19)؛ أي يتم إعادة صياغة الفكر وتشكيله ليتكيَّف مع الثقافة التونسية، وهذا إشارة إلى استقلال الحركة فكريًّا؛ وليس على مستوى التنظيم فقط؛ لذلك نرى أن نجاح أي حركة إسلامية سياسيًّا واجتماعيًّا مرتبط بالقدرة على التَّكيُّف مع متطلبات ثقافة البيئة الحاضنة؛ وأثبتت الحركة الدستورية الإسلامية في أكثر من موقف قدرتها على التأقلم مع ما يفرضه الواقع السياسي؛ ولكن في الوقت نفسه لم يساعدها ذلك على إنتاج صيغة فكرية مستقلة!
سادسًا: مستقبل الحركة
هناك عدة استشرافات متنوعة تناولت مستقبل الإسلام الحركي، من بينها استشراف المفكر أوليفيه روا؛ الذي لم يضع أية احتمالية لتحولات العالم العربي وإمكانية تطور تيارات الإسلام السياسي؛ بل حكم على فشلها وجمودها مستندًا في ذلك إلى التجربة الإيرانية وسلوك بعض الإسلاميين في بعض الدول العربية(20)، وتناسى أن الحركات الإسلامية غير متجانسة، وليست على خط فكري واحد، ومختلفة في سلوكها وتعاطيها للمسألة السياسية (الديمقراطية، التعددية السياسية.. إلخ)، والصعود الإسلامي بعد ربيع الثورات أثبت ضعف تحليله لمستقبل الحركات الإسلامية.
1- المؤثرات المحلية (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية)
إن مستقبل الحركة الدستورية الإسلامية السياسي مرتبط بطبيعة علاقتها بالنظام الكويتي وسياساته، وإذا كانت هناك تطلعات مستقبلية فهي إصلاحية وديمقراطية لا تخرج عن الإطار الدستوري، بخلاف الحركات الإسلامية التي تسعى إلى الوصول للحكم في الأنظمة العربية الأخرى.
ونظام الكويت (ريعي) يتحكم فيه مصادر النفط ومداخيله المالية، وهو المسؤول الأول عن توزيع المال (في شكل رواتب أو منح أو مساعدات مالية.. إلخ). وإدارة الثروة هي من صميم عمل النظام الحاكم، الذي يملك قدرة التأثير على القوى السياسية الأخرى(21)، ومستقبل أي حركة أو تيار سياسي في ظل هذا النظام الريعي مرتبط بدرجة التوافق السياسي مع السلطة الحاكمة؛ أي أن عامل القوى في ظل هذا التحكم بمفاصل الثروة يُرَجِّح قوة تأثير السلطة الحاكمة في الكويت؛ ولا نعني هنا عدم قدرة المكونات السياسية من ممارسة الدور المعارض؛ ولكن ينبغي فهم أن هذا الدور محكوم بالدستور الكويتي ومخرجاته.
وبدا واضحًا من خلال العرض السابق، أن الحركة الدستورية الإسلامية تعمل بجانب تيارات سياسية متنوعة، وفي مجتمع متعدد الأفكار يشكل في الوقت نفسه عامل ضغط سياسي على جميع التيارات السياسية دون استثناء؛ وبعبارة أخرى: مستقبل الحركة رهن بالمكونات السياسية الأخرى وبتغيرات المجتمع الفكرية إزاء القضايا السياسية. والحركة دائمًا تراقب المزاج الشعبي وتعبيرات الشارع السياسي، حتى تتمكن من تحديد مواقفها السياسية، وصعود الحركة ونجاحها مرتبط بما سبق.
2- المؤثرات الإقليمية
هناك عدَّة مؤثرات إقليمية على مستقبل الحركة، لا يمكن التقليل من أهميتها، نذكر منها:
أ. الصراع السُّنِّي-الشيعي في الوطن العربي: حول ما يحدث في العراق وسوريا والبحرين، وأثره في علاقة الحركة بالمكون الشيعي السياسي في الكويت، وتجدر الإشارة إلى أن الحركة تعمل في بيئة سياسية يشكِّل المكوِّن الشيعي السياسي فيها قوة لا يستهان بها (خاصة بعض التيارات التي تملك تأثيرًا انتخابيًّا، وتدعم إيران والميليشيات التي تخدم مصالحها في المنطقة مثل: حشد وحزب الله والحوثيين). وما سيحدد مستقبل الحركة هو موقعها من هذا الصراع في دولة صغيرة لا تتحمل أي نوع من التصعيد؛ والسؤال: كيف ستدير الحركة هذا الصراع محليًّا؟ وكيف سيكون شكل خطابها السياسي في المرحلة القادمة؟
ب. النموذج التركي: قدَّم حزب العدالة والتنمية التركي –المحسوب على الإسلام السياسي- منذ وصوله إلى الحكم في عام 2002، صيغة جديدة على تجربة الإسلام السياسي من خلال التوفيق بين متطلبات الدولة العلمانية والثقافة الإسلامية والإقرار بأهمية القيم الدينية للمجتمع التركي، بخلاف الأحزاب العلمانية الكمالية؛ لذلك يصف بعض الباحثين نجاح تجربة (حزب العدالة والتنمية التركي) بمرحلة ما بعد الإسلام السياسي، أو ما بعد الإخوان المسلمين(22).
لقد أثَّرت التجربة التركية على حاضر الحركة الدستورية الإسلامية باعتبارها تجربة رائدة، ونجاح هذه التجربة هو أحد الأسباب التي دفعت الحركة إلى الفصل ما بين الدعوي والسياسي، كما أن مستقبل الحركة -في تقديرنا- سيشهد عدة تطورات في الصعيد الفكري والسياسي، وفي الاسم أيضًا؛ لأن التمايز عن المجتمع بالعنوان الإسلامي لن يصب في صالحها بنهاية الأمر. والحركة -حسبما نظن- لا تملك أية إشكالية في التنازل عن العنوان الإسلامي، وحذفه من اسمها على غرار عدَّة حركات إسلامية مشرقية كانت أو مغربية؛ لأن التنازل كما يذكر الباحث زكي أحمد "ليس تنازلًا عن المنهج الإسلامي، فالقداسة في المضمون وليست في الشكل، والثابت هو الجوهر وليس المظهر"(23).
خاتمة
تتداخل طبيعة البيئة الداخلية ومؤثرات الساحة الإقليمية بعد ثورات الربيع العربي في تحليل أهم التحولات الفكرية والسياسية، التي طرأت على الحركة الدستورية الإسلامية، وإذا كان معيار صعود الإسلام السياسي هو حرية المشاركة والتمكن من ممارسة الأدوار السياسية، فالحركة كانت في مقدمة تيارات الإسلام السياسي العربية الأخرى في هذا الصعود قبل ثورات الربيع العربي بسنوات (المشاركة في البرلمان الكويتي، المشاركة في تشكيل الحكومة.. إلخ)، وهذا يؤكد ما جاء في مقدمة الورقة من أن التحولات الفكرية والسياسية مرتبطة بطبيعة النظام السياسي في المقام الأول (البيئة الداخلية)، كما أن أعضاء الحركة لم يتعرضوا للاعتقال أو الإقصاء كما حدث مع الحركات الإسلامية الأخرى وعلى رأسها الإخوان المسلمون في المشرق والمغرب العربي؛ ومما لا شك فيه أن هذا الظرف الداخلي الذي تعمل فيه الحركة يشكل محددات لغتها السياسية؛ لأن الديمقراطية والتعددية السياسية ليست مواضيع جديدة لدى الحركة، ولم تكن نتاجًا لصعود الإسلام السياسي في تونس أو مصر؛ بل كان التوافقُ مع الدستور الكويتي وخصوصيةُ البيئة هما المصدريْن والمحدديْن الرئيسين لعلاقة الحركة بالدولة الحديثة ومتطلباتها.
يكمن تأثير ثورات الربيع العربي على الحركة في حجم تطلعاتها حول مساحة الديمقراطية، والصعود الإسلامي وتراجعه سيؤثِّر بطبيعة الأمر على هذه التطلعات؛ لأن هذه الحركات في نهاية المطاف تلتقي في عنوان واحد هو الإسلام السياسي أو الحركة الإسلامية، وتتشابه -أيضًا- في بداية النشأة الفكرية. وتحولات الحركة في نهاية المطاف تدور في سياق الوضع الداخلي وتطورات الوضع الإقليمي الراهن.
ويمكن القول: إن ثورات الربيع العربي شكَّلت محطة مهمة في مسار الحركة الدستورية الإسلامية، حيث أسهم الصعود الإسلامي في يقظة فكرها من جهة، ودفع التراجع الإسلامي الحركة إلى مراجعة ما يمكن أن يضعف وجودها وتأثيرها سواء في الصعيد السياسي أو الاجتماعي من جهة أخرى.
إن فكرة أفول الإسلام السياسي -خاصة بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المصري محمد مرسي وتنازل النهضة عن الحكم- وضع الحركة أمام مفترق طرق، إما التصلب السياسي والفكري والتصادم مع الثورة المضادة التي تتزعمها الدولة العميقة، أو التكيف مع إكراهات الواقع وممارسة الدور السياسي الذي يمكن من خلاله كشف زيف محاولات (شَيْطَنَة الحركات الإسلامية) بحجة التطرف أو العنف. وعدم تمسك الحركة بموقف المقاطعة السياسية -كما نعتقد- فَوَّت الفرصة على دعوات الإقصاء التي تقف خلفها بعض التيارات السياسية في الكويت وبعض الدول العربية.
____________________________________
مبارك صالح الجري- باحث في الحركات الإسلامية
1- المديرس، فلاح، جماعة الإخوان المسلمين في الكويت (دار قرطاس للنشر، الكويت، 1999)، ط 2، ص 13–27.
2- الدلال، محمد، رئيس المكتب السياسي للحركة الدستورية الإسلامية، مقابلة شخصية، 15 من إبريل/نيسان 2014، الكويت.
3- الصانع، ناصر، أمين عام الحركة الدستورية الإسلامية الأسبق، مقابلة صحفية أجرتها العربية نت، 29 يناير/كانون الثاني 2012، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016).
http://www.alarabiya.net/articles/2012/01/29/191338.html.
4- الجاسر، حمد، الكويت، "المعارضة تعلن مشروعها لتعديل الدستور والحكومة المنتخبة"، الحياة، إبريل/نيسان2014، (تاريخ الدخول: 18 من أغسطس/آب، 2016).
http://www.alhayat.com/m/story/1772005.
5- الحركة الدستورية الإسلامية، بيان حول الانتخابات البرلمانية المقبلة، 26 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016).
6- القحطاني، داهم، "قراءة موسعة: الحركة الدستورية.. الإخفاقات والتحديات الآن"، يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016).
http://www.alaan.cc/pagedetails.asp?nid=252944&cid=47#V7Va4cTXenM.
7- الشاهين، أسامة، عضو الحركة الدستورية الإسلامية، مقابلة تلفزيونية عبر قناة الرأي الكويتية، 17 مارس/آذار 2014، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2016).
8- أحمد، زكي، والنفيسي، عبد الله، والهرماسي، عبد اللطيف، وهويدي، فهمي، وآخرون، الحركات الإسلامية والديمقراطية دراسات في الفكر والممارسة (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نوفمبر/تشرين الثاني 2001) ط 2. ص 237.
9- الغنوشي، راشد، رئيس حزب النهضة التونسي، مقابلة شخصية، 20 إبريل/نيسان 2016، تونس.
10- الحركة الدستورية الإسلامية، بيان حول القمة العربية، 24 مارس/آذار 2014، (تاريخ الدخول: 19 من أغسطس/آب 2016)، http://www.icmkw.org/site/pages/topics/bian--alxhrk629-aldsturi629-al625slami629---xhul-alqm629-alyrbi629.php?p=40#.V7dxZ3wkrAw.
12- التليدي، بلال، مراجعات الإسلاميين دراسة في النسق السياسي والمعرفي (مركز نماء للبحوث والدراسات، الرياض، 2013)، ط 1، ص 398.
13- الدلال، محمد، رئيس المكتب السياسي للحركة الدستورية الإسلامية، مقابلة عبر الهاتف، أغسطس/آب 2016، الكويت.
14- الشطي، إسماعيل، الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة (مكتبة آفاق، الكويت، 2013)، ط 1، ص 209.
15- عماد، عبد الغني، والجورشي، صلاح، والحناشي، عبد اللطيف، وحيدر، خليل، وآخرون، الحركات الإسلامية في الوطن العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2013) م 1،ط 1، ص 523.
*أُطلق على هذه المظاهرات والاعتصامات اسم مسيرة كرامة وطن.
16- الحركة الدستورية الإسلامية، بيان حول مسيرة كرامة وطن 8، 6 من يوليو/تموز 2014، (تاريخ الدخول: 24 أغسطس/آب 2016).
17- انظر بيان الحركة حول الانتخابات البرلمانية المقبلة، مرجع سابق.
18- العليم، محمد، أمين عام الحركة الدستورية الإسلامية، مقابلة تلفزيونية عبر قناة اليوم الكويتية، 22 مارس/آذار 2014، (تاريخ الدخول: 25 أغسطس/آب / 2016).
https://www.youtube.com/watch?v=VTZYWTpHUhM.
20- روا، أوليفيه، تجربة الإسلام السياسي، ترجمة نصير مروة (دار الساقي، بيروت، 2016)، ط 2، ص 185–190.
21- النقيب، خلدون، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية من منظور مختلف، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989)، ط 2، ص 122–123.
22- تركماني، عبد الله، والنيفر، أحميدة، وتمام، حسام، وعلاني، أعلية، وآخرون، الإسلاميون والحكم في البلاد العربية وتركيا، (مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006)، ط 1، ص 404–405,
23- زكي، (وآخرون)، الحركات الإسلامية والديمقراطية، ص 238–239.