القدس في استراتيجيات أطراف الصراع

تراجع الورقة استراتيجيات أطراف الصراع في القدس؛ حيث تقوم استراتيجية إسرائيل على تهويد المكان بتكاتف من قبل السلطة والمتدينين والمستوطنين والمشرعين و"المجتمع المدني"، في حين تتعدد المرجعيات الفلسطينية المعنية بالمدينة وتكثر خلافاتها، وتتراجع أهمية القدس على سلم أولويات السلطة الفلسطينية.
30 يوليو 2017
8b7edf4b2dd3420f888ac3d4f6b14ffd_18.jpg
النصر الفلسطيني بإزالة البوابات الإلكترونية يجب ألا يُخفي حقيقة الاستراتيجية الإسرائيلية في تهويد القدس وطرد سكانها العرب (الأوروبية)

أثار قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 16 يوليو/تموز 2017، بتركيب بوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة متطورة على مداخل المسجد الأقصى احتجاجات فلسطينية واسعة أجبرت نتنياهو على الرضوخ وإزالتها بعد مرور أسبوعين تقريبًا. جاءت هذه الأحداث بعد مقتل اثنين من رجال الشرطة الإسرائيليين على أيدي مواطنين فلسطينيين داخل المسجد الأقصى، في 14 يوليو/تموز 2017. وقد عكست المواجهات العنيفة في مدينة القدس مواقف نتنياهو الهشة؛ حيث سعى إلى تحويل الانتباه عن التحقيقات الجنائية بشبه الفساد(1)، التي تجريها الشرطة الإسرائيلية معه والتي احتلت حيزًا كبيرًا ضمن النقاش في وسائل الإعلام الإسرائيلية قبل الأحداث الأخيرة. إن الوضع السياسي الحالي لنتنياهو محفوف بالمخاطر؛ الأمر الذي حدا به إلى زيادة التركيز في خطابه على مدينة القدس والمزايدة في ذلك على اليمين المتطرف. يواجه نتنياهو حاليًّا عدة تحقيقات جنائية في قضايا فساد ويأمل اثنان من خصومه السياسيين الشبان -"نفتالى بينيت" من اليمين الديني (البيت اليهودي)، و"يائير لابيد" من حزب الوسط "يش عتيد" (حزب هناك مستقبل)- في أن يحل أحدهم مكانه كرئيس للوزراء في أية انتخابات قادمة(2). وقد وضع هذان السياسيان "وحدة" القدس على جدول أعمالهما السياسية، وهو ما يشكِّل مصدر توتر دائمًا لنتنياهو. 

هذا، ولا يمكن فصل الأحداث الأخيرة في مدينة القدس وفهمها بمعزل عن الاستراتيجيات المختلفة لأطراف الصراع المتعددة، فمع أن مواقف نتنياهو التصعيدية الأخيرة تعكس وضعًا تكتيكيًّا داخليًّا بامتياز، إلا أن ذلك يجب ألا يُخفي عقودًا متواصلة من التخطيط الاستراتيجي المستمر للسيطرة على مدينة القدس وتهويدها بالكامل. 

توضح هذه الورقة كيف يتجند الفاعلون الإسرائيليون في العمل المشترك سواء رسميًّا أو مجتمعيًّا تجاه إحكام السيطرة على مدينة القدس، وجعل أي حلول تفضي إلى قبول تقاسم المدينة مع الفلسطينيين مستحيلة. 

تجادل الورقة بأنه في مواجهة الرؤية المتكاملة والمشتركة للفاعليين الإسرائيليين، تعاني الاستراتيجية الفلسطينية المضادة من التشتت والإخفاق وغياب الدافعية لوقف التحول الكولونيالي الإسرائيلي للمدينة، وترجح أن الأحداث الأخيرة يمكن أن تحفز سكان القدس الفلسطينيين على تنظيم أنفسهم بشكل أكثر فعالية وبناء قيادة شعبية محلية جديدة من شأنها سد الفجوة التي خلَّفتها السلطة الفلسطينية لتمثيل احتياجات سكان المدينة والتحديات التي تواجههم. 

القدس في الاستراتيجية الإسرائيلية: "القدس الكبرى" 

تحتل مدينة القدس موقعًا متقدمًا في الاستراتيجية الإسرائيلية باعتبارها مدينة تتمتع بأهمية دينية وقومية. يعتقد اليهود بأن الحرم الشريف (أو ما يطلقون عليه: جبل الهيكل) من أهم الأماكن المقدسة لهم. ومع ذلك، فإن الأهمية الدينية للمكان على مدار أكثر من ألفي سنة الماضية لم تكن مرتبطة بمسألة السيادة السياسية على المكان، بل بالرمزية الدينية. ومع ظهور الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت السيادة السياسية، أي البُعد القومي، تكتسب أهمية متزايدة لدى الكثير من اليهود (معظمهم ليسوا متدينين)، في حين واصل اليهود الأرثوذكس رفض فكرة إقامة دولة في "الأرض المقدسة" قبل مجيء المسيح. 

لقد استغلت الأيديولوجية الصهيونية الأهمية الدينية لمدينة القدس وحوَّلتها إلى اهتمام سياسي حديث؛ إذ أدى احتلال القدس الشرقية من الأردن عام 1967، ولاسيما المدينة القديمة، إلى تصاعد المشاعر القومية تجاه المدينة، ومع ذلك، كان معظم الإسرائيليين متوافقين على الحفاظ على الوضع الراهن الجديد الذي أصبح فيه الأردن يتمتع بسلطة دينية في المكان. ومع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، انتقل الاهتمام بجعل القدس موحدة تحت السيادة والسيطرة الإسرائيلية بشقيها الغربي والشرقي إلى أن أصبح هدفًا قوميًّا بدرجة أولى؛ وتم حشد كافة طاقات المجتمع خلفه. ومع فشل محادثات كامب ديفيد عام 2000 واندلاع انتفاضة الأقصى، عزَّز اليمين الإسرائيلي جدول أعماله في تهويد مدينة القدس والسيطرة عليها على مجموعة من المستويات، بحيث أصبحت مسألة استعادة النصف الشرقي من المدينة عن طريق الفلسطينيين مستحيلة في ظل هذه الظروف القائمة حاليًّا. 

أولًا: سياسة التهويد: استمرت إسرائيل في عملية البناء الاستيطاني والعمل على تهويد مدينة القدس، حتى في ظل الحكومات اليسارية، على أمل أن تظل هذه المناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية حتى بعد التوصل إلى اتفاق للوضع النهائي مع الفلسطينيين. كما بدأ التخطيط الحضري والإداري في المدينة بالتمييز الشديد ضد السكان الفلسطينيين، ما جعل بناء المساكن والخدمات العامة ونوعية الحياة في القدس الشرقية، أدنى بكثير من مستوى سكان إسرائيل. ويعتبر الهدف المعلن لذلك، هو قلب الميزان الديمغرافي لصالح اليهود، بحيث يصبح العرب فيها أقلية هامشية. 

ثانيًا: الأحزاب السياسية ومجموعات الضغط: لم ينظِّم المستوطنون أنفسهم فقط من خلال أحزاب سياسية أصبح لها وزن في المعادلة السياسية الإسرائيلية مثل حزب البيت اليهودي، بل ومن خلال مجموعات متنوعة من لوبيات الضغط التي حاولت تجنيد مجموعة واسعة من السياسيين لخدمة مشاريعها الاستيطانية في مدينة القدس. كما ضاعفت مجموعات الضغط الاستيطانية من تأثيرها على أعضاء الأحزاب السياسية الرئيسية، وخاصة حزب الليكود الحاكم، لاستمالتهم إلى تأييد المشاريع الاستيطانية. فعلى سبيل المثال، انتبهت النخبة السياسية في الليكود إلى أهمية استخدام ورقة ما يُسمَّى بـ"الحق الديني" في القدس لتحسين مواقعها في أية انتخابات داخلية. وأدت هذه الديناميكية إلى أن ينجرف حزب الليكود أكثر وأكثر إلى اليمين، مع تأكيده على "الأهمية الدينية والوطنية" لمدينة القدس، التي كانت تعني أن أية تسوية مع الفلسطينيين على إدارتها، أصبحت من الناحية الفعلية غير قائمة. 

ثالثًا: مؤسسات المجتمع المدني: لم يكتف المستوطنون فقط بالضغوط السياسية من داخل الحكومة بل بدأت مجموعات ومنظمات المستوطنين في التركيز على العمل على تهويد مدينة القدس عن طريق مؤسسات "المجتمع المدني" والمنظمات الدينية من خلال التعاون بشكل وثيق مع النخبة الحاكمة (من المهم أن نلاحظ أن العديد من هذه المنظمات عمل بشكل وثيق مع الحكومات السابقة، مثل حكومة نتنياهو عام 1996، وحكومة أرييل شارون بعد عام 2001، وغيرها). وشملت جهودهم بشكل أساسي التنقيبات الأثرية والمشاريع السياحية التي منحت منظمات المجتمع المدني التي يسيطر عليها المستوطنون، مناطق نفوذ واسعة داخل أحياء البلدة القديمة. وتكثَّف هذا النفوذ مع الاستيلاء على العديد من العقارات والممتلكات الفلسطينية داخل أحياء القدس الشرقية ونقل اليهود للعيش فيها على حساب الفلسطينيين. 

رابعًا: بناء أيديولوجية دينية ثابتة: عملت مجموعات المستوطنين وداعميهم من المجموعات الدينية، مثل معهد الهيكل، للترويج لفكرة إقامة المعبد اليهودي على أنقاض المسجد الأقصى بين الإسرائيليين. ومن أبرز الأمثلة على هذه الاستراتيجية إعلان وزير التعليم، نفتالي بينيت، من حزب البيت اليهودي المتطرف، أن عام 2017 سيحظى ببرامج خاصة عن "وحدة القدس" في نظام التعليم الإسرائيلي بأكمله(3). اتسمت البرامج التي تم تنفيذها بمواضيع دينية وقومية ترسخ "السردية الدينية اليهودية" للمدينة وتتجنب تمامًا مناقشة قضايا إهمال السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية من قِبَل سلطات المدينة والدولة، والتفاوت بين غربي المدينة وشرقها، وجدار الفصل الذي يقسِّم المدينة بحكم الأمر الواقع. 

خامسًا: التشريعات: اقترن العمل الحثيث على أرض الواقع بمبادرة تشريعية أيضًا؛ ففي عام 1980 أصدرت إسرائيل قانونًا ينص على الضم الرسمي للقدس الشرقية، وهو الإجراء الذي لم يعترف به قطُّ أي بلد آخر، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية. وفي الوقت الحالي أقرَّ الكنيست الإسرائيلي القراءة الأولى لمشروع قانون تقدم به حزب "البيت اليهودي" وينص على وجوب موافقة أغلبية 80 عضوًا في الكنيست (من أصل 120) على أية مبادرة لنقل جزء من القدس إلى أي "كيان أجنبي" (يعني أي كيان فلسطيني). وفي حال تمرير القانون، فهذا يعني أن أية حكومة إسرائيلية في المستقبل، حتى لو كانت تملك أغلبية في الكنيست لن تكون قادرة على اتخاذ قرار بشأن تسوية وضع مدينة القدس بأغلبية بسيطة. بالإضافة إلى ذلك، يقترح القانون آلية يمكن فيها نقل أحياء من مدينة القدس (مثل كفر عقب وشعفاط) من بلدية القدس وضمها إلى بلديات إسرائيلية أخرى. والهدف الخفي من هذه الآلية هو أن يتم تجريد وضع الأحياء والقرى الفلسطينية التي تعتبر الآن جزءًا من مدينة القدس، من حق الإقامة في المدينة، وبالتالي إلى زيادة نسبة اليهود على العرب في المدينة، والإخلال بالميزان الديمغرافي لصالح اليهود. 

استراتيجية فلسطينية مفقودة 

على النقيض من الاستراتيجية الإسرائيلية الموحدة تجاه مدينة القدس، يعاني الموقف الفلسطيني من تشتت وغياب أية خطة للتعامل مع المدينة. شكَّلت مدينة القدس، منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، موقعًا متقدمًا في الخطاب الفلسطيني، عكس أهميتها الدينية والاقتصادية والسياسية سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي. تتمتع مدينة القدس، وخاصة الحرم الشريف، بثقل ديني كبير ويُنظر إليها من قبل المسلمين كمركز جذب رئيسي ومدينة تتمتع بقدسية دينية خاصة. ومع ذلك، أسقط اتفاق أوسلو، عام 1993، مدينة القدس من الأراضي التي ستتولى السلطة الفلسطينية السيطرة عليها(4). فقد أجَّلت الاتفاقية مسألة حسم مصير المدينة إلى مفاوضات الوضع النهائي التي كان مقررًا لها أن تنتهي عام 1999، لكنها فشلت في التوصل إلى اتفاق ينهي النزاع ما بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وبعد أكثر من 20 عامًا من الاتفاق، سقطت المدينة عن سُلَّم أولويات السلطة الفلسطينية، وهو ما يتضح في المجالات التالية: 

أولًا: السيطرة الأمنية: استثنى اتفاق أوسلو مدينة القدس الشرقية من أية سيطرة أمنية للسلطة الفلسطينية وأبقتها تحت السيادة الفعلية الإسرائيلية بلا منازع. 

ثانيًا: البنية السياسية: فشلت السلطة في إحداث أي تأثير سياسي في المدينة؛ حيث لا يوجد لها (أو لقياداتها) أي تمثيل رسمي حقيقي، وهو ما أخرج السلطة من دائرة التأثير والقرار في المدينة. وجاء استثناء المدينة من الانتخابات المحلية الفلسطينية، عامي 2005 و2012، ليدعم هذا التوجه ويزيد من حدَّة الفراغ السياسي الذي تعانيه أجهزة السلطة ومؤسساتها في المدينة. ففي انتخابات عام 2012، اكتفى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بتعيين أمانة عامة لشؤون القدس مكونة من 17 عضوًا عن طريق مرسوم رئاسي(5)، وهو ما اعتبرته حركة حماس حرمانًا لحوالي 210 ألف ناخب مقدسي داخل أسوار مدينة القدس من العملية الانتخابية بسبب خشية حركة فتح من خسارتها الانتخابات(6). 

ثالثًا: الإهمال وغياب التخطيط: تغيب القدس عن أولويات التخطيط والتنمية فتعاني شُحَّ الميزانيات المالية المخصصة لمساعدة المدينة. فبينما تخصص إسرائيل أربعة مليارات شيكل سنويًّا للقدس، تبلغ ميزانية المدينة المخصصة من قِبَل السلطة 25 مليون شيكل فقط(7). ونتج عن أداء السلطة الضعيف، فقدان متنام للثقة من قبل المواطنين المقدسيين بالسلطة ومؤسساتها؛ فعلى الرغم من أن السلطة قد خصصت مبلغ 25 مليونًا كمساعدات عاجلة للمدينة بعد الأحداث الأخيرة، إلا أن مقابلات ميدانية مع تجار ومواطنين بالمدينة تُظهر عدم ثقتهم في وصول هذه المبالغ لمستحقيها(8). 

النزاعات الكامنة في المرجعيات الفلسطينية للمدينة 

وفي مقابل الاستراتيجية الإسرائيلية الموحدة تجاه المدينة والتي تشمل المستوى الرسمي والمؤسسات الأهلية والأحزاب، تنقسم المرجعيات الفلسطينية إلى عناوين متناثرة من المرجعيات التي تتعاون تارة وتتصارع وتتصادم تارات أخرى فيما بينها. وعلى الرغم من أن الأحداث الأخيرة المرتبطة بإغلاق المسجد الأقصى ونصب أجهزة التفتيش، قد أدت إلى توحيد الجهد الفلسطيني إلا أن ذلك لا يخفي التوترات والصراعات الكامنة بين الفاعلين الفلسطينيين المحليين؛ وذلك على ثلاثة مستويات متداخلة فيما بينها: 

أولًا: تعدد المرجعيات الفلسطينية الرسمية: شكَّل رحيل فيصل الحسيني وإغلاق بيت الشرق، عام 2001، مرحلة فاصلة في زيادة تشتت الاستراتيجية الفلسطينية وضياع البوصلة في التعامل مع مدينة القدس؛ فبعد أن شكَّل بيت الشرق مرجعية موحدة للفلسطينيين في المدينة، توزعت بعد ذلك المرجعيات على خمسة أطر مختلفة تراوحت ما بين منظمة التحرير الفلسطينية (المؤتمر الوطني الشعبي للقدس الذي تم تأسيسه عام 2008 ودائرة شؤون القدس التي تأسست عام 2009)، والسلطة الوطنية الفلسطينية (محافظة القدس ووزارة شؤون القدس)، وديوان الرئاسة الفلسطينية (اللجنة الوطنية العليا للقدس). وفي أغلب الأحيان، جاء تشكيل هذه المرجعيات بناء على "اعتبارات شخصية" وليس ضمن رؤية واستراتيجية شاملة، مع وجود قيود أمنية وسياسية تحد من عملها ونشاطها، وغياب التنسيق فيما بينها وتشرذمها والتداخل في الصلاحيات فيما بينها، إضافة إلى الصراع على المرجعية والنفوذ(9). هذا الواقع المهترئ لم يَسْلَم من النقد اللاذع حتى من قِبل أحمد قريع (أبو العلاء)، أحد مهندسي أوسلو وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس دائرة القدس منذ سنة 2009، الذي وصف واقع القدس، بقوله: "حين يتم وضع خمس مرجعيات للقدس للأسف، فكأن المسؤولية غير موجودة، وكأنه يقول: مَن المسؤول؟ ثم مَن الذي يُساءَل؟ فالمرجعيات بلا متابعة أو مساءلة، والطاسة ضايعة، كل مرجعية تقول إنها المسؤولة وهذا خطأ"(10). 

ثانيًا: الأوقاف الأردنية: أقرت إسرائيل بعد احتلالها للضفة الغربية، عام 1967، بالوصاية الأردنية على الحرم القدسي الشريف وأن تديره الحكومة الأردنية عن طريق الأوقاف الإسلامية؛ حيث تشرف وزارة الأوقاف الأردنية على غالبية موظفي المسجد ومرافقه ضمن 144 دونمًا، بما تحتويه من مبان وساحات. تأكد ذلك أيضًا ضمن اتفاقية وادي عربة للسلام ما بين إسرائيل والأردن الموقَّعة عام 1994. وفي عام 2014، أقرَّت القيادة الفلسطينية أيضًا هذه الترتيبات من خلال التوقيع على اتفاق بين الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، والملك، عبد الله الثاني، حول الوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة. لم تغيِّر هذه الاتفاقية من الترتيبات التاريخية القائمة إلا أنها أكدت من جديد على دور الأردن في حماية المقدسات الإسلامية في القدس في ظل المحاولات الإسرائيلية المتكررة لتقسيم المكان زمانيًّا ومكانيًّا. 

وبالرغم من الدور التاريخي للأردن، إلا أن هناك العديد من التقارير التي أشارت مؤخرًا إلى التوتر الدائم في العلاقة بين الجانبين(11). فعلى الرغم من الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى، إلا أن هناك أطرافًا فلسطينية عديدة تعتقد بأن الجهود الأردنية لا تزال هشَّة ولا ترتقي إلى مستوى التحديات التي تواجهها المقدسات الإسلامية في المدينة، وكان الفلسطينيون قد رفضوا في العام 2016 مقترحًا أردنيًّا بتركيب كاميرات تصوير في المسجد الأقصى لرصد الاقتحامات الإسرائيلية للمكان، كما ازداد التوتر بين الطرفين بعد زيارة وفد أردني ديني برئاسة قاضي القضاة، الشيخ أحمد هليل، وطرده من المسجد الأقصى. لقد أظهرت هذه الحادثة هشاشة السيطرة الأردنية على المقدسات وعدم قدرة الأوقاف حتى على حماية موفد الدولة الرسمي(12). 

أضف إلى ذلك، أن هناك توترات متأصِّلة بين السلطة الفلسطينية والقيادة الأردنية تسهم في زيادة انعدام الثقة المتبادلة(13). فبصفتها الوصي، فإن للأردن الحق في القرار الأخير فيما يخص المكان، ولكنها تحتاج أيضًا إلى التوافق مع الفلسطينيين حول أي قرارات مصيرية لكي تجد الطريق إلى تنفيذها. وبالمقابل، يشعر الفلسطينيون بالإهمال في هذه المسألة؛ ففي الأزمة الأخيرة التي نشبت بعدما نصبت إسرائيل البوابات الإلكترونية والكاميرات على مداخل الأقصى، شَكَت القيادة الفلسطينية من أن الأردن لم يتشاور مع السلطة حول محادثاته مع الجانب الإسرائيلي(14). 

ثالثًا: المرابطون: تنشط مجموعة من الحركات الاجتماعية والسياسية والدينية في الدفاع عن المسجد الأقصى والتصدي للاقتحامات عن طريق ما يطلق عليهم "المرابطون". يعتبر الشيخ رائد صلاح، رئيس الجناح الشمالي للحركة الإسلامية والملقب بـ"شيخ الأقصى"، أحد أهم الناشطين الداعين إلى الرباط في المسجد. أخرجت إسرائيل تنظيمي المرابطين والمرابطات عن القانون، عام 2015، ومع ذلك استمرت نشاطاتهم. وكشفت بعض التقارير حديثًا عن خلافات وتوتر ما بين المرابطين والأوقاف مع وجود اتهامات للأخيرة بالتخلي عنهم وعدم تقديم الدعم لهم(15). 

التحولات الدولية وتقلبات الإقليم 

بالرغم من أن المجتمع الدولي يغض الطرف عن الممارسات الإسرائيلية في مدينة القدس، إلا أنه لا يعترف قانونيًّا بأية سيادة سواء فلسطينية أو إسرائيلية على القدس الشرقية، وحتى الآن لا توجد لأية دولة سفارة في مدينة القدس. تنص خطة تقسيم فلسطين الصادرة عن الأمم المتحدة، عام 1947، على أن تكون المدينة خاضعة للولاية القضائية الدولية، التي تنص على حماية الشعب والمواقع في المدينة المتنازع عليها، ولم يعترف المجتمع الدولي بأي أوضاع جديدة منذ ذلك الحين. 

ومع أن إمكانيات تقسيم المدينة تتلاشى تدريجيًّا، إلا أن فكرة إيجاد عاصمتين لدولتين لا تزال مقبولة من قبل الأطراف الدولية الفاعلة وخاصة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي. وقد صمدت واشنطن، وهي أقرب حلفاء إسرائيل، أمام الضغوط الإسرائيلية المختلفة لنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وأصرَّت على أن يتم حسم وضع المدينة عن طريق المفاوضات وليس من طرف واحد. ومع ذلك، فإن التحولات الدولية المتشكِّلة حاليًّا مع فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية العام الماضي، 2016، وتقلبه السياسي قد تُحدث تحولات جوهرية في هذه المسألة، خاصة أن ترامب قد أعلن، في أكثر من مناسبة، اعتزامه نقل السفارة إلى القدس. 

هذه الأحداث مجتمعة تأتي في ظل غياب كامل لأي مواقف، أو استراتيجية عربية، تجاه المدينة ومصيرها؛ فالدول العربية إما تعاني من النزاعات الداخلية وعدم الاستقرار (كما هي الحال في سوريا، والعراق، واليمن، ومصر، وليبيا)، أو الصراعات البينية كما في أزمة الخليج الحالية التي نتج عنها حصار قطر من قِبل السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر. 

خاتمة 

تمكَّن الشارع الفلسطيني في القدس من تحقيق انتصار رمزي في معركة "أبواب الأقصى" لا يمكن أن يستهان به؛ حيث أظهرت شرائح مختلفة من السكان والفصائل الدينية والسياسية الفلسطينية المختلفة تضامنها على جبهة موحدة، أو هكذا يبدو على الأقل. فقد ظهر ذلك في تضافر جهود جميع القوى الفلسطينية -السلطة، وحماس، والحركة الإسلامية، وإدارة الوقف والفلسطينيين في القدس والضفة الغربية- لإظهار رفضها وبقوة لأي تغيير قد يطول الوضع الراهن في المسجد الأقصى. ربما يمكن أن تُعزى إزالة الأبواب الإلكترونية إلى ضغوط من الأردن وربما إلى اتفاق سري لإطلاق سراح حارس أمن بالسفارة الإسرائيلية الذي أطلق النار على اثنين من المواطنين الأردنيين وقتلهما فيما زعم أنه دفاع عن النفس، ولكن كان من الواضح أيضًا أن الجيش الإسرائيلي، والشرطة، وأجهزة الأمن، كانت تشير جميعها إلى أن الاضطرابات والمظاهرات، والغضب في الشارع الفلسطيني يشكِّل تهديدًا حقيقيًّا، ونصحت بأنه ينبغي إزالة البوابات الإلكترونية. هذا، وتعرَّض نتنياهو لهجوم حاد من اليمين، بقيادة نفتالي بينيت، لما اعتبره ضعفًا واستسلامًا للضغوط من أجل التراجع عن التدابير الأمنية الجديدة. وانتقدت صحيفة "يسرائيل هيوم" الإسرائيلية التي تعتبر مقرَّبة من نتنياهو، قراره بإزالة أجهزة الكشف عن المعادن واصفة ذلك بالضعف وانعدام القيادة. وفي الحقيقة، فإن نتنياهو على الرغم من كل هذه الانتقادات العنيفة، اختار المضي قدمًا في العودة إلى الوضع الراهن بخصوص أزمة "أبواب الأقصى"، بسبب الخوف من ظهور جبهة سياسية فلسطينية موحدة مصحوبة باحتجاج شعبي واسع النطاق. 

وأخيرًا، إن النصر الفلسطيني في إزالة البوابات الإلكترونية يجب ألا يُخفي حقيقة الاستراتيجية الإسرائيلية طويلة الأمد في تهويد المدينة وطرد سكانها العرب. هذا، ومن الممكن أن تحفز الأحداث الأخيرة سكان القدس الفلسطينيين نحو تنظيم أنفسهم بشكل أكثر فعالية لبناء قيادة شعبية محلية جديدة من شأنها سد الفجوة التي خلَّفتها السلطة الفلسطينية، لتمثيل احتياجات ومواجهة تحديات سكان المدينة.

______________________________________________

محمود جرابعة، باحث ومحاضر في "مركز إيرلانغن للإسلام والقانون في أوروبا(EZIRE) ، وفي الأكاديمية البافارية للعلوم والإنسانيات في ميونيخ.

 ليهي بن شطريت، أستاذة مساعدة في كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة جورجيا في أثينا.

 

نبذة عن الكاتب

مراجع

1-  Liebermann, Oren, "Netanyahu's criminal investigation drags on into the summer", CNN, 9 May 2017.

 http://www.cnn.com/2017/05/09/middleeast/netanyahu-criminal- probe/index.htm

2-    Mako, "Election Surveys for Future Elections", 11 July, 2017.

http://www.mako.co.il/news-military/politics-q3_2017/Article-db34f15577…

3-   Bennet Declared "Year of Jerusalem Unity" in the Education System, Haaretz, 22 February 2016

https://www.haaretz.co.il/news/education/1.2859386

4- المصري، هاني، "الأداء الفلسطيني تجاه القدس"، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية-مسارات، نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017).

http://www.masarat.ps/ar/content/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3

5-  "السلطة تتقبَّل استثناء القدس من الانتخابات المحلية"، الجزيرة نت، 21 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017): إضغط هنا.

6- هنية، محمود، "نواب مقدسيون ينتقدون استثناء القدس وغزة من الانتخابات"، الرسالة نت، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2016، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017): إضغط هنا.

7- حمدان، بثينة، "مؤسسات القدس الفلسطينية: حصار تمويلي وعجز السلطة والمنظمة"، جدلية، 18 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017): إضغط هنا.

8- "مقدسيون: لا نريد من السلطة مالًا"، الجزيرة نت، 27 يوليو/تموز 2017، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017). إضغط هنا.

9- الرازم، نائلة، "المؤسسات والمرجعيات الفلسطينية الرسمية في القدس"، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، مسارات، 3-4، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017): http://www.masarat.ps/sites/default/files/content_files/mlkhs_wrq_nyl_lrzm.pdf

10- حمدان، مؤسسات القدس الفلسطينية"، مرجع سابق.

11- البدارين، بسام، "أزمة حادة وخلاف سياسي يغادر الصمت بين الأردن والسلطة الفلسطينية بعد تصريحات الأحمد عن أنظمة تتدخل بحكم الجغرافيا"، القدس العربي، 9 سبتمبر/أيلول 2016، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

 http://www.alquds.co.uk/?p=594916

12- البدارين، بسام، "ما وراء طرد "هليِّل" من الأقصى الشريف.. !!"، وكالة زاد الأردن الإخبارية، 26 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

 http://www.jordanzad.com/index.php?page=article&id=201210

13- الرجوب، عوض، "الوضع القائم" في الأقصى.. لكلٍّ تعريفه، الجزيرة نت، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2015، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017): إضغط هنا.

14- "لماذا الحكومة الأردنية لم تُطلع الفلسطينيين على اتفاق الحرم القدس؟"، المركز الديمقراطي العربي، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 27 يوليو/تموز 2017):

 http://www.democraticac.de/?p=48013

15-  "هل تنسق الأوقاف الأردنية مع الاحتلال ضد المرابطين في الأقصى؟"، نون بوست، 23 مارس/آذار 2016: إضغط هنا.