الاتجاهات السياسية المحيطة بانتخابات الرئاسة اللبنانية

دخلت لبنان في الفترة المستحقة دستوريًا لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. لكن يبدو أنه من غير المحتمل أن تكون القوى المحلية والإقليمية والدولية الرئيسة قادرة على الاتفاق على مرشح قبل موعد 25 مايو/أيار.
20144288561579734_20.jpg
البرلمان اللبناني حلبة التسابق إلى منصب رئيس الجمهورية [أسوسيتد بريس]

ملخص
بحلول يوم السبت الموافق 25 مارس/آذار، دخل لبنان في الفترة المستحقة دستوريًا لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. لكن يبدو أنه من غير المحتمل أن تكون القوى المحلية والإقليمية والدولية الرئيسة قادرة على الاتفاق على مرشح قبل موعد 25 مايو/أيار. وستكون عملية المفاوضات طويلة إذا تضمنت دائرة واسعة من متخذي القرار المكبلين بالموازنات، في ظل تحرك كل الأطراف إلى الأمام بحذر بالغ.

لكن نظرًا لأن منطق القوى الطائفية الراسخة يعني أنه لا يجوز الاستخفاف بالآلية العامة السارية، سيعتبر الجميع أن الوصول إلى أية نتيجة تضمن عدم تفكيك المؤسسات بمثابة نجاح في حد ذاته.

مقدمة

يعتمد التقرير الذي بين أيدينا على مهمة قمنا بها لجمع معلومات من داخل لبنان. وقد تنوعت الشخصيات التي أجرينا معها حورات نقاشية بين: رؤساء أحزاب سياسية، نواب في البرلمان، رجال دين، وشخصيات بارزة في كل من المجتمع المدني والأحزاب السياسية والقوى الأمنية. وكان المشاركون منفتحين على الحوار والنقاش البنَّاء، وطرحوا رؤاهم بشأن الأوضاع الراهنة في مرحلة ما بعد تشكيل الحكومة وقبيل انتخاب رئيس جديد.

ملامح النموذج السياسي

منذ توقيع اتفاق الطائف في 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة، تعرض النظام السياسي اللبناني على مدار ربع قرن إلى سلسلة متلاحقة من الضغوط والصدمات.

شملت تلك الضغوط استمرار أعمال المنظمات العسكرية السياسية ذات الخلفية الطائفية، والتي تعمل خارج سيطرة الدولة، ووجود أعداد كبيرة من القوات الأجنبية (السورية والإسرائيلية) على الأرض اللبنانية، فضلاً عن استمرار نمو أعداد كبيرة من اللاجئين غير الممثلين سياسيًا. ومن الجلي أنه في الفترة الأخيرة أصبح عدد اللاجئين السوريين يفوق كثيرًا عدد اللاجئين الفلسطينيين، وربما أصبح اللاجئون يمثلون الآن حوالي ربع إجمالي سكان لبنان(1). كما تشل الضغوط أيضًا التوترات المتزايدة بين المجتمعات السنية والشيعية في البلاد.

أما الصدمات التي تعرض لها لبنان فشملت اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 2005، والدمار الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية على حزب الله في 2006، وتفشي آثار الحرب الأهلية السورية المستمرة.

رغم هذه الضغوط الهائلة والصدمات المتكررة، حافظ الاستقرار السياسي على درجة ما من العمل، وأثبت اتفاق الطائف قدرته على البقاء حيًا؛ فلم تكن هناك عودة إلى حالة الحرب الأهلية، وظل البناء السياسي الديمقراطي متعدد الطوائف متماسكًا جيدًا. يرجع ذلك إلى حد كبير إلى حقيقة أن المسيحيين اللبنانيين كانوا قادرين على العمل كنطاق عازل بين جيرانهم السنة والشيعة المتصارعين، كما ساهم في ذلك أيضًا الدور الإيجابي الذي لعبه الرئيس اللبناني كشخصية وطنية ذات توجه وحدوي.

وينظم اتفاق الطائف كيفية اقتسام السلطة بين المجموعات الإسلامية والمسيحية المختلفة التي تشكّل النسيج السياسي الطائفي للبلاد. ففي ظل هذا الاتفاق، يتم اقتسام أهم المناصب السياسية حسب الديانة؛ حيث يحظى المسيحيون الموارنة بمنصب الرئيس، ويحتفظ السنة بمنصب رئيس الوزراء، ويحصل الشيعة على منصب رئيس مجلس النواب. ورغم أن هذا النظام لا يقدم حلاً لجميع القضايا، ولا يحقق متطلبات وتوقعات جميع الأطراف، إلا أنه استطاع أن يحقق التوازن السياسي نوعًا ما، من خلال بقاء جميع الأطراف غير راضية بطريقة ما.

وللمنصب الرئاسي أهمية خاصة بالنسبة للجماعات المسيحية لأن الرئيس ينتمي إليهم، وإن كان المنصب ذاته رمزًا للدولة ككل. ولا تكمن الأهمية الحقيقية للمنصب في السلطات العملية للرئيس، والتي تُعتبر محدودة بطبيعتها، بل في الأهمية الرمزية لوجود لبنان كدولة عربية رئيسها مسيحي، وتمثيله 18 طائفة دينية مختلفة. وهذا هو الجوهر الذي لا ينتبه إليه كثيرون في خضم التفاصيل.

 آليات انتخاب الرئيس

بحلول يوم السبت الموافق 25 مارس/آذار، دخل لبنان في الفترة المستحقة دستوريًا لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وطبقًا للدستور القائم، الذي صدر في مايو/أيار 1926، وعُدّل من خلال اتفاق الطائف، ينتخب البرلمان الرئيس في اقتراع سري لفترة رئاسية مدتها 6 سنوات، وتستمر فترة الانتخاب حتى 25 مايو/أيار، وطوال هذه الفترة يستطيع رئيس مجلس النواب دعوة أعضاء البرلمان (128 عضوًا) لحضور جلسة عامة لاختيار رئيس جديد. وحسب التقاليد، تتحدد نتيجة الانتخاب بالتسويات السياسية قبل تلك الجلسة.

وحتى الأيام العشرة الأخيرة التي تسبق الموعد النهائي في 25 مايو/أيار، وفي حالة عدم وجود دعوة رسمية من رئيس مجلس النواب، يستطيع أعضاء البرلمان أن يقرروا الحضور إلى البرلمان دون إخطار من رئيسه.

ولكي يتم انتخاب الرئيس من الجولة الأولى من التصويت، لابد أن يفوز بأغلبية الثلثين. وفي الجولة الثانية، يمكن انتخاب الرئيس بالحصول على 65 صوتًا (أي بهامش أغلبية بسيط)، وذلك بشرط حضور ثلثي نواب البرلمان حتى يكون التصويت صحيحًا.

وفي حالة عدم اكتمال النصاب القانوني، أو عدم تحقيق إجماع توافقي (وهو العنصر المهم الذي يهدف النظام الحالي إلى تشجيعه)، يمكن أن يحدث الفراغ السياسي نظريًا ويستمر إلى ما لا نهاية. وإذا حدث هذا، سيختل التوازن بسبب تدخل القوى الإقليمية والدولية، التي ترى أن الفراغ المؤسسي في لبنان يضر مصالح الجميع، بما في ذلك مصالح اللبنانيين أنفسهم.

ومع انحسار التأثير السوري في الساحة السياسية اللبنانية، انتقلت الأدوار الإقليمية والدولية الرائدة لقوى أخرى؛ حيث تُعتبر السعودية طرفًا مؤثرًا، خاصة بالنسبة للمجتمع السني، وكتلة 14 آذار بصفة خاصة. وتتمتع إيران بنفوذ قوي من خلال علاقتها مع حزب الله. وتظل الولايات المتحدة الطرف الرئيس في المنطقة، بالرغم من تراجعها. وتشمل الحلقة الثانية من القوى المهتمة بلبنان كلاً من روسيا (التي تلعب دورًا استراتيجيًا قويًا ومتزايدًا في البلاد)، وفرنسا (التي لها علاقة تاريخية مع لبنان)، والاتحاد الأوروبي (الذي يعمل على تقوية الآليات المؤسسية من خلال هيئات الأمم المتحدة وقوات اليونيفيل).

 اختبار الأجواء

في نهاية مارس/آذار الماضي 2014، شكّل رئيس مجلس النواب نبيه بري لجنة برلمانية من ثلاثة أشخاص (تضم النائب ميشال موسى، والنائب ياسين جابر، والنائب علي عسيران)، فاجتمعت مع قادة سياسيين مسيحيين، والبطريرك الماروني بشارة الراعي وآخرين، وذلك بهدف مناقشة الانتخابات القادمة. ولم تناقش اللجنة مباشرة أسماء أي مرشحين محتملين للرئاسة؛ ومع ذلك كانت هناك تساؤلات قليلة بشأن الجولات التصويتية المقبلة، وفي مقدمتها:

  1. هل سيأتي أعضاء مجلس النواب إذا عُقدت الجلسة؟
  2. وإذا جاؤوا، فهل سيستمرون؟
  3. وهل سيتم الانتخاب داخل الفترة الانتخابية المحددة؟

جدير بالذكر أن الحكومة الحالية حديثة العمر؛ إذ تشكّلت في 15 فبراير/شباط الماضي 2014، وذلك بعد نحو 11 شهرًا من المحاولات الفاشلة للوصول إلى اتفاق. وهناك انطباع عام بأن أية صفقة محتملة في إطار الشهرين المحددين يجب أن تتم قبيل نهاية الفترة الانتخابية.

فرسا الرهان

1- كتلة 14 آذار
في الخامس من إبريل/نيسان كان الدكتور سمير جعجع هو المنافس الوحيد الذي بادر بإعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية. ويعتبر زعيم حزب "القوات اللبنانية" واحدًا من أقوى الشخصيات المسيحية في كتلة 14 آذار؛ فهو يحظى بتمثيل قوي وشعبية كبيرة. وبالرغم من هذه المزايا، إلا أنه يجب أن يخوض معركة داخل الكتلة ذاتها، لأن منافسيه المسيحيين لم يكونوا متعجلين في مساندة مسعاه نحو الترشح، وكان رئيس الكتلة سعد الحريري يفضّل الاحتفاظ بالانطباع بأن كل الخيارات لا تزال مطروحة على الطاولة.

ويمثل "القوات اللبنانية" 8 نواب في البرلمان، وقد عززت من مكانتها على المستوى الجماهيري. ويُبدي جعجع وحزبه تأييدًا لمبدأ أن المسيحيين بوسعهم -ولزامًا عليهم- إثبات وجودهم من خلال مؤسسات قادرة على خلق آلية قوية ومتماسكة للدولة اللبنانية.

وإذا تحقق هذا النموذج النظري -حسب قائد القوات اللبنانية- ليشمل جميع المواطنين بشكل مؤسسي، سيكون بوسع لبنان أن يخطو عدة خطوات نحو مفهوم المواطنة التعددية، الذي يجب أن تتبناه النخب العربية والإسلامية الحاكمة. ويقول جعجع: إن الشفافية وحكم القانون والمحاسبة تمثل عناصر جوهرية، ستحمي المجتمع المسيحي داخل لبنان وخارجه.

ويمكن أن يحقق تقدم جعجع في السباق مزايا متعددة من حيث الاتصال بشبكات أوسع على الساحة الإقليمية والدولية؛ إذ إن رئيس القوات اللبنانية شخصية مهمة تجدر مراعاتها والاستماع إليها.

2- كتلة 8 آذار
يعتبر العماد ميشال عون أقوى قائد مسيحي؛ حيث يقود كتلة من 27 نائبًا في البرلمان، واستطاع أن يستمر على المسرح اللبناني ويستفيد من الصراع السياسي.

وفي 2006 وقّعت حركة التيار الوطني الحر بزعامة عون مذكرة تفاهم مع حزب الله. وقد عمّق هذا الاتفاق من الاستقطاب داخل المجتمع المسيحي، ولكنه أثبت أيضًا أنه اتفاق معقد ومعقول يحافظ على لبنان في حالة توازن من نوع ما في خضم العواصف السياسية الإقليمية.

وقد عمل الحزب كنطاق عازل في السياسة على المستوى الوطني، وكوسيط بين القوى الغربية وحزب الله وكستار حاجز يحمي المجتمع المسيحي.

واختصارًا، يمكن أن يقال: إن تجربة السنوات التي مرت منذ توقيع مذكرة التفاهم أدت إلى رعاية علاقة مستقرة بين حزب الله والتيار الوطني الحر، أي: بين المسيحيين والشيعة. ويعتبر هذا الاتفاق جزءًا من استراتيجية محلية معقدة ذات صلات إقليمية ودولية؛ حيث حظيت بكل من الإطراء والنقد معًا.

وفيما بين 2006 و2008، كانت كتلة 8 آذار تمارس احتجاجها الجماهيري ضد حكومة 14 آذار برئاسة فؤاد السنيورة؛ حيث حظيت كتلة 8 آذار بأكثر من 40% من مقاعد البرلمان، وكانت تطالب بمشاركتها في حكومة وحدة وطنية. ولكن المعضلة بدأت عندما طالبت هذه الكتلة بأن يكون لها أكثر من ثلث الوزارات، مما سيعطيها حق الفيتو والقدرة على إسقاط الحكومة. ولكن كتلة 14 آذار رفضت هذه الخطوة؛ ومن ثَمّ شرعت كتلة 8 آذار في اعتصامات شعبية في وسط بيروت، وطالبت بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، وذلك بهدف إسقاط تحالف 14 آذار. وفي نفس الوقت، كانت كتلة 14 آذار تحاول إجراء انتخابات رئاسية مبكرة لاستبعاد العماد إميل لحود، الذي كان يُعتبر -داخل البلاد وخارجها- رجل دمشق في لبنان.

وظلت البلاد على هذا النحو مدة 18 شهرًا حتى وصلت إلى لحظة الانهيار في مايو/أيار 2008، وبدأ أسبوع من الصدامات المسلحة بين المتنافسين السياسيين الرئيسين. وكان هذا النذير بعودة الحرب الأهلية طويلة الأمد بمثابة صرخة مدوية كي يفيق المتصارعون.

وتحققت النجاة قبل ساعة الانفجار بلحظة واحدة؛ وذلك حين نجح اتفاق الدوحة في 21 مايو/أيار 2008 في نزع فتيل الأزمة؛ حيث اشترط هذا الاتفاق -من بين أشياء أخرى- أن ينعقد البرلمان بالتراضي لانتخاب الجنرال ميشال سليمان رئيسًا جديدًا للبلاد، وأن تتشكل حكومة وحدة وطنية، وألا يقوم أي طرف بإفشال الحكومة، وأن يخفف القادة السياسيون من حدة لهجتهم الخطابية المشحونة بالفرقة والانشقاق.

وقد خرج التيار الوطني الحر من الانتخابات التشريعية في عام 2005 بنجاح انتخابي كاسح؛ حيث حصل على 21 مقعدًا في البرلمان، وأثبت الحزب في السنوات التالية أنه قد نضج سياسيًا بعد أن أصبح بصورة غير متوقعة الحليف المسيحي الرئيس لحزب الله في تحالف 8 آذار.

وسواء اختلف المرء أو اتفق مع القرارات التي اتخذها العماد عون، إلا أن قيادته للحزب أعطته دفعة قوية. صحيح أن إعادة تشكيل موقف الحزب قد تضمنت مراعاة الأجندة السياسية التكتيكية لعون، لكن نتيجتها الرئيسة تمثلت في إعادة تقويم الآليات الداخلية للسياسة اللبنانية. ولا يزال التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر مستمرًا، ويحقق مصلحة مشتركة للطرفين، وإن كان المرء قد يساوره شك في ذلك.

وبعد كل هذا، فإن سمات شخصية العماد عون العنيدة، والتي لا يمكن التنبؤ بخطوتها المقبلة، يمكن أن تدمر فرصته في أن يصبح رئيسًا.

وربما تتمثل المشكلة الكبرى لكل من جعجع وعون في ماضيهما، بما في ذلك الأدوار التي لعباها في الحرب الأهلية اللبنانية؛ فلكل من الرجلين تاريخ شخصي يجعل ترشحهما للرئاسة غير مناسب بالنسبة لقطاعات مهمة من المجتمعين: المسيحي والإسلامي. وبغض النظر عن مدى قوة محاولة جعجع وعون لتخفيف مواقفهما الحادة، فإنه ليست هناك فرص كثيرة للمناورة بشأن ما اقترفاه في الماضي.

ولدى عون طريقة خاصة في عرض مشروعه السياسي، وهو بارع سياسيًا، ولكن استراتيجيته للوصول لكرسي الرئاسة تفتقر إلى الاتساق. ويقدم عون نفسه للأميركيين على أنه شخصية لديها مكانة لدى حزب الله، ويمكن أن يكون هذا صحيحًا بالنسبة إلى بعض القرارات السياسية على الساحة المحلية. وبالرغم من كل هذا، فإن نموذج علاقة عون مع حزب الله يتسم بالدقة والخصوصية، وقد تعرض لبعض التغيرات، وهو أمر لا يمكن تجنبه في أية علاقة سياسية طويلة؛ إذ إن الموقف الذي يتبناه التيار الوطني الحر من نظام الأسد المنهار في سوريا يختلف عن موقف حزب الله. وحتى الآن لم يعلن حزب الله رسميًا أن ميشال عون سيحصل على تأييد الحزب. ومع ذلك، وبالنسبة للوقت الراهن، هناك الكثير مما يجمع الحزبين معًا مقارنة بما يمكن أن يفرق بينهما.

 العلاقة مع سوريا

النتيجة التي نفهمها من التقارب الراهن بين الولايات المتحدة وإيران واستمرار الصراع السوري هي أن حزب الله والولايات المتحدة لديهما هدف واحد مشترك على الأقل؛ وهو استقرار لبنان. صحيح أن عمل المؤسسات اللبنانية في حالة أقرب إلى الشلل، إلا أنها ليست على وشك الانزلاق إلى الفوضى.

لقد تشكّلت الحكومة اللبنانية الحالية في فبراير/شباط 2014، بالرغم من أن البرلمان كان قد اختار رئيس الوزراء السني الجديد تمام سلام في إبريل/نيسان 2013. وكان هذا التأخير يرجع إلى مجموعة من الصراعات بين كتلتي 8 آذار و14 آذار، والخلافات بين الرعاة الخارجيين للعملية السياسية المحلية، خاصة السعودية وإيران وشركاءهم الإقليميين والدوليين.

وتتمثل المهمة الرئيسة للحكومة في تحقيق استقرار البلاد؛ وهذا هو السبب في ذهاب حقيبة الداخلية إلى السني نهاد المشنوق وحقيبة العدل إلى اللواء أشرف ريفي، الرئيس السابق لقوى الأمن الداخلي اللبنانية. وهذان الرجلان مقربان من أسرة الحريري، وهما جزء من تكتل 14 آذار.

ويتكاتف السنة مع الأحزاب المسيحية والحلفاء في كتلتي 8 آذار و14 آذار من أجل محاربة التطرف السني في البلاد؛ حيث تتراجع التوترات المحتدمة إلى حد ما عبر نوع من النطاق المسيحي العازل. وقد أدى هذا إلى تكوين وضع يمنح قوة مركزية للمسيحيين، بينما يضمن في نفس الوقت عدم تراجع تأثيرهم السياسي والأمني. ونظرًا لأن المسيحيين يرغبون في التكيف والاعتراف بأن دورهم السياسي يمكن أن يتغير، فإن التوترات الإقليمية المستمرة لابد أن تضيف وزنًا إلى وضعهم كقوى حاجزة، بما يمكنهم من تحقيق بعض النتائج الإيجابية.

 هل من أسماء أخرى؟ 

في خضم تلك الأحداث اقترح البعض مد فترة رئاسة الرئيس اللبناني الحالي ميشال سليمان لسنتين أخريين. ومع ذلك، يتطلب القيام بهذا تعديلاً دستوريًا. ولكن يوجد اتفاق عام غير مكتوب بين القوى المسيحية، ومنها الكنيسة، على أن مثل هذا التعديل لن يكون مقبولاً شعبيًا ولا مناسبًا سياسيًا.

وكان اسم رياض سلامة حاكم مصرف لبنان مطروحًا، ولكن ترشحه ليس عمليًا؛ فهو وإن كان شخصية تكنوقراطية مخضرمة، إلا أنه يفتقر إلى التأييد السياسي الكبير والخبرة السياسية. ورغم أنه ليس هناك مستحيل في السياسة اللبنانية، إلا أن ظهور سلامة كمرشح توافقي يبدو بعيد الاحتمال.

وثمة مرشح آخر محتمل للرئاسة، هو الرئيس الحالي للقوات المسلحة اللبنانية، العماد جان قهوجي؛ حيث يقوم قهوجي حاليًا بتنفيذ خطة أمنية جديدة في طرابلس، وطبقًا لآراء من داخل الساحة الأمنية، فإن النتائج الأولية لهذا العمل تعتبر مشجعة، وهناك عمل مماثل متوقع في عكار في الشمال.

وفي ظل قيادة قهوجي يعمل الجيش بصورة وثيقة مع قوى وسلطات محلية في صيدا، لتخفيف مستوى الاحتكاك في المنطقة. وهناك الآن أيضًا اتفاق يطبق في عين الحلوة، بالتنسيق مع الأطراف الفلسطينية الرئيسة، مثل: حماس، وفتح، والجهاد الإسلامي، فضلاً عن القوى الإسلامية الأكثر راديكالية. ويذهب مثل هذا التنسيق إلى عزل معسكرات الفلسطينيين عن الصراع السوري المتفشي في البلاد. ويعتبر الوضع في البقاع أكثر تعقيدًا، ولكن الجيش يشارك في أنشطة التعاون المستمر لمنع انتشار الخلايا الراديكالية المتمركزة في البقاع إلى بقية البلاد.

وتثير هذه النجاحات احتمال ترشح قهوجي للرئاسة كشخصية بطولية وطنية قوية موحدة؛ إذ إن انتقال ميشال سليمان من منصبه السابق كقائد للقوات المسلحة إلى منصبه الحالي كرئيس للدولة يعني أن هناك سابقة أيضًا. وبصفة خاصة، فإن المصادر المقربة من دوائر السلطات الأميركية تعمل على الحفاظ على ظهور اسم قهوجي بارزًا على السطح. ومع ذلك، يعتبر المنطق وراء هذه الفكرة معيبًا، وهناك ثلاثة أسباب مباشرة لذلك:

أولاً: ترى شخصيات مسيحية بارزة أنه مع وصول جنرال آخر إلى رئاسة الدولة سيصير الاستثناء قاعدة؛ فكل قائد للقوات المسلحة سيعتبر منصبه في قيادة الجيش مؤقتًا، وسيضع عينيه على جائزة الرئاسة الكبرى. وسيكون هذا غير مناسب بالنسبة للبنان وللجنرالات أنفسهم؛ حيث يحتاجون إلى تركيز طاقاتهم على المهمة التي يتولونها والتي تدربوا وتعلموا للقيام بها.

وثانيًا: لا تتوافق وظيفة قيادة الجيش مع وظيفة الرئيس الحاكم للدولة؛ فقد أثبت قليلون من ذوي الخلفية العسكرية تميزهم كرجال دولة وساسة؛ حيث كانوا يوسعون تطلعات أتباعهم، ولكن هذه الشخصيات تظل تمثل الاستثناء. وفي هذه اللحظة التاريخية، فإن لبنان ليس في وضع يقبل فيه استنفاد الرئيس المقبل لفترة من سنوات الرئاسة الست في التدرب على المنصب الجديد.

وثالثًا: لن تفيد الخلفية العسكرية للرئيس في استغلال خبراته السابقة في زعامة الجيش والدولة بصورة مباشرة؛ إذ إن شخصًا آخر سيحل محله على قمة القوات المسلحة؛ فالدور الرسمي للرئيس كقائد للقوات المسلحة يعتبر دورًا غير مباشر، فهو ينفصل عن السيطرة اليومية على الجيش من خلال نظام التسلسل الهرمي والبروتوكولات الرسمية. بل إن القائد الجديد للجيش يمكن أن يخبر الرئيس بأن نمط قيادته مختلف، وأن يطلب أن تكون كل الاتصالات بينهما من خلال السلطات المناسبة طبقًا للقواعد المقررة سلفًا.

وحتى يكون الرئيس قادرًا على ممارسة سلطاته كاملة، ويتبع خطًا محددًا في المساومات السياسية المستمرة التي تمثل العمود الفقري للسياسة اللبنانية، فإنه يحتاج إلى القوة السياسية التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال قاعدة مساندة قوية تظهر من داخل جماعته السياسية، ويحتاج أيضًا إلى أن يحظى بقبول الفصائل الأخرى. فبدون المساندة الكبيرة من القادة السياسيين المسيحيين ومساندة قائد الجيش -حتى وإن جاء الرئيس من الجيش- سيجد الرئيس نفسه شخصية معزولة إلى حد بعيد؛ وهذا يعني أن الرتبة العسكرية لا تضمن رئاسة ناجحة، حتى في زمن الاضطرابات.

ولبنان هو الدولة الوحيدة في العالم العربي التي يترأسها مسيحي؛ وهذا شيء يجب على القادة السياسيين المسيحيين وعلى كل الكنائس المسيحية ألا تتجاهله أو تنساه.

ويحظى السياسيون المسيحيون بموقع قوي فقط حينما يكونون متحدين، وحين يتجاوزون أنانيتهم ومشاحناتهم الصغرى ويركزون على ما سيتركونه وراءهم. فما الذي سيخلّفونه حين يرحلون؟ وكيف يريدون أن يتذكر الناس في المنطقة وخارجها الدور المسيحي؟ هذا هو جوهر الأشياء، وما عداه أمور هامشية.

وقد طُرح اسم المحامي والناشط في قضايا المجتمع المدني زياد بارود كرئيس محتمل، وطُرح بالمثل اسم جان عبيد؛ فهو مسيحي له صلات بأسرة الحريري والمجتمع السني في بيروت، ومقبول أيضًا لدى الشيعة بما في ذلك حزب الله وحركة أمل. ولأن عبيد متقدم في العمر فحظوظه في ذلك محدودة، وقد طُرح أيضًا اسم وزير المالية السابق دميانوس قطار، كما تداولت الأوساط أيضًا اسم بطرس حرب، الوزير في الحكومة الحالية وعضو كتلة 14 آذار.

 الاختيار المستبعد (ظاهريًا)

هناك مرشح محتمل آخر هو الوزير السابق سليمان طوني فرنجية، رئيس حزب المرده، وسليل أسرة زغرتا العريقة؛ فهو سياسي لامع ولم يغير موقفه الإيجابي من الرئيس السوري الأسد.

وإذا استرجعنا صورة مختصرة للرؤساء اللبنانيين وما كانوا يمثلونه بالنسبة لبعض الطوائف داخل المجتمع المسيحي، سنجد أن العماد إميل لحود كان بالنسبة للبعض، وربما للأغلبية، رمزًا ليد سوريا القوية في لبنان. وجاء بعده العماد ميشال سليمان، الذي كانت قيادته السياسية بمثابة الجزء الأول من الانتقال من الإشراف والنفوذ السوري إلى شكل جديد من العمل السياسي الذي كان أكثر توجهًا للداخل وأكثر انفتاحًا على المجتمع الدولي. ويمكن أن تؤدي رئاسة فرنجية إلى نهاية هذا الانتقال، وإعادة الوضع الراهن لسابقه لصالح سوريا بشكل تدريجي.

غير أن فرنجية يعي جيدًا تعقيدات المجتمع اللبناني، ويفهم تفاصيل دور ومكانة لبنان في المنطقة، وسوف يستغل هذا الفهم في توسيع السلطة الفعلية للرئاسة. وحين يصبح رئيسًا للدولة، فإنه سيجد من مصلحته تمثيل كل الطوائف. وحين يكون استقرار لبنان على المحك فإن فرنجية سيجد من مصلحته التلويح باستخدام القوة في تعاملاته مع أي من القوى السياسية الكبرى. ورغم أن تيار المرده جزء من كتلة 8 آذار، إلا أن هذا لا يمنع من إمكانية تقديم فرنجية كشخصية توافقية للرئاسة.

وبغض النظر عن السياسة، فقد وقف فرنجية مع الأسد كصديق للأسرة، وقد تدفع هذه الحقيقة بالبعض إلى اعتباره رجل دمشق. ومع ذلك، فإنه بينما يعتبر من المؤكد أن رئاسة فرنجية سيكون لديها أذن مصغية لصوت دمشق، إلا أن الأمر يظل يتمثل في أن الرئيس الأسد لديه الآن أولويات أخرى أكثر إلحاحًا يجب الاهتمام بها، وأن وضعه لا يسمح له بفرض رؤاه على لبنان، أو أن يكون لاعبًا كبيرًا في السياسة اللبنانية.

ولكن فرنجية يفتقر إلى المساندة السياسية العامة، خاصة من المسيحيين. ومع ذلك، وبالرغم من أن البعض قد يعتبر ذلك مثيرًا للسخرية، إلا أنه في ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر يمكن أن ترجح حظوظه في تولي الرئاسة لمدة ست سنوات.

 السيناريوهات الأكثر واقعية

يبدو أنه من غير المحتمل أن تكون القوى المحلية والإقليمية والدولية الرئيسة قادرة على الاتفاق على مرشح قبل موعد 25 مايو/أيار. وستكون عملية المفاوضات طويلة إذا تضمنت دائرة واسعة من متخذي القرار المكبلين بالموازنات، في ظل تحرك كل الأطراف إلى الأمام بحذر بالغ.

وسيؤدي هذا إلى فراغ سياسي مؤقت، يتبعه انتخاب مرشح توافقي، وإلا فإن لبنان سيظل كما هو حتى ظهور مرشح توافقي لا يعرفه المشهد الراهن.

الخاتمة

تعاني مؤسسات الدولة اللبنانية من هشاشة كامنة في بنيتها الأصيلة، بما في ذلك الرئاسة ذاتها، وفي بعض الحالات تعتبر هذه الهشاشة بمثابة عيب خلقي. وفي حالات أخرى تتولد هذه الهشاشة نتيجة التردد في نزع الطائفية عن العمل السياسي، وربما يكمن هذا التردد في انعدام الثقة، وربما يكمن في خوف مختلف الطوائف من أن ما سيحمله الغد ليس أفضل مما يحتويه الحاضر.

وبالرغم من كل هذا، ونظرًا لأن منطق القوى الطائفية الراسخة يعني أنه لا يجوز الاستخفاف بالآلية العامة السارية، سيظل الأمر يتمثل في أنه في ظل الظروف الراهنة سيعتبر الجميع أن الوصول إلى أية نتيجة تضمن عدم تفكيك المؤسسات بمثابة نجاح في حد ذاته.

صحيح أن الدولة اللبنانية تترنح ما بين هذه الصيغة وتلك، لكن طالما أن الآليات السياسية الرئيسة مستمرة في العمل، يبقى الأمل في إمكانية بلوغ نجاح وتقدم إيجابي في المستقبل.
__________________________________
مانويلا باريبان، باحثة في مركز الجزيرة للدراسات.

هوامش
(1) اللاجئون: عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا ـ 500.000 لاجئ.

اللاجئون السوريون المسجلون لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين: مليون لاجئ (مع تقدير بأن العدد سيصل إلى 1.5 مليون بنهاية 2014)؛ وتصل الأرقام غير الرسمية إلى 2 مليون لاجئ.

نبذة عن الكاتب