مقدمة
توترت العلاقات الرسمية بين السعودية ولبنان في مطلع العام 2011 حين سقطت حكومة سعد الحريري بعد انسحاب وزراء حزب الله وحلفائه منها ونشر الحزب المئات من عناصره في شوارع بيروت في استعراض قوة ذكَّر بأحداث 7 مايو/أيار 2008(1). وتصاعد التوتر في ظل الحكومة الجديدة التي سمح حزب الله بتشكيلها برئاسة رجل الأعمال، نجيب ميقاتي، على خلفية إطاحة الحزب بالتزاماته في "اتفاق الدوحة"(2)، ثم اندفاعه بطلب إيراني للقتال إلى جانب نظام الأسد ضد معارضيه في سوريا. وأُضيف إلى ذلك وارتبط به القلق السعودي من تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة كلها، ومن تبدل المقاربات الأميركية لشؤون الشرق الأوسط في عهد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، وإيثار الأخير الانسحاب من العراق (وأفغانستان) والتفاوض مع طهران بشأن برنامجها النووي.
وعلى وقع الاحتقان السياسي والمذهبي في العراق والبحرين بالتزامن مع توسع الحرب السورية بين العامين 2012 و2014، انخرطت السعودية في الصراع الميداني مع إيران عبر دعم فصائل من المعارضة السورية المسلحة، واتجه وضع لبنان إلى التجميد بعد تشكيل حكومة جديدة ترأَّسها هذه المرة تمام سلام المقرَّب من الرياض وظلَّ حزب الله الطرف الأقوى فيها فارِضًا سياسته السورية.
ومع انفجار الأوضاع في اليمن وتمكن تحالف الحوثيين/صالح من السيطرة على معظم أرجاء البلاد بدعم إيراني، وردِّ الرياض التي تولَّى فيها سلمان بن عبد العزيز المُلك، في يناير/كانون الثاني 2015، عسكريًّا عبر "عاصفة الحزم"، تبَدَّلَ سُلَّم أولويات المملكة السعودية، وبدأ تركيزها ينصبُّ بشكل خاص على حدودها وعلى داخلها. فنجاح عملها العسكري في اليمن ظل بعد أشهر محدودًا، وبدء صعود محمد بن سلمان داخل كواليس السلطة تطلَّب إضعافًا لخصومه المحليين الكُثر. كما أن التدخل العسكري الروسي في سوريا لصالح الأسد من دون تصدٍّ أميركي له جعل الاستمرار السعودي في دعم المعارضين السوريين صعبًا. بهذا، انكفأت المملكة تدريجيًّا عن الجبهة السورية، وحوَّلت، ابتداء من العام 2016، بعض ضغطها على إيران إلى الداخل اللبناني حيث لا رئيس جمهورية انتُخب خلفًا لميشال سليمان(3)، وحيث المراوحة بدت انتظارًا لمآلات الصراعات الإقليمية. وفي سياق هذا الضغط، ألغت السعودية، في فبراير/شباط 2016، عقد تسليح فرنسي للجيش اللبناني كانت ستتكفل بتسديد قيمته البالغة 3 مليارات دولار، معتبرة أن ثمة خطرًا من ذهاب أسلحته إلى حزب الله. وأتبعت الرياض الإجراء المذكور بتصعيد جعلها تُصنِّف ودولُ مجلس التعاون الخليجي (باستثناء سلطنة عُمان) حزب الله "منظمةً إرهابية"، وتُبعد مع أبوظبي والمنامة عشرات اللبنانيين المقيمين فوق أراضيها(4).
السعودية: عقوبات وانكفاء مؤقت
كانت في مقابل سياسة العقوبات هذه التي اعتمدتها السعودية لبنانيًّا، بدا أن خياراتها الأُخرى انحسرت، وأن الدعم الذي كانت توفره لسعد الحريري و"تيار المستقبل" لم يعُد ضمن حساباتها. وقد انعكس الأمر على زعامة الحريري وعلى أداء مؤسساته الإعلامية والخدماتية(5)، وزاد من الصعوبات التي كان يواجهها أصلًا نتيجة مشاكل شركة "سعودي أوجيه" داخل المملكة(6) ونتيجة برودة علاقته بولي ولي العهد، الرجل الأقوى في النظام، محمد بن سلمان.
وظهرت نتائج ذلك في الاستحقاق الانتخابي المحلي في لبنان (انتخابات المجالس البلدية)، في مايو/أيار 2016، التي تراجع فيها الحريري سُنيًّا ولو أنه ظل الأقوى؛ إذ خسر في طرابلس -المدينة الثانية في البلاد- ضد لائحة دَعَمَها قائد قوى الأمن الداخلي الأسبق، أشرف ريفي، الخارج من "تيار المستقبل" والشاهر خطابًا حادًّا ضد حزب الله. كما واجه صعوبة في الفوز في العاصمة بيروت رغم تحالفه مع معظم الأطراف اللبنانيين(7).
في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2016، نجحت المساعي الفرنسية (برضى أميركي) بإقناع إيران بتسهيل انتخاب حليف حزب الله، ميشال عون، رئيسًا للجمهورية شرط تكليفه سعد الحريري برئاسة الحكومة. ولعب كل من عون والحريري دورًا مركزيًّا في الداخل اللبناني لتمرير الاستحقاق وتأمين نصاب الجلسة البرلمانية الخاصة بالانتخاب.
وما جعل الأمر ممكنًا بعد أكثر من عامين من الفراغ في الموقع الرئاسي كان اطمئنان إيران وحزب الله إلى موازين القوى الجديدة التي فرضها التدخل الروسي في سوريا، وتأكدهم من أن حليفهما عون لن يُعدِّل في وجهة التعامل مع الموضوع السوري ومع الحدود اللبنانية المفتوحة للحزب باتجاه دمشق. في المقابل، أراد الحريري تمرير الاستحقاق ليكون عرَّابه الأول محليًّا بما يُتيح له العودة النهائية إلى بيروت وترؤس الحكومة، ليُنظِّم تياره استعدادًا للانتخابات النيابية، وليطبِّع علاقته مع الرياض من موقعه الجديد(8).
وبالفعل، انتُخب عون، ثم جرى تكليف الحريري بتشكيل حكومة توافقية، وبدأ التفاوض عبرها على قانون انتخابات نيابية جديد(9)، من دون مراجعة وضع الحدود ومشاركة حزب لبناني ممثَّل في السلطتين التشريعية والتنفيذية في الحرب السورية.
واستمر الأمر على تجاذبات ومفاوضات وتجنب للصدامات بين القوى السياسية والطائفية اللبنانية الكبرى، إلى أن اتفق الأطراف المشاركون في الحكومة على قانون انتخاب جديد وعلى سلسلة إجراءات اقتصادية كرست الشراكة السياسية المستجدة بين الرئيسين عون والحريري.
رافق الحراك السياسي الداخلي تحرك خارجي لرئيس الجمهورية الذي توجه إلى الرياض، في 11 يناير/كانون الثاني 2017، (ثم إلى قطر في اليوم التالي) محاولًا استعادة الحيوية في العلاقات بالسعودية وبدول الخليج، والتوسط لوقف إبعاد لبنانيين منها ودعوة رعاياها إلى العودة إلى لبنان. وإذ نجحت زيارته بوقف التدهور في تلك العلاقات وفي الإجراءات الناجمة عن ذلك، إلا أنها لم تغيِّر في حيثيات الموقف السعودي من حزب الله المشارك في إدارة السلطة اللبنانية وسياساتها الخارجية.
بموازاة ذلك، لم ينجح سعد الحريري من موقعه كرئيس حكومة في ترميم علاقاته بالسعودية أو في لقاء الملك في الرياض رغم زياراته الخاصة إليها. كما لم ينجح في إيجاد حلول لشركة "أوجيه"، التي أعلنت رسميًّا، في آخر يوليو/تموز 2017، إفلاسها.
التصعيد السعودي والمبادرة الفرنسية
في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وبعد أيام من زيارة له إلى السعودية التقى خلالها عددًا من المسؤولين في المملكة، دُعي سعد الحريري من جديد إلى الرياض، ووُعد هذه المرة بلقاء الملك. ترافق الأمر مع دعوة الرياض للعديد من الأمراء ورجال الأعمال والمسؤولين السعوديين السابقين المقيمين في الخارج لزيارتها للقاء الملك أيضًا. ومع وصول هؤلاء، اعتقلتهم السلطات الأمنية مع آخرين مقيمين داخل المملكة ونقلتهم إلى فندق "ريتز" الذي تم إخلاؤه من النزلاء، ونقلت وسائل الإعلام عن مقربين من ابن سلمان اتهامات للمعتَقَلين بالفساد وهدر الأموال العامة. في الوقت نفسه، انقطعت أخبار الحريري عن مستشاريه، ليظهر على شاشة "العربية" في اليوم التالي، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، معلنًا استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، متوعدًا إيران بقطع ذراعها في المنطقة.
أثارت استقالة الحريري التليفزيونية ردود فعل لبنانية ودولية، أجمعت على اعتبارها قرارًا سعوديًّا بالتصعيد في وجه حزب الله وإيران في لبنان. وتسربت معلومات عن احتجاز الحريري في المملكة، ولَو من دون اعتقال. ورغم ظهوره في لقاء مع الملك سلمان، ثم تكليفه بجولة خليجية شملت الحليفين الإماراتي والبحريني، إلا أن تعذُّر التواصل لبنانيًّا معه ورفض رئيس الجمهورية لاستقالته، ثم انتقال الموقف الرسمي اللبناني من الإصرار على عودته إلى اتهام السعوديين باحتجازه ومطالبة "الدول الصديقة" بالتدخل لتحريره، بيَّن أن في المسألة التباسات عديدة وأن أزمة كبرى بين بيروت والرياض قد نشبت.
ويمكن القول: إن في ملابسات "استقالة" الحريري و"احتجازه" في الرياض عناصر عدة، بعضها سعودي داخلي وبعضها لبناني-إقليمي وبعضها الأخير يرتبط برهانات سعودية على سياسات جديدة للبيت الأبيض تجاه المنطقة.
فولي العهد السعودي الجديد(10) الذي قاد حملة الاعتقالات الداخلية واحتجز الحريري دافعًا إياه إلى الاستقالة(11)، اعتبر أن في جنسية الحريري السعودية ما يُتيح له التعامل معه بوصفه مواطنًا في المملكة لِشَركته السابقة مشاكل مع الدولة لا يكفي إعلان الإفلاس لِحلها. كما أن موقع الحريري في المعادلة اللبنانية كممثل للطائفة السنية في السلطة يسمح بوضعه في مواجهة ممثلي الطائفة الشيعية فيها، لاسيما حزب الله حليف إيران، رفعًا للغطاء الذي يوفره ترؤسه لحكومة شراكة معهم، ومنعًا لاعتبار الدولة اللبنانية حاميًا لهم في أي تصعيد مقبل في المنطقة. ويرتبط الأمر هنا تحديدًا بما كانت الرياض تتوقعه من تصعيد أميركي ضد إيران، وعد مستشار الرئيس ترامب، جاريد كوشنر، بالسير فيه خلال زيارة قام بها للمملكة في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017، بالتزامن مع تصاعد العمليات العسكرية في اليمن وإطلاق صواريخ بالستية منه وصل أحدها إلى مقربة من الرياض.
على أن باريس القلقة من احتمالات تدهور الأوضاع في لبنان والطامحة للعب أدوار شرق أوسطية في ظل التلكؤ الأميركي تجاه المنطقة، والساعية للبقاء على نفس المسافة من الأطراف الخليجية المتنازعة (السعودية والإمارات وقطر) من ناحية، وعلى تمتين علاقاتها الاقتصادية بالسعودية من دون المس باحتمالات تطورها المستقبلي مع إيران من ناحية ثانية، سارعت إلى التوسط في "أزمة الحريري" وإيجاد حل يحفظ ماء وجه جميع الفرقاء.
هكذا، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة خاطفة إلى الرياض، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، التقى خلالها بولي العهد السعودي وتحدث هاتفيًّا مع الحريري، كما قام باتصالات شملت الرئيسين اللبناني والمصري والمسؤولين الإماراتيين والإدارة الأميركية. وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أوفد وزير خارجيته جان-إيف لو دريان إلى الرياض ناقلًا دعوة للحريري وعائلته إلى فرنسا، موجدًا مخرجًا لائقًا للحريري وغير محرج للسعوديين. وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وصل الحريري وقسمٌ من عائلته إلى باريس؛ حيث استقبله الرئيس الفرنسي وعبَّر عن دعمه السياسي و"الشخصي" له. تبع ذلك عودة الحريري إلى بيروت في يوم "الاستقلال الوطني" في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، حيث أعلن عن تجميد استقالته و"مدِّ يده للحوار مع جميع الأطراف لتحييد لبنان عن صراعات المنطقة".
بذلك، نجحت فرنسا في وساطتها وأقنعت السعودية بمنح الحريري وقتًا لحوار داخلي لبناني(12).
الآثار السياسية "لأزمة الحريري" داخل لبنان
أحدثت الأزمة الحريرية صدمة لدى القوى السياسية اللبنانية. وبرزت في بيروت لأول مرة منذ سنوات مواقف متقاربة بين معظم الفرقاء، استنكرت ما اعتبرته "إهانة" للبنان و"احتجازًا" لرئيس حكومته.
وإذا كان حزب الله وحلفاؤه قادوا الحملة على سياسات السعودية، على نحو غير مفاجئ، فإن مواقف رئيس الجمهورية الإيجابية تجاه الحريري والتصعيدية في وجه الرياض متَّنَت التفاهم الذي يربط عون بالحريري. وكذلك فعلت مواقف رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، ومواقف النائب وليد جنبلاط وكتلته السياسية. في المقابل، بدا الارتباك واضحًا في مواقف وزراء ونواب "تيار المستقبل"؛ فمن جهة نفى البعض احتجاز الحريري في السعودية وحيَّوا مواقفه الحادة ضد حزب الله وإيران خلال استقالته المتلفزة، ومن جهة ثانية آثر البعض الآخر الصمت أو تأييد الدعوات لعودته والرجوع عن استقالته.
وفي الشارع، حظي الحريري بتعاطف شعبي من جمهور "المستقبل" ترجمه الاستقبال الذي حظي به عند وصوله إلى مقر إقامته في بيروت. وعوض التعاطف الداخلي هذا جزءًا من الخسارة السياسية "الخارجية" للحريري المتمثلة بشكل التعامل السعودي معه(13).
والارتباك الذي أصاب قيادة "المستقبل" أصاب أيضًا قيادة القوات اللبنانية وبعض الشخصيات السنية والمسيحية المستقلة المحسوبة على ما بقي من كيان "14 آذار" السياسي؛ ذلك أنها بدت جميعها مع خيار الاستقالة والتصعيد السعودي، وفترت علاقاتها بالحريري بعد عودته إلى لبنان وإلى رئاسة السلطة التنفيذية.
يبقى أنه بمعزل عن مواقف الأطراف السياسية والطائفية، بيَّن ما جرى مرة جديدة مدى هشاشة الطبقة السياسية اللبنانية وتركيبة أقطابها وشكل علاقاتهم بالقوى الإقليمية الراعية لهم (أو التي كانت ترعاهم)، رغم تمتع معظمهم بمشروعية شعبية في الداخل اللبناني بسبب شكل النظام الطائفي وزبائنيته وقدرته على إعادة إنتاج نفسه والمحافظة على نُخبه.
التجميد والانتظار مجددًا
ماذا يُستخلَص من الأحداث الأخيرة لبنانيًّا؟ وأية علاقة للبنان بالسعودية في المرحلة المقبلة؟
من الواضح أن ثمة تردِّيًا في العلاقات اللبنانية-السعودية على الصعيد الرسمي وعلى صعيد أكثرية القوى السياسية اللبنانية. ومن الواضح أيضًا أن السياسة الخارجية التي يعتمدها "النظام الجديد" في الرياض تجاه لبنان ترتبط حصرًا برغبته في مواجهة إيران المتمدد نفوذها في كامل المنطقة عبر مواجهة حليفها المحلي "حزب الله". ولما كانت المواجهة هذه متعذرةً من دون انفراط عقد الحُكم المشترَك بين الحزب والحريري في بيروت، ومن دون الرهان على تصعيد أميركي شامل ضد طهران في المنطقة، فإن السعوديين أرغموا الحريري على الاستقالة ورفعوا سقف خطابهم تجاه الإيرانيين كما وسَّعوا رقعة العمليات العسكرية في اليمن ردًّا على القصف الحوثي للمملكة الذي اتهموا طهران بالوقوف خلفه.
غير أن المبادرات الفرنسية جمًّدت التصعيد السعودي لبنانيًّا؛ فعاد الحريري إلى بيروت وحكومتها، وتأجلت كل صدامات محلية. أكثر من ذلك، لم تعد احتمالات المواجهات الانتخابية بين الحريري وحزب الله في الاستحقاق المقبل في مايو/أيار 2018 كبيرة؛ فالمناخ العام في لبنان اليوم أقرب إلى مناخ التسويات وإعادة تشكيل مجلس نيابي من دون تبدلات كبرى. وإن لم تحصل تطورات دراماتيكية على الجبهة الأميركية-الإسرائيلية-الإيرانية، وإن لم تحصل كذلك تحولات جذرية في الأوضاع السورية واليمنية، فإن تفاهمات انتخابية لبنانية تجمع على نحو مباشر أو غير مباشر (بمعنى تفادي الترشيحات المتجابِهة) مرشحين محسوبين على الرئيسين عون والحريري، ومن حولهما مرشحين محسوبين على حزب الله، مرجحة في أكثر من دائرة. يضاف إلى ذلك تحالفات بين حزب الله ومرشحي الرئيس نبيه بري في الدوائر الشيعية جنوبًا وبقاعًا.
وفي الشوف وعالية؛ حيث النفوذ السياسي لجنبلاط، تتواصل المشاورات لتفادي المجابهات الانتخابية من خلال استيعاب القوى المسيحية المختلفة في لوائح جنبلاط، وإن تعذر الأمر، تكون النسبية المعتمدة في النظام الانتخابي الجديد الفيصل بين المرشحين.
التصادم الانتخابي بهذا المعنى قد ينحسر في دوائر الصفاء أو شبه الصفاء الطائفي المسيحي والسني، (المتن وكسروان وجبيل والبترون والكورة وبشري أمثلةً، ومثلها طرابلس وعكار والبقاع الغربي)؛ ذلك أن التنافس بين القوات اللبنانية والتيار العوني وبعض القوى ذات الخصوصية الحزبية أو المناطقية مسيحيًّا، مثل سامي الجميل والكتائب، وسليمان فرنجية والمردة، أو بين تيار المستقبل وبعض الشخصيات المستقلة أو المنشقة عنه أو المعارِضة له سنيًّا (من دون أن تكون على تنسيق فيما بينها)، مثل نجيب ميقاتي وأشرف ريفي والجماعة الإسلامية في الشمال وعبد الرحيم مراد في البقاع الغربي وفؤاد المخزومي في بيروت، هذا التنافس، قد يكون الأبرز في الاستحقاق المقبل.
أما القوى المرشحة من خارج دوائر السلطة بتركيباتها المختلفة، فمن الممكن أن تُحدث بعض الخروقات مستفيدةً من التصويت وفق المبدأ النسبي، ولو أن اختراقاتها ستبقى رمزية.
من جهتها، تنتظر السعودية تحول وعود التصعيد الأميركي ضد إيران إلى سياسات ميدانية. فمن دون ذلك، لن يكون لأي تغيير تريده الرياض أملٌ كبير، خاصة وأنها تخوض معارك على جبهات متعددة فتحتها دفعة واحدة وعلى نحو فيه الكثير من "المغامرة" والحسابات غير الدقيقة(14).
الانتظار هو إذًا سمة المرحلة لبنانيًّا وسعوديًّا: انتظار الانتخابات النيابية ونتائجها، وانتظار السياسة الأميركية الجديدة وتداعياتها. وفي سياق هذا الانتظار، تبرز من جديد خشية لبنانية من تأزم اقتصادي مالي بسبب استمرار تراجع الاستثمارات وواردات الخزينة وتردي الخدمات وانحسار السياحة. كما يبقى وضع الجاليات اللبنانية في السعودية (والإمارات والبحرين) معلَّقًا ينتظر بدوره جلاء الأمور في المقبل من الأشهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د.زياد ماجد- أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس
(1) أسقط حزب الله وقتذاك حكومة فؤاد السنيورة بعد اجتياحه بيروت عسكريًّا.
(2) نَصَّ الاتفاق الذي تبع أحداث مايو/أيار 2008 على إعادة تشكيل المؤسسات السياسية اللبنانية عبر إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وتأليف حكومة جديدة يتعهد الجميع بعدم إسقاط نصابها السياسي-الطائفي في حالات الخلاف داخلها.
(3)عطَّل حزب الله وحلفاؤه البرلمانَ اللبناني؛ إذ تمنَّعوا عن حضور الجلسات الانتخابية حاجبين عنها النصاب القانوني، فتعذر انتخاب رئيس جمهورية جديد. ويمكن تفسير الأمر بتفضيل الحزب فراغًا في موقع الرئاسة يُتيح له الاستمرار في فرض السياسة الخارجية للبنان من خارج المؤسسات الدستورية، وأبرزها مؤسسة الرئاسة المعطلة.
(4) سبق ذلك حظر سفر المواطنين الخليجيين إلى لبنان ردًّا على حملات حزب الله الإعلامية ضد الرياض.
(5) عجزت هذه المؤسسات عن تسديد الرواتب لمعظم موظفيها على نحو منتظم، وسرَّح بعضها عددًا من العاملين فيه لأسباب مالية.
(6) عانت "أوجيه" من مشاكل عدة، أبرزها عدم دفع الدولة السعودية مستحقات للشركة منذ سنوات مما أدى إلى توقفها عن تسديد الرواتب والمخصصات لأكثرية موظفيها والمتعاقدين معها، فرفع بعض هؤلاء -لاسيما الفرنسيون منهم- دعاوى قضائية ضدها.
(7) يجدر التذكير هنا في أن الحريري أمضى معظم الفترة الممتدة من يناير/كانون الثاني 2011 (تاريخ إسقاط حكومته) وأبريل/نيسان 2016 خارج لبنان، مما أسهم في إضعاف تواصله مع كوادر تياره ومع جمهور هذا التيار.
(8) يُنظَر: ماجد، زياد، العلاقات اللبنانية-الخليجية: من التأزم إلى الترقب والانتظار، مركز الجزيرة للدراسات، 17 مارس/آذار 2017، (تاريخ الدخول: 4 فبراير/شباط 2014): http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/03/170329111031445.html
(9) أدى انعدام اتفاق القوى السياسية على قانون انتخابات نيابية جديد إلى تأجيل الانتخابات مرارًا وتمديد المجلس النيابي لنفسه بعد انتهاء ولايته العام 2014.
(10) جرى تعيين الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة بعد إقصاء ولي العهد السابق، محمد بن نايف، عن منصبه.
(11) ذكرت جميع التقارير الصحفية الفرنسية والبريطانية والأميركية أن ابن سلمان هو من قاد الحملة على الأمراء وعلى الحريري (يمكن في هذا الصدد مراجعة ما نُشر في شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2017 في جريدتَي لوموند وليبراسيون وفي الغارديان والإندبندنت ووكالة رويترز، كما في النيويوركر ونيويورك تايمز والواشنطن بوست التي أفردت مساحات واسعة لتغطية الموضوع).
(12) أعلنت باريس في الوقت نفسه معارضتها للسياسة الإيرانية في الشرق الأوسط ولتدخل حزب الله في سوريا مشدِّدة على ضرورة الحوار مع طهران واحترام الاتفاق النووي معها ورفض تجاربها البالستية. وتُعد المواقف الفرنسية هذه محاولة توفيقية لإيجاد توازنات في ساحة تشهد مواقف أميركية وسعودية وإيرانية وإسرائيلية تصعيدية.
(13) تلاشت مع عودة الحريري إلى بيروت الشائعات التي كانت تتحدث عن تحضيرات لظهور شقيقه بهاء بوصفه الممثل الجديد للحريرية القادر على إعادة الاعتبار لزعامتها السنية ومواجهة حزب الله في لبنان.
(14) فتحت الرياض جبهات سياسية عدة ضد قطر وتركيا (ولبنان)، وواصلت حربها في اليمن إضافة إلى استمرار تدخلها مصريًّا دعمًا لحُكم عبد الفتاح السيسي.