عملية عاصفة السلام في ليبيا: الوقائع والتوقعات

يتسم الوضع بليبيا بالتصعيد بين قوات حكومة الوفاق وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورغبة كل طرف في الحسم العسكري وعدم وجود توقيت لجولة سياسية جديدة. مشهد جديد في ليبيا لم تُكتب بعدُ كل تفاصيله؛ فإلى أي حد يمكن أن تسهم المكاسب العسكرية لقوات الوفاق في تغيير موازين السيطرة في ليبيا؟
(الجزيرة)
أعلن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج في السادس والعشرين من مارس/آذار 2020، (الجزيرة)

بعد مرور عام على الحملة العسكرية التي شنَّها اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، لاجتياح العاصمة طرابلس وبالتحديد في الرابع من أبريل/نيسان 2019، وما صحبه من تصعيد مدعومًا من حلفائه في الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا، بحسب تقارير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، وذكرته أيضًا صحيفة فورين بوليسي الأميركية(1)، ومع دعم مادي سعودي، حسبما نقلت صحيفة وول ستريت جورنال في تقرير لها(2)، ومباركة أميركية، حسب ما كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أن مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، كان قد منح اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، إذنًا لشن هجوم على العاصمة طرابلس في ربيع 2019(3)، ومع فشل الحملة العسكرية وما تبعه من محطات سياسية محدودة شهد الوضع الميداني جمودًا كبيرًا إلا ما قلَّ، ولعل آخر تطورات عسكرية شهدتها المنطقة الغربية خلال الأشهر الماضية -قبيل سيطرة قوات الوفاق على مدن الساحل الغربي- هي سيطرتها (قوات الوفاق) في أواخر يونيو/حزيران من العام الماضي (2019) على مدينة غريان الاستراتيجية، والتي تبعد 80 كلم جنوب طرابلس وسيطرة قوات حفتر مطلع العام الحالي على مدينة سرت وسط ليبيا.

وكانت فاتورة الحرب على طرابلس كبيرة على جميع الأصعدة بحسب تقرير بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا؛ حيث وثقت البعثة وقوع ما لا يقل عن 685 ضحية بين المدنيين (356 قتيلًا و329 جريحًا)، فيما اضطر حوالي 150 ألف شخص داخل طرابلس وما حولها إلى الفرار من منازلهم منذ بداية الهجوم، ولا يزال ما يربو على 345 ألف مدني في مناطق المواجهة بالإضافة إلى 749 ألف شخص يُقدَّر أنهم يعيشون في مناطق متضررة من الاشتباكات.

وتشير التقديرات إلى أن حوالي 893 ألف شخص في حاجة إلى المساعدة الإنسانية. كذلك وثقت انتهاكات لحقوق الإنسان وإخفاء قسري لمئات الأشخاص في جميع المدن الليبية مع تدهور للوضع الاقتصادي؛ حيث بلغت الديون حوالي 270 مليار دولار بين ديون محلية والتزامات تعاقدية مستحقة فيما بلغت خسائر إغلاق النفط أكثر من 4 مليارات دولار. هذا غير تأثر النسيج الاجتماعي جرَّاء الحرب الدائرة(4).

"عاصفة السلام".. عملية لها ما بعدها

كان الإعلان عن عملية "عاصفة السلام" التي أطلقها رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج، قد سبقته تطورات سياسية عدة تمثلت في توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين رئيس المجلس الرئاسي، فائز السراج، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والتي صادق عليها البرلمان التركي ودخلت حيز التنفيذ أواخر العام الماضي. كما سبق ذلك الهدنة التي أُعلن عنها في موسكو، منتصف يناير/كانون الثاني 2020، والتي رفض اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، التوقيع عليها، ووعد بالالتزام بها ضمنيًّا؛ وهو ما وضع موسكو في موقف حرج. ثم تبع ذلك اتفاق برلين أواخر يناير/كانون الثاني من هذه السنة، والذي تضمن ثلاثة مسارات سياسية وأمنية واقتصادية، ودعا في مجمله لوقف إطلاق النار والعودة للعملية السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة. وقد تعذر العمل به على المستويات الثلاث، ولعل هذا الاتفاق كان آخر الأوراق التي استخدمها المبعوث الأممي، غسان سلامة، طيلة السنوات الثلاثة الماضية، وهو ما دفعه للاستقالة مستهل مارس/آذار الماضي "لأسباب صحية" حسب طلب الاستقالة الذي تقدم به للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش.

رغم الخلافات في معسكر الوفاق الوطني، ففي السادس والعشرين من مارس/آذار 2020، أعلن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج، إطلاق عملية عسكرية كردٍّ على الانتهاكات المستمرة ضد المدنيين جرَّاء تصعيد قوات حفتر للقصف العشوائي لأحياء عدة في طرابلس، وكالتزام من حكومة الوفاق أمام الشعب بوجوب ردع المعتدي. هذا أبرز ما ذكره رئيس المجلس الرئاسي، فائز السراج، عند إطلاق العملية التي لم يحدد وقتها ولا طبيعتها، كما لم يصرح بأولى خطواتها، بل ظلت في طيِّ المجهول(5) حتى قبل يوم من سقوط مدن الساحل الغربي بيد قوات الوفاق بعد أن نفذت ست عشرة غارة جوية على قوات حفتر بمناطق في الساحل الغربي وقاعدة الوطية الجوية(6).

اللاعبون في الداخل.. الأجندات المتصارعة

خلال الفترة الأخيرة، وفي يوم إطلاق عملية عاصفة السلام، حاولت قوات حفتر التوسع غربًا لبسط نفوذها على كامل الساحل الغربي عبر السيطرة على مدينة زوارة الأمازيغية، وعلى معبر رأس جدير الحدودي مع تونس بعد سيطرتها على مدن العجيلات وزلطن ورقدالين، آخر المدن الليبية باتجاه الغرب، ولكن القوات التابعة لمدينة زوارة قامت بصد الهجوم وهو ما هدَّد بجعل المدينة والمعبر في عزلة عن حكومة الوفاق الوطني وكاد يُسقط معبر رأس جدير الحدودي مع تونس بيد قوات حفتر. وكانت قوات حفتر قد حشدت لاقتحام المنطقة والقضاء على آخر جيوب قوات الوفاق على الطريق الساحلي حتى الحدود الإدارية لمدينة الزاوية، وهو ما عجَّل بتحرك قوات الوفاق وإعلانها ساعة الصفر للسيطرة على هذه المدن، حسب ما صرَّح به اللواء أسامة جويلي آمر غرفة العمليات المشتركة.

رغم الخلافات داخل معسكر الوفاق والانتقادات التي وُجِّهت لرئيس المجلس الرئاسي، فائز السراج، من بعض المشككين في قدرته على إدارة المعركة وتأخره في اتخاذ قرارات حاسمة وتقصيره في توفير الدعم اللازم لمقاتلي الوفاق وبعض الدعوات التي طالبت بحل المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة حرب وما صحب ذلك من اختلافات بين السراج وبعض وزراء حكومته والأزمة التي صاحبت أزمة كورونا حول المطالبات بإقالة وزير الصحة ووكيله، وهو ما هدَّد به علنًا عمداء خمس وعشرين بلدية مجتمعين وأمهلوا السراج ثلاثة أيام للموافقة على مطالبهم أو إيقاف تعاملهم مع الرئاسي، وهو ما تمت معالجته بالفعل، وكذلك الخلاف بين السراج ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، والذي اتهمه بالتدخل في السياسات الاقتصادية للبلاد وعرقلة المتطلبات المالية وهو ما فاقم الوضع الاقتصادي، حسب وصف رئيس مجلس الرئاسي، وهو ما مثَّل تحديًا أمام السراج من أجل المضي قدمًا لتقديم انتصار جديد يحقق مكسبًا سياسيًّا على الجبهة الداخلية ويضع حدًّا للمشككين في تعامل الرئيس مع إدارته للمعركة.

في الثامن من أبريل/نيسان 2020، وبمناسبة مرور عام على الحرب التي أطلقها خليفة حفتر لاجتياح العاصمة، طرابلس، ظهر رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج، في خطاب مختلف عمَّا سبق مستفتحًا بعدم مزايدة أحد عليه في الوطنية أو الالتزام بمتطلبات المرحلة، ومستغربًا من الحملات التي تُشن ضده خصوصًا مع إطلاق عملية عسكرية جديدة أو تحقيق انتصار جديد، ومفنِّدًا كل ما يشاع حول عدم التحام القيادة السياسية بالقيادة العسكرية داخل الوفاق، ومبينًا أن هذا  الشيء سيسهم في إضعاف الجبهة الداخلية واصفًا هذه الظواهر بالصوتية والتي تخدم أجندات تسعى للتشكيك في القيادة السياسية.

كما أوضح السراج أن القيادة السياسية لم ولن تقصر في توفير الاحتياجات للمقاتلين في الجبهات وأن هذا من صميم عملها. وقد أوضح أن السبب الرئيس للأزمة في ليبيا هو خليفة حفتر كونه من أشعل الحروب وأوقف تصدير النفط وأفشل العملية السياسية، وهو الذي لم يستجب لكل دعوات الهدنة التي أطلقها العالم واصفًا إياه بـ"الأحمق المعتدي"(7).

كان الاتحاد الأوروبي أعلن نهاية مارس/آذار 2020، وبعد يومين من إطلاق عملية عاصفة السلام، إطلاق عملية بحرية بهدف مراقبة تنفيذ قرار الأمم المتحدة حظر توريد السلاح لليبيا، ضمن إطار سياسة الأمن والدفاع سُميت بعملية "إيريني"، التي تعني "سلام" باليونانية(8).

من جانبه، أعلن رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا، فائز السراج، عن تحفظ حكومة الوفاق على عملية "إيريني" التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لمنع توريد الأسلحة إلى أطراف النزاع في ليبيا، نظرًا لأنها تجاهلت مسألة الرقابة على تسليح قوات اللواء المتقاعد، حفتر، الذي ما زالت قواته تتلقى الأسلحة عبر البر والجو، كما شكَّك وكيل وزارة الدفاع بحكومة الوفاق الوطني، صلاح الدين النمروش، بخلفية إطلاق هذه العملية في هذا التوقيت.

وقال السراج في حديث لوكالة "سبوتنيك" مبينًا موقف حكومة الوفاق من عملية "إيريني": بالفعل لدينا تحفظ على شكل العملية لعدم تضمين المراقبة الجوية والبرية ضمن قرار الاتحاد الأوروبي، وتجاهل الرقابة على عمليات تسليح الطرف المعتدي الذي يستلم إلى الآن، وعلى نحو منتظم، شحنات أسلحة عبر طائرات تحط في قاعدة الخادم قرب مدينة المرج شرق البلاد، إضافة إلى الحدود البرية مع مصر(9).

 من تقدم حفتر إلى طرابلس إلى معركة الساعات السبعة أو "سقوط الدومينو"

منذ سيطرته على مدينة سرت الاستراتيجية مطلع العام الجاري وتقدمه نحو أبوقرين القريبة من مصراتة، حاول حفتر فتح جبهة جديدة غرب مدينة سرت من أجل إجبار المقاتلين من مدينة مصراتة الموجودين في جبهات طرابلس على الانسحاب نحو مدينتهم لتخفيف الضغط على مقاتليه في محاور جنوب طرابلس، وسعيًا منه لتحقيق مكاسب أكبر، وهو ما فشل في تحقيقه. ولعل العملية الأبرز التي فشل فيها حفتر كانت في منطقة أبوقرين والتي كانت قبل يوم من سيطرة قوات الوفاق على مدن الساحل الغربي وألقى فيها حفتر بكامل ثقله من أجل تحقيق تقدم، ولكن ما حصل مختلف تمامًا؛ حيث قامت قوات الوفاق مدعومة بالطيران بصد الهجوم مخلِّفة عشرات القتلى والأسرى في صفوف قوات حفتر إضافة لاستحواذها على أسلحة وذخائر وأسقطت قوات الوفاق طائرة عمودية نوع "mi 35" وقُتل طياروها الثلاثة كما قُتل من صفوف قوات الوفاق قرابة العشرين(10).

كما تشهد محاور جنوبي وجنوبي شرق طرابلس اشتباكات متقطعة بين الحين والآخر مع مد وجزر بين الطرفين خصوصًا في محوري عين زارة ومشروع الهضبة خصوصًا مع إعلان قوات الوفاق التوجه للسيطرة على مدينة ترهونة كونها خط الإمداد الرئيس لقوات حفتر في معركتها في طرابلس.

وتلعب قوات الوفاق البرية، وخاصة المدفعية، الدور الأبرز في المعركة بعد لجوء الطرفين للتشويش على الطائرات المسيرة، مما يصعِّب استخدامها في المعارك حول مدينة طرابلس.

وبينما ألقت قوات حفتر بكامل ثقلها في الهجوم على الأحياء الجنوبية للعاصمة، تركت مدن الساحل من دون تحصينات كافية ولا خطة دفاعية فعالة لصد أي هجوم، فهي تقوم بإطلاق الصواريخ والقذائف نحو وسط مدينة طرابلس، وهو ما لم يتوقف منذ فترة وبشكل يومي. ولعل أبرز الأماكن المستهدفة مطار معيتيقة ومنطقة شرفة الملاحة القريبة من المطار ومستشفى الخضراء والذي يعالج فيه المصابون بوباء كورونا وغيرها من الأماكن مما تسبَّب في العديد من القتلى والجرحى من المدنيين وهو السبب الرئيس لإعلان رئيس المجلس الرئاسي، فائز السراج، إطلاق عملية عاصفة السلام العسكرية أواخر مارس/آذار 2020.

لم يتم الإعلان عن التحرك نحو مدن الساحل الغربي حتى صباح يوم العملية حيث جاء التحرك بداية من مدينة الزاوية متجهًا نحو منطقة المطرد ثم مدينة صرمان. وحصلت اشتباكات محدودة انسحبت على إثرها قوات حفتر نحو مدينة صبراتة ثم العجيلات ثم رقدالين والجميل ثم زلطن ثم توجهت نحو قاعدة الوطية الجوية.

واستغرقت العملية بشكل كامل حوالي سبع ساعات، بحسب وكيل وزارة الدفاع بحكومة الوفاق الوطني صلاح الدين النمروش، مؤكدًا أن العملية تم التخطيط لها في وقت سابق بين القيادات السياسية والعسكرية وغرفة العمليات. وأكد النمروش أن مما أسهم في سقوط المدن بهذه السرعة ترحيب المواطنين الموجودين في هذه المدن بقوات الوفاق وهو ما ترتب عليه انسحاب قوات حفتر بشكل جماعي نحو قاعدة الوطية وانسحاب جزء آخر منهم نحو مدن في الجبل الغربي. وقد تم العثور على أسلحة وذخائر حديثة الصنع وهو ما يدل على أن هذه الأسلحة تم استجلابها خلال الفترة الأخيرة وهو ما يثبت تورط دول بعينها في تزويد حفتر بالسلاح(11).

وقد أصدر رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج، أوامره لوزارة الخارجية بالتنسيق في إعادة جثامين المرتزقة لدولهم مع أوراقهم الثبوتية متهمًا مَنْ أسماها بعواصم الغدر التي دعمت حفتر من أجل فرض إرادتهم على الشعب الليبي، حسب وصفه(12).

وفي نفس الوقت، أعطت الداخلية تعليماتها بانتشار الوحدات في كافة مناطق الساحل مع تفعيل مديريات الأمن ومراكز الشرطة وتسيير الدوريات بما يحقق الأمن ويطبق القانون ويؤكد أن الفراغ الأمني لن يكون موجودًا(13).

المجتمع الدولي والحسابات الجديدة

لعل من أبرز أسباب سقوط هذه المدن بيد الوفاق بهذه السرعة هي العقيدة القتالية لقوات حفتر كونها خليطًا يجمع قوات ليبية مع مرتزقة أجانب، ولكل ولاءته الخاصة وغير المنسجمة فيما بينها، إضافة إلى العامل الحاسم وهو انقلاب المعادلة في الأجواء بعد توقيع الاتفاقية مع تركيا، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019؛ حيث استطاعت حكومة الوفاق أن تعيد ترتيب صفوفها(14). وهذا التحول قد يعيد حسابات المجتمع الدولي وقد يعيد حسابات الدول التي تدعم حفتر وهي الآن أمام مفترق طرق إما الاستمرار في الرهان الخاطئ وإما تغيير الموقف.

كما أن من أسباب انتصار قوات الوفاق وجود مدن قوية بالقرب من هذه المدن مناهضة لقوات حفتر كالزاوية وزوارة، كونها كانت مؤثرة عليها عسكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، فضلًا عن وجود حليف قوي شجَّع الحكومة على اتخاذ قرارات أكثر جرأة لشعورها بالثقة في حليفها إضافة إلى قدرات عسكرية أكبر بتقنيات عالية.

وكان من نقاط قوة حكومة الوفاق أنها استطاعت الحصول على زمام المبادرة والانتقال من وضع دفاعي إلى وضع هجومي مع توحيد القوات المساندة وترك الخلافات جانبًا.

وهذه الواقع الميداني الجديد هو ما جعل بعض الدول تنظر في إعادة موقفها مع حكومة الوفاق بعد إثبات قدراتها الميدانية والسياسية نتيجة تحالفها الاستراتيجي مع تركيا الذي خلق توازنًا سياسيًّا وعسكريًّا.

ولعل أبرز نتيجة لهذا التطور الميداني والعسكري هي عدم وجود حل سياسي للأزمة في ليبيا وكون الحل العسكري بات مسيطرًا على الكل؛ لقناعة حكومة الوفاق بأن اللواء المتقاعد، حفتر، وحلفاءه لا يمكن الثقة بهم لكونهم يريدون السيطرة التامة على ليبيا وأن حكومة الوفاق ستستمر حتى تسيطر على كل التراب الليبي.

إن سيطرة قوات الوفاق على مدن الساحل الغربي وما قد يتبعه من سيطرة على قاعدة الوطية ستُحدث تغيرًا في موازين القوى لصالح حكومة الوفاق، ومعها ربما ينتهي تهديد حفتر للعاصمة طرابلس من الجانب الغربي. كما أن هذا الوضع سيحرم قوات حفتر من خط إمداد رئيسي عبر مدن الجبل الغربي إلى المحاور جنوب غرب طرابلس كذلك توفير قوات الوفاق المزيد من المقاتلين للدفع بهم في محاور جنوب طرابلس وللسيطرة على ترهونة.

ومن الواضح أن تغيير موازين القوى العسكرية في ليبيا لصالح حكومة الوفاق الوطني إنما كان بسبب التدخل التركي جنبًا إلى جنب حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا، ولا سيما إدخال جيل جديد من الطائرات بدون طيار وبتكنولوجيا أكثر كفاءة. فهذه الطائرات بدون طيار تركية الصنع فضلًا عن أنظمة الدفاع المضادة للطائرات التي ركَّبتها أنقرة في طرابلس، أصبح لها تأثير على منع الطيران الإماراتي من الوصول إلى طرابلس أو مصراتة، بعد أن كان الإماراتيون يسيطرون على السماء في خدمة حفتر(15).

ولعل وضعية قاعدة الوطية في هذه المعركة تستحق وقفة خاصة، فهي تقع على بعد 140 كم جنوب غرب طرابلس، ومساحتها تقدر بخمسين كلم مربع وتتسع لـ7000 مقاتل، وقد أنشأها الأميركان في أربعينات القرن الماضي كما كانت قاعدة لسرب الميراج الفرنسية، وتحتوي على مخازن أسلحة ومحطة وقود ومهبط للطيران وبها مدينة سكنية(16).

ومن الملاحظ أن هذه القاعدة تم تحييدها منذ 25 مارس/آذار 2020 قبل يوم من إعلان عاصفة السلام، كما نفَّذت قوات الوفاق عملية نوعية بها تم من خلالها أسر 27 من عناصر قوات حفتر. وقد تلت ذلك سلسلة متواصلة من غارات طيران الوفاق عليها، مما شلَّ حركتها خاصة بعد تدمير طائرات سوخوي 22 روسية الصنع، وإسقاط طائرة مسيَّرة جنوب مدينة العجيلات غرب طرابلس، مما جعل الشريط الساحلي غرب طرابلس، على طول 170 كلم وعمق أكثر من 30 كلم، بمساحة تناهز خمسة آلاف كيلو متر مربع محرمًا على طيران حفتر، وهو ما أفقده نقطة السيطرة في المعركة(17).

ولعل عزل قاعدة الوطية كان سببًا في هزيمة قوات حفتر غرب طرابلس والخارجة عن سيطرة حكومات طرابلس منذ سنة 2014، وقد تعيد قوات الوفاق اقتحامها أو حصارها، مما يحرم أنصار حفتر في منطقة الجبل الغربي من غرفة عملياتهم الرئيسية، ويعمِّق من عزلتهم وكذلك ستظل هذه القاعدة مصدر خطر لقوات الوفاق في حال شن هجوم مضاد من قوات حفتر باتجاه مدن الساحل الغربي.

وأخيرا: إلى أين تتجه الأمور؟

بعد السيطرة على مدن الساحل الغربي، أطلقت قوات حكومة الوفاق الوطني عملية عسكرية للسيطرة على مدينة ترهونة، المعقل الرئيس لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر غرب ليبيا، وقد وصلت إلى منطقة الشريدات في محيط ترهونة وسيطرت على مناطق بمشارف المدينة واستولت على معسكرات وسيارات مسلحة وذخائر وأسرت أكثر من مئة عنصر من قوات حفتر كما نفَّذت أكثر من 17 غارة جوية وغنمت آليات ومدرعات ودبابات(18).

وتأتي هذه الخطوة ضمن عملية "عاصفة السلام" التي أطلقتها مؤخرًا حكومة الوفاق، للسيطرة على المدن والمناطق الخاضعة لحفتر. وتعد مدينة ترهونة منطلق الهجمات على طرابلس، وفيها خزان بشري داعم لحفتر، كما أنها خط إمداد حيوي لقواته؛ حيث تأتي إليها الأسلحة والعتاد من قاعدة الجفرة وسط ليبيا. وفي حال سيطرة قوات الوفاق على مدينة ترهونة فسيكون ذلك تقدمًا نوعيًّا لقوات حكومة الوفاق بعد استعادتها الساحل الغربي مؤخرًا.

ولعلنا لا نبتعد عن الصواب إن قلنا: إن ما تقوم به قوات الوفاق حول ترهونة هو انتقال إلى المرحلة الثانية من خطتهم بعد سيطرتهم على الساحل الغربي.

ورغم المراوحة والتصعيد بين الطرفين واستمرار المعارك ورغبة كل طرف في الحسم العسكري وعدم وجود توقيت لجولة سياسية جديدة؛ فهناك مشهد جديد في ليبيا لم تُكتب بعد كل تفاصيله ما يفتح الباب أمام التساؤل الأبرز: إلى أي حد يمكن أن تسهم المكاسب العسكرية لقوات الوفاق في تغيير موازين السيطرة في ليبيا؟

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) انظر: فورين بوليسي: في ليبيا فتِّش عن الإمارات.. وهذه قصة دعمها لحفتر، القدس العربي، 23 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/3aJtxqg

(2) انظر: وول ستريت جورنال: السعودية تمول هجوم حفتر على طرابلس، موقع قناة الجزيرة، 12 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/3cKEcSP

(3) صحيفة أميركية: بولتون أعطى حفتر إذنًا لمهاجمة طرابلس في 2019، وكالة الأناضول، 19 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/3eRJ7Dm

(4) موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، 4 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/3bCIRG9

(5) كلمة رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج يوم 26 مارس على صفحة المجلس الرئاسي على فيسبوك، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://www.facebook.com/GNAMedia/

(6) حسب ما ذكره الناطق الرسمي باسم قوات الوفاق، محمد قنونو، نشرته صفحة بركان الغضب على فيسبوك يوم 12 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/2yO8e9p

(7) كلمة رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج يوم 8 أبريل على صفحة المجلس الرئاسي على فيسبوك، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://www.facebook.com/GNAMedia/

(8) الإعلان عن العملية يوم 31 مارس خلال مؤتمر صحفي، موقع قناة الجزيرة، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/2KAFUKw

(9) تصريح رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج لوكالة سبوتنيك الروسية، 6 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/2VBtoR4

(10) الإيجاز الصحفي للناطق باسم قوات الوفاق محمد قنونو يوم 12 أبريل عبر صفحة عملية بركان الغضب على فيسبوك، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://www.facebook.com/GNAMedia/

(11) لقاء وكيل وزارة الدفاع بحكومة الوفاق الوطني، صلاح الدين النمروش، مع المركز الإعلامي لعملية بركان الغضب يوم 16 أبريل، نُشر عبر صفحة عملية بركان الغضب على فيسبوك، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/2yO8e9p

(12) المؤتمر الصحفي المشترك بين رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج وأمراء المناطق العسكرية يوم 13 أبريل عبر صفحة المجلس على فيسبوك، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://www.facebook.com/GNAMedia/

(13) تصريحات وزير الداخلية، فتحي باشاغا، صفحة وزارة الداخلية على فيسبوك، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/3aDY0pw

(14) مشاركة الدكتور عبد الحميد صيام الخبير في شؤون الأمم المتحدة عبر برنامج ما وراء الخبر في موقع الجزيرة نت، 20 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 22 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/352RYxA

(15) "لوموند": الدرون التركية تغيِّر الموازين العسكرية في ليبيا، وكالة الأناضول للأنباء، 22 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 23 أبريل/نيسان 2020):

https://bit.ly/2VWP9Ki

(16) عملية بركان الغضب على فيسبوك، 18 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 19 أبريل/نيسان 2020):

https://www.facebook.com/GNAMedia/

(17) الناطق الرسمي باسم قوات حكومة الوفاق، محمد قنونو، خلال المؤتمر الصحفي، 12 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 20 أبريل/نيسان 2020):

https://www.facebook.com/GNAMedia/

(18) الناطق الرسمي باسم قوات حكومة الوفاق، محمد قنونو، خلال مؤتمر صحفي، 17 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 21 أبريل/نيسان 2020):

https://www.facebook.com/GNAMedia/