فرنسا والتنافس الدولي في منطقة الساحل

يتميز التنافس الدولي في إفريقيا بإعادة تموقع للوجود والنفوذ الفرنسيين، وترسيخ للنفوذ الاقتصادي للصين، وبداية عودة النفوذ الروسي. وهذا التنافس متكامل، لأن القوى المنخرطة فيه لا تقدم الأشياء نفسها، فلكل نفوذ قيمته المضافة إن أحسنت البلدان الإفريقية توظيفها بشكل عقلاني خدمة لمصالحها.
الانسحاب الفرنسي سيزيد من احتدام التنافس في المنطقة وروسيا العائدة تتنافس فرنسا في منطقة نفوذها التقليدية (الفرنسية)

تشهد منطقة الساحل عدم استقرار مرتفع الحدة بسبب التفاعل بين عامل بنيوي يتمثل في تأرجح كل دولها بين نماذج مختلفة لترهل الدولة وعطلها، وبين عامل طارئ يتمثل في تنامي التهديدات غير الدولتية الناجمة عن نشاط فواعل لادولتية (سياسية وإرهابية وإجرامية). يتخذ العامل الأخير تدريجياً طابعاً بنيوياً نظراً لاستفحال هذه الفواعل في المنطقة، وعجز الدول على الحد من نشاطها، وتسوية المشاكل السياسية والاجتماعية لحرمانها من التربة الخصبة التي تنمو فيها. وبما أن كل دول المنطقة ضعيفة، فإن محاولاتها التعاون إقليمياً، كما هو الحال مع مجموعة "الساحل-5" غير فعالة، فكان أن أصبحت المنطقة مسرحاً للتدخل الأجنبي وللتنافس الإقليمي والدولي(1). وتتنافس اليوم ثلاث قوى كبرى في المنطقة: قوة تقليدية (فرنسا)، وقوة ناشئة (الصين) كقوة عالمية(2)، وقوة عائدة (روسيا)، وهو ما قد ينذر بحرب باردة من نوع آخر مع القوى الغربية(3).

تحاول هذه المساهمة فهم السياق الأمني المضطرب في المنطقة الساحلية والتنافس الدولي في سياق إعلان فرنسا سحب قواتها من مالي، موضحة مخاطر هذا الانسحاب وقوة ومحدودية النفوذ الصيني والروسي في القارة.

مالي الحلقة الأضعف

تعد مالي الحلقة الأضعف في المشهد الدولتي المترهل في الإقليم الساحلي، وذلك لعدة أسباب:

  • أولها، قدم وحجم الحركة التمردية والانفصالية في إقليم الأزواد شمالي البلاد، وعجز الحكومات المالية المتعاقبة على تسوية هذه المشكلة السياسية. ويعود بنا هذا التمرد، كنتاج وتعبير عن الدولة الرخوة والفاشلة، إلى نقطة البداية: فشل بناء دولة ما بعد الاستقلال.
  • ثانيها، اختراق الجماعات الإرهابية لهذا الإقليم والتغذي من صراعاته وتغذيتها، إلى درجة أنه أصبح من الصعوبة بمكان أحياناً فصل العنصر السياسي الأزوادي الذي يحمل مطالب سياسية شرعية؛ عن العنصر الإرهابي، سواء كان أزوادياً أو دخيلاً عن المنطقة، والذي تقتضي محاربته، فأصبح فصل بُرّها عن زؤانها معقداً بسبب التداخل بينها، فضلا عن التداخل بين الإرهاب المحلي والإرهاب المستورد.
  • ثالثها، تنامي المصالح المتبادلة بين الحركات الإرهابية والجريمة المنظمة -كما هو الحال في كل المنطقة- وتورط بعض المسؤولين المحليين بدول الساحل في الجريمة المنظمة.
  • رابعها، تشكل نوع مركب من المصالح بين الحركات الإرهابية والإجرامية وقطاعات من السكان، لاسيما في المناطق النائية والحدودية المنسية تماماً من قبل الحكومة المركزية.
  • خامسها، معضلة التدخل الأجنبي، فقد حال التدخل العسكري الفرنسي عام 2013 دون تحوّل مالي إلى إمارة إرهابية، إلا أنه زاد في الوقت ذاته من استقطاب البلاد للجهاديين الراغبين والعازمين على قتال القوات الأجنبية هناك، الأمر الذي يطيل أمد الصراع.
  • سادسها، تعويض عسكر مالي فشلهم في الحفاظ على أمن البلاد وقتال الحركات الإرهابية بممارسة السياسة، ليصبحوا المشكلة لا الحل، ولا حتى جزءا من الحل: فشل قتالي في مواجهة الحركات الجهادية وإجهاض سياسي للحكومات المدنية (انقلابان في غضون 9 أشهر).

سبق لعسكر مالي أن وضعوا المستلزم الأخلاقي الفرنسي على المحك، لكن هذه المرة بلغ السيل الزبى، وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان قد تحدث عن "انقلاب في انقلاب"، إلى توضيح موقف بلاده، في حوار مع صحيفة أسبوعية فرنسية، قائلاً إن باريس لن تبقى "إلى جانب بلد لم تعد توجد فيه شرعية ولا انتقال"(4) ديمقراطي. وللتذكير، فإنه بعد الانقلاب العسكري في باماكو يوم 24 مايو/أيار 2021، أعلنت فرنسا يوم 3 يونيو/حزيران، تعليقا مؤقتاً لتعاونها العسكري مع مالي، كما سبق أن علقت المساعدات المالية المقدمة لجمهورية إفريقيا الوسطى. يأتي كل هذا في سياق "إنزال" روسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى وتقربها من عسكر مالي.

الدور الفرنسي في الساحل مُدان في كل الأحوال

كثيراً ما تتردد القوى الغربية في التدخل العسكري في بؤر التوتر المؤثرة على مصالحها القومية، وإن فعلت فإنما خوفاً من عواقب عدم التدخل. ويعود ترددها إلى التبعات السياسية للتدخل وكلفته عدة وعتاداً. فبحكم التجربة، تعلم أن قرار وتوقيت التدخل بيدها، لكن قرار الانسحاب ليس بيدها، أو على الأقل ظروفه وترتيباته، كما يتضح من المعضلتين الأميركية في أفغانستان والفرنسية في الساحل. ونظراً للموقف السياسي وخاصة الأيديولوجي من التدخل، فإن الأطراف المعارضة له -ولكن المستفيدة منه- مجحفة في حق القوى المتدخلة. لذا عادة ما توجد القوى المتدخلة بين المطرقة والسندان: لما تتدخل تُدان وتُتهم بخدمة مصالحها القومية، ولما تتجنب التدخل تُتهم بعدم تحمل مسؤوليتها الأخلاقية والدولية، وبتراخيها في تطبيق المبادئ التي تقول بها، كما هو حال الولايات المتحدة وفرنسا. فهذه الأخيرة لما تتدخل في إفريقيا تُتهم بخدمة مصالحها وبممارسة الاستعمار الجديد، ولما تعزف عن التدخل تُتهم بعدم تحمل مسؤوليتها كقوة استعمارية سابقة وكعضو دائم في مجلس الأمن.

توجد مصالح متبادلة ومتشابكة لكون دول المنطقة وتلك الموجودة خارجها تستفيد كلها -بشكل أو بآخر- من الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، بل أصبح هذا الوجود بالنسبة لبعض الأنظمة التسلطية في المنطقة ريعاً أمنياً وسياسياً واقتصادياً. وغالباً ما تكون دول المنطقة الأكثر انتقاداً للوجود الفرنسي، هي الأكثر استفادة منه.

نهاية "برخان" وإعادة تموقع القوات الفرنسية في المثلث الحدودي

رغم بعض النجاح لا سيما من حيث تحييد العديد من قيادات الجماعات الإرهابية في المنطقة، فإن عملية "برخان" الفرنسية فقدت تدريجياً الدعم في فرنسا ومالي، فدعم الرأي العام الفرنسي لها وللوجود العسكري في الساحل عموماً تآكل مع الوقت، خاصة مع تعدد الضحايا في صفوف القوات الفرنسية (قُتل 50 عسكريا)، ولسان حاله يقول: لماذا يموت جنودنا من أجل الساحل؟!

في المقابل، تتزايد المشاعر المعادية لفرنسا ولقواتها في الساحل، حيث يتهم سكان المنطقة فرنسا بالاستعمار الجديد ويعيبون على قواتها عدم وضع حد لعمليات القتل التي يرتكبها الجهاديون في حق المدنيين. فحسب منظمة غير حكومية، قُتل منذ العام 2013 أكثر من 8000 شخص، أغلبهم من المدنيين، في مالي والنيجر وبوركينافاسو، بينما نزح حوالي مليوني شخص هروباً من مناطق القتال. بالنظر إلى هذه الحصيلة وإلى الرفض المتبادل لعملية "برخان"، صار الإعلان عن نهايتها مسألة وقت(5).

عقب إعلان الرئيس الفرنسي يوم 10 يونيو/حزيران 2021 نهاية عملية "برخان" (قوامها 5100 رجل حالياً)، كُلف الجنرال لوران ميشون (الذي سبق أن شارك في عمليات في البوسنة وكوسوفو ولبنان وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى...) بقيادتها لمدة سنة واحدة بداية من نهاية يوليو/تموز 2021، وبمهمة واضحة هي تنفيذ خطة الانسحاب التدريجي للقوات الفرنسية من الساحل: تخفيض معتبر لتعداد قواتها، وإعادة تموقع المتبقي منها في منطقة المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، وهذا تنفيذاً للخطة التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي قبل ذلك بأيام، والتي تقتضي الانسحاب التدريجي للقوات الفرنسية لصالح تشكيل عسكري مختص في محاربة الإرهاب وفي مرافقة الوحدات القتالية المحلية، من خلال وحدة القوات الخاصة الأوروبية "تاكوبا"(6). هذه الأخيرة تشكلت في يناير/كانون الثاني 2020 ونشرت أولى وحداتها في الساحل خلال يونيو/حزيران من العام نفسه، وتشارك فيها 11 دولة أوروبية، إلا أن انتشارها يبقى ضعيفاً.

وتنص الخطة الفرنسية على مغادرة قواتها لقواعدها في شمالي مالي (تاسيليت، كيدال وتمبكتو) مع نهاية العام 2021، وإعادة تموقع جزء منها في المثلث الحدودي المالي-البوركينابي-النيجيري وفي نيامي (عاصمة النيجر). وستُخفض القوات الفرنسية تدريجياً إلى حوالي 3500 رجل في نهاية العام 2022، و2500 رجل في نهاية 2023، بينما تبقى وحدة القوات الخاصة تعمل في منطقة الانتشار الجديدة لمواصلة محاربة الحركات الجهادية(7).

هذا يعني أن فرنسا ستركز وجودها في الساحل على محاربة الإرهاب بالاعتماد على القوات الخاصة -على النمط الأميركي- من جهة، وعلى تدعيم تدريب وتكوين القوات الوطنية لدول الساحل من جهة ثانية. صعوبة إعادة بناء القوات العسكرية لمجموعة "الساحل-5" في سياق مضطرب، شكّل معضلة بالنسبة لعملية "برخان"، وعليه فاقتصار وجود فرنسا العسكري على الوحدات الخاصة سيسمح لها بتنظيم جهودها في تدريب وتأهيل قوات دول الساحل.

مخاطر الانسحاب "الجزئي" الفرنسي من المنطقة

يمكن حصر المخاطر المترتبة على الانسحاب الفرنسي في الآتي:

أولاً، هو دلالة على إقرار باستحالة الحسم العسكري لأزمة المنطقة. طبعاً ليس هذا بجديد، لكن الانسحاب سيرفع نفسياً معنويات الحركات الجهادية التي ستزداد شراسة في نشاطها أمام قوات وطنية ساحلية ضعيفة، همّها السلطة ولو كانت منسحبة على العاصمة فقط، كما هو الحال في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.

ثانياً، إذا كان الانخراط الفرنسي في المنطقة يعاني خللاً واضحاً بين الجهدين العسكري والاقتصادي، حيث كانت الغلبة دائماً للاعتبارات الأمنية على حساب المقتضيات التنموية، فإنه لا توجد مؤشرات وحتى مبررات على تخصيص فرنسا دعماً مالياً إضافياً لدول المنطقة لاسيما مالي، بمعنى أن دول المنطقة ستخسر الوجود العسكري الفرنسي دون أن تعوض ذلك اقتصادياً.

ثالثاً، بما أن السياسة لا تحتمل الفراغ، فإن الانسحاب الفرنسي سيزيد من احتدام التنافس في المنطقة، فالصين الناشئة وروسيا العائدة تتنافسان وتنافسان فرنسا في منطقة نفوذها التقليدية، وتدفعان القوى السياسية المحلية المعادية للوجود الفرنسي بتعويضه بوجودهما، بما يعني زيادة حالة الاستقطاب في المنطقة.

رابعاً، سيدعم هذا المشهد التنافسي في المنطقة أنظمتها التسلطية.

خامساً، من المستبعد أن تنشر روسيا والصين قوات كما فعلت فرنسا في دول المنطقة، وبالتالي فالوضع الأمني فيها مرشح لمزيد من التدهور بعد الانسحاب الفرنسي.

سادساً، الدور العسكري الذي تقوم به فرنسا في المنطقة حدَّ -ولو نسبياً- من حالة عدم الاستقرار، لكن مع انسحابها ستتدهور الأوضاع، ولا توجد قوة تحل محلها ميدانياً. ولا نبالغ إذا قلنا إن الصين ستتأثر بانسحاب فرنسا العسكري، فهذه الأخيرة كانت تتولى صون الأمن في المنطقة بنشر قواتها المكلِف، بينما تركز الصين جهودها على الاقتصاد مستفيدة من سياق أمني لم يكلفها شيئاً.

ما يمكن استخلاصه أن الشعور المعادي للوجود الفرنسي ومنافسة روسيا والصين قدّما لفرنسا خدمة سياسية: تهيئة ظروف انسحاب مواتية دون أن يعاتبها أحد أو يتهما بالتهرب من مسؤوليتها. كما سيسمح لها بالخروج من هذه الحلقة المفرغة وهي بذل جهد معتبر، عُدة وعتاداً، لصون أمن منطقة يستفيد منه غيرها دون أن يتحمّل أي عبء.

في قوة ومحدودية النفوذ الصيني والروسي

إذا كانت الصين تنتهج سياسة اقتناص اللحظة وملء الفراغ الاقتصادي في إفريقيا باستثمارها في قطاعات تخلت عنها القوى الغربية أو لا تهتم بها، مثل البنية التحتية والزراعة، فإن روسيا تنتهج السياسة ذاتها في المجال العسكري والأمني. وتعد جمهورية إفريقيا الوسطى النموذج في هذا الإطار، حيث استغلت روسيا نوعاً من الانسحاب الفرنسي من هذا البلد لتبسط عليه نفوذها من خلال ثلاثة مداخل: نشر مستشارين عسكريين، وبيع الأسلحة، ونشر مرتزقة "فاغنر"، لاسيما في المناطق المنجمية الثرية. ومن ثم فلعبة التنافس الدولية في المنطقة ليست لعبة مواجهة وتقدم طرف على حساب آخر، بل هي توظيف طرف لانسحاب طرف ثان لسبب أو لآخر. وبالتالي، من الصعوبة تفسير التقدم الصيني أو الروسي في إفريقيا عموماً بقوتهما فقط، بل وخاصة بتراجع دول المنطقة في سلم أولويات القوى الغربية أو بتغير في حساباتها السياسية والأمنية ولو ظرفياً. فضلاً عن ذلك، فإن القارة لا تزال مرتبطة اقتصادياً بأوروبا التي هي وجهة المهاجرين الأفارقة، فلا توجد موجات هجرة إفريقية نحو الصين ولا نحو روسيا، بل هناك جالية صينية متزايدة في إفريقيا(8).

ومن ثم يُستبعد على المدى المتوسط على الأقل، أن تحل الصين وروسيا محل القوى الغربية التقليدية التي تربطها علاقات مكثفة ووطيدة أحياناً مع القوى الغربية. كما يُستبعد أن تكون روسيا والصين على استعداد لنشر قوات في المنطقة بحجم القوات الفرنسية، فروسيا تكتفي بالمرتزقة وبعض المستشارين العسكريين، بينما ينحصر الوجود الصيني في قاعدة عسكرية بجيبوتي دشنت عام 2017 بتعداد 250 جندياً فقط. وبحكم تبنيهما خطاب عدم التدخل الأجنبي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مناكفة ونكاية في القوى الغربية، فهما مكبلتا الأيدي أيديولوجياً، وأي خطوة في هذا الاتجاه ستُجهض التوافق الإستراتيجي مع الدول الإفريقية.

بالطبع لا يمكن أن نضع الصين وروسيا في المقام ذاته، فالأولى أكثر حضوراً في إفريقيا، وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مما يمنحها قوة مالية ضاربة، بينما تبقى قدرات روسيا محدودة ومقتصرة على الجانب العسكري (بيع الأسلحة). وهذا ما يجعل المشهد التنافسي في القارة الأفريقية منسجما في جزء وهجينا في جزء آخر: توجد دول إفريقية مرتبطة إستراتيجياً واقتصادياً بالقوى الغربية؛ ودول مرتبطة إستراتيجياً بروسيا وجزئياً بالصين، لكنها مرتبطة اقتصادياً بأوروبا، وإن كانت حصة الصين في مبادلاتها التجارية في تزايد. أما بالنسبة لحركة الأشخاص، فتبقى أوروبا وجهة الأفارقة بامتياز.

يعود "الترحيب" الذي تحظى به الصين وروسيا في إفريقيا إلى ثلاثة أسباب على الأقل:

أولا- العامل التاريخي، إذ على عكس القوى الأوروبية (بريطانيا، فرنسيا، بلجيكا وإيطاليا) ذات الماضي الاستعماري، فإن الصين وروسيا (لاسيما في عهد الاتحاد السوفياتي) وقفتا إلى جانب حركات التحرر في القارة.

ثانياً- التوافق الإستراتيجي، حيث تقدم الصين وروسيا نفسيهما كمدافعتين على سيادة الدول واستقلالها وعلى عدم التدخل في شؤونها الداخلية.

ثالثاً- غياب المستلزم الأخلاقي، فبحكم الطبيعة التسلطية لنظاميهما، لا تعير الصين وروسيا أهمية تذكر لمسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان في علاقاتهما مع الدول الإفريقية، وهنا مكمن التوافق الإستراتيجي الآخر. صحيح أن القوى الغربية دعمت وتدعم أنظمة تسلطية في إفريقيا، إلا أن كابحاً أخلاقياً -بحكم ديمقراطيتها- يسبب لها مصاعب ومساءلة من قبل رأيها العام وحتى عدالتها. بيد أن هذا التوافق الإستراتيجي لا يحول دون مواجهة الصين وروسيا الإشكالية نفسها التي تواجهها القوى الغربية: دعم الأنظمة التسلطية المحلية يزيد من المشاعر الشعبية المعادية للقوى الأجنبية. ثم إن بعض قضاياها الداخلية مثل تعامل الحكومة الصينية مع الأقلية المسلمة في شينغيانغ، يثير مشاعر شعبية معادية لها في البلدان الإفريقية المسلمة.

ففي عز جائحة كورونا ظهرت دبلوماسية اللقاح كآلية للتنافس الدولي في إفريقيا، لتبين وجود نوع من الترحيب بالنفوذ الصيني والروسي، حيث تكونت سردية مهيمنة مفادها أن روسيا والصين تساعدان الدول الإفريقية، عكس الدول الغربية. وقد نجحت إلى حد بعيد، لأن هذه السردية وما تسوّق له أصبحت أهم من الفعل ذاته، أي التبرع بلقاحات للدول الإفريقية. فالكميات التي تبرعت بها الصين مثلاً -في البداية- لبعض دول الجنوب، تكاد تكفي جماعة الأنظمة الحاكمة وحاشيتها، ومع ذلك فالسردية تفوقها حجماً، علماً بأن الجماعة الحاكمة وحاشيتها كانت قد استفادت أيضاً من الكمية اليسيرة التي تحصلت عليها دولها من لقاحي "فايزر" و"موديرنا" وغيرهما من اللقاحات الغربية.

مرتكزات نفوذ روسيا العائدة

عادت روسيا إلى إفريقيا مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي، وهي شريك للقارة متواضع للغاية: 20 مليار دولار من المبادلات في الوقت الذي تبلغ فيه مبادلات الصين مع إفريقيا 200 مليار دولار. وتحاول روسيا على غرار الصين بسط نفوذها في القارة، وتعد قمة روسيا-إفريقيا المنعقدة في سوتشي عام 2019 نقطة انطلاق رسمية لسياسة النفوذ الروسي في القارة، والمستندة إلى أربعة مرتكزات أساسية: المحروقات، القطاع المنجمي، النووي المدني والتسلح.

سمح لروسيا المرتكز (التقليدي) الأخير -إلى جانب تصدير القمح- بإبقاء وجود لها في القارة حتى في عز تقوقعها الدولي، لاسيما في العقد الأول من نهاية الحرب البادرة. وفيما يتعلق بقطاع المحروقات، تنشط الشركات الروسية في عدة بلدان (مصر، ليبيا، غانا، كاميرون، جمهورية الكونغو الديمقراطية، نيجيريا..). أما في القطاع المنجمي والمعدني فتعمل شركاتها في العديد من الدول (غينيا، بوركينافاسو، زيمبابوي، أنغولا، جنوب إفريقيا، إفريقيا الوسطى..). ويعد النووي المدني القطاع الثالث الذي تعمل روسيا على تطويره في إفريقيا من خلال توقيعها على اتفاقات لبناء مفاعلات نووية (مصر) ومراكز بحث نووية (رواندا)، فضلاً عن شراكات في دول أخرى (نيجيريا، إثيوبيا، غانا، زامبيا..). كما تُطوِّر علاقاتها التعاونية مع الدول الأخرى في مجالات مثل الزراعة والإعلام الآلي والمالية، لاسيما في ظل النمو القوي الذي تشهده بعض الاقتصادات الإفريقية والذي زاد من حدة التنافس الدولي للاستفادة منه(9).

وتستند كل هذه المرتكزات إلى خطاب روسي مرحب به في القارة والقائم على ثلاث أفكار أساسية: غياب الماضي الاستعماري، وتقارب يعود للعهد السوفياتي والنضال ضد الاستعمار، وتعاون برغماتي بدون أي مقابل في مجال الحوكمة الداخلية أو الديمقراطية. توظف روسيا هذا الخطاب لتميز نفسها عن القوى الغربية، ولتلعب على الأوتار الحساسة لسكان الدول الإفريقية ذوي المشاعر المعادية لهذه القوى. وفي هذا الإطار، تشن روسيا حملة إعلامية ضد فرنسا في بعض الدول، مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومدغشقر. وتبين من خلال دراسة لوجودها في جمهورية إفريقيا الوسطى ومدغشقر وأنغولا والسودان، أن إستراتيجية روسيا في القارة الإفريقية تغيرت منذ العام 2017، حيث أصبحت تركز بالأساس على تعزيز التعاون العسكري (توقيع اتفاقات دفاع، تسليح، نشر مستشارين عسكريين، إشراك شركات عسكرية وأمنية خاصة) والنفوذ الإعلامي، وهذا ما يتوافق تماماً ومسعى أنظمة إفريقية تعمل للبقاء في الحكم(10).

فرنسا بين خيارين أحلاهما مر

إن ملء روسيا الفراغ في مناطق نفوذ فرنسا التقليدية، يضع الأخيرة أمام خيارين أحلاهما مر: الأول، أن تنسحب من الدول الإفريقية التي تغازل نفوذ روسيا وتفتح له أبوابها على حساب النفوذ الفرنسي، وتوقف مساعداتها المالية لها، أو على الأقل تعلقها، مراهنة على تورط روسيا في مستنقع عدم الاستقرار البنيوي في هذه الدول بما يكلفها المال والعتاد وربما العدة (استهداف مستشاريها العسكريين مثلاً). لكن هذا الاتجاه غير مرجح، لأن روسيا غير مستعدة في الوقت الراهن لتعويض الوجود الفرنسي بالحجم العسكري ذاته. ثم حتى لو افترضنا تورط روسيا في أزمات المنطقة، فإن هذا الخيار قد يجعل فرنسا تقف مكتوفة الأيدي أمام سقوط دول -كانت في دائرة نفوذها- تحت النفوذ الروسي الواحدة تلو الأخرى.

الثاني، أن تتبنى استراتيجية هجومية من خلال تدعيم نفوذها في المنطقة ومحاولة إجهاض تمدد النفوذ الروسي في إفريقيا، وهي في الواقع تفعل ذلك كما يدل تحركها في مجلس الأمن، إلى جانب أميركا وبريطانيا، لإجهاض المسعى الروسي-الصيني لرفع الحظر الدولي على الأسلحة عن جمهورية أفريقيا الوسطى.

من المرجح أن تكون الإستراتيجية الفرنسية متعددة الأبعاد حسب السياق والبدائل المتاحة، فهي ستخفض من وجودها العسكري في بؤر الأزمات الحادة التي تكون بيئتها السياسة والاجتماعية معادية لها (مالي، جمهورية إفريقيا الوسطى..)، وتحصن وجودها في البيئة السياسة والأمنية المواتية لها. كما ستعتمد على القوة الاقتصادية مستندة إلى قدراتها الخاصة والقدرات الأوروبية. إلى جانب ذلك، ستعمل على جعل تحركها يتطور في إطار أوروبي أوسع، لاسيما أن هناك أطرافاً أوروبية معارضة للسياسة الروسية حيال أوكرانيا، وبالتالي لن تتردد في خلق متاعب لروسيا في إفريقيا ومحاولة إجهاض نفوذها المتنامي. وهنا مكمن الفرق بين الصين وروسيا في العلاقة مع أوروبا، فالأولى تمثل تهديداً اقتصادياً فقط، بينما تمثل الثانية تهديداً طاقوياً (الغاز) وأمنياً (أوكرانيا والاختراقات السيبرانية)، ومن هذا المنظور فإن النفوذ الروسي في القارة سيواجه عقبات لم يشهدها النفوذ الصيني، بما يعني أن الدول الإفريقية التي قد تقع تحته ستعرض نفسها لرد أوروبي بشكل أو بآخر.

خاتمة

حال الدول الإفريقية في تعاملها مع القوى المتنافسة عليها كحال المستجير بالرمضاء من النار، فهي تستقوي بقوة أجنبية ضد قوة أجنبية أخرى، لكنها دائماً الخاسر الأكبر في المحصلة النهائية لأنها توسع من دائرة تبعيتها الخارجية وتستبيح سيادتها، في الوقت الذي تدعي فيه أنظمتها التسلطية حماية سيادة البلاد. فالواضح أن الدول الإفريقية لا تستفيد من تنويع الشراكات، والظروف المعيشية لمواطنيها لم تتغير بتغير القوى الأجنبية النافذة، فوضعهم الاقتصادي متدهور والأنظمة التسلطية جاثمة على صدورهم. ونظراً لعجزها السياسي والاقتصادي والأمني، فقد دأبت على الاستقواء بالخارج لاستضعاف الداخل، لكنها في نهاية الأمر لم تحقق الشوكة في الداخل (حركات تمرد وحروب أهلية) ولا في الخارج.

يتميز المشهد التنافسي الدولي في إفريقيا بإعادة تموقع للوجود والنفوذ الفرنسيين وترسيخ للنفوذ الاقتصادي للصين وبداية لنفوذها العسكري وعودة النفوذ الروسي الذي يبقى ضعيفاً، عكس ما يوحي به تضخيمه إعلامياً. وهذا التنافس الدولي في القارة متكامل، لأن القوى المنخرطة فيه لا تقدم بالضرورة الأشياء نفسها، فلكل نفوذ قيمته المضافة إن أحسنت البلدان الإفريقية توظيفها بشكل عقلاني، خدمةً لمصالحها كدول لا كأنظمة.

فنهضة إفريقيا لن تكون بالإطناب في خطاب الضحية الأبدية للاستعمار أو في تمجيد الماضي النضالي، فقبل تحميل الآخر الأوروبي -وحديثاً الآخر الآسيوي- تبعاتِ الأمور، يتعين مساءلة الذات وعدم التردد في المفاضلة بين نفوذ بكوابح وإكراهات وبين نفوذ بدونها، لأن الثاني أكثر ضرراً من الأول. فغياب الكابح/المستلزم الأخلاقي في سياسة كل من روسيا والصين سيزيد تأزم الوضع السياسي في البلدان الإفريقية بسبب دعمهما للتسلطية، مما يعيد في نهاية المطاف إنتاج الأزمات السياسية في هذه الدول وما ينجم عنها من تدخلات أجنبية جديدة، وهكذا دواليك. فتجربة القوى الغربية في القارة أثبتت أن المراهنة على الأمن التسلطي (دعم الأنظمة التسلطية) على حساب الأمن الديمقراطي، ساهم في تأزيم الوضع في القارة سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) - حول هذه القضايا ومسألة الأمن في الساحل عموماً، انظر كتابنا حول المبادرات الأمنية في المغرب العربي والساحل:

Abdennour Benantar, Les initiatives de sécurité au Maghreb et au Sahel : le G5 Sahel mis à l’épreuve, Paris, L’Harmattan, 2019.

(2)- Olayiwola Abegunrin and Charity Manyeruke, China’s Power in Africa: a New Global Power, Palgrave Macmillan, 2020.

(3)- Kimberly Marten, « Russia’s Back in Africa; is the Cold War Returning? », The Washington Quarterly, 42 (4), 2019, p. 155-170.

(4)- Le Journal du Dimanche, 30/05/3021, p. 4.

(5)- «Barkhane au Mali: la fin des illusions», Le Monde, 11/06/2021 - https://cutt.ly/emlrfsO (acceded 02/07/2021).

(6)-  تاكوبا هو السيف باللغة التماشقية التي يتحدثها الطوارق.

(7)- Armées : le nouveau commandant de l’opération ‘Barkhane’ pilotera le désengagement progressif au Sahel, Le Monde, 17/06/2021 – https://cutt.ly/hmlrhxo (acceded 24/06/2021).

(8)- حول المهاجرين الصينيين في إفريقيا، انظر:

Howard W. French, China’s Second Continent: How a Million of Migrants are Building a New Empire in Africa, New York, Alfred A. Knopf, 2014.

(9)- Entre géopolitique et affaires, quel retour pour la Russie en Afrique? », La Tribune Afrique, 08/12/2020 –https://cutt.ly/jmlrvyY (acceded 01/07/2021).

(10)- Pauline Tchoubar, «La nouvelle stratégie russe en Afrique subsaharienne : nouveaux moyens et nouveaux acteurs », Note n°21/19, 11 octobre 2019, Fondation pour la recherche stratégique (Paris), p. 1, 3 – https://cutt.ly/NmlrYjL (acceded 20/06/2021).