مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ظل غياب حل الدولتين

يرفض الإسرائيليون حل الدولتين ويعملون على خلق واقع جديد يتجاوز الأسس التي قام عليها هذا الحل، حتى بات الرجوع إليه أمرا صعبا. من أجل فهم أعمق لواقع حل الدولتين ومآل التطورات المتصلة به، تحلل هذه الورقة ثلاثة مستويات متداخلة من التحولات السياسية المرتبطة بإسرائيل وفلسطين، والبيئة الإقليمية والدولية.
6 يناير 2022
رفض إسرائيل حل الدولتين واستمرارها بفرض الوقائع، وفشل القيادة الفلسطينية في طرح بدائل عملية، كله ينذر بانتفاضة شعبية (رويترز).

توقفت المفاوضات السياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي منذ إبريل/نيسان 2014، بعد فشل وزير الخارجية الأمريكية السابق جون كيري في تحقيق اختراق ينهي حالة الجمود السياسية بين الطرفين، ومنذ ذلك الحين، لم تُستأنف أي مفاوضات سياسية جادة، وبدأت تتلاشى فرص تطبيق
ومن أجل فهم أعمق لواقع حل الدولتين وإلى أين تتجه التطورات، تحلل هذه الورقة ثلاثة مستويات متداخلة من التحولات السياسية المرتبطة بإسرائيل وفلسطين والبيئة الإقليمية والدولية.
أولًا: جنوح السياسة والمجتمع الإسرائيلي أكثر نحو سياسات اليمين والخطط البديلة التي يُتعامَل بها مع المسألة الفلسطينية.

ثانيًا: غياب البدائل السياسية الفلسطينية والتماهي مع الخطوات الإسرائيلية الهادفة لخلق حقائق على أرض الواقع.

ثالثًا: نظرة شاملة على البيئة الإقليمية والدولية ومدى التزامها بحل الدولتين.

وفي الخاتمة نظرة على مستقبل الحلول السياسية تجاه حل الدولتين أو الدولة الواحدة، أو ما قد تجعله الخطوات الإسرائيلية خليطا من بينهما.

رفض حل الدولتين إسرائيليا وعدم تبلور بديل  

وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 13 سبتمبر/أيلول 1993 اتفاقية إعلان مبادئ أصبحت تعرف فيما بعد باتفاقية أوسلو للسلام، واحتوت على مبادئ عامة لمرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات من الحكم الذاتي الفلسطيني. كان من المفترض أن تفضي المرحلة الانتقالية إلى حل دائم ينتهي بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 إلى جانب دولة إسرائيل. لكن شجعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الاستيطان في الضفة الغربية عن طريق تقديم الامتيازات، وهو ما أدى إلى تزايد أعداد المستوطنين، الذين يبلغ عددهم اليوم 441,619 مستوطنا، وهي زيادة بنسبة 42% مقارنة مع بداية العقد ونسبة 222% مقارنة مع العام 2000(1). أدى ذلك إلى طمس معالم الخط الأخضر وضم فعلي إسرائيلي للمستوطنات في الضفة الغربية وذلك عن طريق سن العديد من التشريعات والقوانين التي تجرم مقاطعة المستوطنات من جهة وتؤكد على دعم "الاستيطان اليهودي" من جهة أخرى(2). وبسبب هذه السياسات، تحولت الضفة الغربية خلال العقدين الماضيين إلى كانتونات مقطعة الأوصال تسيطر عليها إسرائيل عسكريا بشكل كامل. فمن خلال إنشاء الكتل الاستيطانية الكبيرة في شمال الضفة الغربية ووسطها وجنوبها، ضمنت إسرائيل من جهة السيطرة على ريف الضفة الغربية وعزلها عن تجمعات المدن الفلسطينية الكبيرة وهو ما يعني من الناحية العملية خلق مناطق غير متواصلة جغرافياً ويصعب إقامة دولة فلسطينية عليها تتمتع بالسيادة والتواصل الجغرافي، ومن جهة أخرى استنزاف الفلسطينيين ومواردهم عن طريق إدخالهم في مواجهات مستمرة مع المستوطنين وبالتالي زعزعزة الأمن لديهم(3). وبنفس الطريقة، قامت إسرائيل بتهويد مدينة القدس وطرد سكانها الفلسطينيين وعزلها نهائياً عن محيطها الفلسطيني(4).

تزامن التغول الاستيطاني والعسكري الإسرائيلي داخل عمق الضفة الغربية، مع تحولات موازية داخل المجتمع الإسرائيلي على الصعيدين السياسي والشعبي. وقد أدت المواجهات العسكرية التي صاحبت فترة ما بعد أوسلو، ثم اندلاع انتفاضة الأقصى (2000) إلى نهاية دعم "عملية السلام" من قبل الإسرائيليين. وأعلن إيهود باراك، آخر رئيس وزراء لإسرائيل من حزب العمل اليساري (1999-2001)، بأنه لا يوجد "شريك" في الجانب الفلسطيني من أجل السلام والتسوية، مما أقنع العديد من الإسرائيليين بأن المفاوضات والانسحاب من الضفة الغربية لن يؤديا إلى سلام دائم. منذ ذلك الحين، كان أداء حزب العمل وميرتس، الحزبان اللذان يمثلان يسار الوسط واليسار على التوالي ويدعمان تقليديا تسوية سياسية قائمة على أساس حل الدولتين، سيئًا للغاية في الانتخابات. وانخفض عدد مقاعد حزب العمل من 44 مقعدًا (من أصل 120) في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في عام 1992 تحت قيادة أسحاق رابين، إلى 3 مقاعد في انتخابات 2020، ويحتل حاليًا 7 مقاعد في انتخابات 2021. بنفس الصورة، انخفض عدد مقاعد حزب ميرتس من 12 مقعدًا في عام 1992 إلى 6 مقاعد فقط حاليًا.

وبالتالي، شهدت السياسة الإسرائيلية تحولاً في التصويت من اليسار نحو أحزاب في وسط الخريطة السياسية، لم تتخذ موقفا واضحاً من أي حل سياسي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني وهو ما صب في مصلحة الأحزاب اليمينية. ففي كثير من الأحيان، لم تتمكن أحزاب اليسار والوسط من تشكيل ائتلاف من شأنه مواجهة الأحزاب اليمينية مما سمح للأخيرة بالبقاء في السلطة منذ عام 2009 وذلك من خلال تحالفها مع الأحزاب "الأرثوذكسية المتطرفة" وهو ما مكنها في النهاية من الهيمنة على السياسة الإسرائيلية وتنفيذ خططها في التوسع الاستيطاني وعرقلة إقامة دولة فلسطينية على أراضي عام 1967، وهو ما يؤكده بالجملة مؤشر نتائج الانتخابات الإسرائيلية منذ عام 1992 وحتى 2021. (ينظر الشكل رقم 1)(5).

6/1/2022

 

ونتيجة لهذا المسار، باتت الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة تتمتع بحضور واسع وأساسي في المشهد السياسي الإسرائيلي. ففي 13 يونيو/حزيران 2021، أدت حكومة إسرائيلية جديدة بقيادة نفتالي بينيت- زعيم الحزب اليميني المتطرف والذي فاز فقط بسبعة مقاعد من أصل 120- اليمين الدستورية لتحل محل حكومة بنيامين نتنياهو -اليمينية- والتي استمرت منذ عام 2009. أطلقت الحكومة الجديدة على نفسها اسم "حكومة التغيير" وذلك بعد أربع جولات انتخابية سابقة منذ عام 2019 فشلت في منح أي حزب أغلبية واضحة وبالتالي لم تنجح جميع الأحزاب الرئيسية في تشكيل ائتلاف حاكم. "التغيير" الذي تتبناه الحكومة الجديدة هو تغيير يقتصر على المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي فقط. داخلياً، تقدم الحكومة بداية جديدة بالنظر إلى أنها أطاحت بنتنياهو والليكود وأنها تضم ​​ائتلافًا فريدًا للغاية، وهو عبارة عن تحالف يضم أحزابًا من أقصى اليمين، إلى الوسط، إلى اليسار، ويضم لأول مرة حزباً عربياً وهو القائمة العربية الموحدة المحسوبة على "الحركة الإسلامية" في إسرائيل.

فيما يتعلق بالعلاقات مع الفلسطينيين وحل الدولتين، ليس لدى حكومة بينيت لابيد الكثير لتقدمه، حيث لم يعد حل الدولتين ضمن خطط المجتمع الإسرائيلي ولا الحكومة. تظهر استطلاعات الرأي العام الإسرائيلية التي أجراها معهد الديمقراطية الإسرائيلي في سبتمبر/أيلول 2021 بأن 33.3٪ أجابوا بأن أولوية الحكومة القصوى يجب أن تركز على الوضع الاقتصادي، وجعل 23.6٪ الأولوية لمكافحة جائحة فيروس كورونا. وقال 4.4٪ فقط بأن الأولوية القصوى يجب أن تكون العمل نحو اتفاق مع الفلسطينيين. يعبر هذا الواقع عن تحولات جذرية في الاتجاهات السائدة داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه حل الدولتين الذي تراجع تأييده بين الإسرائيليين بصورة مطردة خلال العقد الماضي، من 71٪ في عام 2010 إلى 47٪ في نهاية 2018 وذلك حسب مؤشر السلام الذي يجريه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية(6). ووجدت سلسلة من الاستطلاعات الحديثة التي أجرتها سيفان هيرش هوفلر وزملاؤها في معهد هرتسليا متعدد التخصصات انخفاضًا في تأييد حل الدولتين من 47٪ في عام 2018 إلى 40٪ في عام 2020. (ينظر الشكل رقم 2 )(7).

6/1/2022

 

وعند سؤال الإسرائيليين عما يجدونه مقبولاً تجاه الحل مع الفلسطينيين، اختار 39.7٪ حل الدولتين، وفضل 21.1٪ حل الدولة الواحدة (الديمقراطية)، واختار 37.1٪ استمرار الوضع الراهن، وذلك حسب الاستطلاع الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في يوليو/حزيران 2021(8). وتصبح الصورة أكثر وضوحاً عند التمييز بين ناخبي اليمين واليسار وبين المواطنين الإسرائيليين اليهود والمواطنين العرب في إسرائيل. فمن الواضح، بحسب الاستطلاع السابق، أن اليهود الإسرائيليين مستقطبون بشأن الحل السياسي مع الفلسطينيين. يجد 88٪ من الإسرائيليين اليساريين حل الدولتين مقبولاً، و10٪ فقط منهم يجدون استمرار الوضع الراهن مقبولاً. والعكس صحيح بالنسبة لليمين الإسرائيلي، حيث يرى 51٪ منهم أن الوضع الراهن مقبول، و19.5٪ فقط يجدون حل الدولتين مقبولاً. (ينظر الشكل رقم (3).

6/1/2022

 

وعندما ننظر إلى نسبة اليهود الإسرائيليين، فإن استمرار الوضع الراهن يظهر في الواقع على أنه الترتيب الأكثر قبولًا. ومما جاء أيضا في استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية المشار إليه سابقا، فإن 41٪ من اليهود الإسرائيليين يرون "الوضع الراهن" مقبولا، بينما وجد 34٪ ​​منهم فقط حل الدولتين مقبولاً. ما نراه هنا هو أن الوضع الراهن يبدو الحل الأكثر قابلية للتطبيق بالنسبة لليهود الإسرائيليين، فهو الحل الذي يقدم أقل مستوى من التكاليف في العلاقات مع منافعها، مقارنةً بحل الدولتين. على الرغم من أنه قد لا يكون الترتيب المثالي، إلا أنه الأكثر ملاءمة أيضًا ويرتبط بأقل قدر من المخاطرة وعدم اليقين بالنسبة للإسرائيليين.   

وفي ظل تراجع فرص تطبيق حل الدولتين وعدم تبني مشروع سياسي بديل سواء من قبل اليمين أو الوسط، المهيمنين على المشهد السياسي، بدأت الحكومة الجديدة تتحدث عن "تقليص مساحات الصراع". ففي كلمة رئيس الوزراء الجديد، نفتالي بينيت، في مراسم أداء حكومته في الكنيست قال: "يجب على الفلسطينيين تحمل المسؤولية. الهدوء (على الجانب الأمني) سيؤدي إلى خطوات في المجالات الاقتصادية وتقليل الاحتكاك وتقليص الصراع"(9). نفس الموقف يتبناه أيضاً وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، الذي من المقرر أن يصبح أيضًا رئيسًا للوزراء بالتناوب مع بينيت، حينما صرح قبل اجتماعه مع وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن أنه سيناقش معه "تعزيز قدرتنا على الدفاع عن أنفسنا، والعمل لتقليص الصراع بيننا وبين الفلسطينيين، وتحسين الحياة لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين"(10). وبالتالي، فإن هناك اتفاقاً إسرائيلياً ما بين اليمين والوسط على تقليص الاحتكاك مع الفلسطينيين، عن طريق تقليص مساحات الصراعات وذلك على حساب حل الدولتين.  

من السياق الذي قدمه السياسيون المختلفون الذين استخدموا عبارة "تقليص مساحات الصراع"، وكذلك من التفسير الذي قدمه أستاذ التاريخ الإسرائيلي المقرب من رئيس الوزرء بينيت(11)، ميخا غودمان الذي يُنسب إليه صياغة المفهوم، يتضح أن الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة هي محاولة لترسيخ "الوضع الراهن" لإسرائيل في السيطرة على المناطق الفلسطينية، ولكن مع تقليل الاضطرابات والمخاطر التي يمكن أن تتعرض لها إسرائيل نتيجة للإحباط الفلسطيني وفقدان الأمل، وذلك من خلال المكافآت الاقتصادية وتسهيل الحياة اليومية للفلسطينيين.

يمكن العثور على المخطط الرئيسي "لتقليص الصراع" في مقترح غودمان المنشور بعنوان "ثماني خطوات لتقليص الصراع"(12)، حيث يؤكد غودمان في الاقتراح بأن أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة ليست محتلة في الواقع لأن الفلسطينيين لا يملكون حق السيادة عليها. لكنه يوضح أن الفلسطينيين أنفسهم "مُحتلون" بمعنى أن حياتهم اليومية تخضع لسيطرة إسرائيل من خلال جيشها. وبالتالي، فإن خطة "تقليص الصراع" تنطوي على تخفيف بعض الضغوط الاقتصادية واليومية على الفلسطينيين وبالتالي تقليل التفاعل والاحتكاك بينهم وبين الاحتلال الإسرائيلي المباشر. ومن أجل تحقيق ذلك تشمل الخطوات المقترحة: إنشاء طرق التفافية لربط المدن والقرى الفلسطينية دون المرور عبر مناطق المستوطنات ونقاط التفتيش الإسرائيلية، وتوسيع السيطرة الفلسطينية قليلاً على بعض أجزاء المنطقة (ج)، وتوفير عدد أكبر من تصاريح العمل للفلسطينيين داخل إسرائيل، وفصل الاقتصاد الفلسطيني عن الإسرائيلي، و"الاعتراف بفلسطين وليس حدودها"(13). ومن الناحية العسكرية والأمنية، ستستمر المخابرات والجيش الإسرائيلي في العمل والنشاط في جميع الأراضي الفلسطينية عن طريق الملاحقات والاعتقالات والحضور العسكري الإسرائيلي الدائم في وادي الأردن والسيطرة على المجال الجوي والفضاء الكهرومغناطيسي كاملاً.

يوضح غودمان أن الهدف النهائي للخطة، ليس الضم وليس الانسحاب بل هي عبارة عن "مناورة تتصدى للتهديد الديموغرافي (الذي يمكن أن يجلبه ضم الضفة) دون دفع ثمن من حيث تعريض الأمن للخطر (الذي يعتقد أن الانسحاب سيجلبه). من الواضح جدًا أنه يقول إن هذه الخطة الجديدة لن تؤدي إلى حل الدولتين، حيث لا يوجد اتفاق (في هذه الخطة) على الانسحاب من المستوطنات أو تقسيم مدينة القدس. وبالتالي، فإن هذه الخطوات من الناحية العملية لن تؤدي إلى "حل الدولتين"، لكنها في نفس الوقت تهدف إلى خلق "حالة دولتين". بمعنى أنه لن يكون للفلسطينيين دولة ذات سيادة، ولكن ستدار حياتهم اليومية بشكل مستقل عن إسرائيل قدر الإمكان، وحتى مع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين دون اتفاق على ماهية حدودها. في الواقع، هذه الخطة هي ترجمة عملية لخطة "السلام الاقتصادي" التي اقترحها نتنياهو أو فكرة "دولة فلسطينية" صغيرة وممزقة جغرافياً ولا تتمتع بسيادة حقيقية على أراضيها وحدودها وسياستها الخارجية وسياسة الهجرة التي تم اقتراحها في "صفقة القرن" التي تبناها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كمقاربة لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

الفلسطينيون وغياب البدائل

لا تزال القيادة الفلسطينية تتمسك بخيار حل الدولتين بالرغم من أن إسرائيل تجاوزت هذا الحل من الناحية الواقعية. بل يمكن القول إن المواقف والسياسات الفلسطينية من الناحية الواقعية أيضا تماهت مع الخطوات الإسرائيلية الساعية إلى خلق واقع جديد يتجاوز حل الدولتين.   

أولا، غياب البدائل: لا تملك القيادة الفلسطينية بدائل للخطوات الإسرائيلية المتسارعة على أرض الواقع والهادفة إلى تحويل الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات منعزلة ومقطعة. من الناحية العملية، انتهى مشروع السلطة القائم على الحل السياسي ولم يعد للقيادة الفلسطينية سوى التهديد بحل السلطة واللجوء إلى المنظمات الدولية للضغط على إسرائيل، وهي سياسة قديمة يتبعها الرئيس الفلسطيني محمود عباس ولكن دون الإقدام على أي خطوات ملموسة على هذا الصعيد. فمنذ عام 2015 والرئيس عباس يهدد بالتخلي عن جميع الاتفاقات والتفاهمات مع إسرائيل، بما فيها الأمنية، ولكنه لم ينفذ ذلك بالرغم من الدعم الشعبي الواسع لمثل تلك القرارات، حيث يطالب 69% من الفلسطينيين بوقف العمل باتفاقات أوسلو(14). في أيلول/سبتمبر2021، كرر الرئيس عباس تهديداته بالانسحاب من الاتفاقيات مع إسرائيل وذلك عندما أقر في كلمة مسجلة في مداولات الدورة السادسة والسبعين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بفشل المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة في حل القضية الفلسطينية والضغط على إسرائيل من أجل تحقيق حل الدولتين. وبالرغم من إقراراه بفشل الأمم المتحدة، وتناقضه مع مواقفه، فإنه عاد ودعا الأمم المتحدة إلى تشكيل آلية دولية لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني على حدود الأرض الفلسطينية المحتلة في عام 1967، بما فيها القدس، والدعوة لمؤتمر دوليٍ للسلام، والتوجه لمحكمة العدل الدولية. وطالب عباس إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية خلال عام، معرباً عن استعداده للعمل مع إسرائيل خلال هذه المدة على ترسيم الحدود والاتفاق على قضايا الوضع الدائم. وفي حال عدم تحقيق ذلك، هدد عباس مجدداً بالانسحاب من الاعتراف بإسرائيل على أساس حدود عام 1967(15)، وهو ما رفضته إسرائيل فوراً واتهمت الرئيس عباس بأنه "كاذب وقد ولى وقته"(16).

ثانياً، التمسك بالتنسيق الأمني: سيكون من الصعب على إسرائيل تقليص مساحات الصراع والاستمرار في خلق حقائق جديدة على الأرض دون تنسيق أمني فعال مع السلطة الفلسطينية، وهو ما يتلاءم مع المخططات الإسرائيلية. فمنذ توليه السلطة عام 2005، تمسك الرئيس محمود عباس (أبو مازن) بالتنسيق الأمني مع إسرائيل كنهج أساسي لإدارة النزاع باعتباره حالة أمنية "مقدسة" يجب أن تستمر بالرغم من أن 77% من الفلسطينيين يطالبون السلطة بوقف حقيقي للتنسيق الأمني مع إسرائيل(17). فبعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005) والانقسام ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 2007، كثَّفت السلطة من تعاونها الأمني والاستخباراتي مع إسرائيل، سواء على صعيد تجفيف الدعم المالي عن النشطاء الفلسطينيين أو الإجراءات الأمنية الوقائية ضد "حركات المقاومة". استغلت إسرائيل هذه الأوضاع لتحسين البيئة الأمنية للمستوطنين والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وتقليل المخاطر، واستطاعت تخفيض عدد كتائب الجيش من 82 كتيبة كانت منتشرة في الضفة الغربية بعد الانتفاضة الثانية، إلى 13 كتيبة في عام 2019(18).

ولا تزال السلطة الفلسطينية ملتزمة بهذه السياسة حتى بعد ما كان من حقبة صفقة القرن، ففي نهاية أغسطس/آب 2021، اجتمع الرئيس عباس ولأول مرة منذ توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية عام 2014 مع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، وبحثا تعزيز التنسيق الأمني وتقديم تسهيلات اقتصادية ومعاشية للفلسطينيين متعلقة بزيادة عدد تصاريح العمال الفلسطينيين في إسرائيل، وتسهيل البناء ولم الشمل، وتسهيلات اقتصادية أخرى. وبعد اللقاء، قال مصدر مقرب من رئيس الوزراء نفتالي بينيت أن "ليست هناك عملية سياسية مع الفلسطينيين، ولن تكون هناك مثل هذه العملية"(19). أي أن الخطوات الإسرائيلية لا تعدو كونها جزءاً من الخطة الإسرائيلية لتقليص الصراع وإدامته. فبعد الاجتماع وافقت إسرائيل على إقراض السلطة 156 مليون دولار، وعلى 5 آلاف طلب لجمع شمل عائلات فلسطينية، وإتاحة خدمة الجيل الرابع للاتصالات الخلوية (4 جي) في الأراضي الفلسطينية(20). وعاد الطرفان للاجتماع مرة أخرى في 28 ديسمبر/كانون الأول 2021 عندما استضاف غانتس الرئيس عباس في منزله في أول لقاء لرئيس السلطة الفلسطينية في إسرائيل منذ عام 2010. وكما حصل في الاجتماع الأول، فقد كانت القضايا الأمنية والاقتصادية في صلب مباحثات الطرفين، حيث وعدت إسرائيل بتقديم مكافأة اقتصادية وتسهيلات للفلسطينيين، مقابل تعزيز التنسيق الأمني والتعامل مع أي اضطرابات شعبية أو عمليات للمقاومة(21).

والخلاصة أن السلطة الفلسطينية لم تستثمر أداة الضغط الوحيدة المتاحة لها والتي تحظى بدعم شعبي فلسطيني واسع، وهي وقف التنسيق الأمني، وفضلت عوضاً عن ذلك الاستمرار بهذا التنسيق رغم ملاءمته للمخططات الإسرائيلية بغية الحصول على تسهيلات خدماتية واقتصادية من إسرائيل وهو ما زاد في النتيجة النهائية من الشرخ الفلسطيني الداخلي بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس.  

ثالثا، الانقسام الفلسطيني: نظمت السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح في عام 2006 انتخابات فلسطينية عامة كان الهدف منها ترسيخ هيمنة حركة فتح على النظام السياسي الفلسطيني، لكن الانتخابات انتهت بانقسام الحركة الوطنية الفلسطينية إلى كيانين فلسطينيين متصارعين. فبعدما فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية، تبع ذلك مزيج معقد من التدخلات السياسية الداخلية والخارجية التي انتهت بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة وبالتالي انقسام المشروع الوطني ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ومنذ الانقسام عام 2007، لم تفعل القيادات الفلسطينية سوى القليل من أجل التحرك نحو إعادة توحيد الموقف الفلسطيني وتشكيل حكومة فلسطينية موحدة. إن انقسام المشروع الوطني الفلسطيني ما بين "الضفة الغربية" و"قطاع غزة" جعل المطالب الفلسطينية في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة من الناحية الواقعية أكثر ضعفاً، وسهل على إسرائيل تطبيق سياستها الرامية إلى تعزير سيطرتها الأمنية من جهة، والمحافظة على الوضع السياسي الراهن الذي تتنافس وتتصارع فيه كل من حركتي فتح وحماس على زعامة المشروع الوطني الفلسطيني من جهة أخرى.  

رابعاً، استعدادات عسكرية وسعي لهدنة طويلة الأمد في قطاع غزة: منذ سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، ركزت حركة حماس في صراعها مع إسرائيل على الاستعداد العسكري، حيث عززت كتائب عز الدين القسام مخزونها من الأسلحة عن طريق إنشاء شبكة متنامية باطراد من الأنفاق الدفاعية والهجومية ومخزون كبير من الصواريخ. ساهم ذلك في قائمة طويلة من المشاكل في تمويل إدارة حركة حماس للقطاع وبالتالي عرقلة ضمان وصول المساعدات المالية وتشديد الحصار الإسرائيلي الخانق على القطاع بهدف إضعاف الحركة.

منذ عام 2008، تعرض قطاع غزة لأربع جولات عسكرية رئيسية مما أدى إلى انهيار اقتصادي وأزمة إنسانية خانقة تمثلت في ارتفاع الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية. كانت الجولة الأخيرة من القتال بين قطاع غزة وإسرائيل في مايو/أيار 2021، تذكير مأساوي بمدى عمق الفجوة بين الجانبين في إيجاد حلول طويلة الأمد ومستقرة. تظهر نتائج الحرب بأنه لا يوجد دليل واضح على أن أي وقف لإطلاق النار من شأنه أن يغير سلوك إسرائيل على أساس دائم أو أنها يمكن أن تؤدي إلى نوع ما من التغيرات الاقتصادية الشاملة والتنمية التي يمكن أن تلبي احتياجات سكان غزة. ومع ذلك، تظهر حركة حماس ميولًا كبيرة تجاه تحقيق تهدئة طويلة الأمد مع إسرائيل وهو ما سيسمح من الناحية العملية بإدامة الوضع السياسي الراهن مع السماح لإسرائيل بالاستمرار في التحكم المدروس في قطاع غزة مع فصلها الكامل عن المشروع الوطني الفلسطيني. ومن أجل تحقيق ذلك، أكملت إسرائيل في ديسمبر/كانون الأول 2021 بناء جدار تحت الأرض بطول 65 كيلومترا وذلك لكي تعزز انفصالها الجغرافي عن القطاع(22)، وتحويله إلى جزيرة جغرافية مكتظة بالسكان وتخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة.  

اتجاه البيئة الإقليمية والدولية

لعب المجتمع الدولي والدول الإقليمية تاريخياً دوراً مهماً، على الأقل، في إجبار الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على الجلوس على طاولة المفاوضات وبحث الملفات الشائكة والمصيرية التي كانت تعطل التسوية بين الطرفين. اليوم، لا يبدو أن هذه الآلية متوفرة لدفع الطرفين للعودة إلى مفاوضات بناءة. بالرغم من أن المجتمع الدولي والدول العربية لا يزالون يتمسكون بخيار حل الدولتين من الناحية النظرية، فإنهم يفتقدون إلى الدافع والإرادة السياسية لتطبيق هذا الخيار. ويبدو أن البيئة الإقليمية والدولية تتجه أكثر نحو قبول سياسات الأمر الواقع التي فرضتها إسرائيل.  

أولاً، البيئة الإقليمية والعربية: أثبت تحرك إسرائيل نحو التطبيع التدريجي للعلاقات مع العديد من الدول العربية -الإمارات والمغرب والبحرين والسودان- أنها تستطيع تحسين العلاقات بشكل متزايد مع جيرانها في المنطقة دون دفع أي ثمن أو تنازلات للفلسطينيين. وكلما تزايد التقارب العربي الإسرائيلي، تقلص الدعم المادي والسياسي للفلسطينيين وبات الفلسطينيون أكثر تهميشاً في الإقليم. لفترة طويلة استخدم الرئيس عباس حشد الدعم العربي والإسلامي لخلق أسس متوازنة للعلاقات مع إسرائيل، ولكن لم يعد الواقع العربي الحالي يمنح الأولوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ضمن ترتيباته الجيواستراتيجية والدولية، وهو ما أفقد القيادة الفلسطينية الحاضنة العربية التقليدية. بل على العكس تمامًا، أصبح العديد من الدول العربية اليوم يتجه نحو بناء تحالفات استراتيجية مع إسرائيل، سواء كان ذلك من دول الخليج أو مصر والأردن والسودان والمغرب، وليس واضحًا أين المصالح الفلسطينية منها. فبينما عززت الإمارات والبحرين التحالفات الأمنية مع إسرائيل، وقّع المغرب اتفاقا دفاعياً مع تل أبيب، فيما تشهد العلاقات الإسرائيلية الأردنية والمصرية المزيد من الدفء والتعاون. وفي ظل غياب حل الدولتين، فإن هذه التطورات ستدعم الخطوات الإسرائيلية في الاندماج التدريجي في المنطقة العربية دون الاضطرار لتقديم تنازلات سياسية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

ثانيًا، موقف الولايات المتحدة الأمريكية: تتبنى إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن حل الدولتين وألغت بعض قرارات ترامب التي كانت تهدف إلى معاقبة الفلسطينيين، مثل وقف المساعدات(23).  ومع ذلك، ليس هناك الكثير مما يشير إلى أن الولايات المتحدة مهتمة بدفع إسرائيل والفلسطينيين نحو تقدم دراماتيكي تجاه حل الدولتين(24). تنفر الإدارة الأمريكية من المخاطر وتفضل عدم زعزعة الاستقرار عن طريق دعم الوضع. فالوضع الراهن هو الحالة المألوفة والمفضلة وحتى في حال اندلاع عنف في هذا السياق سيكون محدودًا وقصير الأجل و"مضبوطا بشكل جيد" من وجهة نظر إسرائيلية أمريكية على الأقل. لذلك، لم تضغط الولايات المتحدة حتى الآن لوقف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية أو تجاه إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ويبدو أنها متفهمة أكثر لوضع الحكومة الإسرائيلي الهش وتتجنب الضغط خوفاً من انهيارها. يمكن رؤية مثال على ذلك في حالة القنصلية الأمريكية في القدس. أعلنت إدارة بايدن علنا أنها ستعيد فتح قنصليتها في القدس التي تخدم السكان الفلسطينيين والتي تم إغلاقها في عهد ترامب. ومع ذلك، بعد اعتراضات الحكومة الإسرائيلية، جمدت إدارة بايدن بالفعل خطة إعادة فتحها، مشيرة إلى أنها تفضل الاستقرار والهدوء على الضغط على إسرائيل في مثل هذه القضايا(25). وعلى نفس المنوال، لم تفلح محاولات أقلية صغيرة من ممثلي الحزب الديمقراطي في تقييد المساعدة العسكرية الأمريكية لإسرائيل، ولا تزال إدارة بايدن تقدم المساعدات المادية غير المشروطة لإسرائيل(26). وبالتالي، فإن سياسات الولايات المتحدة حالياً لن تخرج عن محاولاتها لتثبيت الوضع الراهن ودفع الرئيس عباس إلى مزيد من التعاون مع إسرائيل. فالمباحثات التي أجراها كل من مبعوث واشنطن هادي عمرو، ومستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، خلال الأشهر الماضية مع الفلسطينيين لم تتعد بحث ملفات اقتصادية مشروطة وجوانب أمنية تخدم في النهاية مخططات إسرائيل في تقليص مساحات الصراع مع الفلسطينيين دون البحث في المسائل السياسية.   

دولة أم دولتان؟

لا يبدو أن فكرة الدولة الواحدة، حيث يتمتع جميع السكان الذين يعيشون ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط بحقوق سياسية متساوية في كيان سياسي واحد، قابلة للتطبيق. فمن غير المرجح أن يتخلى الإسرائيليون عن مشروع الدولة اليهودية ليكونوا جزءًا من دولة متعددة الأعراق حيث يشكل اليهود 50٪ من السكان على الأكثر. والفلسطينيون، على الرغم من العقبات الهائلة التي يواجهونها، من غير المرجح بالمثل أن يتخلوا عن سعيهم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي عام 1967 وعاصمتها القدس. وبصورة مشابهة، فإن مشروع حل الدولتين قد تلاشى بالفعل بسبب السياسات الإسرائيلية المتعاقبة لأكثر من ثلاثة عقود في الضفة الغربية، والتي حولتها إلى كانتونات معزولة، وجعلت من الصعب تجاهلها على المستويين العسكري والسياسي الإسرائيليين في أي مفاوضات مستقبلية. فمن المستبعد مثلاً أن تقدم أي حكومة إسرائيلية على تفكيك المستوطنات في الضفة الغربية في ظل موازين القوة السائدة حالياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين. 

وفي ظل غياب مشروع إسرائيلي متكامل للحل السياسي مع الفلسطينيين ورفض حل الدولتين وحل الدولة الواحدة على التوالي، فإن الخطوات الإسرائيلية المستقبلية تتجه أكثر إلى تطبيق خليط من حل الدولة الواحدة وحل الدولتين. وهذا الخليط الذي يتشكل لن ينتج عنه بالتأكيد حل الدولتين ولا حل الدولة الواحدة الديمقراطية. بل سيفتح الباب لمزيج مختلط من هذين الحلين على شكل "حالة دولة"، أي مناطق فلسطينية منعزلة وممزقة وفاقدة للسيادة والسيطرة على الأرض والسكان وتخضع للسيادة الإسرائيلية الكاملة. وفي هذه الحالة، فإن إسرائيل تريد الاستفادة من محاسن الحل المختلط والتخلص من سيئات حل الدولتين. فهي لن تسمح بتأسيس دولة فلسطينية ذات سيادة أو دولة واحدة يتمتع الجميع فيها بحقوق سياسية متساوية وبالتالي تهديد إسرائيل ديمغرافيا حيث يتساوى تقريباً عدد الفلسطينيين والإسرائيليين في فلسطين التاريخية(27). ومما يعزز من احتمالية هذا الخيار هو هشاشة الحكومة الإسرائيلية الحالية وعدم قدرتها على اتخاذ خطوات جوهرية تجاه حل الدولتين. فالحكومة الإسرائيلية الحالية تتكون من تحالف غير متجانس في المواقف الأيديولوجية والاتجاهات من حل الصراع مع الفلسطينيين وبالتالي فإن أي تحرك تجاه اليمين (ضم فعلي لأجزاء واسعة من الضفة الغربية) أو اليسار (قبول حل الدولتين)، هو أمر مستبعد للغاية لأن الخلافات داخل الحكومة ستؤدي إلى انشقاقات حول هذه السياسات وبالتالي انهيار الائتلاف الحاكم الذي تشكل الأحزاب الداعمة للاستيطان عنصراً مركزياً فيه.

يدعم ترجيح هذا السيناريو الوضع الإقليمي والدولي الذي لم يعد يمنح حل الدولتين أولوية متقدمة ضمن سياساته الجيوسياسية مع غياب إرادة الفعل السياسي والتركيز المتزايد على مشكلة البرنامج النووي الإيراني. تظهر الأحداث الإقليمية خلال السنوات القليلة الماضية بأن الإقليم العربي بدأ يتأقلم مع التطلعات الإسرائيلية القائمة على "عكس خطط السلام"، أي تحقيق تطبيع مع الدول العربية والإسلامية على حساب السلام مع الفلسطينيين. وفي هذه الحالة، فإن زيادة قبول إسرائيل إقليمياً والتطبيع معها، سيزيد الضغوط على الفلسطينيين للقبول بالإملاءات الإسرائيلية. ويبدو أن الولايات المتحدة تتجاوب مع هذه الخطة عن طريق التركيز على دعم المزيد من التطبيع العربي الإسرائيلي من جهة، ومحاولة إنعاش السلطة الفلسطينية اقتصادياً من جهة أخرى في ظل غياب كامل لأي مشاريع سياسية يمكن أن تفضي إلى حل الدولتين. لذلك، قد تكون إدامة "الوضع الراهن" مع مزيد من الخطوات "لتقليص مساحات الصراع"، استراتيجية مواتية من منظور الولايات المتحدة والإقليم العربي، حيث يبدو أنه يعطي بعض الفوائد الاقتصادية إلى حد كبير، للفلسطينيين، بينما لا يتطلب أي تنازلات من إسرائيل ولا يفعل الكثير لتغيير الوضع الأمني القائم.

لا تدرك القيادات الفلسطينية حتى هذه اللحظة مآلات الخطة الإسرائيلية في خلق مزيج من الحلول الهادفة إلى ترسيخ "حالة دولة" وفشلت في بلورة خطة فلسطينية بديلة فعالة، وكأن حال القيادة الفلسطينية، هي الانتظار إلى ما ستؤول إليه الخطوات الإسرائيلية. ويزيد المأزق الفلسطيني حالة الترهل القيادية الفاقدة للتحرك والمبادرة وفي ظل أزمات فلسطينية داخلية متتالية وأزمة اقتصادية خانقة واهتزاز للثقة في السلطة الفلسطينية وقياداتها. فبعد أكثر من عقدين من تأسيس السلطة الفلسطينية، تحولت أجهزة السلطة بشكل مطرد إلى جسم سياسي منقسم وغير فعال تسيطر عليه قيادات ضعيفة، وغير مؤهلة لإدارة الصراع مع إسرائيل من جهة، والاستجابة إلى متطلبات التنمية الفلسطينية الداخلية من جهة أخرى. ومع مرور الوقت، تعزز الرفض الشعبي لقيادات السلطة في رام الله التي فشلت على مدار العقد الماضي في عقد انتخابات تشريعية ورئاسية ترمم من خلالها شرعية النظام السياسي الفلسطيني، حيث عبر غالبية الشعب الفلسطيني (71%) عن عدم رضاهم عن الرئيس عباس، البالغ من العمر 86 عاما، (نسبة الرضا فقط 27%)، وباتت تطالبه غالبية كبيرة (74%) بالاستقالة من منصبه وذلك في أحدث استطلاع للرأي العام الفلسطيني أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية(28). ويزيد من مأزق السلطة أن الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني (83%) تعتقد بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية(29) وهو ما أفقد الفلسطينيين الثقة في هذه المؤسسات.   

وفي ظل فقدان الثقة بالعملية السياسية والمفاوضات وفشل القيادة الفلسطينية في طرح بدائل عملية، يراقب الفلسطينيون باستمرار تقلص مساحات الأراضي الفلسطينية لصالح المستوطنين الذين كثفوا من اعتداءاتهم على الفلسطينيين، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انفجار الأوضاع مجددا، منذراً ببدء انتفاضة شعبية جديدة(30). ومما يرجح هذا الخيار هو زيادة عدد العمليات العسكرية ضد المستوطنين والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية ومدينة القدس، وتهديدات حركة حماس المتواصلة ببدء مواجهة عسكرية جديدة في حال لم تتوقف سياسات إسرائيل العدوانية في الضفة الغربية وتنهي حصارها لقطاع غزة. ويدعم هذا الخيار أيضاً سياقات الحرب الأخيرة (مايو/أيار 2021) التي عززت ثقة الفلسطينيين بقدرة العمل العسكري على حساب المفاوضات والمشاريع السياسية، حيث يعتقد ثلثا الفلسطينيين (67%) بأن الحرب التي "بدأتها" حماس كانت من أجل الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى وأنه ينبغي على الحركة إعادة إطلاق الصواريخ في حال عودة إسرائيل إلى سياساتها السابقة في مدينة القدس والمسجد الأقصى(31).

خاتمة

يمكن القول إن تقليص إسرائيل لسيطرتها الاقتصادية والعسكرية على الأراضي الفلسطينية هو خطوة إيجابية إذا ما تحققت بالفعل وكانت ضمن خطة أوسع لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على الأراضي المحتلة عام 1967. ولكن، لا يبدو أن ذلك سيتحقق. ما تريده إسرائيل هو خلق مزيج من الحلول التي تضمن سيطرتها على الأراضي الفلسطينية مقابل توفير منافع اقتصادية للسلطة الفلسطينية. وبما أن القادة الإسرائيليين أوضحوا أن ما يريدونه من الفلسطينيين هو "الهدوء"، فيمكننا أن نفهم أن ثمن مثل هذا التطور الاقتصادي هو المزيد من قمع معارضي استمرار "الوضع الراهن". وهذا يعني استمرار وتكثيف القمع في ظل السلطة الفلسطينية، كما كانت في كثير من الأحيان.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. بتسيلم، هذه لنا وهذه أيضاً لنا: سياسة إسرائيل الاستيطانية في الضفة الغربية، 9 مارس/آذار 2021 (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://kurzelinks.de/7zej
  2. للحصول على قائمة كاملة بالخطوات التشريعية التي تعزز الضم القانوني المتزايد، انظر، ييش دين، قاعدة بيانات لقوانين ومقترحات قوانين الضمّ، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://www.yesh-din.org/en/legislation/   
  3. بتسيلم، هذه لنا وهذه أيضاً لنا: سياسة إسرائيل الاستيطانية في الضفة الغربية، مصدر سبق ذكره.
  4. انظر المخططات الإسرائيلية الجديدة لإنشاء مستوطنة جديدة في منطقة مطار قلنديا، قناة الجزيرة، تفصل القدس عن محيطها.. إسرائيل توافق على بناء مستوطنة بمطار قديم، 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://kurzelinks.de/y20c
  5. جمع البيانات تم جمعها عن طريق د. ليهي بن شطريت.
  6. Peace Index (2010-2018) Israel Democracy Institute, (access on 02 January 2022): https://en.idi.org.il/centers/1159/1520
  7. Hirsch-Hoefler et al. “Voting Right, Thinking Left,” Liberal, 15 October 2021, (access on 02 January 2022): https://kurzelinks.de/4htd
  8. “The Israeli Public’s Main Concerns: COVID-19 and the Economy” Israel Democracy Institute, 02 August 2021, (access on 02 January 2022): https://www.idi.org.il/articles/36112
  9. “Bennet’s Full Speech” YNet, 13 June 2021, (access on 02 January 2022): https://www.ynet.co.il/news/article/By3439Xiu
  10. “Lapid in a Meeting with the US Secretary of State,” YNet, 27 June 2021, (access on 02 January 2022):  https://www.ynet.co.il/news/article/ByskLXLhd
  11.  “He became the intellectual with the most influence on the Israeli government: Who are you, Micha Goodman? Haaretz, 01 December 2021, (access on 02 January 2022): https://kurzelinks.de/i7hk
  12. Goodman, Micha, “Eight Steps to Minimize the Conflict,” Liberal 18 March 2019, (access on 02 January 2022): https://kurzelinks.de/6hxx
  13. نفس المصدر السابق.
  14. المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نتائج استطلاع الرأي العام رقم (75)، 5 -8 شباط/فبراير2020، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://www.pcpsr.org/ar/node/800
  15. الأمم المتحدة، محمود عباس يدعو إلى عقد مؤتمر دولي للسلام، ويعلن التوجه إلى محكمة العدل الدولية،24 أيلول/سبتمبر 2021، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://news.un.org/ar/story/2021/09/1083792
  16. عربي بوست، إسرائيل ترد على محمود عباس بعد مهلة العام للانسحاب من الضفة: كاذب وقد ولى وقته، 24 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://kurzelinks.de/2j72
  17. المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نتائج استطلاع الرأي العام رقم (75)، مصدر سبق ذكره.
  18. محمود جرابعة، ضم الضفة الغربية: نموذج إسرائيلي جديد "للحل" في فلسطين، مصدر سبق ذكره.
  19. قناة الجزيرة، بعد لقاء عباس وغانتس.. بينيت ينفي وجود عملية سياسية مع الفلسطينيين وحماس والجهاد تستنكران، 30 أغسطس/اب 2021، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://kurzelinks.de/jnnn
  20. عوض الرجوب، إسرائيل تعزز السلطة الفلسطينية.. ما الثمن؟، قناة الجزيرة، 1 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://kurzelinks.de/k70y
  21. آرون بوكسرمان، غانتس يستضيف عباس في منزله في أول لقاء لرئيس السلطة الفلسطينية في إسرائيل منذ عقد، تايمز أوف إسرائيل، 29 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول 29 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://kurzelinks.de/79sz
  22. قناة الجزيرة، مليارات الدولارات وآلاف الأطنان من الخرسانة والحديد.. لماذا تتحصن إسرائيل داخل غابة من الجدران؟، 11 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://kurzelinks.de/etjz
  23.  Pranshu Verma and Rick Gladstone, Reversing Trump, Biden Restores Aid to Palestinians, The New York Times, 18 May 2021, (access on 02 January 2022): https://kurzelinks.de/x6ra
  24. Hesham Youssef, 10 Things to Know: Biden’s Approach to the Israeli-Palestinian Conflict, United States Institute of Peace, 10 June 2021, (access on 02 January 2022): https://kurzelinks.de/jh7e
  25. Jacob Magid, US holding off on reopening Jerusalem consulate amid strong pushback from Israel, Time of Israel, 15 December 2021, (access on 02 January 2022): https://kurzelinks.de/rpyv
  26. Rachel Janfaza, Alexandria Ocasio-Cortez explains why voting 'present' on bill to fund Israel's Iron Dome moved her to tears, CNN, 24 September 2021, (access on 02 January 2022):  https://kurzelinks.de/q8nq
  27. وكالة معاً، "فلسطين التاريخية".. التزايد السكاني للفلسطينيين يفزع إسرائيل، 27 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول 28 ديسمبر/كانون الأول 2021): https://www.maannews.net/news/2057138.html
  28. المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، البيان الصحفي: نتائج استطلاع الرأي العام قبل الجولة الأولى من الانتخابات المحلية، 14 -23 تشرين أول (أكتوبر) 2021، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): http://pcpsr.org/ar/node/863
  29. المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نتائج استطلاع الرأي العام رقم (81)، 15 -18 أيلول/سبتمبر2021، (تاريخ الدخول 18 ديسمبر/كانون الأول 2021): http://pcpsr.org/ar/node/859
  30. عاطف دغلس، بمقاومتها وردعها للمستوطنين.. هل تخط قرية برقة طريق "الانتفاضة الشعبية" القادمة في الضفة الغربية؟، قناة الجزيرة، (تاريخ الدخول 27 ديسمبر/كانون الأول 2021):  https://kurzelinks.de/i6bl
  31. المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نتائج استطلاع الرأي العام رقم (81)، مصدر سبق ذكره.