مقدمة
شنَّت "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، فجر يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، هجومًا واسعًا في عمق التجمع الاستيطاني "غلاف غزة"، الذي يضم عددًا من المدن والمستوطنات المتاخمة للخط الحدودي الفاصل بين القطاع وإسرائيل، وهي سبع مستوطنات، إلى جانب 3 ثكنات عسكرية(1).
وقد شمل الهجوم، الذي أعلن عنه محمد الضيف القائد العام لـ"كتائب القسام"، والذي أطلق عليه "طوفان الأقصى"، عمليات تسلل بري نفذتها عشرات الجيبات العسكرية وعمليات إنزال جوي وبحري عبر طائرات شراعية وقوارب؛ حيث استهدفت عمليات التسلل والإنزال في البداية بشكل أساسي القواعد العسكرية التي تؤمِّن الحدود والمستوطنات الواقعة في عمق "غلاف غزة" لتحييدها وتسهيل عملية التوغل.
وعلى الرغم من التضارب في رواية "كتائب القسام" والجيش الإسرائيلي حول عدد القتلى والجرحى والأسرى في صفوف جنود ومستوطني الاحتلال، فإنه حتى بالاستناد إلى ما أعلن عنه الاحتلال يتبين أن نتائج الهجوم كبيرة ومؤلمة جدًّا للاحتلال. فحسب رواية الاحتلال، فإن الهجوم أسفر عن مقتل نحو 350 قتيلًا وجرح 1600 على الأقل من الجنود والمستوطنين وأسر عشرات آخرين، وقدرت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عدد الأسرى الإسرائيليين من جنود ومستوطنين الذين تم نقلهم إلى داخل قطاع غزة بـ100 أسير، في حين لا يزال عدد من "المستوطنين" محتجزًا في المستوطنات التي سيطر عليها مقاتلو "كتائب القسام". وفي المقابل، أسفرت الغارات الجوية التي شنها جيش الاحتلال في تخوم وعمق قطاع غزة عن مقتل 300 فلسطيني وجرح مئات آخرين على الأقل.
وقد أعلن جيش الاحتلال في أعقاب الهجوم حالة الحرب، وهي المرة الأولى التي تعلن فيها إسرائيل حربًا على دولة أو طرف عربي أو فلسطيني منذ حرب 1973.
ترصد هذه الورقة الأسباب التي قادت إلى عملية "غلاف غزة" وخلفياتها، وتحلل دلالاتها وتستشرف مآلاتها وطابع المعادلات التي ترسيها.
أسباب الهجوم وظروفه
جاء هجوم "حماس" في ظل اعتماد إسرائيل إستراتيجية "السيطرة والإخضاع من الخارج"، التي تمارسها إسرائيل ضدها منذ أن تولت الحكم بعد انتخابات 2006. قامت هذه الإستراتيجية على ثلاث ركائز رئيسية، وهي:
أولًا: الحصار، الهادف إلى تقليص قدرة الحركة على تطوير قدراتها العسكرية وتكريس قناعة لدى الفلسطينيين بأن أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية تحت حكم حركة حماس ستظل بائسة، مقارنة بالأوضاع في الضفة الغربية.
ثانيًا: شن عمليات عسكرية بهدف ضرب مقدرات حماس العسكرية حال تعاظمت رغم الحصار، وردعها عن شن عمليات عسكرية انطلاقًا من القطاع، ومعاقبتها وتدفيعها ثمن العمليات التي تشنها الفصائل الأخرى انطلاقًا من القطاع.
ثالثًا: التحكم بوتيرة التصعيد مع حماس عبر تدخل وسطاء إقليميين، سيما في أعقاب الجولات القتالية، مع السماح بإحداث تحسن طفيف على الأوضاع الاقتصادية.
وقد يكون أحد أهم أسباب هذه العملية رغبة حماس في إحباط هذه الإستراتيجية، أو على الأقل تقليص الأثمان التي تدفعها الحركة في إطارها عبر فرض معادلة جديدة مع الاحتلال. ودلَّل هجوم "حماس" على خطأ افتراض جيش ومخابرات الاحتلال أن حركة حماس معنية بشكل أساس بالحفاظ على حكمها في القطاع وأنها غير معنية بمواجهة عسكرية قد تفضي إلى خسارتها هذا الحكم.
وتعد قضية "الأسرى" الفلسطينيين في سجون الاحتلال من العوامل التي دفعت حركة حماس لشن هجومها الذي أسفر عن أسر جنود ومستوطنين أحياء وخطف جثث قتلى ونقلهم إلى داخل قطاع غزة، لتمهيد الظروف أمام التوصل لصفقة تبادل أسرى تفضي إلى الإفراج عن جميع الأسرى في سجون الاحتلال.
أسهمت توجهات وزير الأمن القومي الإسرائيلي "المتطرف"، إيتمار بن غفير، وتصميمه على الدفع نحو تدهور ظروف اعتقال آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال في تعزيز دافعية "حماس" لشن الهجوم غير المسبوق على العمق الإسرائيلي. وتدرك حركة "حماس" مدى اهتمام الجمهور الفلسطيني بقضية الأسرى، فضلًا عن أن هناك الآلاف من قادة وعناصر الحركة الذين اعتقلوا في سجون الاحتلال بعد تنفيذهم عمليات عسكرية بناء على توجيهات قيادة الحركة.
كما أنه لم يكن من سبيل الصدفة أن تطلق حركة "حماس" على هجومها المباغت على العمق الإسرائيلي "طوفان الأقصى"؛ حيث جاء هذا الهجوم بعد تصعيد حكومة "اليمين المتطرف" عدوانها على المسجد، وإحداث طفرة في زيادة أعداد المستوطنين المقتحمين له، في ظل تشديد سياسة القمع ضد الفلسطينيين الذين يعمرون المسجد واعتقالهم وإجبارهم على التوقيع على تعهدات بعدم التوجه إليه مجددًا. فضلًا عن أن حكومة بنيامين نتنياهو -كما كشفت قناة "12" الإسرائيلية- باتت تتعاون بشكل رسمي ومعلن مع حركات "الهيكل" التي تجاهر بسعيها لتدمير المسجد وتدشين الهيكل على أنقاضه؛ حيث دلَّلت القناة "12" على أن وزارة "التراث" الإسرائيلية، شاركت في استيراد أربع بقرات حمراء من ولاية "تكساس" لاختبارها وفحص ما إذا كانت تنطبق عليها "الشروط الفقهية"، التي تسمح باستخدامها في "تطهير" الأقصى قبل تدشين الهيكل على أنقاضه.
كما أن "حماس" أرادت من هذا الهجوم أيضًا إرسال رسالة إلى جيوب المقاومة في الضفة الغربية التي تتعرض لعمليات الاغتيال والاعتقال بشكل يومي أنها ليست وحدها في هذه المواجهة. وجاء هجوم حماس أيضًا في ظل تعاظم وتيرة التوتر بين جيوب المقاومة في الضفة الغربية وأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية، والتي بلغت ذروتها في الأسبوع الماضي (الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2023) في اشتباكات بين عناصر هذه الأجهزة وعناصر من الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي" في مخيم "نور شمس"، قضاء طولكرم، بعد محاولة أمن السلطة الفلسطينية تفريق فعالية للحركة هناك.
بغض النظر عن الأسباب التي دفعت "حماس" لشن الهجوم، إلا أن كل القرائن تشير إلى أن تنفيذ هجوم بهذا الحجم يتطلب إعدادًا طويل الأمد على صعيد التخطيط والإعداد اللوجستي والتدريب وجمع المعلومات الاستخبارية. كما يرى عدد من كبار المعلقين في إسرائيل، جاء الهجوم بعد عملية "تضليل" نفذتها حركة "حماس" لتكريس انطباع لدى محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب، بأنها غير معنية بالمواجهة. وحسب القراءات الإسرائيلية فإن أحد مظاهر عملية "التضليل" هذه تمثلت في عدم مشاركة الحركة في الرد على العمليات العسكرية التي استهدفت قادة حركة "الجهاد" في القطاع.
ويأتي هجوم "حماس" أيضًا في ظل حالة الاستقطاب السياسي والتصدع المجتمعي التي تعصف بإسرائيل، في أعقاب طرح حكومة نتنياهو خطة "التعديلات القضائية" الهادفة إلى إحكام قبضتها على الجهاز القضائي؛ ما فجَّر حركة احتجاجات جماهيرية غير مسبوقة، عكسها بشكل خاص إعلان الآلاف من ضباط وجنود قوات الاحتياط التوقف عن أداء الخدمة العسكرية.
دلالات
دلَّل نجاح حماس في مباغتة إسرائيل على فشل جيش ومخابرات الاحتلال في توقع الهجوم وإحباطه بشكل مسبق. فإسرائيل رغم "اعتدادها" بكفاءة وقدرة أجهزتها الاستخبارية، عجزت عن الحصول على معلومات حول نوايا "حماس" لشن الهجوم، على الرغم من أنه يفترض أن عددًا كبيرًا من قيادات "كتائب القسام" وعناصرها كانوا منغمسين في التحضيرات لشنِّه منذ أمد بعيد؛ مما كان يفترض أن يوفر الظروف للاستخبارات الإسرائيلية لجمع معلومات تفضي إلى إحباط الهجوم، أو على الأقل أن تقلص من نتائجه.
إلى جانب ذلك، فقد أثبت الهجوم انهيار المنظومات الدفاعية الإسرائيلية التي تؤمِّن الحدود مع غزة، التي تشمل فرقة عسكرية كاملة، تضم ثلاثة من ألوية الصفوة في سلاح المشاة وكتائب مدرعات ومنظومات تجسس تكنولوجية وسيبرانية وأسرابًا من الطائرات المسيرة. وقد تبين عدم جدوى الجدار الحدودي الذي دشنته إسرائيل على الحدود مع القطاع بهدف مواجهة خطر الأنفاق، والذي كلف خزانة إسرائيل مليارات الدولارات.
وقد عكس تمكن مقاتلي "كتائب القسام" من السيطرة على قواعد عسكرية، وضمنها مقر قيادة الفرقة العسكرية التي تشرف على الجهد الحربي وعدد كبير نسبيًّا من المدن والمستوطنات وأسر العشرات من الجنود والمستوطنين، صدمة ستنعكس سلبيًّا على معنويات جنود الاحتلال وعناصر شرطته.
تداعيات
مثَّل هجوم "حماس" حلقة في مسار مواجهة قد تكون طويلة الأمد بين الحركة وإسرائيل. فإعلان إسرائيل حالة الحرب لأول مرة بعد 50 عامًا من حرب 1973 جاء لطابع الأهداف التي ستسعى إسرائيل لتحقيقها فيها.
وستخضع العمليات العسكرية الإسرائيلية التي بدأت بالفعل إلى حسابات حكومة نتنياهو الداخلية، المعنية باسترضاء جمهورها عبر إلحاق أكبر قدر من الخسائر في الأرواح في أوساط المدنيين الفلسطينيين.
ستفرض نتائج الهجوم على إسرائيل محاولة المس بشكل كبير وعميق بقيادات حركة "حماس" السياسية وقيادة "كتائب القسام" وعناصرها وبناها التنظيمية والعسكرية في جميع أرجاء القطاع، وتحديدًا منصات إطلاق الصواريخ. إلى جانب ذلك، سيفرض أسر عدد كبير من الجنود والمستوطنين على إسرائيل تنفيذ عمليات توغل في عمق القطاع لمحاولة تحريرهم. وقد يستدعي تحقيق هذه الأهداف شن عملية برية طويلة الأمد في عمق القطاع.
إن مسار الحرب الإسرائيلية سيتأثر بطابع ردود الساحات الأخرى. فاشتعال جبهة الضفة الغربية سيزيد من حجم الأعباء على كاهل جيش الاحتلال ويقلص قدرته عل استنفاد طاقته في الحرب على غزة. في الوقت ذاته، تتخوف إسرائيل من ردود فعل فلسطينيي الداخل على سلوكها ضد القطاع؛ ذلك أن هذا السيناريو إن تحقق، يمكن أن يؤثر على قدرة المؤسستين العسكرية والأمنية على مواصلة العمليات في القطاع، كما حدث أثناء الحرب على قطاع غزة في مايو/أيار 2021.
كما تتخوف إسرائيل من فتح حزب الله والفصائل الفلسطينية في لبنان جبهة ثانية، على اعتبار أن مثل هذا التطور يمكن أن يغير مسار المواجهة بشكل كبير، سيما في حال تطورت المواجهة إلى حد استخدام حزب الله كل ما تحوزه ترسانته الصاروخية. وتقر إسرائيل بأن ترسانة حزب الله الصاروخية يمكن أن تمس بشكل غير مسبوق بمؤسساتها العسكرية ومنشآتها الحيوية وعمقها المدني. والجدير بالذكر، أنه جرى قصف متبادل عبر مزارع شبعا (8 أكتوبر/تشرين الأول 2023) بين حزب الله والجيش الإسرائيلي اليوم، وإن كان من السابق لأوانه الحكم على مدى تطوره، إلا أنه يبقى أحد المؤشرات على احتمال توسع الصراع.
وعلى الصعيد الداخلي كان لهجوم حماس تأثير مباشر على الواقع السياسي الإسرائيلي؛ إذ أفضى إلى توقف الجدل حول خطة التعديلات القضائية، ودعت الحركات المسؤولة عن إدارة الاحتجاج ضد هذه الخطة الضباطَ والجنودَ الذين أعلنوا عن توقفهم عن أداء الخدمة العسكرية احتجاجًا على الخطة، إلى استئناف الخدمة. كما دعا يائير لبيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، رئيس الوزراء، نتنياهو، إلى تشكيل حكومة "طوارئ وطنية" لا تضم "الحركات المتطرفة".
خاتمة
بغض النظر عن مآلات الحرب التي شرعت إسرائيل في شنها، فإن الهجوم الذي شنته حركة حماس أدى إلى تآكل قوة الردع الإسرائيلية بشكل كبير، ومس بمعنويات الإسرائيليين، وأضعف ثقتهم بقدراتهم العسكرية والاستخبارية؛ فبث "كتائب القسام" مشاهد اقتحام الحدود والمستوطنات والقواعد العسكرية وأسر الجنود والمستوطنين وجلبهم إلى غزة والسيطرة على الدبابات والعربات العسكرية سيترك آثارًا عميقة على الوعي الجمعي للإسرائيليين(2). ويتوقع أن تؤثر الحرب -التي أعلنت عنها إسرائيل- سلبيًّا على فرص التوصل لاتفاقات تطبيع بين إسرائيل ودول عربية.
- الجزيرة نت، نقاط إستراتيجية ومستوطنات منذ النكبة.. ما المواقع التي استهدفها "طوفان الأقصى"؟، (8 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، (تاريخ الدخول: 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023): https://cutt.us/AFgB6
- يقول عيران تسيون، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق: "أية عملية عسكرية مهما كانت واسعة لن تمحو حقيقة أن حماس وجهت ضربة موجعة لإسرائيل على المستوى الإستراتيجي والتاريخي. لقد تمكنت حماس من تحقيق هذا الإنجاز الفذ الذي سيدرس في المدارس العسكرية لسنوات طويلة...".