مقدمة:
إن النظام العالمي يتأسس على نمط التحالفات القائمة بين القوى الكبرى، ويتأثر بالتوازنات القائمة في حركة العلاقات الدولية. والطبيعة المرحلية للنظام العالمي تؤدي في الغالب إلى ظهور نظام جديد نتيجة للمتغيرات على الساحة العالمية فيما يتعلق بموازين القوى دولياً، وهذا ما أدى إلى ظهور نظام عالمي ثنائي القطبية في مرحلة الحرب الباردة وما تخللها من صراع إيديولوجي وتنافس سياسي واستراتيجي للسيطرة على العالم في صراع استمر حتى انتهاء الحرب الباردة، وما تلاها من تغيرات دولية متعددة أسهمت بشكل كبير في بروز مفاهيم وقضايا وأولويات للنظام العالمي لم تكن معهودة في السابق، مما مهد ّلظهور نظام عالمي أحادي القطبية من أبرز سماته تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة وزعامة العالم. وقد حاولت الولايات المتحدة أن تسيطر على التفاعلات الدولية وأن تضبط حركتها بما يحقق لها فرض السيطرة وتعزيز مكانتها، واستمر هذا التفرد الأمريكي على الرغم من صعود بعض القوى الدولية والنمو الاقتصادي الذي حققته بعض الدول. وقد صار موضوع تحولات النظام العالمي كأنموذج عالمي ليس محصوراً في جانب واحد، فهو يرمي إلى الكشف عن الانعكاسات والتحديات المفروضة على الدول والحكومات كوحدات سياسية وغير ممكن استبعادها في عمليات التحليل الرئيسة، مع إمكانية تصور رؤى استشرافية مستقبلية للأنموذج نفسه. وهذا العمل يتأسس بدرجة كبيرة على الأزمات التي تغير بنية النظام العالمي.
من هذا المنطلق طرحت الأزمة العالمية التي أحدثتها جائحة كورونا تحديات جديدة على النظام العالمي فيما يتعلق بأنماط علاقات التعاون والصراع على المستوى الإقليمي والدولي؛ نتيجة لما خلفته هذهِ الجائحة من تداعيات على السياسات الداخلية والخارجية للدول ومختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية، إذ إن أغلب الدول قامت بإعادة أولوياتها لمواجهة مخاطر جائحة كورونا، ومن ثم يمكن أن تؤدي الأزمات الكبرى إلى تبديل في مواقع القيادة والهيمنة والمكانة للقوى العظمى في النظام العالمي، بحيث يتراجع البعض أو قد يتقدم الآخر حسب كفاية كل دولة على مواجهة الأزمات. وطالما الهيمنة والقيادة هي أبرز معالم النظام العالمي الذي تتصارع عليه القوى العظمى، فمن الطبيعي أن يتعرض النظام إلى تغييرات في مراكز السيطرة، نتيجة تداعيات جائحة كورونا وانعكاساتها على تحولات النظام العالمي القائمة منذ الحرب الباردة ومدى تصدر الولايات المتحدة الأمريكية لقيادة العالم.
من هنا فإن موضوع الدراسة يتركز في معرفة تداعيات جائحة كورونا على النظام العالمي وإمكانية تغيره وانعكاس ذلك على هيمنة الولايات المتحدة عليه، فضلاً عن مسعاها (الدراسة) لتحديد نقاط الضعف التي يعاني منها النظام العالمي قبل الجائحة بغية تتبع التحولات العالمية الجديدة التي لحقت به.
أهمية الدراسة:
تأتي أهمية الدراسة من أنها تعالج موضوع تحولات النظام العالمي بعد جائحة كورونا ومدى تأثيره في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في النظام العالمي الذي يلقى اهتماما متزايدا من الباحثين، ويشكل موضع جدل لا سيما مع مطلع الألفية الجديدة واتخاذه طابعاً تشابكياً عالمياً بمختلف المستويات السياسية منها والاقتصادية والأمنية وغيرها، ما قد يؤدي لأنماط جديدة من التحولات. من تلك التحولات الجديدة ما هو نظري كمفهومي متغير القوة، وميزان القوى، ومنها ما هو عملي كنسق الحضارة والعولمة والأزمات والصراعات العرقية وانتشار الأسلحة، وانفتاح الحدود وزوال الحواجز التقليدية. وانطلاقاً من ذلك جاءت أهمية الدراسة لتسليط الضوء على زاوية تحليل التأثيرات المحتملة لأزمة جائحة كورونا في بنية النظام العالمي.
مشكلة الدراسة:
تنطلق مشكلة الدراسة من سؤال مركزي مفاده: هل تؤثر تحولات النظام العالمي، لاسيّما بعد جائحة كورونا، في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية؟ وإلى أي مدى تؤثر تلك التحولات؟، إذ إن القدرة على البحث عن التحولات الرئيسة للنظام العالمي بعد جائحة كورونا في ظل غياب دولة قوية بما يكفي لتقدم أنموذجاً للقيادة وقت الأزمات على المستوى العالمي، بعد ضعف القيادة الأمريكية في تشكيل وحدة عالمية، تتطلب تسليط الضوء عليها. لذلك تأتي هذهِ الدراسة لتكشف مدى التأثير الذي انعكس في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في النظام العالمي، من خلال طرح عدة تساؤلات باعتبارها مشكلات ثانوية وهي:
- ما أبرز التحولات الدالة على قرب بزوغ نظام عالمي جديد مدفوع بالانعكاسات المختلفة لجائحة كورونا في النظام العالمي؟
- هل تؤدي إجراءات مواجهة جائحة كورونا إلى تراجع العولمة وتقوية دور الدولة القومية؟
- هل أدت جائحة كورونا إلى تغير مكانة الولايات المتحدة على المستوى العالمي، وانحسار دورها القيادي؟ وهل ستتبع الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية جديدة مضادة للتمسك بمكانتها ونفوذها في النظام العالمي؟
- ما ملامح النظام العالمي الذي سيتطور في المستقبل؟ وكيف ستكون حالة القطبية في النظام العالمي الجديد؟
فرضية الدراسة:
اتساقاً مع مشكلة الدراسة، وللإجابة عليها، ننطلق من فرضية رئيسة مفادها "إن جائحة كورونا قد تساهم في حدوث تغييرات في النظام العالمي لن تصل الى مستوى التحولات الجذرية في بنية النظام العالمي الراهن والقيادة الأمريكية، إلا أنها ستعزز إبطاء مسار العولمة وتنامي دور الدولة الوطنية، وقد يبرز عنها ميزان قوى عالمي جديد يتجه نحو مزيد من التوزيع والتعددية، فضلاً عن تنامي حدة الطابع التنافسي بين القوة العظمى وبعض القوى الكبرى، ولاسيّما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، بحيث إن النظام العالمي ما بعد كورونا لن يكون نفسه مثلما ما قبلها".
منهج الدراسة:
تم توظيف منهج بحثي أساسي، فضلاً عن أكثر من أسلوب بحث، بهدف الوصول إلى دراسة تتوخى الموضوعية والعلمية في الطرح من خلال اعتماد (المنهج الاستنباطي) القائم على التحليل والاستنباط، الذي يتم عبره رصد الظواهر المختلفة كجائحة كورونا ثم ربطها للوصول إلى استنتاجات بشأنها. ولتوضيح المفاهيم التي يثيرها الموضوع تم توظيف (المدخل التاريخي) للإشارة إلى بعض الأحداث التاريخية كدالة عمل لا غنى عنها لمعالجة نشوء النظام العالمي وتطوره، وبعض الجوائح التي شهدها العالم، و(المدخل المقارن) لعرض حالة النظام العالمي في مرحلة ما قبل الجائحة كإطار للمقارنة، ومعرفة حدود التغييرات التي يتوقع أن تحدثها هذهِ الجائحة على النظام العالمي، وقد تم الاستعانة بـ(أدوات الدراسات الاستشرافية الاحتمالية) للوقوف على مستقبل النظام العالمي عبر مشاهد محتملة الحدوث.
الخاتمة والاستنتاجات
خلصت الدراسة إلى أن جائحة كورونا شكَّلت أزمة عالمية كان من الممكن أن تؤدي إلى تغيير في معادلة القوة العالمية، وذلك بما أحدثته من تأثير في التوازن الإقليمي والدولي الذي يرتكز عليه النظام العالمي، ذلك لأن انتشار فيروس كورونا أدى إلى جملة من التداعيات السياسية والاقتصادية والبيئية والأمنية، فضلاً عن ارتفاع أعداد الوفيات يوماً بعد آخر وعدم قدرة المنظومات الصحية في عديد دول العالم على تحمل ذلك، الأمر الذي هدد الاستقرار العالمي وتسبب في إحداث بعض التغييرات في شكل النظام العالمي.
وانتهت الدراسة إلى أنه من الصعب التكهن بمستقبل النظام العالمي والجائحة لا تزال مستمرة، أو رسم الشكل النهائي لنظام عالمي جديد وملامح العلاقات الدولية ما زالت قيد التشكل. لقد تعاملت الصين مع الجائحة بنجاح مقارنة بغيرها من عديد دول العالم، وفي الوقت نفسه قدمت لغيرها من الدول مساعدات ما ساعد على تعزيز نفوذها ومكانتها على الصعيد الدولي؛ في المقابل ظهرت الولايات المتحدة الأميركية متلكئةً واعتمدت سياسة العزلة والانكفاء، ومع ذلك فلا يزال ميزان القوى لصالح الولايات المتحدة بما يمكنها من الاستمرار في قيادة العالم.
لقد أثبتت جائحة كورونا ضرورة أن يكون النظام العالمي أكثر تعقلاً وميلاً للطابع الإنساني، كما أثبتت أهمية القوة الناعمة للتأثير في نسق التفاعلات العالمية.
وفي ضوء ما طرحته الدراسة تم التوصل إلى حصيلة من الاستنتاجات، أبرزها:
- أن الجائحة أحدثت بعض التغييرات غير الجذرية في النظام العالمي وذلك بعد إعادة توزيع القوى والتحالفات الدولية على نحو جديد.
- أن الدول القوية اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا أثبتت فاعليتها في مواجهة الجائحة.
- عملت الجائحة على تعاظم دور الدولة الوطنية، وتقوية مفهوم الحكومة المركزية، نتيجة تبني الحكومات المركزية إجراءات لمواجهة الجائحة، في الوقت الذي تراجع فيه نظام العولمة والاعتماد المتبادل والمشاكل التي ظهرت في سلاسل توريد الغذاء والدواء.
- أوضحت الدراسة تراجع الأنظمة الديمقراطية مقابل زيادة شعبية الأنظمة الشمولية في مسألة التعامل مع الجائحة.
- انتهت الدراسة إلى فشل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام في قيادة العالم خلال جائحة كورونا؛ بسبب تعاملهما السلبي، الأمر الذي أدى الى حدوث تصدعات نسبية في مكانة القطب الأمريكي في النظام العالمي وبدت الولايات المتحدة غائبة وغير قادرة على التعامل مع الجائحة أو قيادة النظام العالمي في تلك المرحلة الحرجة.
- أدت الجائحة إلى صعود بعض القوى الأخرى مثل الصين ودول جنوب شرق آسيا، وبروز الهند وروسيا كقوتين في حلبة الصراع العالمي.
- فشل المؤسسات الدولية في القيام بدورها الذي كان متوقعا سواء في التحذير أو التنسيق للحد من الجائحة وتداعياتها.
- أظهرت جائحة كورونا أن الدول التي تتمتع بأنظمة صحية وقدرات تكنولوجية متطورة قد تفوقت على نظيراتها التي تفتقر إلى هذه العوامل في التعامل مع الجائحة.
- أوضحت قوة الروح الإنسانية ونجاحها في مواجهة الخطر، وأبانت عن أهمية القيم الإنسانية لتعزيز التعاون الجماعي.
- ألمحت الدراسة إلى أن التنافس والصراع المستقبلي سوف يتخذ شكلاً جيوسياسيًّا وبيولوجيًّا وتكنولوجيًّا بعد أن اتضح خلال جائحة كورونا أهمية تكنولوجيا التحول الرقمي وتقنيات الذكاء الاصطناعي في مكافحة الجائحة.
- أوضحت الدراسة أن النظام العالمي سوف يكون متعدد المراكز وليس متعدد الأقطاب؛ مع احتفاظ الولايات المتحدة الأمريكية بمركز الصدارة العالمي.
- لقراءة وتحميل الأطروحة (اضغط هنا)
- الآراء الواردة في الأطروحة تُعبِّرُ فقط عن كاتبها، ولا تُعبِّرُ بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات.