الاتجاه الواقعي في فكر ابن خلدون ومكيافيلي: دراسة في إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق

تباينت رؤى وفلسفات نموذجي ابن خلدون ومكيافيلي حول طبيعة العلاقة بين السياسة والأخلاق، وذلك بحسب المنظور الحضاري والنهضوي لكليهما، وهو ما يبرر ثبات وإصرار ابن خلدون على نموذجه المعرفي الذي يُخضِع الظاهرة السياسية –بكافة أبعادها- للقيم الدينية، بينما اضطر مكيافيلي إلى محاولة الخروج عن النموذج المعرفي للعصور الوسطى، من خلال رفض هيمنة الفكر الكنسي على الظاهرة السياسية، وسعى إلى نهضة مجتمعه عبر إحياء النموذج الروماني، والذي طالما استخدم حكامه وساسته القيم الدينية لخدمة أهداف وغايات السياسة، سعياً إلى تحقيق المصالح العليا للمجتمع. وبهذا كان ابتعاد مكيافيلي عن القيم الدينية تحرراً وانطلاقاً نحو نهضة أمته، بينما نظر ابن خلدون إلى القيم الدينية باعتبارها المخرج الأساسي لأمته من أزمتها السياسية العميقة والمتجذرة. ولئن مضى كلاهما دون أن يرى تطبيقاً واقعياً لرؤيته، فقد بقيت آثار تلك الرؤى –رغم تباينها- تضيء طريق النهضة في كلا المجتمعين.
(الجزيرة)

مقدمة

تستعرض أغلب الأدبيات السياسية مسألة العلاقة بين السياسة والأخلاق كواحدةٍ من أقدم إشكاليات الفلسفة السياسية وأشدّها تعقيداً، كما يتمّ تناولها باعتبارها إحدى أهمّ مشكلات الفكر الإنساني بشكلٍ عام، رغم أنّ إنعام النظر في هذه المسألة يُظهر أن مسألة العلاقة بين السياسة والأخلاق لا تمثل مشكلةً إنسانيةً عامة، وإنما هي مشكلة محلّية ترتبط بالفكر والواقع الغربيين، غير أنّ الغرب نجح في الترويج لحضارته باعتبارها "الحضارة الإنسانية"، لا كمجرد نموذجٍ لحضارة إنسانية، أو كبحثٍ ضمن السجلّ العريض للتاريخ البشري، مما أضفى على تلك الإشكالية سمة العالمية. والدليل على الخصوصية الغربية لهذه الإشكالية أنّ كثيراً من الحضارات الإنسانية لم تتعرض خلال تاريخها لهذه الإشكالية، ويمثل نموذج الحضارة الإسلامية أحد أبرز هذه النماذج، وذلك رغم امتداد تلك الحضارة واسعة النطاق لأكثر من عشرة قرون.

وتزداد أهمية مسألة العلاقة بين السياسة والأخلاق في الفكر الغربي لعددٍ من الأسباب، فمن ذلك: أنّ إحدى أهمّ معضلات الفكر السياسي الغربي تتمحور حول تحديد النظام السياسي "الأمثل" وكيفية تحقيقه، كما وأنّ العالم الغربي -على تنوع امتداده التاريخي- لم يشهد نموذجاً عملياً متزناً لعلاقة السياسة بالأخلاق، سواء كان ذلك ضمن إطار المرجعية الفلسفية خلال العصر اليوناني، أم في ظلّ المرجعية الدينية طوال العصور الوسطى، بل إنّ معاناة الغرب في ظلّ النموذج الأخير كانت أشدّ مرارة، مما كان سبباً أساسياً في ترسيخ قناعة العقل الغربي بعدم إمكانية الجمع بين الدين –ومعه الأخلاق– وبين السياسة. وكعادته عمّم الفكر الغربيّ نموذجه الاستثنائي، فجزم باستحالة تحقيق الحريات العامة والمصالح السياسية في أيّ مجتمع -بشكلٍ عام– في ظلّ المرجعية الدينية، والتي لا يتخيلها الغرب إلا في صورة تلك القيود الكهنوتية التي طالما عانى منها تاريخياً، ولهذا يستنكر الغرب حرص كثيرٍ من المسلمين على استعادة نظامهم التاريخي، دون أن يتيح لنفسه فرصة التعرف على الفوارق الجوهرية بين الإسلام والمسيحية، بل إنّ كثيراً من المثقفين المسلمين -الذين تأسّست معارفهم على العلوم الغربية- يسايرونه في تلك التوجهات التي تفتقد إلى أبسط الأسس المعرفية، فيتوهمون أنّ نهضة أمتهم لن تتحقق إلا عبر تنحية الدين بعيداً عن الشأن العام، ليتمكّن المجتمع حالئذٍ من الانطلاق نحو التقدم، ساعين بذلك إلى استنساخ نموذج النهضة الغربية، والتي لم تتحقق في واقعها إلا عبر الثورة على المفاهيم الدينية.

وقد شهد القرن العشرون عدداً من الطفرات الفكرية في علاقة الأبعاد الدينية بالظاهرة السياسية، وذلك على مستوى الحضارتين الغربية والإسلامية، بدءاً من المراجعات المقارنة في الغرب في مرحلة ما بعد الحداثة، مروراً بتنامي ظاهرة الأحزاب السياسية ذات المرجعية المسيحية في المجتمعات الغربية، وانتهاءً بالمراجعات الجذرية للفكر الليبرالي، تحاشياً للآثار السلبية الناشئة عن تطرف التوجهات الفردية على حساب المصالح المجتمعية، كما برزت ظاهرة الإحياء الإسلامي في عددٍ من المجتمعات المسلمة، وتركت هذه الظاهرة آثاراً واضحة على واقع تلك المجتمعات في جوانب سياسية وتشريعية واجتماعية عديدة.

وخلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين والأولى من القرن الحادي والعشرين كانت الطفرة الأهمّ في ارتباط الأبعاد الدينية والحضارية بالظاهرة السياسية، حيث شهد العقد الأخير من القرن العشرين اهتماماً بالغاً بالأبعاد الحضارية للظاهرة السياسية فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وظهرت مقولات صراع الحضارات ونهاية التاريخ. ثم بلغ الاهتمام الغربي بالأبعاد الدينية للظاهرة السياسية مداه على أثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي مثلت أساساً جديداً لفهم وتحليل العلاقة بين الدين والسياسة، ودشنت اعتماد فواعل جديدة على المستويين الفكري والتطبيقي في العلاقات الدولية. وعلى هذا الأساس تنامت الدراسات التي تتناول العلاقة بين الظاهرتين الدينية والسياسية، كما تطورت كذلك الدراسات المقارنة التي تحلل أثر الأبعاد الدينية في الظاهرة السياسية بين الفكرين الغربي والإسلامي.

وقد قرّر عددٌ من المفكرين أنّ المقارنة بين الفكرين الغربي والإسلامي لا تمثّل مقارنةً بين فكر إنسانيّ عالميّ وبين منظورٍ خاص بالمسلمين، وإنما هي مقارنة بين خصوصيتين ثقافيتين تتنازعان صفة العالمية، تمثل أولاهما رؤى ومصالح الغرب الذي يتفانى في فرض نموذج عولمته بوسائل عديدة، وتمثل الأخرى الفكر الاسلامي كرسالةٍ عالمية في وجهتها وغاياتها، ولكلا النموذجين أسسه ووسائله وأهدافه التي يتميز بها عن الآخر، ومن خلال المقارنة يظهر تمايز النموذجين بشكلٍ واضح في لحظات السموّ الحضاري لكليهما. غير أنّ التحيز المعرفي للفكر الغربي يصرّ على إجراء المقارنة بين النموذجين في لحظةٍ تاريخية معينة، ليدلل بذلك على سموّ نموذجه الفكري ورجعية الفكر الإسلامي، بينما تنعكس النتائج تماماً حال إجراء تلك المقارنة خلال لحظات السموّ الحضاري للفكر الإسلامي. ولهذا كان من العدالة ومن الإنصاف العلمي والمنهجي أن يتم إجراء المقارنة بين النموذجين إما من خلال نموذجيهما المعرفي النظري، أو عبر المقارنة بين ممارسات كل منهما في لحظات سموه الحضاري.

وعلى هذا الأساس كانت هذه الدراسة المقارنة التي تسعى إلى إبراز بعض جوانب الاتفاق والتباين بين الفكرين الغربي والإسلامي بشأن إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق ، والتي لجأ فيها الباحث إلى اقتراب الواقعية، وذلك لأن الرؤية المثالية تركّز على الجوانب المضيئة من المنظومات الفكرية، مما يقارب في السموّ الفكري بين كافة الرؤى والفلسفات -على اختلافها وتنوعها-، إذ تتضمن كلّ فلسفة جانباً متميزاً من القيم والأخلاق، ليظهر تمايز الأمم في مدى عمق وتجذّر تلك الجوانب القيمية والأخلاقية في الواقع العملي للمجتمعات. وهذا ما تبرزه الرؤية الواقعية بشكل واضح، حيث تركز على وصف الواقع، وعلى تحليل العلاقات القائمة بين جوانبه المختلفة، بعيداً عن الانشغال بإصدار الأحكام القيمية على الواقع، أو الإغراق في توجيه الوصايا والنصائح المثالية للقائمين على المجتمع بغرض تقويمه، إذ يمثل التوصيف الواقعي للظاهرة السياسية –في نظر رواد الواقعية- الأساس الضروري للمعالجة الحقيقية لمشكلات تلك المجتمعات. وقد يكتفى بعض رواد الواقعية بهذا التمهيد الوصفي الأساسي، وقد يكمل بعضهم الآخر رسالته تجاه مجتمعه برسم معالم التحول العمليّ إلى النموذج المنشود -أو على الأقل الأنسب لتلك المرحلة-.

وإلى جانب اعتماد الواقعية مدخلاً أساسياً للدراسة؛ كان اختيار الباحث لابن خلدون ومكيافيلي تعبيراً مناسباً عن عموم الفكرين الإسلامي والغربي على الترتيب، حيث يمثل كلاهما نموذجاً للمفكر الواقعي الذي جمع بين الفكر العميق والخبرة العملية من جانب، وعاصر كلاهما فترة انهيارٍ حضاري لأمته، وحرص كلّ منهما على معالجة الأزمة المجتمعية لعصره من جانب آخر، كما حظي كلاهما بقبولٍ وافر في مجتمعه، واعتبر مجتمعاهما كل مفكر منهما تعبيراً صادقاً عن فكر أمته، كما كانت فلسفته محاولةً نموذجية لعلاج الأزمة الحضارية لمجتمعه، على الأقل في تلك اللحظة التاريخية التي عاصرها كلا المفكرين.

ونظراً لتقارب المنهجية العلمية وطبيعة التحليل الواقعي للظاهرة السياسية فقد أبرزت الدراسة مدى التوافق الواسع بين رؤيتي ابن خلدون ومكيافيلي في محورية دور القوة في الظاهرة السياسية، بدءاً من الوصول إلى السلطة، ومروراً بالقدرة على استثمار القوة لتحقيق استقرار المجتمع وحمايته من الأخطار الداخلية والخارجية، وانتهاءً بانهيار تلك السلطة مع تقلص أسس قوتها، ونجاح قوة جديدة في الوصول إلى السلطة. وقد أثارت هذه التوافقات تعجّب بعض المفكرين، "فنحن أمام مفكريْن ينتميان إلى حضارتين متباينتين –وأحياناً متعاكستين بقوة-، وما من مشيرٍ (مؤشّر) يسمح بالتفكير أنّ أحدهما أثّر في الآخر، ومع ذلك يتوصلان –معظم الأحيان- إلى استنتاجات متماثلة" ([1]). ورغم تعدّد الموافقات بينهما فقد أظهرت الدراسة وجود عديد من التباينات الفلسفية بين ابن خلدون ومكيافيلي تجاه الجوانب القيمية والأخلاقية، ومدى وكيفية تأثيرها في الظاهرة السياسية، ولهذا ركزت الدراسة على إبراز العناصر المعرفية والحضارية التي أدت إلى تباين الفلسفة السياسية للنموذجين تجاه الأبعاد الأخلاقية.

وتمثل هذه الدراسات الحضارية المقارنة أساساً لإعادة اكتشاف الذات والآخر، وتمهيداً ضرورياً لاستعادة ثقة مجتمعنا بنفسه، ليتمكن من تحقيق نهضته واستئناف مسيرته الحضارية، إذ يمثل التلاقح الثقافي والحضاري أحد أهم معالم الفكر الإنساني. حيث يتمكن رواد الأمم من استيعاب الرؤى والفلسفات الأخرى، وهضم أهم جوانب تلك الإبداعات ضمن النموذج الحضاري لأممهم، وهو ما دعا إليه بعض المفكرين من خلال السعي إلى تأسيس علم "الاستغراب"، والذي "يهدف إلى فكّ عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربيّ، بتحويله من ذاتٍ دارس إلى موضوعٍ مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا، بتحويله من موضوعٍ مدروسٍ إلى ذاتٍ دارس" ([2]).

وقد أبرزت هذه الدراسة أثر النماذج المعرفية والأسس الحضارية لنموذجي الدراسة في توجيه رؤية كل منهما نحو معالجة الأزمات المجتمعية، وظهر ذلك بوضوح في مسألة العلاقة بين السياسة وبين القيم الأخلاقية، وذلك كنتيجةٍ أساسية لترتيب منظومة الأولويات الفكرية والواقعية بين نموذجي الدراسة. فقد تعرض كلاهما لصدمةٍ شخصية قاسية، أثارت انتباهه كلياً إلى أزمة مجتمعه، والتمس كلّ منهما –بحسب منظومته الفكرية- علاجاً لتلك الأزمة العميقة. وكان عنصر "الدين" أحد أهم أسس تباين فلسفتي النموذجين، فقد رأى ابن خلدون أنّ أزمة أمته تكمن في انحراف المجتمع –ولا سيما النخبة الحاكمة- عن المنهج الإلهي، فقرر –من خلال التحليل الواقعي ورؤيته التاريخية- أن جوهر المعالجة يتمثل في رأب الصدع وتقليص الفارق بين الواقع الكائن وبين النموذج الذي ينبغي أن يكون، فرأى أنّ القيم الإسلامية هي طوق النجاة وهي الرافعة الأساسية لأية نهضة في هذه المجتمعات، وذلك لأن فلسفة الإسلام لا تدور حول ماهية النموذج المثالي، وإنما حول كيفية فهم وتطبيق ما دعت إليه الشريعة، والذي يجسّد النموذج المثالي الذي يحقق للأمة خيري الدنيا والآخرة –كما مضى على ذلك جزءٌ من تاريخها-. ولهذا أراد ابن خلدون أن يلفت الأنظار إلى ضرورة الإعداد الجديد والمتميز لرواد هذه المجتمعات -من خلال "العبر" وقوانين الاجتماع-، لتستعيد الأمة مرجعية الدين الشاملة كأساس لكافة منظومات المجتمع، ولتنشأ نخبتها الجديدة على عمق الفهم والتحليل كضرورة للتعامل مع المستجدات الحضارية المختلفة.

بينما رأى مكيافيلي أنّ جوهر أزمة مجتمعه يكمن في طبيعة النموذج المعرفي المرتبط بالعصور الوسطى، والذي رآه عاجزاً عن استيعاب وإجابة كثيرٍ من أسئلة الواقع الجديد للمجتمع في عصر النهضة، فأيقن بعدم إمكانية الجمع بين ذلك النموذج وبين التحليل الواقعي للظاهرة السياسية، فكان لجوؤه إلى التاريخ سعياً إلى إعادة إحياء النموذج التاريخي الذي تحققت في ظله أمجاد الماضي، ومن ثم كانت محورية النموذج الروماني في فلسفته النهضوية. وعلى أساس ذلك صدع مكيافيلي بما رآه حقاً في وقتٍ لم تزل فيه هيمنة السلطة الروحية واضحة، وصرّح مبكراً جداً –وفي شجاعةٍ نادرة- بضرورة خضوع الدين لأولويات الحركة السياسية ومقتضياتها الواقعية، مقرراً أن هذه الرؤية لا تنتقص من أهمية الدين كأساسٍ ضروري للاستقرار المجتمعي، وإنما تعيد منظومة مجتمعه إلى ذلك المسار الحضاري الذي حققت في ظله نهضتها التاريخية، ومن ثم فلا مخرج من الأزمة الراهنة لمجتمعه إلا عبر تكرار ذلك النموذج.

وعلى هذا الأساس الفكري تباينت رؤى وفلسفات النموذجين حول طبيعة العلاقة بين السياسة والأخلاق، وذلك بحسب المنظور الحضاري والنهضوي لكليهما. وهذا التفسير هو ما يبرر ثبات وإصرار ابن خلدون على نموذجه المعرفي الذي يُخضِع الظاهرة السياسية –بكافة أبعادها- للقيم الدينية، بينما اضطر مكيافيلي إلى محاولة الخروج عن النموذج المعرفي للعصور الوسطى، من خلال رفض هيمنة الفكر الكنسي على الظاهرة السياسية، وسعى إلى نهضة مجتمعه عبر إحياء نموذج أمجاده الروماني، والذي طالما استخدم حكامه وساسته القيم الدينية لخدمة أهداف وغايات السياسة، سعياً إلى تحقيق المصالح العليا للمجتمع. وبهذا كان ابتعاد مكيافيلي عن القيم الدينية تحرراً وانطلاقاً نحو نهضة أمته، بينما نظر ابن خلدون إلى القيم الدينية باعتبارها المخرج الأساسي لأمته من أزمتها السياسية العميقة والمتجذرة. ولئن مضى كلاهما دون أن يرى تطبيقاً واقعياً لرؤيته، فقد بقيت آثار تلك الرؤى –رغم تباينها- تضيء طريق النهضة في كلا المجتمعين.

خاتمة 

التاريخ البشري بشكلٍ عام إنْ هو إلا تاريخٌ للفكر الإنساني المتراكم، والذي أسهمت في تشكيله وصياغته كافة الحضارات البشرية بصورة أو بأخرى، ولأنّ الحضارات لا تنشأ من العدم، فما من حضارةٍ إلا ونظرت في التراث الفكري السابق، وأفادت منه في صنع مزيجٍ فكريّ جديد يعبر عن هويتها ويلائم واقعها، ثمّ وظّفت مزيجها الجديد لمواجهة مشكلاتها، كما قام مفكروها بتطويره خلال مسيرتها الحضارية، ليمثل هذا المزيج المطوّر تراثاً فكرياً جديداً تنظر فيه الحضارات التالية، لتستفيد منه في تعديل أفكارها وتكوين وتطوير مزيجها، فالإنسان لا يحيا دون فكرٍ، ولا يتحرك دون هدف، فكلّ وجهةٍ يحددها وكلّ خطوة يخطوها إنما توجهها فكرة –واعية كانت أم غير واعية-، يسعى من خلالها إلى حفظ مصالحه في ضوء نموذجه المعرفي، الذي يربط الفكر بالواقع، ويضبط الحركة والسعي نحو الأهداف التي يتغياها في اللحظة التاريخية التي يعيشها.

وقد كان للحضارتين الإسلامية والغربية إسهاماتٌ كبيرة في تراث الفكر الإنساني، فقد جسدت الأولى الحضارةً الإنسانية خلال عدة قرون، وذلك بعد انتصارها التاريخي على الفرس والروم منتصف القرن السابع الميلادي، لتستمرّ مسيرتها الحضارية قرابة عشرة قرون، قبعت أوروبا خلالها في ظل العصور الوسطى ثم اضطرابات عصر النهضة، لتمضي على المسلمين سنة الله ([3])، وتنتقل الراية إلى الغرب بعد مخاض النهضة العسير، لتستمرّ مسيرته الحضارية إلى الوقت الحاضر، ولا شكّ أنّ لكلّ حضارة إنجازاتها العلمية والفكرية التي عززت ريادتها للإنسانية في تلك اللحظة التاريخية.

وخلال مسيرة هاتين الحضارتين برز عددٌ من الرواد الذين خلّدوا أسماءهم في سجل التاريخ، حيث تجاوزت أفكارهم حدود حضارتهم لتمثل معالم واضحةً في الفكر الإنساني، ومن بين هذه الفئة المبدعة كان نموذجا هذه الدراسة التي تناولت إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق، وكم كان من اللافت –كما أوضحت الدراسة بالتفصيل– أن تتوافق أفكار ابن خلدون ومكيافيلي في كثيرٍ من جوانب تشخيص وتحليل الظاهرة السياسية، بينما اختلفت -وبشكلٍ واضح- في التعليل وتحديد أهداف وآليات المعالجة، وكما كان للجوانب الذاتية والاجتماعية وللخبرة العملية الكثيفة أثرٌ كبير في اتفاقات النموذجين، فقد كان للنموذج المعرفي للحضارتين دورٌ واضح في اختلافهما، سواء فيما يتعلق بمعالجة المشكلة السياسية، أم تصور النموذج الأفضل للنظام السياسي وأخلاقيات الساسة والسياسة، وهذا ما تتناوله خاتمة الدراسة من خلال استعراض أثر الرؤية الواقعية والمنهجية العلمية في توافق نمط دراسة وتحليل الظاهرة السياسية بين النموذجين، ثم بيان دور النماذج المعرفية في تباين رؤاهما نحو التفسير وكيفية معالجة الأزمة المجتمعية، ورسم معالم العلاقة بين السياسة وبين الأخلاق، ثم أهمية الدور الذي تلعبه الفلسفة السياسية في بناء الوعي وتحقيق نهضات المجتمعات.

أولاً: الرؤية الواقعية، وتوافق التحليل السياسي

سيظلّ للمثالية بريقها الذي تهفو إليه النفوس لسحره وجلاله، وسيبقى للواقعية –ولو كرهت الآذان سماعها- وجاهتها التي تجد سندها الركين في التاريخ والواقع، وتظلّ عوامل التوافق بين بني الإنسان –مهما تباينت ثقافاتهم- أكثر من عوامل الاختلاف، إلا أنّ ميول التمايز وتلاعب الجهل والتعصّب غالباً ما تحيد بالإنسان إلى التباعد والتنافر، فإذا تسامى الرواد والفلاسفة على تلك العوامل تقاربوا، ووجدوا لأفكارهم وفلسفاتهم مساحات مشتركة واسعة، ويصدق ذلك القول بدرجة كبيرة على نموذجي الدراسة، حيث توافقت أفكارهم ورؤاهم حول عديدٍ من جوانب دراسة الظاهرة السياسية، والتي تجاوزت بهما التراث الفكري السابق، فهجرا الفلسفة المثالية، والتي رأيا أنها لا تزيد الواقع السياسي إلا تعقيداً، فاتجها إلى المنهجية العلمية والرؤية الواقعية –اعتماداً على الخبرة العملية– كأساسٍ لدراسة السياسة، وسعى كلاهما إلى دراسة وتحليل الظاهرة السياسية من خلال إجابة سؤال: كيف تسير أمور الحكم عملياً؟، فانتقلا بالفكر السياسي من مجال الواجب والمفترض وما ينبغي أن يكون، إلى الواقع العملي المعاش وما هو كائنٌ بالفعل، وكانت أطروحتاهما –دون اتفاقٍ أو اتصال– تأسيساً لإبداع علمٍ وضعيّ للسياسة، وفي هذا الإطار يمكن تناول أسس التوافق المنهجي وآثاره عبر استعراض العلاقة بين الإبداع الفكري والنموذج المعرفي للمجتمع، وإبراز تجليات الرؤية الواقعية في الفكرين الخلدوني والمكيافيلي، ثم تقديم رؤية تقييمية لكلا الفكرين.

فقد ظهر نموذجا الدراسة في تضاريس الفكر الإنسانيّ كرائدين مبدعين في مجال الفكر السياسي، حيث قدم كلٌّ منهما تحليلا تجريبياً مبتكراً لتفسير الظواهر الاجتماعية بعيداً عن التوجهات الميتافيزيقية، والتي طالما قيدت رؤى وأفكار الفلاسفة بثوابتها ومعاييرها، وتميزت إضافة ابن خلدون -إلى جانب ذلك- بالإجابة على السؤال العميق والمتشعّب: لماذا، وكيف يحدث ذلك؟، عبر الدراسة الشاملة لتفاعلات الظواهر الاجتماعية، بينما تميزت إضافة مكيافيلي بالجانب العمليّ، والقدرة على تفعيل أفكاره الجديدة بشكلٍ تفصيليّ في الواقع، وقد ارتكز إبداعهما على عددٍ من الأسس المتشابهة، والتي أتاحت الفرصة لتلك الطفرة الفكرية.

ويبدأ ذلك بالسمات الشخصية، والأزمة المجتمعية، والتجربة العملية، حيث اتسم ابن خلدون ومكيافيلي بعددٍ من السمات الشخصية المتميزة، كحدّة الذكاء وشدّة الطموح وقوة العزيمة والثقة بالنفس و...إلخ، كما كان للتنشئة الاجتماعية والبيت العريق أثرٌ واضح في المسيرة العملية والفكرية، فلم يكن غريباً أن تتعدد مجالات إبداعهما، ليتفقا في كون كليهما: فيلسوفاً، ومفكراً استراتيجياً وعسكرياً، وسياسياً، ودبلوماسياً، ومؤرخاً، وشاعراً، وتميز ابن خلدون –إضافةً إلى ذلك- بكونه: فقيهاً وقاضياً ورائداً لعلوم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة التاريخ، كما تميز مكيافيلي بكتاباته المسرحية والغنائية، ولهذا لم يكن غريباً أن يتمكن كلاهما من إبداع فلسفةٍ جديدة، تميزت –إلى جانب روعتها الأدبية– بالعمق والجدة السياسية، وأن يُذكَرا كمؤسسيْن لمجالاتٍ علمية عديدة.

كما عاصر النموذجان أزماتٍ مجتمعية واضحة، وتفاعلا معها بشكلٍ كثيف، حيث عانى مجتمع ابن خلدون من استمرار الفتن والاضطرابات السياسية، وعانى مجتمع مكيافيلي من الفساد والتفتت السياسي، ولا شكّ أن معاصرة هذه الأزمات كفيلة برفع الوعي السياسي، فكيف بمن شارك في معالجة ذلك الواقع -ولفترة طويلة- ؟، فقد أمضى ابن خلدون أكثر من ربع قرن في العمل السياسي والدبلوماسي، كما أمضى مكيافيلي أربعة عشر عاماً متصلة في العمل السياسي والدبلوماسي.

كما تمثل فترة العزلة لنموذجي الدراسة نقطة التحول العظيم من الفعل والممارسة العملية إلى الفكر والتنظير، وبينما حجبت السياسة إبداعات فكرهما، فقد تفجّرت ينابيع الفكر في ظلّ العزلة، وكان التردي السياسي وتحطّم الآمال سبباً في زوال الغشاوة، والتفرغ للمراجعة الجذرية للأفكار المستقرة، بغية إنشاء نموذج فكري جديد لمعالجة مشكلة المجتمع، فحقق كلاهما في عزلته -وخلال عدة أشهر فقط– ما هو أعظم ذكراً وأبقى أثراً من كافة ممارساته، وللمرء أن يتخيل قيمة هذين الرائدين دون إنجازهما الفكري، وماذا كان مستقبل كليهما لولا تلك الصدمات التي ألجأتهما إلى العزلة والتصنيف؟.

لقد عانى ابن خلدون السجن والنفي حتى بلغ ما تمنّى من المناصب، ورغم أن ذلك لم يدم طويلاً إلا أنه أدرك خطورة الطموح السياسي وقسوة آثاره، فاختار العزلة والتصنيف إما بباعث المسئولية تجاه أمته، أو ليحقّق بالقلم ما عجز عن تحقيقه بالسيف، وآثر أن يخلو بنفسه في منتصف أربعينياته، ليصنّف -خلال خمسة أشهر– مقدمته، وكذلك تعرض مكيافيلي لعديدٍ من المشكلات، إلا أنّ الأزمة الكبرى لمسيرته السياسة تمثلت في إقالته من عمله الذي لم يجد للحياة معنىً دونه، فاضطرّ إلى عزلة إجبارية بضاحيته القريبة من فلورنسا، ليستثمر عزلته في تدوين أفكاره، ويصنّف في منتصف أربعينياته –وخلال ستة أشهر– كتاب الأمير، ليتزلف به إلى الحاكم أملاً أن يعيده إلى وظيفته مرة أخرى.

كما تميز نموذجا الدراسة بتجسيد النموذج المعرفي لعصريهما بشكلٍ واضح، فكان كلاهما ابناً باراً لحضارته، ونموذجاً معبراً عن عصره وواقعه، وحلقةً مهمة من حلقات فكر حضارته، مما يعزز أهمية الدراسة المقارنة بين الفكرين الغربي والإسلامي من خلال مصنفاتهما، ولا سيما مع إشادة مجتمعيهما بالأفكار التي أبدعها كلاهما، وتكتفي الدراسة في هذا الإطار بالإشارة إلى عنصرين:

أولهما: العقلانية الدينية عند ابن خلدون

بدلا من الحلم بعودة الإسلام غضاً من جديد، اجتهد ابن خلدون في عقلنة الواقع وفهم تعقيداته وتحليل تغيراته، وكما يلجأ الباحث في معمله إلى افتراض ثبات كافة المتغيرات لتحديد أثر متغيرٍ واحد، فكذلك تخيل ابن خلدون –وللمرة الأولى في تاريخ المسلمين- تنحية العامل الديني في تحليل الظاهرة السياسية، لتحديد آثار المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية على السياسة -العارية عن البعد الديني-، ولم يكن ذلك لضعف عقيدته أو لهامشية الدين في نظره، وإنما أدرك -بحكم نشأته وتجربته الكثيفة- أن السياسة مجالٌ دنيوي في أصله، ولئن كان للدين أثرٌ في توجيه وتقويم المجتمع، إلا أنّ هذا يعتمد أساساً على مدى قبول المجتمع لهذا الدين ومستوى إيمانه بعقيدته.

وعلى هذا الأساس قرر ابن خلدون مبدأ السببية في دراسة ظواهر العمران الطبيعية والاجتماعية، وذلك باستقراء الظواهر وربط النتائج بالمقدمات ([4])، وبينما يشرع للإنسان –بل يجب عليه بمقتضى الاستخلاف– فهم القوانين الطبيعية والاجتماعية، باعتبار أنّ إدراك الأسباب وفهم العلل هو سبيل التواصل الإيماني مع الكون ومع الخلق، فإنّ عليه الحذر من تجاوز ذلك إلى المستوى الغيبي، والتكهّن بما لا سبيل له إلى إدراكه، وكما كان فهم الطبيعيات مطلباً دينياً، فالتوقف عند حدود العقل هو كذلك مطلب ديني ([5])، وبهذا رأى ابن خلدون مجالا فسيحاً للاجتهاد العقلي والتجريبي في الظواهر الطبيعية والاجتماعية، منسجماً مع ثوابت عقيدته ومسلّماتها الغيبية.

والآخر: مكيافيلي والاضطرابات الفكرية لعصر النهضة تجاه الدين

اعتقد مفكرو أوروبا خلال العصور الوسطى أن الواجب الرئيسي للناس هو الصلاة، والاهتمام بخلاص أرواحهم، والزهد في المغريات الدنيوية الشريرة، ولهذا كان إنسان تلك الفترة خاملاً واتكالياً ومتشائماً، يشعر بالضعف وبالخوف البالغ من ارتكاب الخطايا، بينما ركّز رواد عصر النهضة على مسئولية الناس تجاه مجتمعهم، ورأوا أنّ المجتمع يستطيع أن يجعل الناس متحضّرين أكثر مما يجعلهم أشراراً، فظهر إنسان عصر النهضة كالمنبعث من تحت الرماد، وكأنه يستيقظ بعد نومٍ عميق ليرى العالم بأنواره وبهائه للمرة الأولى، فكان من الطبيعي أن يشتعل الصراع بين رواد اللاهوت ومفكري الحركة الإنسانية التي تسعى إلى تحرير المجتمع من قيود رجال الدين، وتحقيق الفردوس العاجل على الأرض، ونظراً للتناقض والصراع بين النموذجين، فقد اتسم عصر النهضة بالاضطراب الفكري.

ورغم معاصرة مكيافيلي لفترة المدّ الأقوى للحركة الإنسانية مطلع القرن السادس عشر، إلا أنه –كسائر رواد الحركة– كان يتخوّف من مخالفة الدين، ورغم تنامي حدة انتقاد الكنيسة ورجال الدين، إلا أنه لم يكن في وسع رواد الحركة الإنسانية –خلال تلك الفترة- أن يشيّدوا نموذجهم على أسسهم الفلسفية، وذلك لقوة أثر الدين في المجتمع آنذاك، فظهرت آثار ذلك الاضطراب في فلسفة مكيافيلي، والذي أدرك أن النموذج المعرفي للعصور الوسطى قد انتهى أجله بالعجز عن استيعاب وإجابة الأسئلة الجديدة، ورأى استحالة التوفيق بين العالم الجديد الذي يتشكل في أوروبا وبين الرؤية الكونية للكنيسة، مما يوجب إبداع رؤية جديدة تتيح لبلاده دخول ذلك العالم الجديد ([6])، فجمعت فلسفته بين الإبداع الفكري الحداثي، وبين اضطراره الواقعي لمراعاة ثوابت عصر النهضة بتقدير دور الدين.

ورغم ذلك التباين الحضاري فقد ارتكزت الرؤية الواقعية –كأساسٍ لمنهجية نموذجي الدراسة- على عددٍ من الأسس، ومن أهمها: الدور الأساسي للتاريخ، ومحورية دور القوة، وذلك أنّ كلّ واقعةٍ تاريخية تمثل واقعة اجتماعية –وبالعكس-، فالتاريخ وعلم الاجتماع يدرسان نفس الظواهر ولكن بطرق مختلفة، ولا تكتمل الصورة الكلية للوقائع إلا بضمّ جزئيات العلميْن، فالسياسة ما هي إلا لحظة تاريخية تظهر حينما تتكشف الطبيعة البشرية في سياقٍ زمانيّ ومكانيّ معين، ولهذا نظر نموذجا الدراسة إلى التاريخ كمعينٍ لا ينضب من الخبرات الإنسانية، بغرض معرفة القوانين والقواعد التي تحكم السلوكيات الإنسانية، كما يؤمن الواقعيون بأنّ "العدالة" ليس لها مكان في الحسابات البشرية إذا لم توجد بجانبها قوةٌ تجبر أطراف التعامل على التزامها والعمل بمقتضاها، وذلك –كما قرر ثيوسيديدس– "لأنّ الأقوياء يصنعون كلّ ما تمكّنهم القوة من صنعه" ([7])، وكما تعمل هذه القاعدة داخل المجتمع الواحد، فإنها تعمل –من باب أولى– بين المجتمعات، ولهذا كان التاريخ والصراع صنويْن لا ينفصلان، ومن ينادي بنهاية الصراع إنما ينادي في الواقع بنهاية التاريخ، ومن ثمّ تجاوز النموذجان مسألة النشأة التاريخية للدولة، واكتفيا بالتلازم بين المجتمع والسلطة، وإذا كانت السلطة ضرورةً مجتمعية، فكيف يتسلط البعض على الأكثرية؟، ولم يجدا -باستقراء التاريخ– سبباً أجدر بالقبول من القوة.

وقد اتسمت فلسفتا ابن خلدون ومكيافيلي بالتميز والإبداع في عديدٍ من جوانب المعارف الإنسانية، فقد تميزت أبحاث ودراسات ابن خلدون بشمول دراسته لكافة جوانب الظاهرة الاجتماعية، ليدشّن بذلك مجال "الدراسات الاجتماعية الشاملة والمتكاملة"، حيث رأى ترابط وتفاعل الجزئيات المختلفة للظاهرة الاجتماعية، بينما تميزت فلسفة مكيافيلي بنوعٍ آخر من الشمول، فكانت أطروحته إبداعاً متكاملاً بالجمع بين الجانبين الفكريّ والعملي ([8])، ورغم ذلك كان هناك عددٌ من المآخذ والانتقادات الموجهة إلى هذه الإبداعات، فقد قرر عددٌ من المفكرين قاعدة عامة، وهي أن (كلّ امرئٍ سجين خبرته)، فكما يضيف إليه واقعه، فكذلك يحصره داخله.

ولهذا انتقد بعض الباحثين قصور الاستقراء التاريخي لابن خلدون، والذي انتهى إلى قوانين وقواعد لا تصدق إلا على تلك الأمم التي أخضعها للدراسة والتحليل -وهي شعوب العرب والبربر-، بل ولا تصدق عليها إلا خلال مرحلةٍ معينة من تاريخها، فكان من الطبيعي أن يؤدي الاستقراء القاصر إلى قوانين قاصرة قدّمها كقواعد عامة، كما انتقدوا مبالغته في تأثير البيئة الجغرافية على المجتمعات، حيث افتتح مقدمته بدراسة أثر البيئة، وربط بين البيئة وبين كافة الظواهر اجتماعية، ولا ينكر أحدٌ أثر البيئة في حياة المجتمعات، إلا أنّ من الخطأ المبالغة في هذه الآثار، فالبيئة لا تحقّق آثارها إلا عبر التفاعل مع العوامل الاجتماعية والثقافية، ولا أدلّ على ذلك من أن شعوباً تتشابه بيئاتها الجغرافية قد تتباين مستويات حضارتها وشئونها العمرانية، كما بالغ ابن خلدون كذلك في أثر الحكام على أخلاق المجتمع ([9])، مما يمثل غلواً لا يؤكده الواقع، فرغم أهمية تأثير القادة والزعماء في الأمم، إلا أنه لا يتاح لهذه الرموز أن تؤدي رسالتها إلا إذا كانت مجتمعاتهم مهيأة لقبول أفكارهم، ولهذا يقدم التاريخ أمثلة كثيرة لفلاسفة ومصلحين –بل وأنبياء– لم تلق رسالتهم قبولا من مجتمعاتهم، رغم نبلها وروعة جوهرها، ورغم تضحياتهم لنشرها، مما ينبّه إلى أن النجاح إنما هو نتيجة لتفاعل عديد من العوامل.

وعلى الجانب الآخر انتقد عدد من الباحثين البعد الخرافي في عقلية مكيافيلي، وتعجبوا كيف يمكن الجمع بين أفكاره الإبداعية وبين إيمانه بالخرافات والشعوذة، وقناعته بأن التنجيم مدخلٌ لتوقع الفعل السياسي والتنبؤ به؟ ([10])، كما انتقدوا تقديمه بعض الاستثناءات كقواعد عامة، حيث تميزت مصنفاته ببعض التعميم في غير محله -تأثراً بتوجّهه النفسي-، حيث يبحث عن كلّ وسيلة يمكن أن تؤدي إلى تدعيم واستقرار السلطة، فيقعّد لها القواعد ثم يبحث لها عن أيّة أدلة تاريخية لتعزيزها ([11])، ولهذا تندّر بعض الباحثين على قاعدة الأنبياء العزل، وتساءل مندهشاً: ألم يكن هناك نبيٌّ واحدٌ نجح دون سلاح في تمكين نموذجه وتفعيل شريعته وأفكاره؟، ثم يجيب مستنكراً: فماذا عن المسيح؟، وكيف يتجاهل مكيافيلي نجاحه الساحق، واستمرارية دينه لأكثر من خمسة عشر قرناً؟! ([12]).

ثانياً: النماذج المعرفية، وتباين رؤى التفسير والمعالجة

ليست الفلسفة مجرد أطروحات فكرية مجردة من الزمان والمكان، وإنما هي نظامٌ فكري يرتبط بالعصر والمجتمع، ونسقٌ متكامل يجمع جوانب الحضارة ويربط بينها، ولهذا كان لكلّ حضارة فكرها الذي يميزها عن غيرها، إذ تختلط مفاهيم الحضارة ومصطلحاتها بروحها وثقافتها وتاريخها، ويتناول هذا الجزء من الدراسة تباين دلالات المفاهيم بين الفكرين الإسلامي والغربي، وأثر ذلك على الفلسفتين الخلدونية والمكيافيلية، ويعرض العلاقة بين السياسة والأخلاق كنموذج لتطبيق تلك القواعد، والتي أثمرت السياسة الأخلاقية الخلدونية والأخلاقٍ السياسية المكيافيلية.

حيث تمثل المصطلحات والمفاهيم بعض أهمّ أدوات التواصل الإنساني، وتكتسب دلالاتها عبر اتفاق المتخصصين على معنىً ما خلال فترةٍ معينة، وقد يتعرض المصطلح هو نفسه للتطور عبر الزمن، ليشير إلى جوانب لم تكن ضمن المعنى الذي عناه متخصصو الماضي، وإذا اختلفت معاني ودلالات المصطلحات في نفس المجتمع خلال فترات زمنية مختلفة، فمن الطبيعي أن تختلف معاني ودلالات المصطلحات بانتقالها من مجتمع آخر، ولا سيما إذا كان مختلفاً عنه في نموذجه المعرفي، ويشكل هذا الأمر شرطاً ضرورياً للدراسات المقارنة، حيث يتوهم بعض الباحثين أن للمصطلح أو المفهوم نفس المعنى أو الدلالة عند كافة نماذج دراسته، مما يؤدي غالباً إلى نتائج خاطئة ([13]).

ويمثل مصطلح "المقدس" نموذجاً لهذا التباين، حيث يشير هذا اللفظ في العربية إلى الطهارة والبركة والتنزيه عما لا يليق ([14])، بينما يتضمّن المفهوم الغربي للمقدّس: "الأمور الإلهية، والأشياء المادية والمعنوية الكاملة أخلاقياً، وما يجب أن يكون موضع احترام لا يمكن انتهاكه" ([15])، وقد استعمل هذا المصطلح في الغرب نقيضاً للأمور الدنيوية، فالمقدس يرتبط بالغيبيات والعبادة، ويشمل أموراً غامضة واجبة الاحترام، بينما يمثل الدنيوي مجالاً خالصاً للإنسان، حيث يتصرف دون أية احتياطات، بينما يمثل المقدس عالم الممنوع والخفاء والقوة، فلا يسع المرء الاقتراب منه دون استفزاز قوى غيبية لا سلطان له عليها، قوى يشعر أنه عاجز عن مقاومتها، ومحكوم على كلّ طموحاته بالإخفاق إذا لم يحظ بمؤازرتها ([16])، ومع الاتجاه نحو الحداثة والفلسفة العلمية ترسخت مفاهيم العلمانية على حساب الدين
-أو المقدس-، فلم يعد الإنسان الغربي موصولا بالمقدس ومحافظاً عليه ومتشبثاً به، وإنما سعى إلى الانفكاك عنه –بل والقطيعة معه– تدريجياً منذ القرن الثامن عشر، حيث سعت فلسفة التنوير إلى تجريد العالم من الغيبيات، ونزع الطابع الديني عن الواقع، والربط بين العلم والرشادة -أو الترشيد- وبين التخلص من الديني -أو المقدس-، حيث قرر رواد الحداثة أن العالم يتحرك وفقاً لقوانين عقلانية مادية قابلة للاكتشاف، ومع استمرار ذلك يتحكم الإنسان في كافة مجالات الحياة.

ولئن كان للترشيد أثره في فعالية المجتمع وتعظيم إنتاجيته، إلا أنّ الحداثة المادية أطاحت بصورة الكون المثالية المضيئة، لتحلّ محلها صورة واقعية مظلمة، فقد رفضت الحداثة كافة الغيبيات والمثاليات والمطلقات، واكتفت بالتعامل مع الجوهر المادي للإنسان والأشياء، ففقد العالم سحره وأسراره وأصبح مادةً محضة، والأسوأ من ذلك أن الإنسان الحديث قد اكتشف أن عالميه الاجتماعي والخاص قد أصبحا بلا معنى أو غاية، فالعلم القادر على تحقيق الأهداف المادية لا يساعد على المفاضلة بين القيم المطلقة أو اتخاذ قرارات أخلاقية، فالهوة شاسعة بين المعرفة العقلانية والحكم الأخلاقي، ليصبح كل ما يمسك به الإنسان الحديث هو دائماً أمرٌ مؤقت، وليس محدداً ولا نهائياً.

وعلى هذا الأساس أصبح لكلّ مجال من مجالات الحياة كيانه وأهدافه ووسائله المستقلة عما سواها، أي أن كلّ مجال قد غدا مرجعية ذاته، ولا يمكن الحكم على أيّ مجالٍ -وفق هذه الفلسفة- إلا بمدى كفاءته في تحقيق أهدافه المادية، فمعيار المجال الاقتصادي هو الربح، ومعيار المجال السياسي هو القوة، ويتم تفسير كافة الظواهر والحوادث على هذا الأساس الزمني فقط، مما يعني أنّ الإنسان الحديث لن يدور في إطار فكرة نهائية واحدة، وإنما يتيه بين أفلاك أفكارٍ عديدة ومتباينة تشبه آلهة الوثنيين القديمة، حيث كان على الإنسان أن يقدم قرابينه لعددٍ من الآلهة المتصارعة، مع فارق واحد، وهو أنّ الآلهة الحديثة قد نُزِع عنها السحر والجلال والقداسة، فالإنسان الحديث –كما يصفه ماكس فيبر– "يعيش في سهلٍ لا نهائيّ لا آفاق له: أزلية علمانية خالية من المعنى" ([17]).

وبناءً على ذلك يمثل النموذج المعرفي أساس تباين الفلسفتين الخلدونية والمكيافيلية، حيث يتميز النموذج المعرفي الإسلامي بالجمع بين خاصيتين متقابلتين: الثبات والتطور، فالثبات مرتبط بالأمور القطعية الثابتة في حياة الخلق، كأصول الإيمان وأركان الإسلام، والقيم والفضائل -كالصدق والأمانة والعفة و...إلخ–، وكالمحرمات القطعية –كالقتل والزنا والسرقة و...إلخ-، وكذلك الشرائع المرتبطة بالأحوال الشخصية والاجتماعية، مما يمثل كليات الدين وقواعده المستقرة، فهذه أحكامٌ "كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق... وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضاً، فذلك الحكم الكليّ باقٍ إلى أن يرث الله الأرض وما عليها" ([18])، بينما ترتبط المرونة والتغيّر بجزئيات الأحكام وفروعها العملية، ولا سيما في مجال السياسة الشرعية، وهو "ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً... فإنّ الشارع ينوّع فيها بحسب المصلحة" ([19])، وهذا ما يخضع للاجتهاد لتحقيق مقاصد الشريعة بحسب ظروف المجتمع في كلّ زمان ومكان.

وبهذا تحقق خاصية الثبات للمسلم معاني الطمأنينة، التي تناسب يقين الإيمان ورسوخ العقيدة، فتعينه على احتمال مكاره الدنيا إيماناً واحتساباً، بينما تحقق خاصية التغير المرونة اللازمة لحفظ المصالح المتجددة والتكيف مع الظروف المختلفة، وعلى هذا الأساس لا تتصادم مصالح الإنسان الجوهرية مع تكاليفه الدينية، ولهذا تمدّح الله تعالى شريعته بقوله: ) هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ( [ الحج: 78 ]، فقد عافت الشريعة -بسعتها ومرونتها- أتباعها من الحرج والمشقة والعنت، بما شرعت لهم من الرخص والاجتهادات التيسيرية.

ويختلف الأمر بوضوح في النموذج المعرفي الغربي، والذي تحرك في عصر النهضة رفضاً لقيود رجال الدين التي كبّلت المجتمع، فتحرك المجتمع –دون هدفٍ محدد– خطواتٍ عديدة، وكان إفراط الكنيسة في الترويج لرؤيتها الضيقة واللجوء إلى القوة لترسيخ نظرتها إلى الدين والكون سبباً في اقتناع العقل الأوروبي بوجود علاقة عكسية بين الدين وبين العلم والحضارة، واقتنع بعدم إمكانية الجمع بين مملكة السماء ومملكة الأرض، وعلى أساس نموذج النهضة شيّد رواد المنهج الإنساني أنساقاً فكرية جديدة، والتي تميزت بمركزية الإنسان في الكون، ورغم اختلاف اتجاهات الحركة فقد كان يجمعها رفض المعايير الثابتة والمعاني الغيبية، ليعاني الفكر الغربي من الاضطراب الناشئ عن عدم وجود أية ثوابت جديدة.

وفي الإسلام تلاقى المقدس الروحي مع العلمي الزمني، "وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتابٍ مقدس، على لسان نبيّ مرسل، بتصريح لا يقبل التأويل، وتقرر بين المسلمين كافة –إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه– أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل... كما أجمعوا على أنّ الدين إن جاء بشيءٍ قد يعلو على الفهم، فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل" ([20])، ولم يكتف الإسلام بتحفيز العقل وفتح أبواب العلم، وإنما "أنحى الإسلام على التقليد، وحمل عليه حملةً لم يردها عنه القدر... صاح بالعقل صيحةً أزعجته من سباته، وهبّت به من نومةٍ طال عليه الغيب فيها... علا صوتُ الإسلام على وساوس الطغام، وجهر بأنّ الإنسان لم يُخلَق ليُقاد بالزمام، ولكنه فُطِر على أن يهتدي بالعلم والأعلام... صرّح في وصف أهل الحق بأنهم: ) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ( [الزمر: 18]، فوصفهم بالتمييز بين ما يقال، من غير فرقٍ بين القائلين، ليأخذوا بما عرفوا حسنه، ويطرحوا ما لم يتبينوا صحته ونفعه" ([21]).

وبهذا صارت متناقضات الفكر الغربي أعواداً مجتمعة في حزمة الوعي الإسلامي، فاجتمع الغيب مع الشهادة، وتلاقى التوكل مع الاجتهاد، حيث تكفل الإسلام ببيان مسلّمات الغيب، متيحاً للخلق بذلك شيئاً يلبّي ولعهم الفطري بالمجهول، ليصون عقولهم أن تتبدّد وراء غيبياتٍ يعجزون عن إدراكها، ثم أطلق العنان للعقل في الاجتهاد والبحث، شريطة بقائه ضمن حدوده، ملتزماً في سعيه بأخلاق وقيم الإسلام، فالإسلام –كما وصفه بعض مسلمي الغرب "لا ينظر –كالنصرانية– إلى الدنيا بمنظارٍ أسود، بل هو يعلمنا أن لا نسرف في تقدير الحياة الأرضية، وألا نغالي في قيمتها ... إن المسيحية تذم الحياة الأرضية وتكرهها، والغرب الحاضر –خلاف الروح النصرانية- يغالي في الاهتمام بها، والإسلام ينظر إلى الحياة بسكينة واحترام، كمرحلةٍ يجتازها الإنسان في طريقه إلى حياة عليا، ومن هنا كان للحياة قيمتها، دون أن ننسى أنها ليست سوى وسيلة إلى الهدف الأعظم للمؤمن ([22]).

ثالثاً: الواقعية والأخلاق .. جدلية القوة والحق

يطرح النموذجان المعرفيان الإسلامي والغربي رؤيتين كونيتين مختلفتين تماماً، فالنموذج التوحيدي يربط كلّ موجودٍ بالله، وبالغاية التي خلقه الله لأجلها، بينما يقف النموذج المعرفي الغربي منذ عصر التنوير عند حدود العلم البشري -المتسم بالتغيّر وعدم الثبات-، تاركاً ما وراء ذلك للأفراد، وبدلاً من تحديد النموذج الأفضل تقف السياسة عند حدود تنظيم علاقة الحاكم بالمحكومين، ليتحول الفكر والسلوك إلى براجماتية تزن الأمور بميزان المنفعة وترجيحات المصالح الدنيوية المحضة، وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين "علم السياسة" التقريري التجريبي، الذي يقوم على استقراء الظواهر السياسية، لاستخلاص القوانين التي تنتظمها، دون عنايةٍ بتقويم المجتمع أو توجيهه نحو وجهة معينة، وفي هذا المجال التجريبي التقت أفكار ابن خلدون ومكيافيلي، بينما تباينت آراؤهما بشكلٍ واضح عند تقويم ذلك الواقع السياسي، وهذا ما يدخل ضمن إطار "الفلسفة السياسية"، والتي تعنى بتوجيه الواقع السياسي في ضوء عقيدة –أو أيديولوجية– المجتمع ومصالحه العليا، وفي ضوء ذلك يبرز نموذجان متباينان للعلاقة بين السياسة والأخلاق:

أولهما: قوة الحق.. "السياسة الأخلاقية" عند ابن خلدون

يمثل الدين في الفكر الخلدوني أساساً لشرعية السلطة وهدفاً لوجودها، حيث يضع ابن خلدون مقاصد الشريعة –بمقتضى نموذجه المعرفي التوحيدي– فوق أهداف الدولة، مقرراً أنّ الخلافة هي النموذج الأمثل للتنظيم السياسي، ولهذا تتجذّر القيم والأخلاق في فلسفته بشكلٍ كامل، فالالتزام بقيم الإسلام -هو في ذات الوقت- عبادةٌ دينية ومصلحةٌ دنيوية وأخروية، ولهذا كانت السياسة مجرد "وسيلة" لتحقيق أهداف ومقاصد الشريعة، ففي الحديث: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ»، فالتزام السلطة بالأخلاق أحد أهمّ أسس شرعيتها، ولا سيما فيما يتعلق بحقوق الخلق، ولهذا بالغ ابن خلدون في الاهتمام بقيمة العدل كأساس لاستقرار النظام السياسي –بل والبناء الاجتماعي ذاته-، وحذّر من الآثار العاجلة قبل الآجلة للظلم، مقرراً –كقاعدةٍ عامة- أنّ "الظلم مؤذن بخراب العمران" ([23]).

وعلى هذا الأساس فالسياسة في الإسلام جزءٌ من نظام شامل، فلا تنفصل الفلسفة السياسية عن الفلسفة الأخلاقية، ولهذا تستهدف السياسة استصلاح أمور الخلق في الدنيا والآخرة، فالإنسان خليفةٌ مؤتمن، يعمر الدنيا كمعبر للآخرة، فترتبط كلّ تصرفاته في الدنيا بالآخرة، فيما يمكن وصفه بـ "المثالية الواقعية" Realistic Idealism، إذ تكتفي مثاليته بمقاربة النموذج المعياري –فردياً وجماعياً– بحسب المستطاع، فالفلسفة الإسلامية لا تدور حول ماهية الأفضل، وإنما يبحث المفكرون والفلاسفة كيفية مقاربة ما قررته الشريعة، ولا يمثل هذا خروجاً على أسس الواقعية، ففي علم اجتماع المعرفة يصعب وضع خطٍ واضح يفصل بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، لأنّ رؤية ما هو كائن لا يمكن أن تتمّ إلا وفقاً لما ينبغي أن يكون ([24]).

والآخر: حقّ القوة.. "الأخلاق السياسية" عند مكيافيلي

يقتصر مفهوم السياسة في الفكر الغربي الحديث عند تدبير مصالح الدنيا، باعتبار الإنسان سيد الكون، وغايته من عمران الدنيا هي تعظيم اللذة وتنمية الوفرة المادية، دون أن يرتبط ذلك بضابط معياري –دينيّ أو أخلاقي– يتخذه إطاراً حاكماً لتصرفاته، فيصبح الواقع المحسوس هو المنطق، والعقل والحواس هما سبيلا المعرفة، ولهذا فإنّ السياسة عند مكيافيلي نظامٌ مغلَق ومستقلّ لا يخضع لمعايير عليا، فهي سياسة دنيوية المحتوى والهدف، لا تحكمها أية معايير ميتافيزيقية، ولا دخل فيها لسنن الدين أو فلسفته أو ضوابطه، ولهذا كانت فلسفة مكيافيلي إبداعاً غير مسبوق في الفكر الغربي، حيث خلت فلسفته من الأخلاقيات والغيبيات التي طالما تميزت بها الفلسفة القديمة، كما ابتعد تماماً عن الفلسفة اللاهوتية التي احتكرت الفكر السياسي الغربي لأكثر من عشرة قرون ([25]).

وعلى عكس نموذج ابن خلدون الذي وجد انفصالاً بين الدين والسياسة، فسعى إلى المعالجة عبر الربط بينهما لاستعادة نموذجه المثالي، فقد كان الابتعاد عن القيم الدينية تحرراً عند مكيافيلي الذي رفض –وبكل إصرار- ارتباط السياسة بالدين ، فالمفكر المولع بنموذج روما يرى سيطرة رجال الكنيسة سبباً في انهيار البلاد وتردّي أحوالها، وإذ يفتقد في فلسفته غايةً عليا يضعها فوق الدولة لتوجّه سياساتها وتحدّد أولوياتها، فمن الطبيعي أن يجعل من وجود الدولة وقوتها هدفاً وغايةً لمشروعه الوطني، ليحتاج بعد ذلك إلى الدين كـ "أداة" ضرورية للضبط الاجتماعي والاستقرار السياسي ([26])، وبينما سارت السياسة منذ جمهورية أفلاطون وسياسة أرسطو نحو إجابة سؤال: ماذا ينبغي أن يكون؟، فلم يكتفِ مكيافيلي بهدم ذلك النموذج فحسب، وإنما أنجز -وللمرة الأولى في الفكر الغربي– قطيعةً تنقل السؤال السياسي إلى مجالٍ منفصل تماماً عن مجال السؤال الأخلاقي تحت دعوى الواقعية، مما يجعله إرهاصاً أول للنظرية السياسية الليبرالية، والتي تؤكّد على هامشية -وربما استبعاد- القيم الأخلاقية، لتأسيس ما يسمّى بالحياد الأخلاقي تجاه سؤالات السياسة والاقتصاد ([27]).

ولهذا فإن جوهر الفلسفة المكيافيلية لا يكمن في التفرقة بين عمل مقيّد بذاته وآخر مقيد بعوامل خارجية، وإنما في التمييز بين مجال الأخلاق ومجال السياسة، ففي مجال الأخلاق يتمّ الحكم على التصرفات ذاتها، بينما السياسة هي مجال الأفعال الذرائعية التي يجب ألا نقيمها إلا بقدرتها على تحقيق الأهداف، فالعبرة عنده بالأسباب والنتائج –كأية حرفة-، فكلّ ما يحقق المصلحة السياسية مشروعٌ –بغضّ النظر عن تقييمه في مجال آخر-، وبهذا يعتمد مكيافيلي الحلّ الثنائي بالفصل بين المعايير السياسية والأخلاقية، واستقلال مجال كلّ منهما عن الآخر ([28]).

ولهذا يثني على مَن خالف قيم الأخلاق ترجيحاً لقيم السياسة الذرائعية، "وذلك لأنه في سبيله للحفاظ على الدولة قد يضطرّ للقيام بأعمالٍ ضدّ الوفاء والإحسان والصفات الحسنة والدين" ([29])، وذلك من باب التكيّف مع الطوارئ لتحقيق مصالح بلاده في الظروف العصيبة، "إذ عندما تتوقف سلامة البلاد كلها على القرار الذي يتخذه المرء، فمن الواجب أن لا يهتمّ هذا الإنسان بقضايا اللطف والقسوة ولا بالإطراء أو المذلة، بل عليه أن يتخلى عن كلّ اعتبارٍ آخر، وأن يسلك المسلك الذي يؤدي إلى الحفاظ على حياة بلاده وحريتها بكلّ ما لديه من إخلاصٍ وحماس" ([30])، وهذا ما قرّره هيجل لاحقاً، بإنكاره وجود خلافٍ بين السياسة والأخلاق، فالحكومة –أو السياسة– هي التحقيق العملي للفكر الأخلاقي، ولذلك فهي غايةٌ في حد ذاتها، وليس عليها واجبٌ أكثر من المحافظة على نفسها، كضمانةٍ لكافة الفضائل المجتمعية ([31]).

وتمثل هذه الرؤية تأصيلاً عاماً للظاهرة السياسية، لا مجرد استثناء طارئ لضرورةٍ عارضة، حيث يربط هذا التأصيل بين نظرة مكيافيلي تجاه الطبيعة البشرية وتجاه السلطة والأخلاق، فطالما كان الشرّ طبيعياً في الإنسان، فإنّ السلطة التي تقيه عواقب شروره هي بالنسبة له –وللمجتمع ككلّ– خيرٌ محضٌ، ولهذا يجب أنْ تستقلّ الدولة عن الأطر الأخلاقية، فلا تخضع لقواعد الخير والشر التي يجب على الأفراد التزامها، وإنما تخضع فقط للقواعد الموضوعية التي تفرضها متطلبات وجود الدولة والسلطة، والمتمثلة في كفاءة حفظ المجتمع، وفاعلية تحقيق الصالح العام ([32]).

وبينما أدان شيشرون لجوء السلطة إلى العنف أو الخداع قائلا: "قد يرتكب الخطأ إما بطريق القوة أو الاحتيال، وينتمي الاحتيال إلى السلوك الماكر للثعلب، كما تنتمي القوة إلى الأسد، وكلاهما لا يليقان بالإنسان، ولكنّ الاحتيال هو الأكثر احتقاراً، ومن كلّ أشكال الظلم ليس هناك ما هو أكثر وضوحاً من ذلك المنافق الذي يسعى لكلّ ما هو خطأ، بينما يجتهد أن يظهر هو وأعماله بصورة فاضلة" ([33])، فإنّ هذا الشكل الأكثر بشاعةً هو ما أوصى به مكيافيلي الأمراء، موجباً عليهم أن يتعلموا كيف يمارسون السوء إذا اضطروا إليه، مبرراً ذلك بأنه إذا استحال على أحدٍ الوصول إلى الميناء عبر الإبحار بشكلٍ مستقيم، فيمكنه القيام بذلك من خلال أيّ مسارٍ آخر يوصله إلى هدفه، ولا ينبغي لأحدٍ أن يلومه على ذلك، فالسياسة والشرّ –كما يرى كثيرون– متشابكان، لدرجة أنّ الإنسان لا يستطيع المشاركة في أحدهما مع تجنّب الآخر، كما تجتذب السياسة غالباً ذوي الطموح والأنانية، والذين يبحثون عن تحقيق غاياتهم الخاصة من خلال الأجهزة العامة، وغالباً ما يرون أن السلوك الفعال في عالم السياسة قد يتطلّب في كثير من الأحيان بعض التجاوزات، فيصعب عليهم حينئذٍ أن يتمسكوا بالقيم والفضائل حينما تنخفض المعايير الأخلاقية لخصومهم ومنافسيهم، لأنّ تكاليف الفشل السياسي مرتفعة على المستويين الفردي والجماعي، ومن هنا ينصبّ التركيز على النتائج، مع إيجاد أنسب الذرائع لتبرير تصرفاتهم اللاأخلاقية، إذ واجب الساسة أن يحققوا النتائج الجيدة، لا أن يكونوا هم أنفسهم جيدين، فالغاية العليا للسياسة –في فلسفة مكيافيلي– هي المصلحة العامة، لا تلك الغايات الأخلاقية التي تصورها الفلاسفة، وللحكم على السياسة وممارساتها: يجب النظر إلى النتائج والعواقب الاجتماعية والسياسية –بغضّ النظر عن مدى أخلاقية الوسائل-، فالدولة أعلى من الأفراد والجماعات، وخيرها أهمّ وأسمى من أهداف الأفراد، وإذا كانت الأخلاق هي أساس فضائل الأفراد، فالخير الأعظم للدولة هو المصلحة العامة، وهي الغاية التي لا يسمو عليها شيء –ولو كانت تلك المعايير الأخلاقية- ([34]).

فلا يوجد قانون أخلاقي –أياً كان مصدره أو طبيعته– لا يقبل بعض الاستثناءات العارضة في ظل ظروف معينة، فوصية "لا تقتل" تتلاشى في حالة الدفاع الشرعي، وحينما يكون العنف هو العلاج الممكن الوحيد لمواجهة العنف، وكذلك وصية "لا تكذب" يتوقف عملها لحظياً حينما يعتقل أحد أعضاء منظمة ثورية، ثم يُطلَب منه الاعتراف على رفاقه، ففي كافة النظم القانونية يوجد مبدأ أساسي يقرر أنّ القانون الخاص يقيّد العام، وهذا المبدأ -الذي يقتصر على حالات الضرورة- يتمتع بالقيمة ذاتها بالنسبة للأخلاق، وطبقاً لذلك يغدو التصرف -الذي قد يبدو انتهاكاً للأخلاق– مبرراً، وذلك للطبيعة الاستثنائية للموقف ([35])، والجديد الذي طرحه مكيافيلي هو تعميم الاستثناء، وذلك بتقريره أنّ "الحياة السياسية" بشكلٍ كامل هي حالة ضرورة، وبهذا تكون القاعدة عند مكيافيلي هي تكيف الساسة مع كل المواقف بكل وسيلة ممكنة–بغض النظر عن أخلاقيتها– بما يحقق الصالح العام للمجتمع.

وهكذا ارتبطت الواقعية السياسية في الفكر الغربي باضطراب العلاقة بين السياسة والأخلاق، سياسية بدءاً من ترجيح القوة على العدالة عند ثيوسيديدس، مروراً بالفكر الذرائعي والأخلاق السياسية عند مكيافيلي، وانتهاءً بالرؤية الخاصة لمفهوم العقد الاجتماعي وحالة الطبيعة في الفلسفة الهوبزية التي تمثل أساس الفكر الغربي السياسي الحديث ([36])، بينما اتسمت الواقعية السياسية في الفكر الإسلامي بارتباط السياسة بالأخلاق، حيث يقرر الإسلام للوجود الإنساني غايةً واضحة هي عبادة الله: ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( [الذاريات: 56]، والتي تتحقق عبر مسارين: العبادات المشروعة –التي تزكي النفس وتدعم الروح-، والاستخلاف وتحقيق أكمل نماذج العمران، والذي يتأسس على السموّ الروحي والإيماني، ولهذا اتفقت كلمة علماء الإسلام على اعتبار منظومة القيم والأخلاق الإسلامية مظلةً عليا يجب على المجتمع كله –الحكام والمحكومين– مراعاتها والالتزام بتكاليفها، ورغم تعدد مدارس واتجاهات الفكر الإسلامي، فقد أجمع مفكرو الإسلام وفلاسفته على اعتبار الفلسفة السياسية علماً تقويمياً –أو معيارياً-، واتفقوا على وجود ارتباطٍ إلزامي بين السياسة والأخلاق، ورغم أهمية البعد السياسي، فلم يُنظَر إلى السياسة إلا باعتبارها وسيلة الأمة لتحقيق رسالتها الأخلاقية، ولم يرفع العلماء من شأن الدولة والحكام إلا لما ينبغي عليهم النهوض من وظائف ذات أثرٍ بالغ في صياغة وتكوين ورعاية المجتمع المسلم على نحوٍ من المثالية الأخلاقية.

رابعاً: دور الفلسفة السياسية في نهضة المجتمعات

انبثقت فكرة هذه الدراسة عن ملاحظة عدد من التوافقات الفلسفية بين ابن خلدون ومكيافيلي رغم تباين العصرين والحضارتين اللتين ينتميان إليهما، واختلاف السياقات المجتمعية التي عاصراها، ليسعى الباحث من خلال هذه الدراسة المقارنة إلى تحديد أهم أوجه الاتفاق بين النموذجين وبيان أسس هذا الاتفاق من جانب، وتحديد أهم جوانب الاختلاف بينهما وبيان السبب في هذا التمايز من جانب آخر، وبناءً على ذلك فقد أرسى الفصل الأول من الدراسة الأسس النظرية للمفاهيم المتعلقة بالدراسة، بدءاً من مفهوم الواقعية في الفكر السياسي، مروراً بمفهوم النموذج المعرفي ودوره في التمايز الحضاري، وانتهاءً بتحليل النماذج المختلفة للعلاقة بين السياسة والأخلاق، ثم تولى الفصل الثاني من الدراسة تحديد أهم المصادر المعرفية والخبرات العملية للنموذجين، والتي كان لها أكبر الأثر في تشكيل رؤية كل منهما، ثم تناول الفصل الثالث أهم جوانب الاتفاق بين الأطروحتين الخلدونية والمكيافيلية، والتي تتمحور حول نظرية القوة، باعتبارهما جوهر دراسة وتحليل الظاهرة السياسية ، والنظر إلى القوة كأساس للوصول إلى السلطة واستمرار نظم الحكم على المستوى الداخلي، كما وإنها أساس ترسيم الحدود الإقليمية للدولة على المستوى الخارجي، ثم خصص الباحث الفصل الرابع والأخير لإبراز أهم جوانب الاختلاف والتمايز بين فلسفتي ابن خلدون ومكيافيلي من خلال التركيز على مسألة العلاقة بين السياسة والأخلاق، حيث جسّد النموذج المعرفي لكلا النموذجين أساساً واضحاً لتمايز رؤية كل منهما في تحديد النموذج السياسي الأمثل من حانب، ومدى تقيد الحاكم بالقيم الأخلاقية من جانب آخر، مما يمثل أساساً جوهرياً لتحديد معالم العلاقة بين الواقع وبين هدف ومسارات تغييره نحو الأفضل.

وعلى هذا الأساس فقد اجتهد الباحث في الإجابة على السؤال المحوري للدراسة: "كيف أسهم ابن خلدون ومكيافيلي في معالجة إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق، وكيف انعكست آثار الانتماء الحضاري على رؤيتيهما رغم انتمائهما للاتجاه الواقعي؟"، وذلك من خلال الإجابة على الأسئلة الفرعية المنبثقة عن ذلك السؤال المحوري، ويبقى السؤال الفرعي الأخير الذي يختم به الباحث دراسته: "كيف يمكن استثمار أفكار ابن خلدون ومكيافيلي في إثراء الفكر والممارسة السياسية الراهنة؟"، حيث قدم كلا النموذجين أطروحة متميزة لنهضة مجتمعيهما:

الأطروحة الأولى: "نظرية الإحياء الحضاري الشامل" كأساس للتغيير في فلسفة ابن خلدون

تدل مقدمة ابن خلدون -التي صاغها خلال خمسة أشهر- على سعة اطلاعه وتشعب معارفه وعمق تجربته، ولهذا نظر إليه كثيرٌ من الفلاسفة والمفكرين كأحد أعظم رواد الفكر الإنساني، بل بالغ توينبي في الثناء عليه باعتباره –من جهة نظره- "أعظم عقل جاد به الزمان والمكان"، وقد عاصرت تلك الشخصية الفذة ظروفاً استثنائية وتغيراتٍ واسعة في المغرب العربي، وصفها هو نفسه بأنها تمثل "انقلاباً" ([37]) مجتمعياً، فاتجهت همته إلى إبداع وصفة علاجية شاملة، يمكن اعتمادها كأساس لإعادة تجديد البناء الحضاري لهذه الأمة التي استشرى فيها الوهن، حيث رأى بين طيات تلك الأزمة الانقلابية فرصةً استثنائية لإعادة بناء الأمة وتجديد حضارتها، "وإذا تبدّلت الأحوال جملةً فكأنما تبدّل الخلقُ من أصله، وتحوّل العالمُ بأسره، وكأنه خلقٌ جديدٌ ونشأةٌ مستأنفة وعالَمٌ محدَثٌ" ([38])، وعلى هذا الأساس طرح ابن خلدون فلسفته كإجابةٍ على السؤال البدهيّ لتلك المرحلة: إلام يفتقر الإحياء الحضاري؟، وما الذي يحتاج إليه الخلقُ الجديد والنشأةُ المستأنفة والعالمُ المحدث؟، فرأى ضرورة تأهيل المجتمع من جديد لأداء رسالته الحضارية، عبر إصلاح النموذج الفكري للأمة، وابتكر لهذا الغرض علماً جديداً، يعيد حيوية الوعي من خلال فقه السنن الكونية والاجتماعية، فدارت مقدمته حول سنن العمران وقوانين الاجتماع البشري. وتمثل هذه الفلسفة أساساً ضرورياً يجب أولاً استيعابه، ثم استكماله لتحديد معالم الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية في الواقع الحديث، لا سيما وقد ازدادت تعقيدات تلك الأزمة التي رام ابن خلدون معالجتها قديماً، حيث تغيرت بعض الأسس التي بنى عليها رؤيته، كما طرأت مجموعة كبيرة من المتغيرات العصرية الواجب اعتبارها في تشكيل رؤية الإحياء الحديثة، ورغم ذلك كله تمثل معالم الفلسفة الخلدونية نموذجاً واضحاً لمنهجية علمية تهتدي بأنوار الوحي وتراعي ثوابت الشريعة.

حيث تتسم هذه الفلسفة من جانب أول بالمنهجية العلمية، يدرك الناظر في المقدمة تكامل شروط المنهجية العلمية، والتي لم تبتعد عن المناهج العلمية الحديثة التي تنبني على عدد من القواعد، من أهمها: ملاحظة الظواهر والأحداث، ومتابعة تطوراتها المختلفة، ودراسة تفاصيل هذه الظواهر وأسبابها ونتائجها، وتحديد أظهر جوانب العلاقة بين الأسباب والنتائج، ثم استنباط القوانين والقواعد والمحددات التي تحكم جريان تلك الظواهر وتطوراتها المختلفة، بل يرى عديدٌ من الباحثين أنّ ابن خلدون هو أول من أخضع الظواهر الاجتماعية للمنهجية العلمية، للتعرف على القوانين التي تحكمها كسائر الظواهر الطبيعية، متجاوزاً بذلك طريقة سابقيه ومعاصريه التي توقفت عند وصف تلك الظواهر، أو الإشارة إلى ما ينبغي أن تكون عليه بحسب المبادئ المثالية.

وتتسم الفلسفة الخلدونية من جانب آخر بالشمول والتكامل، فقد أنشأ ابن خلدون علمه الجديد الذي سماه بـ "العمران"، ودشّن منهجاً جديداً لدراسة الظواهر العمرانية المعقدة والمتشابكة، ولهذا لجأ ابن خلدون إلى المنهجية العلمية لدراسة خصائص وتفاعلات الظواهر العمرانية، فارتبطت الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية والعقدية، في كلٍّ متكامل عبّر عنه بالعمران، واجتهد في تحليل علاقات تلك الجوانب، عبر ربط الأسباب بالمسببات، وتقديم عدد من النماذج لتحديد خصائص وعلاقات تلك الجوانب، فإذا كان لمجرد البيئة الطبيعية أثر في أخلاق وسلوكيات الأفراد ([39])، فكيف بالجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ؟!.

وتتسم الفلسفة الخلدونية من جانب ثالث بالبعد الإيماني، فلم يقلل تمسكه بعقيدته من اعتنائه بالعلم واكتشاف قوانين الوجود، بل كان إيمانه هو الحافز الأكبر للوقوف على أسرار الظواهر موقف الشهود والتدقيق لا التخرص والتخمين، ولهذا وقف بجهوده التجريبية عند حدود الواقع المشهود، لإدراكه أن العقل عاجز عن إجراء نفس المنهجية في أمور الغيب –كما رأى الفلاسفة، ورأى أن محاولة إدراك الغيبيات عبر الاستدلال العقلي واستقلالا عن الوحي ادعاء لا يمكن اعتماد نتائجه.

وإلى جانب ذلك فقد أدرك ابن خلدون تميز المنهج الإسلامي عن المناهج الفلسفية الوضعية، فلا يكفي في رأيه لنشأة واستمرارية الإسلام أن يعرف الناس الحق من الباطل، وإنما يجب أن يكون الدين هو محور حياة المجتمع ومرجعيته المركزية، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال التنشئة الإيمانية العميقة والقدوة الراسخة، كما كان حال الجيل الأول الذي شيّد الصرح وقدّم النموذج الأمثل حينما شكّلت الشريعة السلطة الأعلى في المجتمع في كلّ شيء، فكان للدين الأولوية على أيّ التزامٍ أو انتماء آخر، فلما تحرك مركز الولاء تدريجياً من الشريعة إلى المصالح الدنيوية تحول نظام المجتمع تدريجياً –بنفس المعدل- من نموذج الخلافة إلى نموذج الملك، وحينما ضعفت مرجعية الشريعة -بالميل إلى الدنيا-، احتاج المجتمع إلى وازعٍ دنيوي إضافيّ من السلطة، والتي اتجهت تدريجياً نحو الاستبداد.

الأطروحة الثانية: "نظرية المستبد العادل" جوهر التغيير في فلسفة مكيافيلي

رغم إيمان مكيافيلي العميق بالحرية والديمقراطية –كما ظهر ذلك في مطارحاته-، إلا أنّ فلسفة "الأمير" كانت تأصيلاً مبكراً وشاملاً لنظرية "المستبدّ العادل"، والتي تراود المجتمعات حينما يتنامى الخوف من الأخطار الداخلية أو الخارجية، فيتطلع الناس إلى الأمن والحماية، ويحلمون أن يقترن ذلك بالعدالة، فالعدالة هي الغاية، ولم يقترن بها الاستبداد إلا كوسيلةٍ لتمهيد الطريق نحو تحقيق العدالة، فالاستبداد –رغم مخاطره- هو أنسب وسائل السيطرة على الأزمات وتحقيق الاستقرار عند الاضطرابات، لتتاح الفرصة آنذاك لترسيخ معالم العدالة في المجتمع، وعلى أسس فلسفة مكيافيلي في "الأمير" وجان بودان في "كتب الجمهورية الستة" ([40]) ترسخت تلك النظرية، غير أن تطور الفكر الليبرالى لاحقاً أخضع مسألة الجمع بين الاستبداد والعدل إلى تفكير أعمق، كان من نتيجته إدراك استحالة هذا الجمع كما ظهر ذلك في أفكار العقد الاجتماعى، ورغم ذلك فقد انتقلت تلك النظرية إلى الثقافة الإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وصاغ الأفغاني وتلميذه محمد عبده مصطلح "المستبدّ العادل"([41])، وقصدا بمصطلح الاستبداد آنذاك ذلك المعنى التراثي العميق –دون المضمون السلبي ذي الأبعاد الغربية-، فالاستبداد –في التراث العربي والديني- إنما يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه، ومن هنا انتشرت عبارة: "إنما العاجز من لا يستبدّ"، ليشير الاستبداد إلى الحاكم القوي القادر على إنفاذ قراراته التي فيها صلاح مجتمعه، ولا سيما عندما يقرن ذلك بـ "العدل"، فالعدل يفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه، وأما الاستبداد المفتقد للعدالة فقد رمزوا له بـ "الطغيان"، ومن ثمّ أعلن محمد عبده: "إنما ينهض بالشرق مستبدٌّ عادل، مستبدٌّ يُكرِه المتناكرين على التعارف، ويُلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادلٌ لا يخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه" ([42]).

وعلى هذا الأساس كانت أطروحات ابن خلدون ومكيافيلي نموذجاً إبداعياً للفلسفة السياسية، حيث وعى كلاهما اللحظة التاريخية التي تمرّ بها أمته، ورسم بثاقب بصيرته سبيل معالجة الأزمة في ضوء نموذجه المعرفي وانتمائه الحضاري، فجمعهما العلم -في وصف وتحليل الظاهرة السياسية-، وفرقتهما النماذج المعرفية –في تحديد الهدف وكيفية تحقيقه-، لتصبح أفكار كل منهما معلماً بارزاً من معالم الفكر السياسي الإنساني، كما استحالت أساساً عملياً لتحقيق نهضة مجتمعيهما.

ففي ضوء أطروحة مكيافيلي -التي اقتصرت على الجانب السياسي- تأسست أفكار الحداثة والتنوير، وتمكن الغرب من تحقيق نهضته المعاصرة، كما ولم تتحقق لإيطاليا آمالها حديثاً إلا بناءً على تلك الأسس التي صاغها مكيافيلي قبل عدة قرون، وبسببها نال من الأذى ما نال لأكثر من قرن، ورغم ذلك فقد أخفقت جهود عددٍ من الرواد في استنبات تلك البذرة في مجتمعاتنا، وباءت تلك المحاولات بكثيرٍ من الآثار السلبية، مما يؤكّد ضرورة ارتباط أفكار النهضة بالنموذج المعرفي للمجتمع. وفي هذا الإطار يبرز الفكر الخلدوني -الذي تميز بالسعة والشمول والتكامل- كأحد أهم معالم الفلسفة السياسية الإسلامية، وأساساً بالغ الأهمية لكافة جهود النهضة في مجتمعاتنا المسلمة، ولئن تأخرت استفادة الأمة من أطروحاته فإنما يُعزَى ذلك إلى عمق وسعة وتشعّب أفكاره، مما كان سبباً في تأخر إدراك مدى أهميتها، وذلك حتى ينضج وعي رواد الأمة إلى المستوى الذي يتيح لهم فهم تلك الفلسفة الشاملة والمعقدة، وحتى يتهيّأ المجتمع لاستيعاب تلك الأفكار والتفاعل معها، لتبقى تلك الفلسفات الإنسانية –وما ينبني عليها- مناراتٍ متميزة وإلهاماً متجدداً لتجديد معالم الفكر الإنساني، وزاداً لذلك السعي الدؤوب لرواد كافة المجتمعات لمقاربة "ما هو كائن" نحو "ما ينبغي أن يكون".

مراجع

([1]) عبد الله العروي، خليل أحمد خليل (ترجمة)، ابن خلدون وماكيافللي (لندن: دار الساقي، 1990م)، ص ص 5-9.

([2]) د. حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب (القاهرة: الدار الفنية للنشر والتوزيع، 1991م)، ص 29.

([3]) والتي يقررها تعالى بقوله: ) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( [آل عمران: 140].

([4]) مما دفع بعض الباحثين إلى التسرع في وصفه بالمادية، والزعم بخروجه عن النسق الإيماني، رغم أنّ القراءة المتأنية تدحض هذه التهمة عن ذلك الفقيه بكلّ وضوح، حيث يصنّف السببية –ارتكازاً على نموذجه المعرفي التوحيدي– إلى مستويين:

أولهما: المستوى الطبيعي –أو الأحداث الظاهرة-، حيث يسلم ابن خلدون بمبدأ السببية، ويقرّر حتمية العلاقة بين العلّة والمعلول، لأنّ الله تعالى قد جعل "العالَم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات"، فيمكن للإنسان إدراك قوانين السببية للأمور الطبيعية الظاهرة "لأنّ الطبيعة محصورةٌ للنفس وتحت طورها".

الآخر: المستوى الكوني –أو التدبير الغيبي-، ويشير إلى العلل والغايات التي يريدها الله من وراء الأحداث الظاهرة، ويقرر ابن خلدون –بمقتضى عقيدته- أن أسرار هذا المستوى تتسامى على قدرة الإدراك العقلي للإنسان، لأنّ "الحوادث في عالم الكائنات
-سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية- فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها... وكلّ واحدٍ من هذه الأسباب حادثٌ أيضاً -فلا بدّ له من أسبابٍ أخرى-، ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبّب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا اله إلا هو، وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسّح وتتضاعف طولا وعرضاً، ويحار العقل في إدراكها وتعديدها".

عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ...، مرجع سابق، ص ص 120، 581، 580 (على الترتيب).

([5]) فـ "التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته... وهذا معنى ما نقل عن بعض الصديقين: العجز عن الإدراك إدراكٌ":

المرجع السابق، ص ص 582-583.

([6])                                                                                          Miller, op. cit., Pp. 49-52.  

([7]) ميثاق مناحي دشر، "النظرية الواقعية: دراسة في الاصول والاتجاهات الفكرية الواقعية المعاصرة، قراءة في الفكر السياسي الامريكي المعاصر"، مجلة أهل البيت، العدد 20، ص ص 389-390.

([8]) حينما تناول ول ديورانت ترجمة مكيافيلي -في موسوعته التاريخية "قصة الحضارة"- قال: "بقي من هذه الطائفة –أي رواد ذلك العصر وتلك الفترة– رجلٌ واحدٌ، يصعب علينا أن نضمّه إلى صنفٍ بعينه، فقد كان دبلوماسياً ومؤرخاً وكاتباً مسرحيا وفيلسوفاً وأكبر مفكر ساخر في زمانه، ولكنه كان مع ذلك وطنياً متحمساً، يتحرق رغبةً في تحقيق مثلٍ أعلى نبيل، أخفق في كلّ ما أخذ على عاتقه أن يقوم به من الأعمال، ولكنه طبع التاريخ بطابع يكاد يكون أشدّ عمقاً مما طبعه به إنسان آخر في ذلك العصر":

ديورانت، قصة الحضارة ...، مرجع سابق، الجزء الرابع من المجلد الخامس، ص 44.

([9]) د. علي عبد الواحد وافي، عبد الرحمن بن خلدون: حياته...، مرجع سابق، ص ص 212-219.

قرر ابن خلدون -كقاعدة عامة- أنّ: "السبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أنّ عوائد كلّ جيل تابعةٌ لعوائد سلطانه، كما يقال في الأمثال الحكمية الناس على دين الملك":

عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ...، مرجع سابق، ص 38.

([10]) ويكمن تفسير ذلك في التذكير بأنّ المفكرين–مهما بلغوا من السموّ- إنما هم أبناء مجتمعاتهم، فالحركة الإنسانية في عصر النهضة وإن كانت عقلانية، إلا أنّ معظم روادها كانوا يحتفظون بالمعتقدات الخرافية السائدة في مجتمعاتهم كالسحر والتنجيم:

د. حورية توفيق مجاهد، الفكر السياسي...، مرجع سابق، ص ص 365-367 و رسل، مرجع سابق، ص ص 21-22.

Martin Wight, Four Seminal Thinkers In International Theory (New York: Oxford University Press, 2005), P. 5 and Maurizio Viroli, op. cit., P. 28.

([11])                                                  Strauss, op .cit., Pp. 75-77 and Miller, op. cit., Pp. 99-106.

([12])Kenneth & Fornieri, op. cit., P. 200.                                                                                                     

([13]) ينبّه المستشرق الانجليزي برنارد لويس إلى هذا بقوله: "وحين نتطرق نحن –أبناء العالم الغربي– إلى كلمتي إسلام وإسلاميّ، فإننا نميل إلى ارتكاب خطأ بديهي يكمن في افتراضنا أن "الدين" يعني بالنسبة للمسلمين ما يعنيه للناس في العالم الغربي، أي أنه جانب –أو شطر- من الحياة موقوف على بعض الشؤون، وأنه معزول –أو يمكن عزله على الأقل– عن جوانب أخرى من الحياة، ولكنّ الواقع ليس على هذا النحو في العالم الإسلامي ... فالفصل بين الكنيسة والدولة – وهو الأمر العميق الجذور في الديانة المسيحية – لم يكن له أي وجودٍ في الإسلام، واللغة العربية كانت تفتقر إلى كلمات مثنوية مطابة لـ "الروحي والزمني" و"للكهنوتي والعلماني" و"الديني والدنيوي" ... إنّ الإسلام على علاقة سياسية وثيقة بالدولة باطنياً وظاهرياً في آنٍ واحدٍ معاً":

برنارد لويس، عبد الكريم محفوض (ترجمة)، لغة الإسلام السياسي (دمشق: دار جفرا للدراسات والنشر، 2001)، ص ص 12-15 (بتصرف يسير)، و أحمد داود أوغلو، النموذج البديل ...، مرجع سابق، ص ص 134-136.

                                                                                         Kayapinar, op. cit., Pp. 349-350.

([14]) التَّقْدِيسُ: تنزيه اللَّه عز وجل، من القُدْس وهو الطهارة، فالقُدُّوس: الطاهر المُنَزَّه عن العُيوب والنَّقائص، ) وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (، أَي: نُطهِّر أَنفسنا لك، وبيت المَقْدِس أَي البيت المُطَّهَّر والمكان الذي يُتطهَّر به من الذنوب:

الإمام العلامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الافريقي المصري، لسان العرب (بيروت: دار صادر، د. ت.)، المجلد السادس، ص ص 168-169.

([15]) أندريه لالاند، خليل أحمد خليل (ترجمة)، موسوعة لالاند (باريس: مركز المطبوعات الفرنسية، الطبعة الثانية، 1993)، ص ص 1235-1236.

([16]) مرسيا إلياد، عبد الهادي عباس (ترجمة)، المقدس والمدنس (دمشق: دار دمشق للطباعة، 1988)، ص ص 18-19.

([17]) د. عبد الوهاب المسيري، د. عزيز العظمة، العلمانية تحت المجهر (دمشق: دار الفكر، 2000)، ص ص 99-104، و د. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (القاهرة: دار الشروق، 1999)، ص ص 259-261.

([18]) أبو إسحاق الشاطبي، مرجع سابق، ص ص 397-398.

([19]) ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (بيروت: دار المعرفة، الطبعة الثانية، 1975)، ص 331.

([20]) د. محمد عمارة، رسالة التوحيد للإمام محمد عبده (القاهرة: دار الشروق، 1994)، ص ص 19-20.

([21]) د. محمد عمارة، رسالة التوحيد ...، مرجع سابق، ص ص 19-20.

([22]) أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العام بانحطاط المسلمين (المنصورة: مكتبة الإيمان، د. ت.)، ص ص 111-112(بتصرف).

([23]) عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ...، مرجع سابق، ص 51.

([24])                                                            Miller, op. cit., Pp. 273 and Kayapinar, op. cit., P. 9.

([25]) ديورانت، قصة الحضارة ...، مرجع سابق، الجزء الرابع من المجلد الخامس، ص ص 56-57.

([26])                                                                                       Miller, op.  cit., Pp. 52, 62-63.

([27]) الطيب بوعزة، مرجع سابق، ص 10.

([28]) ولهذا ذكّر بما رآه تناقضاً بين المجالين في زمنه بقوله: "كلنا نعرف مدى الثناء الذي يناله الأمير الذي يحفظ عهده ويحيا حياةً مستقيمة دون مكر. لكنّ تجارب عصرنا هذا تدلّ على أنّ أولئك الأمراء الذين حققوا أعمالاً عظيمة هم مَن لم يصن العهد إلا قليلا، وهم مَن استطاع أن يؤثر على العقل بما له من مكر، كما استطاعوا التغلب على مَن جعلوا الأمانة هادياً لهم":

مكيافيللي، الأمير...، مرجع سابق، ص 89.

([29]) المرجع السابق، ص 91.

([30]) نيقولو مكيافلي، مطارحات...، مرجع سابق، ص ص 748-749.

([31]) من مقدمة: نيقولو مكيافلي، مطارحات...، مرجع سابق، ص ص 142-145، و كاسيرر، مرجع سابق، ص ص 171-172، وحليم متري، مرجع سابق، ص 83، و بوبيو، مرجع سابق، العدد 182، 2000، ص ص 20-21.

([32]) باديس بوشحمة، "علم الاجتماع السياسي: الجذور التاريخية والفلسفية"، مجلة البحوث والدراسات الإنسانية، المجلد الرابع، العدد الثامن، 2014، ص 124.

([33])Wittels, op. cit., Pp. 108-109 and Giorgini, op. cit., Pp. 45-46.                                                          

([34]) د. عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، الجزء الثاني، ص ص 463 – 464، و د. إمام عبد الفتاح إمام، مرجع سابق، ص ص 259-260.

Daniel R. Sabia, “Machiavelli, Politics and Morality”, Southeastern Political Review, Vol. 27, No. I, 1999, Pp. 34-53 and Soll, op. cit., P. 41.

([35]) بوبـيو، مرجع سابق، ص 15.

([36]) د. الواليد أبو حنيفة، دور البراديم المعرفي الواقعي في تحليل السياسة الدولية: قراءة في الأفكار النظرية والأدوار السياسية (عمّـان: مركز الكتاب الاكاديمي، 2020) ص ص 12-16.

 

([37]) "وأمّا لهذا العهد -وهو آخر المائة الثامنة- فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه، وتبدلت بالجملة ...":

عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ...، مرجع سابق، ص 42.

([38]) المرجع السابق، ص 43.

([39]) "ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره، وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء":

المرجع السابق، ص 109.

([40]) لمزيد من إسهام بودان ثم هوبز يراجع الفصل الرابع من الرسالة ص ص 270-271.

([41]) يُشتق معنى "المستبدّ" Despot في اللاتينية من "ديسبوتس" بمعنى ربّ الأسرة أو سيّد المنزل، ثم خرج المصطلح إلى عالم السياسة للدلالة على نمطٍ للحكم تكون فيه سلطة الملك على رعاياه مماثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة، ليشير – في الفكر الغربي- إلى انفراد الحاكم بالسلطة دون الخضوع لقانون أو قاعدة، ودون النظر إلى رأي المحكومين، بينما روّج الأفغاني وتلميذه للمصطلح بأبعاده التراثية، كأـنسب مسارات الإصلاح المجتمعي في ذلك الحين، وللمزيد عن تفاصيل تلك الدعوة وظروفها:

عبد الله علي العليان، "الإسلام والاستبداد: مقاربة نقدية لمقولة المستبد العادل" في: علي خليفة الكواري (تحرير)، الاستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) ص ص 331-340.

([42]) للمزيد حول نظرية المستبد العادل وتاريخها القديم والحديث منذ القرن التاسع عشر:

حازم أحمد خيرى، "المستبد العادل وروح العبودية"، إبداع (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الإصدار الثالث) العدد 18، ربيع 2011، و عزمي زكريا أبو العز، "المستبد العادل في الفكر العربي الحديث"، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، المجلد 22، العدد 22، 2013، و محمد الصادق عفيفى، حسام أحمد عبدالظاهر، "على هامش المستبد العادل"، مجلة المؤرخ المصري (القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم التاريخ)، العدد: 35، يوليو 2009.