استعراض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي وعلاقته بالتوظيف

(الجزيرة)

مقدمة

إن تكتل أكثر من خمس مليارات شخصٍ في عالم رقمي يتأثر بالواقع ويؤثر فيه يستدعي منا، باعتبارنا باحثين، الوقوف للحظة والتأمل في كمية العلاقات الإنسانية المبنية رقميا داخل شبكة الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، لنكد-إن، إنستغرام....). هذا التأمل، يقودنا حتمًا إلى طرح العديد من الأسئلة وتسليط الضوء على العديد من الإشكالات العلمية والمعرفية والأخلاقية المتعلقة بطبيعة علاقة الأنا بالغير.

في ظل السياق الرقمي الذي نعيشه كل لحظة، أضحى تحريك الإصبع الصغيرة صعودًا ونزولًا وإلقاء نظرةٍ عابرةٍ على حائط أحدهم في فيسبوك، أو قراءة تدوينة على تويتر، أو تصفح صور على إنستغرام كفيلا بأن يمنحنا العديد من المعلومات الشخصية والمهنية، سواء كانت صحيحة أم خاطئة حول هذا المستخدم أو ذاك. إن نوعية هذه المعلومات التي يشاركها الأفراد عن ذواتهم هي التي تحدد صورهم في أذهاننا وانطباعاتنا اتجاههم.

تعتبر رغبة الذاتِ في عرض خصائصها، أيضًا، أمرًا طبيعيًّا في إطار العلاقات الإنسانية، فقد كان هذا العرض ينحصر قبل عقود من الزمن في المظهر الخارجي باعتباره مرآة للذات وللشخصية، إلاَّ أن "تطور" المجتمع العالمي في عصرنا الحالي وتغير النموذج الاقتصادي في اتجاه نمطٍ متسارع من الإنتاج والاستهلاك دفع بالإنسان إلى ابتكار تقنيات جديدة للعرض والاستعراض؛ ما جعل الذات تتجه نحو التَّشيؤ شيئا فشيئًا. إنها مرحلة الانتقال من العرض العفوي-الاجتماعي في جزء منه، إلى الاستعراض أو التسويق المنهجي، حيث يصبح لكل ذات صورة وسمعة وعلامة "تجارية"personal branding) ) خاصة بها، تحمل من السمات والخصائص ما يميزها عن الذوات الأخرى.

فالإنسان باعتباره كائنًا اجتماعيًّا؛ أي أنه مجبول بالفطرة على الفعل التواصلي، هو ملزم بإنجاحه في كل مظاهر حياته، الخاصة منها أو الاجتماعية أو المهنية. ومنه، فإن أي حديث عن التواصل، هو بالضرورة حديث عن الذات التي تتحكم في مجالاته وسياقاته ومساراته، كما أن نجاح العملية التواصلية يقتضي من الذات اكتساب مهارات وكفاءات قابلة للتعلم والتحصيل، كما تحتاج أيضًا إلى استعدادٍ سيكولوجيٍ (بناء الذات)، وتدريب سلوكي (التواصل) وحصيلة معرفية (الإدراك)، وتحتاج أيضا -في عصرنا هذا- إلى أدوات رقمية (وسائل التكنولوجيا الحديثة للإعلام والتواصل)، هذا ما يجعل الذات أمام مجموعة من الرهانات الاجتماعية، والسيكولوجية، والثقافية، هذه الأخيرة التي يمكن أن نضيف إليها، في ظل التحول الرقمي الذي نشهده: رهان بناء الهوية الرقمية (Digital Identity, Identité Numérique)، ورهان الرؤية (visibility, la visibilité)، ورهان الإقناع (Persuasion).

فالملاَحَظُ أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يختلف باختلاف أهداف كل مستخدم وكذا بمدى درايته بها، فترى من يلج هذه المواقع من أجل التسلية وتبادل أطراف الحديث، وتجد من يلجها من أجل الحصول على المعلومة والبقاء في دائرة الأحداث، وهناك من يستعملها من أجل الترويج لفكرة أو معتقد أو إيديولوجية ما، وهناك من يعتمدها كوسيلة لجمع أكبر عدد من المؤيدين أو المتعاطفين، وهناك من يستعملها في استعراضExposition   وتسويق ذاته Marketing de soi والرفع من قيمته والبحث عن فرصٍ للعمل...

 في استقصاء قام به موقع (RegoinsJob) في  السياق المهني الفرنسي امتد بين سنتي 2010م و2012م حول أثر مواقع التواصل الاجتماعي في التشغيل والبحث عن عمل، خلص إلى أن هناك إقبالا للمشغلين على مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث ارتفعت نسبة البحث عن الأطر والكفاءات التي تحتاجها هذه الشركات من 47% سنة 2010م إلى 53% سنة 2012م. كما ارتفعت أيضًا نسبة التأكد من المعلومات وهوية المتبارين من 36% سنة 2010م إلى 68% سنة 2012م، وقد تم قبول 27% من المرشحين لأن آثارهم كانت إيجابية في مواقع التواصل الاجتماعي، في حين تم رفض 25% من المرشحين، فقط، لأن تواجدهم كان سلبيا في هذه المواقع.

وعليه، تتلخص إشكالية هذا البحث في دراسة طبيعة العلاقة بين استعراض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي وبين مجال التشغيل، أو بعبارة أدق "عملية التوظيف". بمعنى، إذا أردنا طرح سؤال عام ننطلق من خلاله في تأطير الإشكالية المطروحة فإنه سيأخذ الصيغة التالية: ما مدى استعانة المشغلين، في السياق المهني المغربي، بالهوية الرقمية في تقييم شخصية المتبارين وانتقاء موظفيهم؟ أو هل تؤثر الهوية الرقمية والآثار الرقمية في انتقاء واختيار المشغلين لموظفيهم؟ 

إن حالة الحياد التي تمنحها مواقع التواصل الاجتماعي والحرية "المطلقة" في التعبير عن الذات من حيث طبيعتها وسماتها ومميزاتها وكفاءاتها، يقودنا إلى طرح العديد من التساؤلات:

  1. ما هي مواقع التواصل الاجتماعي؟ وما المقصود باستعراض الذات ولماذا انتشرت هذه الظاهرة؟ ما هي الهوية الرقمية وكيف تتشكل؟ وما هي الآثار الرقمية؟ 
  2. كيف تشتغل مواقع التواصل الاجتماعي؟ وكيف يتفاعل روادها داخلها؟ وكيف يساهم استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في استعراض الذات؟
  3. هل هناك علاقة بين طبيعة المحتوى المنشور وتوسيع مجال رؤية الذات وظهورها في مواقع التواصل الاجتماعي؟
  4. هل يلجأ المشغلون في السياق المهني المغربي إلى مواقع التواصل الاجتماعي من أجل البحث عن المواهب والأطر (موظفيهم المستقبليين)؟ ولماذا؟
  5. هل يمكن استخراج شخصيات الأفراد بناء على الهوية الرقمية والآثار الرقمية؟
  6. ما هو دور مواقع التواصل الاجتماعي في عملية التوظيف؟
  7. ما هي النتائج المترتبة عن عرض/استعراض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي خصوصًا في مجال التشغيل (عملية التوظيف)؟ 

يمكن القول إن التأثير الكبير الذي تُحدثه مواقع التواصل الاجتماعي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ليس فقط لبلادنا، وإنما على مستوى العالم، يقتضي منا إعادة النظر في رؤيتنا وتمثلاتنا لها بدرجة أولى، ثم استخدامها بطريقة صحيحة ومُؤمَّنَة بدرجة ثانية، حيث لم تعد تقتصر وظيفتها، فقط، في التواصل وربط الناس بعضهم ببعض، بل تعدت ذلك إلى اعتمادها كوسائل للرفع من الإنتاجية والنمو الاقتصادي وتوجيه الأفراد نحو أهداف محددة قد تخدم، أولًا، المصلحة العامة للإنسانية. بتعبير آخر، إن ما بدأ كوسيلة رقمية تُسهِّل عملية التواصل بين الناس يعزز الآن النزعة إلى الظهور والاستعراض على جميع الأصعدة النفسية والاجتماعية والثقافية، تشمل كلًا من الهوية والعواطف والثقافة.

  ولما كانت إحدى الرهانات الكبرى لاستراتيجية المغرب الرقمي، التي أُطلقت سنة 2008م والتي امتدت في مرحلتها الأولى إلى سنة 2013م، هي تحويل المغرب إلى مجتمع للمعلومات وخلق قيمة مضافة وتحسين مستوى العيش والرفاهية الاجتماعية للمواطنين عبر تمكين شريحة مهمة من المغاربة من وسائل تكنولوجيا التواصل الحديثة (هواتف ذكية، حواسيب، ألواح إلكترونية) وتسهيل ولوجهم إلى الإنترنيت، فإن واجبنا باعتبارنا باحثين في المجال الأكاديمي هو الاستمرار في هذا التوجه والانتقال إلى مرحلة أخرى تتمثل في دراسة وتحليل، ونقد،  أنماط استخدام هذه الوسائل. من هذا المنطلق، تتمثل أهمية البحث في رؤيته الاستباقية التي تنسجم مع أهداف استراتيجية المغرب الرقمي لإدارة المعرفة.

وبالتالي نهدف من خلال هذا البحث إلى:  

1.    محاولة فهم ظاهرة استعراض الذات.

2.    فهم الهوية الرقمية وكيفية تشكلها.

3.    فهم تصميم وهندسة مواقع التواصل الاجتماعي.

4.    فهم نموذج التواصل في العصر الرقمي.

5.    التعرف على دور الهوية الرقمية والآثار الرقمية في عملية التوظيف.

6.    التعرف على ممارسات التوظيف التي يقوم بها الفاعلون في السياق المهني المغربي.  

7.    معرفة مدى الاستعانة بالهوية الرقمية في السياق المهني الرقمي المغربي. (من قبل المشغلين)

8.    معرفة أهمية الهوية الرقمية في عملية انتقاء واختيار المتبارين من قبل المشغلين. (أثرها على المتبارين)

في الحقيقة، لقد كانت الدوافع الذاتية، قبل الموضوعية، محركاً رئيسا للاشتغال على موضوع استعراض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يتم ربطه، في مرحلة ثانية، بمجال التشغيل. ويرجع السبب في ذلك، بكل بساطة، إلى حالة التفكير الدائمة التي كنا نعيشها ونحن نحاول فهم واستيعاب انتشار ممارسات الأفراد في تقديم ذواتهم وعرضها واستعراضها رقميًّا، ليس فقط في المجتمع المغربي وإنما على مستوى العالم، وهو الأمر الذي شكَّل لدينا، في البداية، دهشة وصدمة كبيرتين، كوننا ننتمي إلى جيلِ ما قبل الجيل الرقمي وقد واكبنا أهم التطورات التي عرفتها التكنولوجيا الحديثة للإعلام والتواصل خصوصا بين سنتي 2000م و2023م (23 سنة) وهي المدة الزمنية التي كانت كافية لتوسع نطاق شبكة الإنترنيت وظهور مواقع التواصل الاجتماعي ودخولها حيز الممارسة واحتلالها أيضا لمكانة مهمة في حياتنا اليومية، انطلاقًا من أبسط ممارسات التواصل وصولًا إلى استخدامها في مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد، خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة. وهذا ما جَعَلَنا نقضي سنة كاملة (2016م-2017م) في البحث ومطالعة الكتب والمراجع العلمية من أجل بناء موضوع نستطيع من خلاله الإجابة عن التساؤلات التي كانت تؤرقنا معرفيًّا من قبيل: ما هي الدوافع التي تجعل الإنسان يعرض ذاته باستمرار وفي بعض الأحيان بشكل مفرط في مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل الأمر طبيعي أم أن هناك عوامل أخرى تساهم في هذا العرض/الاستعراض؟ ما الذي يجعل الإنسان يتمركز حول ذاته بهذه الطريقة في العالم الرقمي؟ لماذا انتشرت ظاهرة عرض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي؟ إلخ.

وبالتالي وَجَدْنا أنفسنا ننتقل بين حقول معرفية شتى: من علم الاجتماع، وعلم التواصل، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم نفس الشخصية، وعلوم التكنولوجيا الحديثة، وعلوم تدبير الموارد البشرية، وعلوم البرمجة المعلوماتية، وأخرى، من أجل تمثل وإدراك موضوع البحث من مختلف زواياه فتصبح الرؤية، إذ ذاك، أكثر وضوحًا وعمقًا وشمولية، وكي نعطي أيضًا الموضوع حقه، معرفيًّا على الأقل، باعتباره موضوعًا مركبًا ذا بنية معرفية متعددة.

علاوة على ذلك، ونحن نحاول بناء تصورٍ عام لموضوع البحث، برزت قوة الدوافع الموضوعية لضرورة البحث في موضوع استعراض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي وربطه بمجال التشغيل، كوننا من جهة، في حاجة ملحة لبحوث ودراسات أكاديمية في مجال استخدام الإنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي في السياق المغربي، خصوصًا ونحن نشهد تحولًا رقميًّا في جميع أنشطتنا اليومية.

كما أننا لاحظنا من جهة ثانية، ونحن نبحث عن دراسات ترتبط بموضوع بحثنا، وُجودَ نَقْص ملحوظ، حسب ما اطلعنا عليه، في طريقة وزاوية المعالجة التي نتبناها في بحثنا هذا، الأمر الذي زاد من رغبتنا في إجراء البحث ومحاولة استكشاف السياق الرقمي المغربي، لكن، عبر مجال التشغيل. إذْ إننا نطمح في النهاية من خلال هذا العمل المتواضع أن نساهم في وضع لبنة أخرى في مجال دراسات الإنسانيات الرقمية والبحوث التي تعنى بموضوع التحول الرقمي الذي فرض سماته وخصائصه التقنية على جميع الحقول المعرفية.

وقد اخترنا أن نُقَّدم بحثنا، هذا، في أربعة فصول: فصلٌ تمهيدي وثلاثة فصولٍ تتوزع بين الشق النظري والشق التطبيقي. ونود أن نشير في هذا السياق، إلى أننا وجدنا صعوبة بالغة في توزيع الفصول والمباحث، خصوصا الفصلين الأول والثاني، كونهما، من جهة، يرتبطان ارتباطا وثيقا يصعب معه الفصل بينهما، كما سيتضح ذلك في صفحات البحث، كما يتضمنان، من جهة ثانية، قدراً مهما من التحليل والتفكيك اللذين يمكن أن يشكلا دراسة تحليلية "نقدية" تمتد بين الفصلين.

وقد يستغرب بعض القراء أننا لم نُقدم فرضياتٍ للبحث، ويرجع السبب في ذلك، بكل بساطة، إلى طبيعة البحث النوعي (الكيفي) الاستكشافي الذي لا ينبني على وضع فرضيات والتحقق منها كما هو الشأن بالنسبة للبحوث الكمية التي تنتمي إلى النموذج المعرفي الواقعي أو الوضعي، وإنما ينبني على مقترحات يحاول الباحث من خلالها استكشاف سياق أو بيئة معينة أو فهم وتفسير ظاهرة ما.

خاتمة:

خلاصة القول، لا يخلو أي بحث علمي، كيفما كان، من النقائص أو نقاط الضعف، وهذا يرجع في المقام الأول إلى طبيعتنا البشرية التي تتسم بالنقص والمحدودية في تشخيص وفهم وإيجاد حلولٍ للإشكالات التي تواجهنا في مختلف مجالات الحياة اليومية. وبالتالي فقد عرضنا بعض نقاط الضعف المتعلقة بمعايير العلمية للتحقق من النتائج التي حصلنا عليها.

لكن في المقابل، تتمثل قوة البحث وقيمته العلمية في النقاط التالية:

1.    على مستوى الرؤية الاستراتيجية للبحث: 

-    قدم الباحث مساهمة نظرية في علوم التواصل تتمثل في اقتراح نموذج للتواصل في العصر الرقمي.

-    من الممكن أن يساهم البحث، بشقيه النظري والتطبيقي، في التفكير لتأسيس تكوين أكاديمي حول التواجد السليم في العالم الرقمي والاستخدام العقلاني الرشيد لمواقع التواصل الاجتماعي وتعليم التلاميذ والطلبة والخريجين، المقبلين على البحث عن عمل، طرق تدبير ملفاتهم الشخصية وهوياتهم وسمعتهم الرقمية. 

2.    على المستوى النظري، سيكون بمقدور القارئ باللغة العربية أن يستوعب: 

-    دوافع استعراض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي.

-    كيفية تشكل الهوية الرقمية في العالم الرقمي.

-    بنية وهندسة وتصميم مواقع التواصل الاجتماعي.

-    المنطلقات الفكرية والإيديولوجية للفضاء الرقمي بشكل عام، ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص.

-    البعد الاقتصادي لمواقع التواصل الاجتماعي.

3.    تتمثل أهمية منهجية البحث المعتمدة في:

-    المقاربة متعددة الحقول المعرفية المعتمدة في الإجابة عن إشكالية وأسئلة البحث (في شقيه النظري والتطبيقي).

-     إدراج الذكاء الاصطناعي في البحوث التي تنتمي إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال دراسة تطبيقية، الأمر الذي قد يشكل سابقة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس التي ننتمي إليها.  

4.    على مستوى النتائج، تتمثل أهمية نتائج البحث في:

-    إظهار وتوضيح العلاقة بين استعراض الذات في مواقع التواصل الاجتماعي والهوية الرقمية وتقييم الشخصية.

-    إثبات مظاهر التحول الرقمي في تدبير الموارد البشرية للشركات والمؤسسات في السياق المهني المغربي. 

-    إثبات بروز ممارسات تدبيرية جديدة تتعلق بعملية التوظيف في السياق المهني المغربي. 

-    إثبات إمكانية استخراج سمات الشخصية لرواد مواقع التواصل الاجتماعي، في السياق المغربي، اعتمادا على هويتهم الرقمية.

-    إثبات إمكانية الاستعانة بالهوية الرقمية للمتبارين في عملية التوظيف.

خلاصات:

بعد مناقشة النتائج التي قدمناها، وبناء على كل ما سبق، يمكن القول إن السياق المغربي المهني يشهد تحولًا رقميًّا نوعيًّا في ممارسات تدبير الموارد البشرية خصوصًا في عملية التوظيف. ومع ذلك نسجل مجموعة من الملاحظات التي تم استخلاصها من نتائج الدراسة ومن تصريحات وشهادات الفاعلين في السياق المهني المغربي. وتتمثل هذه الملاحظات، التي يمكن أن تشكل مسارات بحث وفرضيات يمكن التحقق منها في البحوث المستقبلية، في:

  1. القطاع العمومي متأخر نسبيًّا في عملية التحول الرقمي مقارنة بالقطاع الخاص، ويرجع السبب في ذلك إلى المساطر الإدارية والتشريعات القانونية التي تؤطر القطاع العمومي، عكس القطاع الخاص المتحرر من هذه القيود.
  2. نلاحظ سرعة انخراط القطاع الخاص في عملية التحول الرقمي الذي يَعِد الشركات بتحسين إراداتهم، والرفع من قيمة الأرباح المالية، وتخفيض الطاقة والجهد وتكلفة الإنتاج عن طريق استثمار نتائج البحث العلمي في المجال التكنولوجي واعتماد الأدوات الرقمية المبتكرة التي تروم إلى توسيع النشاط الاقتصادي مساحة وحجمًا.
  3. عكس القطاع الخاص لا يستعين الفاعلون في القطاع العمومي بالهوية الرقمية في عملية التوظيف.
  4. يقوم الفاعلون المهنيون في القطاع الخاص بالاستعانة بالهوية الرقمية للمتبارين لكن دون معرفة دقيقة بالمصطلح، وهذا يرجع إما إلى عدم تردد مصطلح الهوية الرقمية في مجال التشغيل في السياق المهني المغربي، أو إلى عدم مواكبة الفاعلين المهنيين لتطور الحقل الدلالي الاصطلاحي الذي جاء به التحول الرقمي، خصوصا مصطلح الهوية الرقمية.
  5. لا يعتمد جميع الفاعلين المهنيين في السياق المغربي على أدوات رقمية لتقييم شخصية المتبارين انطلاقًا من الهوية الرقمية والملفات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وتبقى الاختبارات الكتابية سواء المعرفية أو التقنية أو النفسية، والمقابلات الشفوية، والانطباعات، والحدس الإنساني، والتجربة المهنية المتراكمة، هي الطرق الأكثر اعتمادًا في انتقاء واختيار المتبارين.

توصيات:

مع إضفاء الطابع الديمقراطي على أدوات المراقبة التي توزعها المنصات العلائقية على مستخدميها، فإن استعراض الذات يصبح مجازفة يأخذها المرء أولًا أمام محيطه القريب قبل البعيد الذي يشمل أقاربه وأصدقاءه وزملاءه ومشغله الحالي أو المستقبلي... كما أن التحرر الذي عرفه إنتاج المحتوى في عصرنا الرقمي أنتج اضطرابًا على مستوى العملية التواصلية كما وضحنا ذلك سابقا (أنظر نموذج التواصل الرقمي) ووسَّع في الوقت نفسه من مساحة النقد، وفي كثير من الأحيان إصدار الأحكام التقديرية، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، متيحا بذلك مصادر جديدة للمعلومات لم يعهدها الناس من قبل، الأمر الذي سهَّل استغلال الآثار الرقمية التي يتركها مستخدمو شبكة الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي خلفهم. 

وبالتالي، يمكن القول، إن الشعار الذي تنضوي تحت لوائه شبكة الإنترنت وجميع مواقع التواصل الاجتماعي، حتى المهنية منها، يتمثل في الرؤية الشاملة panoptism في جميع الاتجاهات وفي كل الأبعاد: الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الثقافية والنفسية.. ما يجعلنا نُلح في طرح التساؤل التالي: كيف يمكن أن "نقوم بتوعية الأفراد حول مخاطر المراقبة المؤسسية عندما يقومون هم أنفسهم بنشر معلوماتهم الشخصية من جهة، وتطوير فضول لا يمكن إشباعه حول معرفة ما يقوم به الآخرون والتجسس عليهم من جهة ثانية؟"

وعليه، لا يمكننا أن نَستثْنيَ السياق المغربي الذي بدأت تظهر فيه مظاهر التحول الرقمي في محاولة للالتحاق بالدول الرائدة تكنولوجيا (الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، إنجلترا، تركيا، كندا، ألمانيا...) وتقليص الفجوة معها، والتَّطلع إلى ما حققته من نموٍ اقتصاديٍ، وتنظيمٍ إداريٍ، وسلطةِ المراقبة والتحكم في تدفق المعلومات رقميا... لكن، ونحن نسلك هذا المسار الذي فرض نفسه علينا بقوة، لا بد في رأينا، ونحن في بدايات هذا التحول، أن نستفيد من وضعنا الراهن من أجل ترتيب رَقْمِيَتِنَا وفق قواعد أخلاقية تنسجم مع مرجعيتنا الثقافية ونموذجنا المعرفي.

 وتحقيقًا لهذه الأهداف، نساهم بدورنا في تقديم مجموعة من التوصيات التي تمت بلورتها بناء على تتبعنا للسياق الرقمي المغربي طيلة فترة إجراء البحث من جهة، والنتائج المتحصل عليها من جهة ثانية، وهي:

  • ضرورة السعي إلى بناء بيئة اجتماعية رقمية آمنة وهذا يقع على عاتق الدولة المغربية ومؤسساتها التشريعية التي تعنى بالتربية والتعليم والتواصل الرقمي والثقافة والأمن الرقمي.
  • ضرورة تطوير مواد القانون 08-09 ليواكب آخر التطورات في استخدام التطبيقات الرقمية والذكاء الاصطناعي في معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، والعمل على إدراج مواد تتعلق بالاستعانة بالهوية الرقمية في مجال التشغيل وتحديد حدود هذه الاستعانة.
  • إيكال مهمةِ بلورة رؤية خاصة حول طرق استخدامات تكنولوجيا الإعلام والتواصل من قبل متخصصين مغاربة تنسجم مع المنطلقات الفكرية والثقافية والأخلاقية للمغاربة ومحاولة وضع آليات تنزيلها على الواقع.
  • تكوين جيل من الأساتذة في مادة التربية على الرقمي من أجل تعزيز الدور التربوي للمعرفة، وإدراجها كمادة أساسية في جميع المستويات التعليمية: الابتدائي، الإعدادي، الثانوي والجامعي.
  • ضرورة انخراط وسائل الإعلام في الرفع من الوعي بالمخاطر المحتملة للاستخدام العفوي وغير الرشيد لمواقع التواصل الاجتماعي والأدوات الرقمية. 
  • تدريس الجذور الفكرية والإيديولوجية والثقافية والاقتصادية التي ساهمت في ظهور وتوسع الفضاء الرقمي والانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي.   
  • إدراج الهوية الرقمية والآثار الرقمية للمتبارين في عملية التوظيف مع تطوير آليات لعدم المساس بحق وحرية الأفراد في حماية معطياتهم الشخصية. (انسجاما مع القانون 08-09)
  • إدراج نموذج العوامل الخمسة الكبرى للشخصية في عملية تقييم المتبارين من أجل وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. 

في نهاية هذا العمل، نؤمن أنه من الصعب، في ظل التطور التكنولوجي الذي نعيشه اليوم، أن نحتفظ بالحياة الخاصة في العالم الرقمي دون أن يكون الفرد على وعي تام بما ينشره من معلومات ومعطيات على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وهذا لن يتأتى إلا بتحديد موقف أخلاقي جماعي صريح من طرق استخدام التكنولوجيا الحديثة للإعلام والتواصل. كما يتمثل الرهان الرئيس، اليوم، في معرفة مكان تواجد معلوماتنا الرقمية، ومن يقوم بالاطلاع عليها؟ ومن يقوم بمعالجتها؟ وكيف يتم ذلك؟ وكم من الوقت يتم الاحتفاظ بها؟ ولأي غرض؟  بالإضافة إلى هذا كله، هناك جزء مهم من المسؤولية يقع على عاتق المستخدم الذي يجب أن يفكر مليًّا قبل أن يتداول أية معطيات، في الفضاء الرقمي، يمكن أن تؤثر سلبًا على حياته الخاصة والاجتماعية والمهنية.

نبذة عن الكاتب