مقدمة
لم تشهد العلاقات الصومالية المصرية منذ الألفية الجديدة تطورًا ملموسًا بل تحولت هذه العلاقة من المركز إلى الهامش، كما لم ترق إلى المستوى المطلوب، على الرغم من أهمية الصومال الإستراتيجية بالنسبة لمصر، كما أن هذا الغياب المصري في المنطقة أدى إلى بروز قوى أخرى صاعدة في المنطقة مثل تركيا ودول الخليج، وأصبحت الصومال حليفًا قويًّا بالنسبة لتركيا وقطر والإمارات والسعودية في السنوات الأخيرة، وأصبحت منطقة القرن الإفريقي نقطة جاذبة للتنافس الدولي، وتولي القاهرة راهنًا اهتمامًا كبيرًا لإعادة تموضعها الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري، لحماية مصالحها الحيوية، سيما أمنها المائي، بعد بدء الملء الخامس لسد النهضة وتفاقم المخاطر والمهددات الأمنية في البحر الأحمر بعد عملية طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
في هذه الورقة نحاول الإجابة عن أسباب الانعطافة المصرية نحو منطقة القرن الإفريقي، وتحديدًا الصومال الذي ظل ولمدة عقود مسرحًا لتدخلات دول الجوار والدول الخليجية، في ظل غياب شبه كامل للدور المصري، برغم تشابك وعراقة العلاقات بين مقديشو والقاهرة، ورصد آليات ومحددات النفوذ المصري المحتمل في المنطقة، بين الاحتواء الإستراتيجي للطموح الإثيوبي للوصول إلى البحر الأحمر، ومقاربة النفوذ التركي الآخذ في التوسع والانتشار في المنطقة، هذا إلى جانب استشراف محددات وإمكانات التأثير المصري في المنطقة، بغية فرض نفوذها بعد نحو عقدين.
الانعطافة المصرية نحو القرن الإفريقي: حسابات الربح والخسارة
بعد مضي سبعة أشهر من توقيع اتفاقية أمنية بين الصومال ومصر أثناء زيارة الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، إلى القاهرة، في يناير/كانون الثاني الماضي، ردًّا على مذكرة تفاهم موقَّعة بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال (صوماليلاند)، صادق مجلس الوزراء الصومالي في اجتماعه الأسبوعي، في 20 من يوليو/تموز الماضي؛ على اتفاقية الدفاع المشترك بين مقديشو والقاهرة(1). تزامن ذلك مع خضم تحرك تركي عسكري قبالة سواحل البلاد تنفيذًا لاتفاقية إطار تعاون أمنية اقتصادية بين مقديشو وأنقرة، في فبراير/شباط الماضي؛ حيث صادق البرلمان التركي، في 28 يوليو/تموز الماضي، على مشروع تقدم به الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لإرسال سفن بحرية تركية إلى سواحل الصومال(2)؛ ما يعكس أن مقديشو تريد موازنة النفوذ التركي والمصري في منطقة القرن الإفريقي، سياسة من شأنها أن تفاقم حدة الصراعات الإقليمية تجاه المنطقة وتزيد تمط التحالفات والتكتلات بين دول المنطقة من جهة والقوى الإقليمية من جهة ثانية(3).
تراجع النفوذ المصري بعد الألفية الجديدة في منطقة القرن الإفريقي، ولم يحظ الصومال باهتمام كبير منذ فشل جولات المفاوضات التي رعتها القاهرة في نهاية التسعينات من القرن الماضي بين الفرقاء الصوماليين، واكتفت مصر بسياسة الترقب ومتابعة المتغيرات الأمنية والسياسية، دون أن يكون لها تأثير في مجريات الأوضاع المتقلبة بدءًا بصعود التيار الإسلامي (الجهادي) في الصومال (المحاكم الإسلامية عام 2006) ومرورًا بالتوغل الإثيوبي بضوء أخضر أميركي، وانتهاء بالتدخل العسكري من الاتحاد الإفريقي لدعم الحكومات الانتقالية المتعاقبة منذ عام 2007. ونظرًا لهذا الغياب، فإن سياسة مصر الداخلية كانت أكثر إلحاحًا واهتمامًا بالنسبة لدوائر صنع القرار، في تلك الفترة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، وذلك في وقت تشهد منطقة القرن الإفريقي تقلبات تُوِّجت بتحالفات جديدة بعد زيارة رجب طيب أردوغان إلى مقديشو في خضم مجاعة عام 2011، ليشكل أقوى تحالف عسكري وأمني واقتصادي مع الصومال، ولم تلحظ مصر مدى تمدد النفوذين، التركي والإثيوبي، في المنطقة على حساب مصالحها، إلا بعد بدء مشروع سد النهضة الإثيوبي، عام 2012، وتصاعد نفوذ دول الخليج في المنطقة، خاصة الصومال وجيبوتي، اللتين تعتبران العمق الإستراتيجي المصري في القرن الإفريقي، نظرًا للعلاقات التاريخية والدبلوماسية بين الدولتين مع مصر.
كذلك لعبت دول الخليج (الإمارات وقطر والسعودية) دورًا كبيرًا في مجريات رسم معالم دول القرن الإفريقي، وقد لعبت الدوحة وأبوظبي أدوارًا متبادلة في التأثير على الانتخابات الرئاسية في الصومال، منذ انتخابات عام 2012، 2017، 2022، وشهدت علاقات مقديشو بعواصم دول الخليج تجاذبات واستقطابات سياسية حادة، خاصة بعد الأزمة الخليجية، عام 2018، والتي تبنَّى الصومال موقفا دبلوماسيا إلى جانب قطر ضد دول الحصار (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، وهو ما لم يكن متوقعًا لدى مصر التي عدَّت نفسها الحليف الإستراتيجي الأقرب للصومال منذ عهد الاستقلال 1960(4).
كما أن مجيء أبي أحمد إلى الحكم، عام 2018، بعد احتجاجات شعبية عارمة في إثيوبيا، خلطت الحسابات الجيوسياسية في منطقة القرن الإفريقي؛ إذ دشن رئيس الوزراء الإثيوبي مرحلة جديدة من الانفتاح الدبلوماسي وشكَّل تحالفات جديدة لم تشهدها المنطقة، بإعلانه تحالفًا ثلاثيًّا مشتركًا في أسمرة، عام 2018، بين الصومال وإثيوبيا وإريتريا وذلك في خضم أزمة سد النهضة بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة ثانية، وهو ما فُسِّر لاحقًا بمحاولة إثيوبية لتطويق مصر من خاصرتها الخلفية، لكن الصفعة الثقيلة التي تلقتها القاهرة هي عندما تحفَّظ الصومال إلى جانب جيبوتي مرتين، عام 2020، على قرار جامعة الدول العربية المؤيد لموقف مصر والسودان ضد إثيوبيا، ووظَّفت أديس أبابا هذه الوقفة من حلفاء مصر التقليديين في المنطقة انتصارًا دبلوماسيًّا في "معركة سد النهضة" في ظل ما تراه القاهرة تخاذلًا من قبل الاتحاد الإفريقي(5).
تشهد منطقة القرن الإفريقي منذ زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى جيبوتي ضمن زيارة خاطفة استغرقت عدة ساعات، وإلى جنوب السودان، عام 2021، تحركًا مصريًّا بخطوات حثيثة لتدارك تأثير غيابها عن الساحة ومراجعة سياساتها تجاه المنطقة، كما أن زيارة وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، إلى مقديشو وجيبوتي، في شهر يوليو/تموز الماضي، عكست هذا التوجه المصري الجديد نحو هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية، وتأثيرها على أمن البحر الأحمر. لكن لا يمكن قياس حجم وقوة الاستدارة المصرية نحو المنطقة، وهل تأتي فقط في سياق سياسة موازنة نفوذ تركيا ودول الخليج في المنطقة، خاصة الإمارات وقطر والسعودية، أم هي مجرد احتواء إستراتيجي للنفوذ الإثيوبي، مع توقعات بأن يتجه آبي أحمد لتصعيد سقف طموحه وتحقيق حلم إثيوبيا بالوصول إلى منفذ في البحر الأحمر، سلمًا أو حربًا في نهاية المطاف(6).
العودة المصرية إلى الصومال: الأسباب والخلفيات
عانى الصومال منذ سقوط الدولة المركزية إهمالًا عربيًّا ومشاركة مصرية محدودة في التسعينات من القرن الماضي، وتُرك ساحة لتصفية الحسابات الداخلية والإقليمية، وتراجع الدور العربي والمصري في الصومال لأسباب تتعلق بتعقيدات تسوية النزاعات وحلحلة أزمات مقديشو الأمنية والسياسية. إلا أنه وبالرغم من أهمية الصومال الجيوسياسية والاقتصادية بالنسبة لمصر، لم يكن لمصر دور فعَّال؛ ما جعل ملف الصومال وإشكالاته في يد إثيوبيا وكينيا. كما وسَّع موقف الحكومة الصومالية الحيادي تجاه سد النهضة مستوى التباعد بين البلدين، بالإضافة إلى أن الحضور التركي في الصومال من خلال قاعدة عسكرية تركية تخرِّج سنويًّا المئات من الجنود والامتيازات التي تتمتع بها شركات تركية في إدارة أهم مرافق الدولة (الميناء والمطار) ضمن اتفاقيات تمتد لعقود طويلة، يجعل الصومال حليفًا وعمقًا تركيًّا إستراتيجيًّا في المنطقة، لكن الحضور المصري منذ عودة شيخ محمود إلى الرئاسة في منتصف مايو/أيار من عام 2022، ربما قد يحقق بعض المكاسب للقاهرة، من خلال سياسة الصومال الهادفة إلى موازنة ومواءمة النفوذ الخارجي خاصة بين تركيا ومصر، ما يحقق مصالح القاهرة الجيوسياسية والأمنية في المنطقة جزئيًّا.
ويمكن سرد أهم أسباب اهتمام مصر راهنًا بمنطقة القرن الإفريقي، والصومال تحديدًا في الآتي:
- مسألة الأمن المائي المصري: بعد فشل جولات التفاوض الثماني بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، والدائرة بين مصر والسودان (دولتي المصب)، وإثيوبيا (دولة منبع). تواصل أديس أبابا جهودها لملء خزانات سد النهضة، وبدأت، أواخر يوليو/تموز الماضي، الملء الخامس لسد النهضة، الذي تبنيه منذ عام 2011، لتحجز بذلك 23 مليار متر مكعب إضافية من مياه النيل تضاف إلى 41 مليار متر مكعب آخر تم احتجازها في المراحل الأربع السابقة. ويُعتقد أن الملء الخامس للسد، سيكون الأكبر منذ انطلاق عمليات الملء، وسط توقعات بإضافة أكثر من 15 مليار متر مكعب من المياه خلال موسم الفيضان الحالي. لكن كلما زادت السعة التخزينية للسد، زادت القدرة على التحكم في المياه، وبإمكان سد النهضة تخزين عام ونصف العام من مياه النيل الأزرق؛ مما يعني القدرة على تخزين نحو 50% من حصص دولتي المصب (مصر والسودان) لمدة 3 سنوات أو أكثر ستكون عجافًا، ويزداد الأمر سوءًا كلما زاد عدد سدود إثيوبيا التي تعتزم إنشاء المزيد منها(7).
ونظرًا لغياب إستراتيجية مصرية لمواجهة مخططات إثيوبيا التي تواصل عملية الملء الخامس واستكمال أعمال تعلية الحائط الأوسط للسد والذي تستهدف الوصول به إلى 625 مترًا فوق سطح البحر؛ مما يعني قدرتها على تخزين نحو 50 مليار متر مكعب من المياه مستقبلًا، يفاقم هذا التحرك الإثيوبي والانفراد بحصص المياه من النيل الأزرق الأزمة المائية القادمة في مصر، ولا تبدي الدوائر المصرية خشيتها من هذه المعضلة المائية؛ إذ لخص وزير الخارجية المصري السابق، سامح شكري، الأضرار المختلفة لسد النهضة على مصر في خطابه أمام مجلس الأمن، 1 مايو/أيار 2020، وقال: "يمكن أن تكون هناك آثار كارثية على مصر جرَّاء المشاريع التي تقوم بها إثيوبيا؛ إذ ستضيع ملايين فرص العمل وستختفي آلاف الهكتارات من الأرضي الصالحة للزراعة وستشهد الأراضي زيادة في الملوحة وتزداد تكلفة الواردات الغذائية بصورة هائلة، وزيادة نسبة التحضر بسبب نزوح مواطني الريف". ولهذا، فإن مصر تريد العودة إلى الصومال، وقد ترجمت زيارة وزير خارجيتها الجديد إلى مقديشو وجيبوتي التوجه المصري الجديد نحو هذه المنطقة، من أجل تأمين أمنها القومي المائي، ومحاولة لاستباق الزمن قبل الانتهاء من عمليات ملء وتشغيل سد النهضة، الذي تعتبره إثيوبيا جزءًا من خطة اقتصادية طموح، وورقة ضغط للي ذراع مصر مستقبلًا(8).
- أمن البحر الأحمر: بعد توقيع مذكرة التفاهم بين أرض الصومال (صوماليلاند) وإثيوبيا، في يناير/كانون الثاني الماضي، والتي بموجبها تصل أديس أبابا إلى البحر الأحمر، وتعترف بإقليم هرجيسا دولة مستقلة في منطقة القرن الإفريقي، حملت هذه المذكرة أبعادًا جديدة تزيد من مخاطر انزلاق المنطقة إلى أتون الصراعات، خاصة بين مقديشو وأديس أبابا، هذا إلى جانب التحولات التي يشهدها الجنوب الغربي للبحر الأحمر بعد عملية طوفان الأقصى، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما أعقب ذلك من هجمات الحوثيين على السفن وكذلك القراصنة الصوماليين الذين يستهدفون السفن، كل ذلك مثَّل وضعًا مقلقًا بالنسبة لمصر، بالإضافة إلى طموح إثيوبيا لتأمين منفذ بحري لها في البحر الأحمر، وهو ما ترفضه الدول المشاطئة على البحر الأحمر، ابتداء من الصومال وجيبوتي وإريتريا ومصر والسودان والسعودية.
ولاشك أن التهديدات الأمنية في البحر الأحمر غيَّرت مسار حركة نقل السفن التجارية، وأثَّرت هذه الأزمة بطبيعة الحال على الموانئ الإفريقية، خاصة مصر وجيبوتي وإريتريا، وتعتبر القاهرة أولى المتضررين من الاضطرابات الناجمة عن تغير حركة المرور بنسبة 10% من التجارة العالمية المنقولة بحرًا والتي كانت تمر بدورها عبر قناة السويس، وهو ماكانت تجنيه القاهرة عوائد مالية ضخمة، ويتضح حجم ضرر الدول الإفريقية المطلة على البحر الأحمر من الأزمة في جنوب الحوض في تراجع حمولة السفن الداخلة للبحر الأحمر من خليج عدن بنسبة 70% فيما بين منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023 ومنتصف فبراير/شباط 2024، مقابل زيادة تجاوزت 85% في حجم الحمولة المارة برأس الرجاء الصالح، في مارس/آذار 2024، مع مجمل تأثيرات سلبية على حركة التجارة في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، التي لا تزال قائمة حتى اللحظة(9).
- منفذ بحري وقاعدة عسكرية إثيوبية: إستراتيجيًّا، ترى مصر أن وصول إثيوبيا إلى منفذ مائي في البحر الأحمر وبناء قاعدة عسكرية إثيوبية في المياه الصومالية، يهدد أيضًا مصالحها المائية وحركة التجارة العابرة عبر مضيق باب المندب، ويهدد مشروع قناة السويس، ولهذا فإن أي تغير في قواعد اللعبة لإدارة الساحل الجنوبي من البحر الأحمر يفرض معادلات وتوازنات جديدة في المنطقة، عبر انتهاك سيادة الصومال ووحدته، وذلك في وقت تمارس فيه أديس أبابا خطابًا متناقضًا تجاه سياستها لتأمين منفذ بحري؛ حيث إن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، يكرر في خطاباته أمام أعضاء البرلمان، أن إثيوبيا لا تنتهك سيادة الصومال، وتحترم وحدته بل إن الجنود الإثيوبيين ضحَّوا بأنفسهم من أجل استقرار الصومال. وفي المقابل، ترفض أديس أبابا الانصياع لطلب مقديشو بإغلاق قنصلياتها في كل من جروي (عاصمة إقليم بونتلاند) وهرجيسا (عاصمة أرض الصومال)، هذا بالإضافة إلى تقديم الاعتذار لمقديشو والتراجع عن مذكرة التفاهم الموقعة مع إقليم صوماليلاند(10).
- النفوذ التركي المتزايد 2011-2024: منذ عام 2011 كانت أنقرة تكتسب ود الصوماليين تدريجيًّا وذلك عبر القوة الناعمة التي سخرتها تركيا لمدة قرابة عقد ونصف، وهو ما ساعدها في اكتساب خبرة في كيفية تعاطي ملفات الصومال الشائكة، وانخرطت أيضًا في مسارات التفاوض والمصالحة بين الفرقاء الصوماليين، خاصة بين مقديشو وهرجيسا، وإن لم تحقق جهودها خرقًا وتقدمًا كبيرًا، بل أثبتت أنها جادة في المضي نحو ترسيخ وجودها الدبلوماسي والعسكري في الصومال، وهو ما دفع دولًا خليجية مثل الإمارات وقطر والسعودية، منذ عام 2014، إلى التوجه نحو الصومال، وافتتاح سفاراتها في العاصمة مقديشو؛ ما أدى إلى نشوء ما عُرف بسياسة المحاور في المنطقة والاستقطابات الحادة بين الدول الخليجية ومصر وتركيا وإيران نحو المنطقة، تحديدًا إبان أزمة الخليج عام 2018، واعتُبر الصومال جزءًا من محور تركيا وقطر وجيبوتي، وعدَّت القاهرة هذه الخطوة من حلفائها التقليديين في القرن الإفريقي، تبدلًا في مواقفهما تجاه العزف على أوتار القاهرة في القضايا الدولية والإقليمية، ولهذا فإن مصر تسابق الزمن لتدارك أخطاء الماضي من أجل استعادة نفوذها في المنطقة، من خلال فرض وجودها الدبلوماسي والاقتصادي(11).
الدور المصري المحتمل: الأدوات والمحددات
تطرق وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، أثناء زيارته إلى مقديشو، منتصف يوليو/تموز الماضي، لتدشين خطوط "طيران مصر" إلى الصومال وجيبوتي، إلى عراقة وعمق العلاقات التاريخية بين بلاده ودول القرن الإفريقي، والتي تمتد منذ الأسرة الفرعونية الخامسة على "حجر بالرمو" وعلى جدران الطريق الصاعد لهرم الملك ساحورع في أبو صير (انتهى حكمه في العام 2475 ق.م)، مرورًا بالحضور المصري التجاري والعسكري في البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي وانتهاء بفترة الاستعمار الأوروبي وحضور مصر في المنطقة أواخر الثمانينات من القرن الماضي. تبدو هذه اللمحة التاريخية في علاقة مصر بالمنطقة سردًا طبيعيًّا لا يفارق اجتماعات المسؤولين المصريين مع الصوماليين، لكن في الواقع، اللافت أن العلاقات بين البلدين لا ترقى إلى مستوى الانسجام والتعاون والتكامل الاقتصادي والدبلوماسي، بل تكاد توصف بـ"الهامشية"؛ إذ لا يوجد تأثير مصري مباشر في الأزمة الصومالية منذ العقدين الأخيرين(12).
وفي سياق هذه السردية التاريخية التي تطغى على الدور المصري في الصومال، ينبغي توافر إرادة مصرية تشكِّل قوة صلبة ضاغطة ارتهانًا بأدواتها الدبلوماسية وتسخير قوتها الناعمة للعودة إلى منطقة القرن الإفريقي، من خلال تبني إستراتيجية ورؤية شاملة تتجاوز استحضار الماضي والخيارات التكتيكية، والانطلاق نحو ترسيم مصير مشترك مع دول المنطقة للحفاظ على مصالحها المائية وأمنها القومي. ويمكن أن تبني القاهرة توجهًا جديدًا نحو القرن الإفريقي، عبر عدة محددات ومرتكزات أساسية يمكن تلخيصها في الآتي:
- الشراكة في الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية: على صعيد تمتين علاقاتها بدول القرن الإفريقي، وخاصة الصومال وجيبوتي، لابد للقاهرة من أن توظف قدراتها الأمنية والاقتصادية لدعم الصومال، والانخراط في اتفاقيات أمنية واقتصادية، مثلما فعلت تركيا بتطبيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية والأمنية مع دول المنطقة، وهو ما يربط اقتصادها باقتصادات دول المنطقة، والتي تستورد من الصين وتركيا ودول الخليج، ويشهد التبادل التجاري بين مقديشو والقاهرة نموًّا ملحوظًا في العامين الأخيرين؛ حيث كشفت بيانات الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء عن ارتفاع قيمة الصادرات المصرية إلى الصومال لتصل إلى 54 مليون دولار خلال الـ11 شهرًا الأولى من عام 2023 مقابل 42.3 مليون دولار خلال نفس الفترة من عام 2022 بنسبة ارتفاع قدرها 27.7%؛ وبلغت قيمة الواردات المصرية من الصومال 2.2 مليون دولار خلال الـ11 شهرًا الأولى من عام 2023 مقابل 2.2 مليون دولار خلال نفس الفترة من عام 2022(13).
كما أن الاتفاقية الأمنية الموقَّعة بين البلدين، في يناير/كانون الثاني الماضي، يمكن أن توفر للقاهرة مساحة صلبة لإعادة التموضع عسكريًّا في منطقة القرن الإفريقي، من خلال الانخراط في التدريبات العسكرية للجنود الصوماليين (الشرطة والجيش والمخابرات)، وتوفير الدعم اللوجيستي والتقني للمؤسسات الأمنية الصومالية لفرض الأمن والاستقرار، انطلاقًا من مبدأ، كلما تحسن الوضع الأمني في الصومال تعمقت علاقات البلدين، ووجدت القاهرة فرصة للانتشار، لكن الاضطرابات الأمنية يمكن أن تستغلها الأطراف الإقليمية لإبقاء الصومال بعيدًا عن محيطه العربي والإقليمي، ومحصورًا في متناول أطراف ووكلاء دوليين وإقليميين.
- توظيف القوة الناعمة: وظَّفت مصر في سبعينات القرن الماضي قوتها الناعمة للانتشار في منطقة القرن الإفريقي، عبر الاعتماد على نموذجها التعليمي والثقافي من خلال البعثات الأزهرية التعليمية، ولا تزال مدارس مصر في مقديشو هي الإرث الثقافي الخالد لدى الأجيال التي عاصرت فترة الاستقلال، لكن تراجع الحضور التعليمي المصري في العقود الأخيرة، بات جليًّا بعد إلغاء بروتوكول التعاون التعليمي بين الصومال ومصر، وذلك من قبل وزارة التربية والتعليم الصومالية، ومطالبة البعثة التعليمية المصرية بإخلاء مدرسة 15 مايو ومدارس أخرى خلال شهر أبريل/نيسان عام 2020، وهو ما يفسر مدى تراجع الدور الثقافي لمصر في الحاضنة التعليمية في الصومال، ولهذا من المفترض أن تخطط لإعادة هذه البعثات التعليمية ومنح الفرص التعليمية لطلبة الجامعات لبناء الكوادر الصومالية، وتدريب موظفي المؤسسات الحكومية، لتحسين علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة مقديشو، والتركيز على الانخراط في المؤتمرات الإقليمية التي تخص الشأن الصومالي، وتقديم مساعدات لوجستية في مجال التعليم والثقافة، وتعزيز التعاون الشبابي، وتوفير برامج مخصصة لشباب دول القرن الإفريقي، وبناء قوة دبلوماسية تقدر على فرض الحلول للأزمات التي تعيشها المنطقة، وتكثيف دبلوماسية الوساطة، كدولة راعية للوساطات بين دول المنطقة، خاصة إيجاد حلول سلمية للأزمة الصومالية والسودانية، والخلافات الحدودية بين إريتريا وجيبوتي(14).
- الانخراط في التحالفات الإقليمية: على ما يبدو فإن مصر تتجه في الفترة المقبلة لتطويق إثيوبيا من جوارها الإقليمي، وتوظف سياسة حشد التحالفات ضدها، فاستعادت علاقاتها مع الحكومة الصومالية بعد جفاء دام أربع سنوات، هذا إلى جانب تنسيقها مع إريتريا وجيبوتي، فيما يخص تبادل المخاوف المشتركة بين هذه الدول تجاه تعاظم النفوذ الإثيوبي الصاعد، والقلق من الوصول إلى البحر الأحمر، ومدى تأثير ذلك على التوازنات الإقليمية المهيمنة على مداخل ومنافذ البحر الأحمر، ولهذا فإن انهيار التحالف الثلاثي بين الصومال وإريتريا وإثيوبيا شكَّل نقطة انطلاق لمصر، لتأسيس تحالف مضاد ضد إثيوبيا، فالعلاقات بين مقديشو وأسمرة والقاهرة تسير نحو تدشين تحالف جديد في المنطقة، ويستمر تناغم وتناسق هذه الدول من حيث الرؤية المستقبلية تجاه مخططات إثيوبيا للوصول إلى المياه الدافئة، ولهذا فإن انخراط القاهرة في تحالفات إقليمية ودولية تخص منطقة القرن الإفريقي، من شأنه أن يعزز الحضور المصري في المنطقة، لكن هذا سيكلفها أثمانًا باهظة لتحشيد الجهود من أجل الحفاظ على طبيعة الديناميكيات والتكتلات التقليدية في المنطقة التي تشهد تنافسًا دوليًّا يتصاعد بوتيرة متسارعة حينًا بعد الآخر(15).
خاتمة
اللافت، أن العلاقات المصرية الصومالية موغلة في أعماق التاريخ، لكن الإرث الحضاري والثقافي والاقتصادي المشترك بين الدولتين، أعقبه حضور مصري باهت في منطقة القرن الإفريقي في العقود الأخيرة، و هناك احتمالات ورهانات عدة لعودة هذا النفوذ المصري إلى الصومال، نظرًا لتشارك البلدين المخاوف والتهديدات التي تمثلها حكومة آبي أحمد الذي تحول في طرف أعوام قليلة من سياسة الانفتاح وتطبيق إستراتيجية "صفر مشاكل" مع الجوار إلى إثارة المشاكل والأزمات، وفق الوصف السياسي المصري، فأزمة المياه التي تواجهها مصر لا تقتصر فقط على النيل الأزرق، بل أيضًا يمكن أن تشمل مستقبلًا، الأنهار التي تغذي شريان القطاع الزراعي والرعوي في الصومال، في حال أقدمت إثيوبيا على بناء سدود صغيرة في المرتفعات الإثيوبية التي هي منبع نهر شبيلي أكبر نهر في الصومال، كما أن محاولة بناء قاعدة عسكرية إثيوبية على البحر الأحمر، تهدد أيضًا مصالح جيبوتي الاقتصادية والأمنية وتمثل خرقًا لجيبولتيك القوة التقليدية المهيمنة على المنطقة، ويحكم مستقبل العلاقات بين مصر والصومال المحدد الأمني المائي والجيوسياسي المشترك بينهما، وكذلك رؤية مصر وقلقها بشأن صعود النفوذ التركي في المنطقة على الرغم من إعادة تطبيع العلاقات بينهما مؤخرًا، إلا أن القاهرة ترى أن الصومال بات أكثر قربًا من محور تركيا بسبب نجاح قوتها الناعمة، وهو ما يحتم على مصر لعب دور مماثل، في حال أرادت منافسة اللاعبين الجدد في القرن الإفريقي.
1)- Somali Cabinet Approves Defense Agreement with Egypt, ftlsomalia, 20 July 2024, (visited on: 01 August 2024), https://bit.ly/3yypKxN
2)- Turkish parliament approves 2-year military deployment in Somalia, aa.com.tr, 28 July 2024, (visited on: 1 August 2024), https://bit.ly/4dpDBWc
3)- Egypt's Defensive Agreement with Somalia: A Strategy Against Ethiopia or a Challenge to Turkiye? Alestiklal, 6 August 2024, (visited on: 8 August 2024), https://bit.ly/4dzaKic
4) لماذا يزداد اهتمام دول الشرق الأوسط بالصومال؟، المجلة، 25 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 4 أغسطس/آب 2024)، https://bit.ly/3Afurgs
5) السيسي في جيبوتي.. البحث عن دور، العربي الجديد، 31 مايو/أيار 2021، (تاريخ الدخول: 4 أغسطس/آب 2024)، https://bit.ly/4dCcFCF
6) وزير خارجية مصر يبحث بجيبوتي والصومال أزمتي البحر الأحمر والسودان، الأناضول، 13 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 4 أغسطس/آب 2024)، https://bit.ly/3LT4Ex8
7) سد النهضة وحصة مصر المائية "الاستعمارية"، الجزيرة نت، 27 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 5 أغسطس/آب 2024)، https://bit.ly/46zGlxV
8) ما هي السيناريوهات المصرية بعد تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي؟، مركز الجزيرة للدراسات، 31 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 5 أغسطس/آب 2024)، https://bit.ly/3YG19lv
9) البحر الأحمر وصراعات النفوذ والهيمنة.. والدور المصري المتآكل، مصر 360، 30 يوليو/تموز 2024، (تاريخ الدخول: 7 أغسطس/آب 2024)، https://bit.ly/4dyPrNv
10)- Egypt and Ethiopia's battle for influence in the Horn of Africa, TNA, 28 June 2022, (visited on: 8 August 2024), https://bit.ly/3M0z3JO
11) لماذا يزداد اهتمام دول الشرق الأوسط بالصومال؟، المجلة، مرجع سابق.
12) البحر الأحمر وصراعات النفوذ والهيمنة.. والدور المصري المتآكل، مصر 360، مرجع سابق.
13) الإحصاء: ارتفاع حجم التبادل التجاري بين مصر والصومال إلى 56.3 مليون دولار، الهيئة الوطنية للإعلام، 21 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 8 أغسطس/آب 2024)، https://bit.ly/3WSCit7
14) كواليس إلغاء بروتوكول التعاون التعليمي بين الصومال ومصر، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2020، (تاريخ الدخول: 8 أغسطس/آب 2024)، https://alsomalalyaum.com/3295/
15) ما هي السيناريوهات المصرية بعد تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي؟، مركز الجزيرة للدراسات، مرجع سابق.