مقدمة
لا تخرج علائقية العداء في حالات الحرب وجدلية السياسة والأخلاق بين الفعل الذي يُمعن في استخدام القوة ويُقوِّض قيم الإنسانية، وردِّ الفعل الموازي الذي يتبنَّى ردًّا نقديًّا جريئًا على خطايا السياسة، عما يُشبه القانون الفيزيائي الذي حدَّده إسحاق نيوتن (Isaac Newton) بقوله: "لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه". فكلما ازداد قصف الجيش الإسرائيلي في دكِّ قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واستهداف المدنيين وتجليات الكارثة الإنسانية وتفشي الأمراض والمجاعة، واستمرار اجتياح رفح، ازدادت وتيرة الحراك المناهض للصهيونية في الدول الغربية المؤيدة تاريخيًّا لإسرائيل. ويجسد هذا الوضع زخمًا غير مسبوق يزداد حيوية بفعل صدى السجالات القانونية في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فضلًا عن المعركة المفتوحة بين خطاب الصهينة والخطاب المضاد الذي يُندِّد بحدوث "إبادة جماعية" للفلسطينيين. ويختزل هذا النقاش إحدى اللحظات المهمة التي تُحدِّد مسار التحولات المفصلية في تاريخ الصراعات الممتدة. يقول وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق عمليات الإسعاف في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث: إن "الفظائع التي يتعرض لها سكان غزة، والمأساة الإنسانية التي يعانونها، ماثلة أمام أعين العالم، وقد وثَّقها صحفيون فلسطينيون شجعان، وقُتِل الكثير منهم أثناء قيامهم بذلك. ولا يمكن لأحد أن يتظاهر بأنه لا يعرف"(1).
ليس الحديث عن الصهيونية أو خطاياها، باعتبارها "شكلًا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، حسب تصنيف الأمم المتحدة بموجب القرار 3379 الصادر في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975، نقاشًا قديمًا قد هدأت عاصفته في الغرب، بل تثير تداعيات الحرب على غزة سجالًا دوليًّا واسع النطاق حتى في الولايات المتحدة التي تُعد أقوى الدول المساندة لإسرائيل. ويتعزَّز هذا الزخم بالنقاشات بين من يعتدُّون بسياسة القوة وفرض الأمر الواقع (الواقعية السياسية التي يستند إليه تحالف الحكومات الغربية مع إسرائيل)، ومن ينادون بسياسة القيم أو الفضيلة السياسية كناية عن المثالية السياسية التي تنادي مؤسسات المجتمع المدني العالمي من خلالها بوجوب الالتزام ببنود القانون الدولي الإنساني في ضوء مرجعياته الأساسية: اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولات لاهاي لعام 1977، ومبدأ "المسؤولية عن الحماية" المعروف باسم "R2P" (Responsibility to Protect) الذي تبنَّته الأمم المتحدة في عام 2005.
يتعزَّز السجال حول مآل الصهيونية أيضًا بأصداء الدعوى التي قدَّمتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بشأن ارتكابها أفعالًا تُصنَّف في إطار "الإبادة الجماعية"، وضعف حجة المحامين المدافعين عن إسرائيل، وردِّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بلغة التحدي قائلًا خلال اجتماع لمجلس الوزراء في تل أبيب: "سنواصل حربنا الدفاعية التي لا نظير لها في العدالة والأخلاق"(2). وفي ظل هذا الحراك القانوني، تأجَّجت اعتصامات الطلاب في عدد ليس بقليل من الجامعات الرفيعة في الغرب، من هارفارد وكولومبيا وجورج واشنطن وكاليفورينا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في شرق الولايات المتحدة إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في أقصى الغرب الأميركي، إلى السوربون ومعهد العلوم السياسية في فرنسا، وجامعات أخرى في ألمانيا والنرويج وبقية أوروبا، حيث تتمدد حركة التنديد بسياسات نتنياهو وبالدعم العسكري والسياسي الذي تُقدِّمه دول الغرب إلى إسرائيل. وتدخلت قوات الأمن بعنف في أغلب تلك الاعتصامات، وقامت باحتجاز عدد من النشطاء. ويوضح ديريك بنسلار (Derek Penslar)، مدير مركز الدراسات اليهودية في جامعة هارفارد ومؤلِّف كتاب: "الصهيونية: حالة عاطفية" (Zionism: An Emotional State)، أن الأمر لا يتعلق بالأرقام، بل إن "هؤلاء الشباب مهمون"، ويُبيِّن أن "اليهود الأكثر انتقادًا لإسرائيل يتركزون في مؤسسات النخبة، مثل الجامعات رفيعة المستوى والسمعة. ويميل هؤلاء إلى أن يكونوا متميزين وأذكياء وناجحين للغاية، وسيستمرون في شغل مناصب السلطة والتأثير في المجال العام. ومن ثم، سيكون هناك تأثير مضاعف لوجهات نظرهم"(3).
1. اعتبارات منهجية ونظرية
تتناول الدراسة تأثير الحراك المتنامي في انتقاد الصهيونية وتجليات عدائها للفلسطينيين بسبب التصنيف العرقي والتمسك بحصرية الهوية اليهودية والأجندة القومية التي يتشبَّع بها مجلس الحرب في إسرائيل بقيادة نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة. ويُعيد هذا الحراك إلى الذاكرة حراكات نقدية سابقة دعت إلى التغيير في وجه القوة، كما يحيل إلى مشاهد نشاط الحركة الطلابية في الولايات المتحدة وأوروبا خلال الثمانينات من القرن الماضي ضد نظام الفصل العنصري الذي كان يُضيِّق الخناق على النشطاء السود في جنوب إفريقيا، ويحتجز نيلسون مانديلا (Nelson Mandela) في السجن قرابة ثمانية وعشرين عامًا. ويُذكِّر مشهد اقتحام رجال الأمن لمقر اعتصام الطلاب في جامعة كولومبيا، في الأول من مايو/أيار 2024، وساحة احتجاجات الطلاب في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، يوم 6 مايو/أيار 2024، بتاريخ أول مظاهرة وطنية ضد استمرار حرب فيتنام يوم احتشد النشطاء المناهضون لها في واشنطن، يوم السبت 21 أكتوبر/تشرين الأول 1967. ونظَّمت لجنة التعبئة لإنهاء الحرب في فيتنام آنذاك الاحتجاج لتأكيد حضور الحركة المناهضة للحرب وصدى خطابها على الصعيد القومي الأميركي برمته.
وهنا، تهتم الدراسة بمقاربة سؤال محوري: هل تُسبِّب تداعيات الحرب على غزة بالفعل تحديات غير مسبوقة في تطور الخطاب الصهيوني وتباين أنماطه وبنياته الفكرية والسياسية خلال ثمانية أشهر تقريبًا (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 - 30 مايو/أيار 2024)، مما قد يُنبِئ بحدوث تحوُّل نسقي في انكماش الصهيونية وتبدُّد بريقها في الغرب؟
وتحاول الدراسة تفكيك هذا السؤال الإشكالي من خلال مستويين رئيسين:
- أولًا: تنامي السجال الحاد فكريًّا وأخلاقيًّا وإعلاميًّا بشأن الروافد الفكرية والسياسية لخطابي الصهيونية والتصهين ورؤيتهما لمآل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بفعل المظاهرات الشعبية الحاشدة في عواصم الغرب، واعتصامات الحركة الاحتجاجية التي يُعبِّر عنها الطلاب في عدد ليس بقليل من الجامعات الأميركية والأوروبية. ويثير السجال الراهن أكثر من استفهام: ما الفروق الحقيقية بين "اليهودية" و"الصهيونية" و"الصهيونية الدينية" و"الصهيونية الليبيرالية" و"القومية الإسرائيلية" و"معاداة السامية" في هذه المرحلة من قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية؟
- ثانيًا: تتزايد التحديات الراهنة تجاه خطابي الصهيونية والتصهين أيضًا بسبب الانتقادات المتنامية لهما حتى داخل النخبة المثقفة في إسرائيل وبين الشتات اليهودي في العالم، خاصة حركة "المؤرخين الجدد"، وهي عبارة نحتها المؤرخ بيني موريس (Benny Morris)، عام 1988، كناية عن مجموعة كُتَّاب يمثِّلون حركة تصحيحية للتاريخ اليهودي، ومن أبرزهم: سيمحا فلابان (Simha Flapan) (1987-1911)، وموشيه زيمارمان (Moshe Zimmerman) (1943/-)، وآفي شلايم (Avi Shlaim) (1945/-)، وبيني موريس (1948/-)، وإيلان بابيه (Ilan Pappé) (1954/-)(4). ويجادل بعض الباحثين بأنه "تم دمج بعض استنتاجاتهم في الأيديولوجية السياسية لما بعد الصهيونية. وعلى الرغم من تأثير هؤلاء في الأوساط الأكاديمية الغربية ظلت سرديات "التاريخ الجديد" و"ما بعد الصهيونية" مهمشة في إسرائيل بعد التسعينات"(5).
لكن هؤلاء المؤرخين الجدد اكتسبوا مصداقية معرفية وشرعية نقدية خاصة منذ التسعينات. وأوضح سيمحا فلابان في كتابه: "الصهيونية والفلسطينيون"، الصادر عام 1979، أنه "ما لم تتم استعادة القيم الليبرالية والتقدمية للصهيونية والاعتراف بحقوق الفلسطينيين في تقرير المصير في إطار من التعايش السلمي، فإن سعي إسرائيل للسلام يظل محكومًا عليه بالفشل. وأعتقد اعتقادًا راسخًا أن هذه الاتجاهات ستصبح في نهاية المطاف القوة الحاسمة في إسرائيل"(6). ويقول إيلان بابيه، الأستاذ ومدير المركز الأوروبي لدراسات فلسطين في جامعة إكستر البريطانية، عقب التحقيق معه من قِبَل السلطات الأميركية في مطار ديترويت: "إن الخبر السار هو أن مثل هذه التصرفات التي اتخذتها الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية تحت ضغط اللوبي المؤيد لإسرائيل، أو إسرائيل نفسها، تفوح منها رائحة الذعر الشديد واليأس كرد فعل على أن إسرائيل ستصبح في وقت قريب جدًّا دولة منبوذة مع كل الآثار المترتبة على مثل هذا الوضع"(7). وتزامن هذا الاحتجاز المؤقت مع صدور كتابه الجديد بعنوان: "الضغط لصالح إسرائيل في ضفتي الأطلسي"، ومع ذكرى النكبة أيضًا، والتي ألَّف بابيه واحدًا من أهم الكتب حولها بعنوان: "التطهير العرقي في فلسطين".
وتنطلق الدراسة من فرضية أن الخطاب المناوئ للصهيونية والصهينة ليس أحادي التركيب أو متجانس السرديات، بل هو مركَّب من عدة تيارات نقدية معاصرة تعكس أنماطًا تفسيرية ومآلات استشرافية مختلفة، وتشمل تيارات متوازية بين خطاب الشتات اليهودي التقدمي المؤيد لاحتجاج الحركة الطلابية في الغرب، وخطاب العلمانيين المناوئين للصهيونية، وما يُسمَّى "مناهضة الصهيونية الدينية" التي تشبَّعت بأفكار المنتقدين الأوائل للصهيونية، خاصة اليهود المتدينين التقليديين الذين عارضوا أفكار القومية، مثل القومية اليهودية أو غيرها، و"اعتبروها أيديولوجية علمانية بسبب الشك المتأصل في التغيير"(8). وكان من بين هؤلاء إسحاق بروير (Isaac Breuer)، وهيليل زيتلين (Hillel Zeitlin)، وآرون شموئيل تاماريس (Aaron Shmuel Tamares)، وإيلازار شابيرو (Elazar Shapiro)، وجويل تيتلبوم(Joel Teitelbaum) ، وقد خاض كل واحد من هؤلاء معارك أيديولوجية دينية وسياسية مع الصهيونية بطريقته الخاصة(9).
في هذا السياق، تتتبَّع الدراسة وتيرة تصاعد الخطاب المناوئ للصهيونية وتفسيره لديناميات الحرب على غزة برؤية غير مؤدلجة، وترصد الأبعاد التي تُشكِّل صورة إسرائيل في بنية هذا الخطاب من ناحية، وصورة حماس وبقية حركات المقاومة والذات الفلسطينية وحقها في الوجود والسيادة من ناحية أخرى، وآفاق الاستقرار والتسوية للصراع المركزي في الشرق الأوسط. ويثير هذا السجال حول المشروع الصهيوني فكريًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا أيضًا أسئلة موازية حول موقف الخطاب اليهودي المناوئ للصهيونية من الاحتلال الإسرائيلي، وكيف تتجه التفاعلات الراهنة إلى بنائية مغايرة عن الماضي لصورة الولايات المتحدة خاصة، ودول الغرب عمومًا، في الخطاب المناوئ للصهيونية؟ وهل يَسْهُل رسم حدود فاصلة بين خطابي معاداة الصهيونية ومعاداة السامية؟ فضلًا عن استفهام حيوي: هل سيُفلح الخطاب المناوئ للصهيونية في تفكيك الأساطير وآليات التبشير بالتعاليم المُؤَسِّسَة للصهيونية المسيحية في ثقافة الغرب؟ وهل يمكن تدبير منهجية فعالة في تتبُّع العلاقة بين المتغير المستقل (الوعي المجتمعي في الغرب في ظل نشاط الحركة الطلابية وكتابات المؤرخين الجدد) والمتغير التابع (وضع خطاب الصهيونية في وجه الانتقادات المتزايدة كمشروع عنصري ومتعصِّب عرقيًّا ودينيًّا)؟
تركز الدراسة على تحليل نماذج من الخطاب الجديد، الذي أنتجته سرديات وشعارات حركة الاحتجاج الطلابي في عدد من الجامعات الغربية، وأيضًا نماذج من كتابات المؤرخين الجدد، التي يزداد صداها في الغرب، والردود عليها من قِبَل أنصار الصهيونية. وهي نماذج من الخطاب والخطاب المضاد تجسد مجابهة بين إسرائيل ودول الغرب المؤيدة لها في تبرير خطاب الصهيونية، والتيار النقدي المتنامي الذي يُفكِّك نقاط تراجعها بين شهري أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومايو/أيار 2024. وتعتمد أدوات التحليل النقدي للخطاب في تقييم هذا السجال على انكماش الصهيونية إما بفعل نجاح أصوات النقد في الغرب في تشريح مكامن العنصرية والتعصب وتزييف بعض المعطيات التاريخية لتبرير الصهيونية، أو بعوامل التآكل من داخلها كأيديولوجية عنصرية. وتكمن أهمية تحليل الخطاب في معركة الصهيونية مع منتقديها حاليًّا في أنه "تحليل للخطاب السياسي من منظور نقدي، أي منظور يركز على إعادة إنتاج وتنافس القوة السياسية من خلال الخطاب السياسي"، إذا اعتمدنا مقولة الأكاديمييْن، إيزابيلا فيركلاو (Isabella Fairclough) ونورمان فيركلاو (Norman Fairclough)(10).
وتُمكِّن هذه المنهجية من تتبُّع التحوُّل الراهن في خطاب الصهيونية وتحليل دلالاته، ورصد تفاعل مُنتِجي هذا الخطاب مع الانتقادات التي تتوالى ضد الصهيونية في أكثر من محفل أكاديمي ومظاهرة احتجاج ومقالة رأي؛ إذ يمثِّل ربيع 2024 جدلية محتدمة بين الصهيونية والحركة المناوئة لها. ويبدو أن خطاب الصهيونية يعاني بعض الوهن، أو خارت قواه عن المضي قدمًا، في اتجاهين: الحفاظ على زخم التأييد الغربي وتأثيرها التقليدي، أو "كلامها المعسول"، في بعض الأوساط اليهودية والأوساط المسيحية المتصهينة، وكيفية الرد على حملة النقد متعالية النبرة من عدة زوايا في المجتمعات الغربية. وقد تناول أرسطو أحد أهم رواد الفكر العقلاني مفهوم "الكلام المعسول" في تحليل علاقة السياسة باللغة في كتابيْه الشهيرين: "الخطاب البلاغي" و"أخلاق نيكوماشيان".
ويقول الأكاديميان، إيزابيلا ونورمان فيركلاو: إن التركيز على بنية الجدل في الخطاب السياسي ذات صلة مع هذا المعنى بالذات، وإن الهدف من الخطاب وما هو مقرر أن تحققه هو لإقناع الجمهور بأن مسار عمل محدد هو المسار الصحيح، وأن وجهة نظر محددة هي حقيقية، "وهذا الذي نطلق عليه أثر الكلام المُخرَج الذي يكون في جوهره مرتبطًا بفعل الكلام الجدلي"(11). وكثيرًا ما استخدم خطاب الصهيونية الكلام المعسول في رسم الصهيوني الذي لا يضمحل، وحركة التنوير اليهودي على غرار التنوير الأوروبي، والدولة القادمة من خلف الضباب. وهي محاور تحضر معانيها بشكل رئيس في كتابات الصحفي اليهودي النمساوي، تيودور هرتزل (Theodor Herzl) في تسعينات القرن التاسع عشر، والذي أسهم في بلورة أيديولوجية سياسية للصهيونية والترويج لأفكار سابقيه من مهندسي هذه الحركة، وفي مقدمتهم موسى هيس (Moses Hess) (1875-1812)، الذي أصدر كتابًا أثَّر في فكر هرتزل بعنوان: "روما والقدس: القضية الوطنية الأخيرة" (Rome and Jerusalem: The Last National Question). ويُعد هيس منظِّر الصهيونية العمالية بعد أن اختلف مع كارل ماركس (Karl Marx) وفريدريك إنجلز (Friedrich Engels) في تفسير التاريخ من منظور قوى الاقتصاد وصراع الطبقات، واعتبر أن الهويات والقوميات تمثِّل العامل الرئيس في تفسير التاريخ.
تعكس المعركة الجديدة للصهيونية مع منتقديها في الغرب مجابهة ضمنية بين القوة والأيديولوجيا من ناحية، والقيم والتغيير من ناحية أخرى، ويستند التحليل النقدي للخطاب في تفكيكها إلى مدخلين: مدخل الإدراك الاجتماعي، الذي تطور في كنف علم النفس الاجتماعي واهتم بتجليات الهوية منذ السبعينات من القرن الماضي، ومدخل الممثلين أو الفاعلين الاجتماعيين. ويشير الإدراك الاجتماعي إلى النماذج العقلية التي تنظِّم الأيديولوجيات. ويتم اكتساب هذه النماذج، وإعادة إنتاجها، من خلال الممارسات الاجتماعية، بما في ذلك الخطابية، والتفاعل مع الإدراك الشخصي لأعضاء المجموعة. وتوفر الأيديولوجيات المنظمة معرفيًّا تماسك المجموعة من خلال تحديد العضوية في المجموعة، بالإضافة إلى مهامها وأنشطتها وأهدافها ومعاييرها وقيمها وموقعها ومواردها، كما يخلص توين فان ديك (Teun Van Dijk) في دراسته لـ"تحليل الخطاب كتحليل أيديولوجي"(12).
في ثنايا معركة الخطاب بين مؤيدي الصهيونية ومعارضيها، تتمركز الأيديولوجيات بين "البنى المجتمعية وبنى العقول لدى أفراد المجتمع. فهي تسمح للفاعلين الاجتماعيين بترجمة خصائصهم الاجتماعية (الهوية، والهدف، والمكانة...) إلى المعرفة والمعتقدات التي تشكِّل النماذج الملموسة لتجارب حياتهم اليومية، أي التمثيلات العقلية لأفعالهم وخطابهم" (13)، ومن ناحية أخرى، تعكس تفاعل الممثلين الاجتماعيين من الطرفين (أنصار الصهيونية ومعارضيها) وكيفية تمثيل أنفسهم في الخطاب والبناء الخطابي للشرعية، وفق تصور تيو فان لوين (Teo Van Leeuwen). فهو يوضح كيف يتم تصنيف الهوية من خلال قرينتها بالفعالية الاجتماعية على ثلاثة مستويات: التصنيف، وتحديد العلائقية، وتحديد الهوية المادية؛ إذ يتم "تعريف الفاعلين الاجتماعيين، ليس من حيث ما يفعلونه، ولكن من حيث ما هم عليه، بشكل دائم أو لا مفر منه"(14). ويُصنِّف لوين هؤلاء الممثلين الاجتماعيين بأنهم "فاعلون" في الخطاب، ويعملون تبعًا لذلك كأدوات مفيدة للخطاب في أيدي الكتَّاب؛ إذ يتم تقديمهم في وسائل الإعلام من خلال إستراتيجيات الاستبعاد والإقصاء أو الاندماج والاحتواء (انشطار الهوية الصهيونية إلى دواخل (من داخل الحركة) أو الخوارج من منتقديها وفي مقدمتهم المؤرخون الجدد)(15). ومن ثم، تغدو نظرية الفاعل الاجتماعي متجذرة في الأساس اللغوي، وتهدف إلى تفكيك الجانب الوحيد من الواقع الذي تمثِّله المنتديات الإعلامية. وعلى هذا المنوال، تكبر حظوظ منتقدي الصهيونية على مناصريها في المجال العام، وتشكِّل أمارات التراجع الإعلامي لهيمنة خطاب الصهيونية، خاصة منذ انهزام النازية في الحرب العالمية الثانية، واستغلال الصهيونية تركة الضحية في المحرقة النازية وتعاظم خطاب معاداة السامية في الدول الغربية.
2. سجال جديد يكشف ماهية الصهيونية والمشروع الصهيوني
شهدت أواخر أبريل/نيسان 2024، وهو الشهر السابع للحرب الإسرائيلية على غزة، ذروة السجال المحتدم بين خطابين يكتسحان الدوائر السياسية والإعلام وحُرُم الجامعات الأميركية والأوروبية وبقية النقاشات في المجال العام الدولي. فقد ازدادت الانتقادات للمشروع الصهيوني ولخطاب الصهينة الموالي له في الغرب، مما يجسد تجليات عدد من الأخطاء الإستراتيجية لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في ارتكاب ما تعتبره محكمة العدل الدولية وعدد من وكالات الأمم المتحدة "إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين في الحرب على غزة. وأضحى لفظ "الصهيونية" الأكثر سلبية وصدى في ساحات الاحتجاجات الطلابية المؤيدة للفلسطينيين. ونُشِرت ملصقات في حُرُم تلك الجامعات تقول: "لا للصهاينة"، فيما انتشر التلويح بلافتات تقارن الصهيونية بالعنصرية أو الفاشية. واتسعت دائرة الصدى من جديد لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، والذي أقرَّ بأن "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وتبنَّت الجمعية هذا القرار بـ72 صوتًا، في مقابل 35 صوتًا ضده، وامتناع 32 دولة عن التصويت، وغياب ثلاث دول (رومانيا وجنوب إفريقيا وإسبانيا) لأسباب مختلفة.
وأظهر استطلاع للرأي العام أجرته جامعة ميرلاند الأميركية، أواخر عام 2023، أن "62% من الأميركيين ليس لديهم أي فكرة عن ماهية الصهيونية. ويقول خوان كول (Juan Cole)، المؤسس ورئيس تحرير مجلة "إنفورمد كومنت" (Informed Comment) وأستاذ التاريخ في جامعة ميشغن: إن الصهيونية "شكل من أشكال القومية اليهودية التي نشأت في أوروبا الوسطى في أواخر القرن التاسع عشر، والتي تسعى إلى تحويل الدين اليهودي إلى منصة لإقامة دولة، وتستبعد غير اليهود من السيادة على الأراضي التي تطالب بها هذه الدولة اليهودية. وأدت هذه الأيديولوجية في حالة فلسطين إلى انعدام الجنسية للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وجعلت مواطني إسرائيل من ذوي التراث الفلسطيني مواطنين من الدرجة الثانية"(16).
إذا ركزنا على جامعة كولومبيا مثلًا والمظاهرات التي شهدتها، في أبريل/نيسان 2024، وسابقاتها التي تأججت في أبريل/نيسان 1968، تظهر عدة نقاط التقاء في مغزاها ومرجعياتها النقدية إزاء السياسة والقوة وتفكيك البنيوية ضمن ما أصبح يُعرف بعبارة "فلسفة 1968"، التي تبلورت بفعل نشاط الحركة الاحتجاجية التي امتدت بين ضفتي الأطلسي من جامعة السوربون في باريس إلى جامعة كولومبيا في نيويورك. ويوضح سادي بلانت (Sadie Plant) في دراسته حول التأثير الممتد لفلسفة 1968 أهمية القرينة بين قوة الحراك الفكري وتقلُّص هيمنة سياسة القوة خصوصًا، وازدهار تيار ما بعد البنيوية عمومًا. ويُبيِّن أن "النقاشات حول الإنسانية والذاتية والسلطة والرغبة، التي أسهمت في عمل كُتَّاب مثل ميشال فوكو (Michel Foucault) وجون فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard) ولوسي إيريجاري (Luce Irigaray) وجيل دولوز (Gilles Deleuze) وفيليكس غاتاري(Félix Guattari) ، متشابكة بشكل وثيق مع أحداث ذلك العام"(17)، في حين أن هناك عدة مسارات أخرى يمكن من خلالها متابعة الأهمية الفلسفية لعام 1968. غير أن المسار الذي يتبنى نظرية ما بعد البنيوية (Post-structuralism) التي انتهجها أولئك الفلاسفة ربما يكون الطريقة الأكثر إثارة للاهتمام للنظر في تأثير ما يُشار إليه بشكل مختلف باسم "مايو/أيار 68"، أو أحداث مايو/أيار، أو مجرد الأحداث"(18). ويتذكَّر زعيم حركة الاحتجاج في جامعة كولومبيا آنذاك، مارك رود(Mark Rudd) ، اليوم كيف أن أحداث الستينات التي تشبه احتجاجات 2024 "أثارت زيادة كبيرة في النشاط الطلابي في جميع أنحاء البلاد... لقد أمضيتُ أنا وآخرون العام بأكمله بعد أبريل/نيسان 1968 في السفر عبر الولايات المتحدة، ونشر روح كولومبيا في الحُرُم الجامعية"(19).
يقول الحاخام شاؤول مجيد، أستاذ الدراسات اليهودية في كلية دارتموث وكبير الباحثين في مركز دراسة أديان العالم في جامعة هارفارد ومؤلِّف كتاب: "ضرورة المنفى: مقالات من مسافة بعيدة" (The Necessity of Exile: Essays from a Distance) "لم أفقد صهيونيتي في الاحتجاجات اليسارية، بل خسرت صهيونيتي في جيش الدفاع الإسرائيلي، أو قوات الدفاع الإسرائيلية. وهناك شهدتُ عمقَ الشوفينية العرقية القومية واستعصاءها على الحل. هناك أدركتُ ما قاله زعيم الصندوق القومي اليهودي والصهيوني مدى الحياة، يوسف وايس (Yosef Weiss) ، منذ فترة طويلة في مذكراته، التي نُشرت في فيلم "الصندوق الأزرق" عام 2021: "لن يغفر لنا العرب أبدًا ما فعلناه بهم"(20).
على امتداد الكتابات التأسيسية للصهيونية في القرن الثامن عشر، والكتابات التوظيفية للترويج لمشروع "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، كما جاء في وعد بلفور عام 1917، والكتابات النقدية للمشروع الصهيوني منذ أواخر القرن العشرين، اكتسبت الصهيونية دلالات مفهومية متحركة، سواء في بعدها المعجمي أو السياسي أو الأخلاقي. ويوضح الجدول رقم (1) تدرُّج تلك الدلالات بين أربع مراحل رئيسية: أولها: مرحلة الروافد الأولية في ظل فلسفة التنوير والتنظير لمشروع الحداثة الأوروبية ورواج كتابات عدد من الفلاسفة الفرنسيين أمثال فولتير (Voltaire)، وجون لو رون دالمبير (Jean le Rond d'Alembert)، ودنيس ديدرو (Denis Diderot)، ومونتسكيو (Montesquieu)، ونظرائهم الألمان خاصة إيمانويل كانط ((Immanuel Kant، وكريستيان وولف (Christian Wolff) ، وموسى ماندلسون(Moses Mendelssohn) ، وغوتهولد ليسينغ (Gotthold Lessing). وتغيَّرت دلالات الصهيونية وتحدياتها خلال القرنين الماضيين (المرحلة الثانية والثالثة) وإن حاولت ارتداء عباءة "التنوير اليهودي"، و"التحرر الذاتي"، والتلويح بمبدأ "تقرير المصير" و"حركة تحرر وطني"، فضلًا عن "تصحيح المظالم التاريخية"، وبنائية "أرض إسرائيل". وتحلُّ المرحلة النقدية المعاصرة التي يمكن إسقاطها على نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الجديد (المرحلة الرابعة)، وتُبيِّن كيف غدت الصهيونية مرادفًا لـ"أيديولوجية رجعية وعنصرية"، فيما تتآكل عدة سرديات مركزية فيها، وتتحدَّاها مقولات ومفاهيم جديدة منها أن اليهود "ليسوا الضحايا الدائمين للتاريخ".
جدول (1): الدلالات المعجمية والمفهومية للصهيونية بين القرنين 18 و21
المرحلة الزمنية |
روافد خطاب الصهيونية |
الخصائص المعجمية والمفهومية للصهيونية |
منتصف القرن 18 |
- محاولة منظِّري الصهيونية مجاراة فلسفة التنوير ومشروع الحداثة الأوروبية من خلال نشاط حركة "الهاسكالا" أو "التنوير اليهودي".
|
- سعت حركة "الهاسكالا" إلى ربط الصهيونية بمفهوم "الحكمة" أو "سعة الاطلاع" أو "التعليم" بما يواكب بشائر الحداثة الأوروبية. - إسقاط فكرة العقلانية والتحرر على مفهوم الصهيونية، وتقديمه مُكرِّسًا للثقافة العلمانية الغربية. |
القرن 19 |
- اتساع نشاط المنادين بالصهيونية بين دول أوروبا الشرقية، وانتقال قيادتها في إنكلترا إلى يهود روسيا، ومنهم حاييم وايزمان (Chaim Weizmann) وناحوم سوكولوف (Nahum Sokolow)، اللذان كان لهما دور فعال في الحصول على وعد بلفور من بريطانيا العظمى لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين (2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917)، ثم مصادقة عصبة الأمم على الانتداب البريطاني على فلسطين (1922).
|
- توسيع مفهوم التحرُّر ومساعي إقامة وطن ليهود الشتات بما أوحى أنها "حركة تحرر وطني" خارج أوروبا. - تَوْشِية مفهوم الصهيونية بمبدأ "تقرير المصير"، وتبلورت الوحدة الصهيونية الأولى عمليًّا عند اتحاد "منظمة محبي صهيون" عام 1884، وتمَّ تنظيم أول مؤتمر صهيوني عام 1897. - هندسة خطاب الصهيونية ليكون مرادفًا لمفهوم "التحرر الذاتي" من قِبَل عدد من الكُتَّاب الصهاينة، في صيغتين، هما: (Self-Emancipation) كما استخدمها ناتان بيرنباوم (Nathan Birnbaum)، مؤسس حركة الطلاب اليهود القوميين (كاديما) في مجلته (Selbst-Emancipation) عام 1890، ثم صيغة (Auto-Emancipation)، وهو عنوان كتاب: ليون بينسكر الصادر عام 1882. |
القرن 20 |
- توازي عمل المنظمات الصهيونية في ظل الانتداب البريطاني لفلسطين مع نشاطها ضمن فئات الشتات اليهودي في أوروبا، ومن خلال سردية أن اليهود في أوروبا يعيشون أوضاعًا غير مرضية في ظل الشتات. - قيام دولة إسرائيل، عام 1948، جسَّد ثقة الصهاينة بحلم تحويل مشروع الدولة الوطنية إلى دولة عرقية ودينية كما جاء في إعلان إنشاء دولة إسرائيل أو ما يُسمَّى "إعلان استقلال إسرائيل": "وبعد نفيه قسرًا من أرضه، حافظ الشعب على إيمانه بها طوال فترة شتاته، ولم ينقطع عن الصلاة والأمل في عودته إليها واستعادة حريته السياسية فيها" (14 مايو/أيار 1948). |
- تداخل مفهوم الصهيونية مع خطاب تحقيق الذات اليهودية، بموازاة انتشار أفكار الحداثة والديمقراطية في الغرب، والاستثمار في مقولة: إن اليهود في الشتات مُنعوا من تحقيق التقدم والتنمية بشكل كامل في الحياة اليهودية الفردية والقومية. - تقابل مفهوم الصهيونية مع مفهوم أرض الميعاد ونهاية النفق المظلم للشتات. - تحوير الصهيونية إلى حركة نوستالجيا قومية ودينية تتشبَّع بمفهوم الانبثاق من "مظالم" تاريخية، وكأن الصهيونية جاءت لتقوم بتصحيح التاريخ اليهودي وعلاقته بالأرض من خلال بنائية "أرض إسرائيل". - اكتمال البناء الأيديولوجي للصهيونية في كنف فكر الحداثة والدولة الوطنية في أوروبا. |
القرن 21 |
- تراكم عناصر الانحباس الأيديولوجي للصهيونية بسبب استفحال معضلة الاستيطان في الضفة الغربية، وتراجع مشروع حلِّ الدولتين في ظل تصنيف الصهيونية حركة عنصرية من قِبَل الأمم المتحدة، فضلًا عن توجه حكومات بنيامين نتنياهو وحلفائه المتطرفين نحو مشروع الدولة الدينية لليهود فقط. - احتدام حملة النقد للصهيونية وضعف التبريرات الأيديولوجية للمشروع الصهيوني، وتحوُّله إلى ثقل سياسي وأخلاقي سلبي للحكومات الغربية. - تقلص منحى الطموح والتمدد للمشروع الصهيوني في الغرب. |
- تحوُّر مفهوم الصهيونية إلى أيديولوجية رجعية بفعل الانتقادات من عدة زوايا، بما فيها اليسار اليهودي في أميركا الشمالية، وكتابات المؤرخين الجدد. - تآكل عدة سرديات مركزية في الصهيونية، وظهور مقولات ومفاهيم جديدة منها أن اليهود "ليسوا الضحايا الدائمين للتاريخ". - تحوُّل الصهيونية إلى مفهوم يختزل الخطايا التي تسببت في نكبة الفلسطينيين ومعضلة الاحتلال منذ 1948، وحدوث إبادة جماعية في حرب 2023. - الحروب على غزة (تحديدًا 2023-2024) جعلت الصهيونية منتجة لتوحش الإبادة الجماعية. |
المصدر: إعداد الباحث استنادًا إلى مصادر متعددة.
في ظل الحرب على غزة وعملية "طوفان الأقصى"، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ازدادت حملة المواجهة لجرائم الصهيونية وخطاياها الأخلاقية أكثر من أي وقت سابق. ويبدو أن تعثرات بنيامين نتنياهو في إدارة الصراع المسلح تجسد اللحظة التاريخية الأكثر إلحاحًا في مساءلة الصهيونية ومؤيديها سياسيًّا وفكريًّا وقيميًّا. ويلاحظ توماس كولسكي (Thomas Kolsky)، أستاذ التاريخ في جامعة تامبل بولاية فلوريدا ومؤلِّف كتاب: "يهود ضد الصهيونية: المجلس الأميركي لليهودية 1942-1948" (Jews Against Zionism: The American Council for Judaism, 1942-1948) كيف "تماهى العديد من اليهود العلمانيين المناهضين للصهيونية مع مُثُل التنوير، واعتبروا الصهيونية أيديولوجية رجعية. ولم يتم التغلب على معارضتها بين جماعات الشتات اليهودي إلا منذ ثلاثينات القرن العشرين فصاعدًا، عندما تدهورت أحوال اليهود بشكل جذري في أوروبا. وإبان الحرب العالمية الثانية، تم الشعور بالحجم الهائل للمحرقة"(21).
وظهر نَفَس جديد في هبَّة الدول الغربية لتأييد إسرائيل بالسلاح والدعم المالي والإعلامي والغطاء السياسي والدبلوماسي في الأمم المتحدة، فتعزَّز خطاب مندفع مرحليًّا نحو الصهيونية يدعم أطروحاتها السياسية والدينية، بموازاة إعلام محرض على كراهية وقتل الفلسطينيين أو "إعلام الإبادة الجماعية"، كما أسماه المؤرخ الفرنسي، جون بيير كريتيان (Jean Pierre Chrétien). وتتماهى الأشهر السبعة الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة مع محطات مفصلية في تاريخ الصراعات المسلحة وحملات القضاء على مجموعة بشرية بعينها، مثل ما حدث بين قبائل الهوتو والتوتسي خلال الحرب الأهلية في رواندا، عام 1994. ويتقوَّى إعلام الإبادة الجماعية، وفق المؤرخ كريتيان، بـ"مدى كثافة كل من سياسة التاريخ وسياسة الإبادة الجماعية"(22). وحتى 31 مايو/أيار 2024، أظهرت التحقيقات الأولية التي أجرتها "لجنة حماية الصحفيين" أن 108 على الأقل من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام كانوا من بين أكثر من 37 ألف شخص قتلوا منذ بدء الحرب، مما يجعلها "الفترة الأكثر دموية التي استهدفت الصحفيين منذ أن بدأت اللجنة الدولية في جمع البيانات عام 1992"(23).
على هذه الوتيرة، يكشف استهداف الجيش الإسرائيلي لمجموعة الصحفيين الفلسطينيين في غزة معضلة سوسيولوجية تقوم على التمييز الهوياتي أكثر من السمة الوظيفية، وتكرس ميزانًا عدائيًّا بتداعيات سلبية بين المجموعة الداخلية (In-group) (الجيش الإسرائيلي وبقية المجموعة اليهودية) والمجموعة الخارجية (Out-group)(الفلسطينيون ومن ينقل أخبارهم في التغطيات الإعلامية). ويُعد هذا التمييز السلبي محورًا رئيسيًّا في إدارة العداء في حالات الحرب والسلم، وتقوم عليه نظرية الهوية الاجتماعية التي بلورها هنري تاجفيل (Henri Tajfel) في السبعينات من القرن الماضي. كما يُعد أساسًا لتمييز يبدو انفعاليًّا وليس عقلانيًّا عندما تتشبَّع النفوس والإرادات والقرارات السياسية في إسرائيل بمقولة: "إذا لم تكن معنا، فأنت ضدنا". وقد أوضح الباحث محمد الراجي، في ورقة بعنوان "الحرب على غزة وهندسة الإبادة الإعلامية للجماعة الصحفية الفلسطينية (2023-2024)"، قدَّمها في منتدى الجزيرة الخامس عشر، يومي 25 و26 مايو/أيار 2024، أن "الصحفيين الفلسطينيين في غزة تعرضوا للقتل الواسع بسبب اعتبارات الهوية المجتمعية (طبقة اجتماعية لها سماتها في النسيج الاجتماعي الفلسطيني) والمهنية/الوظيفية معًا، وهو ما يعني تدميرًا منهجيًّا للكيان الاجتماعي والمهني للجماعة الصحفية، أي وجود خطة منظمة ومنهجية لتحقيق هذه الأهداف"(24). وهذا يرقى في نظره إلى "إبادة إعلامية" تمثِّل خطوة تعسفية أخرى إلى الأمام بمنطق إعلام الإبادة الجماعية.
هناك تفسيرات متنافسة ومتعارضة في كثير من الأحيان للتاريخ والأحداث بين المجموعات البشرية، وكل منها يطالب المراقبين بالتحقق من صحة وجهات نظره ونفي وجهات الآخرين. ويتم فحص كل بيان للتأكد من التزام المؤلِّف بموقف أو آخر. وكثيرًا ما تُشكِّك بعض الأصوات المؤيدة للمشروع الصهيوني في حصيلة القتلى من المدنيين في غزة (تم قتل 36 ألفًا و439 شخصًا و82 ألفًا و627 مصابًا، بتاريخ 2 يونيو/حزيران 2024، فيما تقول وكالة غوث اللاجئين (أونروا): إن 110000 غادروا رفح منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023). ويمعن إعلام الإبادة الجماعية أيضًا في تأجيج السجال بين دعوات التأكيد والحذف، ومن خلال كتابة وإعادة كتابة الأحداث، وعبر التلاعب بالرمز والأسطورة. فيغدو نقاشًا سياسيًّا محتدمًا يهدف إلى كسب قلوب وعقول السكان المحليين والأجانب على حدٍّ سواء.
في المقابل، يتعزَّز الخطاب النقدي المناوئ للصهيونية ليس وسط الرأي العام الغربي فحسب، بل وأيضًا بين النخب والتيارات الفكرية العلمانية والجماعات الدينية الإسرائيلية. ويُظهِر استطلاع أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، في أوائل مارس/آذار 2024، أن حوالي الثلثين (63%) من الجمهور اليهودي لا يؤيد موافقة إسرائيل، من حيث المبدأ، على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ومنزوعة السلاح. وبرزت الفجوة كبيرة بين المعسكرين السياسيين: تؤيد أغلبية 77% ضمن تيار اليسار اتفاق إقامة الدولة من حيث المبدأ، في حين لا توافق عليه سوى نسبة 48% فقط من تيار الوسط و22% من تيار اليمين. ويؤيد معظم المواطنين العرب في إسرائيل بنسبة 73% من حيث المبدأ مثل هذا الاتفاق. بيد أن نسبة صغيرة من المبحوثين اليهود يعتقدون أن "الإرهاب" سيتوقف إذا تمَّ إنشاء الدولة الفلسطينية، مقابل 44% ممن يعتقدون أن الدولة الفلسطينية تمثِّل "جائزة للإرهاب" وستؤدي إلى المزيد من الهجمات(25).
ويعكس استمرار الحرب الإسرائيلية المفتوحة على غزة، وتزايد المعاناة غير الإنسانية لأكثر من مليون ونصف مليون من النازحين الفلسطينيين بين شمال القطاع وجنوبه، منحدرًا غير مسبوق منذ قرن تقريبًا في مسار الخطاب الصهيوني. وكان الباحث أشار في دراسة عن خطاب الصهينة(26) إلى معضلة "الانحباس الإستراتيجي الذي تعانيه حكومة بنيامين نتنياهو والعواصم المؤيدة لها في الترويج لها. ويكشف مدى التراجع في مستوى خطاب الصهيونية والتطرف الذي تبنَّته حكومة نتنياهو في الإبقاء على ائتلاف هشٍّ من أحزاب يمينية متطرفة"، بل يبدو أن هذا الانحسار في سياسة نتنياهو، وتجاهله دعوات المجتمع الدولي للتوصل إلى وقف لإطلاق النار مع حركة حماس، كأحد المخرجات المنشودة لسياسته اليمينية منذ توليه رئاسة الوزراء قبل ستة عشر عامًا، يُسهِم في تقلُّص دائرة نفوذ ذلك الخطاب الصهيوني من حوله داخل إسرائيل وخارجها. ومن ثم يغدو الانحسار السياسي والعسكري انحسارًا فكريًّا وقيميًّا وثقافيًّا أكبر نطاقًا أيضًا للمشروع الصهيوني ومستوى تأييده في دول الغرب. ويؤكد قانون إسحاق نيوتن صوابه مجددًا بين الفيزياء والسياسة وإدارة الصراعات بوجود علاقة طردية بين تعصب حكومة نتنياهو وأفول البريق تدريجيًّا عن خطاب الصهيونية.
ويبني ديريك بنسلار أطروحة كتابه الجديد: "الصهيونية: حالة عاطفية" حول مقولة تُعد في نظر الكثيرين مصدرًا للنفور، إن لم تكن للاشمئزاز، وأولئك الذين يرفضونها ليسوا أقل عاطفية من أولئك الذين يعتنقونها "وتساعد قوة مثل هذه المشاعر في تفسير سبب بقاء كلمة "الصهيونية" مرتبطة في الأصل بالطموح الإقليمي بعد سنوات عديدة من إنشاء دولة إسرائيل"(27). ويسلط الضوء على "الطاقة التي تدفع المشروع الصهيوني، وتنبع من حُزَم من المشاعر التي تنوعت عناصرها في الحجم والكثافة والمتانة عبر المكان والزمان، بدءًا من التصنيف الأصلي للصهيونية ونظرة جديدة لعلاقتها بالاستعمار (احتلال فلسطين). ويتناول أيضًا المشاعر التي شكلت الحساسيات والممارسات الصهيونية على مدار تاريخ الحركة، وكيف أن الصورة الناتجة عن الصهيونية تعيد تشكيل كيفية فهمنا للهوية اليهودية وسط المناقشات المستمرة حول دور القومية في العالم الحديث"(28).
ويُظهِر الشكل رقم (1) أن 12% من الأميركيين لديهم تصور سلبي عن الصهيونية، و8% يمتلكون تصورًا إيجابيًّا عنها. ولا يكترث حوالي 19% بما تعنيه بطريقة أو بأخرى. ومن الراجح أن يكون أولئك الذين ينظرون إلى الصهيونية بشكل سلبي من الديمقراطيين أو المستقلين أكثر من الجمهوريين، على الرغم من أن الفارق ليس كبيرًا (8% جمهوريون، 13% ديمقراطيون، 14% مستقلون). ويعتقد نحو 15% من الأميركيين أن انتقاد السياسات الإسرائيلية هو شكل من أشكال معاداة السامية، بينما يرى 37% من المبحوثين أن هذه الانتقادات لا تشكل تحيزًا ضد اليهود، فيما لا يحدد 48% رأيًا معينًا(29).
شكل (1) يُظهِر مستوى معرفة المواطنين الأميركيين بالصهيونية(30)
وأظهر استطلاع للرأي العام الأميركي أجرته مؤسسة "غالوب"، في مارس/آذار 2024، أن الأميركيين يعارضون بنسبة كبيرة "الحملة العسكرية" التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة، وهم ثلاث فئات: أولًا: من يتابعون تطورات الأحداث في "حرب غزة" عن كثب: 55% منهم يعارضون "الحملة العسكرية"، بينما بلغت نسبة التأييد 43%. ثانيًا: من يتابعون تطورات الأحداث بشكل متقطع: 56% منهم يعارضون "الحملة العسكرية"، بينما يؤيدها 37%. ثالثًا: من لا يتابعون تطورات الأحداث عن كثب: 54% منهم يعارضون "الحملة العسكرية"، و27% يؤيدونها(31).
شكل (2): آراء الأميركيين في "الحملة العسكرية" الإسرائيلية في غزة(32)
تتباين نسب التأييد أو المعارضة حسب الانتماء الحزبي كما يظهر في الشكل رقم (3). فقد تحوَّل المستقلون من الانقسام في وجهات نظرهم حول "الحملة العسكرية" الإسرائيلية إلى معارضتها بأغلبية 60%. أما الديمقراطيون، الذين كانوا معارضين إلى حدٍّ كبير بالفعل، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، فقد أصبحوا أكثر معارضة بأغلبية 75%، في مارس/آذار 2024، مقابل نسبة تأييد لا تزيد عن 18%. ولا يزال الجمهوريون يؤيدون "الحملة العسكرية" الإسرائيلية، لكن بأغلبية 64%، وهي نسبة تراجعت عما كانت عليه، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023؛ إذ بلغت 71%.
شكل (3): آراء الأميركيين، حسب انتمائهم الحزبي، في "الحملة العسكرية" الإسرائيلية في غزة(33)
ويقول الصحفي اليهودي الأميركي، آرون غيل(Aaron Gell) ، الذي نشر مقالة بعنوان: "هل فقدت الصهيونية الحجة؟": إن "الدعم للصهيونية آخذ في الانخفاض في الولايات المتحدة، وإن عدد الأميركيين من أصل يهودي أكثر مما رأيت من قبل يُعرِّفون علنًا أنفسهم معادين للصهيونية". ويشدد على أن "أولئك الذين يُعرِّفون أنفسهم بأنهم صهاينة يبدو أنهم يشككون في قوة التزامهم بتلك الأيديولوجية"(34). ويُنبِّه جيل تروي (Gil Troy)، أستاذ تاريخ أميركا الشمالية في جامعة مكغيل الكندية ومؤلِّف كتاب: "الأفكار الصهيونية" (The Zionist Ideas)، إلى أهمية أعداد المتظاهرين ضد الصهيونية في الولايات المتحدة، ويعتد بقوله: "كمؤرخ، ضعوا الأمر بشكل متناسب. أقترح مقارنة ما ورد عن مشاركة 290 ألف شخص في مظاهرة "المسيرة من أجل إسرائيل" بمنتزه "ناشيونال مول"، في واشنطن العاصمة، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، مع المظاهرات التي بلغ عددها 150 مظاهرة نظمتها منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" ومنظمة "إيف نوت ناو" (IfNotNow) في الليلة التالية خارج مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية في واشنطن العاصمة(35).
تستمد منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، وغيرها من الأصوات المناوئة للصهيونية، رؤيتها النقدية من تحليل الفوارق بين الصهيونية التقليدية التي تكرسها سياسات نتنياهو وحكومة اليمين المتطرفة في إسرائيل من ناحية، والصهيونية الليبرالية التي بلورها كُتَّاب ونشطاء ينتمون إلى اليسار اليهودي الأميركي من ناحية أخرى، وهي بالتالي صهيونية ليبرالية لم تتبلور إلا في السياق النقدي المتواتر في الولايات المتحدة. ويشير الحاخام شاؤول مجيد إلى أنه كان هناك يسار إسرائيلي، لكن اليسار الإسرائيلي لم يجار الصهيونية الليبرالية، بل هو في نواح عديدة بعيد عن يسار الصهيونية الليبرالية. لذا فإن الصهيونية الليبرالية بدأت بطريقة أو بأخرى مع لويس برانديز (Louis Brandeis) الذي ألقى الخطاب الشهير عام 1915 قائلًا: "أن تكون مواطنًا أميركيًّا جيدًا يعني أن تكون صهيونيًّا، وأن تكون صهيونيًّا يعني أن تكون أميركيًّا جيدًا". كان برانديز محاميًّا ناجحًا وعمل قاضيًا مشاركًا في المحكمة العليا في واشنطن من عام 1916 إلى عام 1939. ويلاحظ مجيد أن القيم الليبرالية التي تبنَّاها برانديز هي القيم الليبرالية للصهيونية، "ومن الواضح أن هذا يحدث قبل فترة طويلة من قيام الدولة. إلى حدٍّ ما، تمكنت الصهيونية الليبرالية من البقاء على قيد الحياة بعد إنشاء الدولة وحتى السبعينات"(36).
شكل (4): تحور الصهيونية من التحرر الذاتي إلى أيديولوجية منتجة للإبادة الجماعية
3. الهندسة الأيديولوجية الصهيونية وإستراتيجية التغيير في غزة
يعكس هجوم حماس على المستوطنات الإسرائيلية بغلاف قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، مفارقة سياسية مثيرة في إستراتيجية بنيامين نتنياهو على رأس التحالف الحكومي الهش الذي يضم أحزاب اليمين المتطرف. ويُظهِر فشلًا أمنيًّا واستخباراتيًّا غير مسبوق منذ قيام إسرائيل عام 1948 حسب خلاصة عدد من تقارير التحليل الاستخباراتي في إسرائيل والولايات المتحدة. وفي مقالة بعنوان "لماذا فشل رؤساء المخابرات الإسرائيلية في الاستماع إلى تحذيرات السابع من أكتوبر والدروس التي ينبغي تعلمها؟"، يقول روبرت دوفر (Robert Dover) أستاذ الاستخبارات والأمن القومي في جامعة هال البريطانية: "غالبًا ما يعتمد فشل الاستخبارات على نقاط الضعف البشرية والتكنولوجية؛ فقد زوَّد دفاع الحدود الإسرائيلي المحللين بثقة كبيرة في قدرتهم على الدفاع، بغض النظر عما إذا كان بإمكانهم تحديد التهديدات في وقت مبكر. وبالمثل، فإن الفشل في رؤية أن الخصم يتكيف ويتطور، وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للتهديد، هو تهديد كبير للأمن القومي"(37).
غير أن نتنياهو حاول أن يستغل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول لتحقيق غايات متعددة، سواء في تمديد فترة حكمه وسط الملاحقات القضائية له واتساع جبهة المعارضة اليسارية ضده، أو الارتقاء بسمعته في تاريخ إسرائيل المعاصر من خلال تكريس مجموعة من المرجعيات الصهيونية التي ينبغي استحضارها لفهم مدى إصراره على الاجتياح العسكري لرفح، حيث نزح قرابة مليون ونصف المليون فلسطيني يعانون المجاعة وتفشي الأمراض على الرغم من "تحفظ" الرئيس الأميركي، جو بايدن. ويلاحظ إيرن كابلان (Eran Kaplan)، أستاذ الدراسات اليهودية في جامعة سان فرانسيسكو، أن اجتياح رفح باعتباره أحدث فصل في معركة إسرائيل للقضاء على حماس في غزة يمثِّل "انعكاسًا لأيديولوجية تُعرَف باسم "الجدار الحديدي" التي كانت جزءًا من التاريخ السياسي الإسرائيلي منذ ما قبل تأسيس الدولة عام 1948. لقد دفعت هذه الفكرة نتنياهو في مسيرته المهنية في قيادة إسرائيل لمدة عقدين من الزمن، وبلغت ذروتها في الحرب المدمرة الحالية التي بدأت بمذبحة ضد الإسرائيليين ثم تحولت إلى كارثة إنسانية للفلسطينيين في غزة"(38).
وتعود فكرة "الجدار الحديدي" إلى كتابات فلاديمير جابوتنسكي (Vladimir Jabotinsky)، وهو ناشط صهيوني نشر مقالة عام 1923 بعنوان "على الجدار الحديدي (نحن والعرب)"، طرح فيها رؤيته للمسار الذي ينبغي أن تتبعه الحركة الصهيونية من أجل تحقيق هدفها النهائي: "إنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين"، وشدَّد على ضرورة إيجاد جدار حديدي قائلًا: "ومع ذلك، فإننا نستمر في إفساد قضيتنا بالحديث عن "الاتفاق" الذي يعني إخبار حكومة الانتداب أن الشيء المهم ليس الجدار الحديدي، بل المناقشات. إن الخطاب الفارغ من هذا النوع خطير. وهذا هو السبب في أنه ليس من دواعي سروري فحسب، بل من واجب تشويه سمعتها وإظهار أنها رائعة وغير أمينة في الوقت ذاته"(39).
وتتلاقى أوجه الشبه الأيديولوجي بين كتابات جابوتنسكي وخطة نتنياهو في الابتعاد عن فكرة الاتفاق الطوعي مع الفلسطينيين. وقد رفض نتنياهو العرض الذي وافقت عليها حماس، في 6 مايو/أيار 2024، بشأن صفقة تبادل الرهائن والسجناء وسلسلة الهُدَن المقترحة للتمهيد لاتفاق وقف إطلاق النار. وهذه مجاراة لرؤية جابوتنسكي قبل مئة عام عندما شدَّد على أن "الاتفاق الطوعي غير ممكن"، وأنه "لا يمكن أن يكون هناك اتفاق طوعي بيننا وبين عرب فلسطين. ليس الآن، ولا في المستقبل القريب. أقول هذا بكل قناعة، وليس لأنني أريد إيذاء الصهاينة المعتدلين. لا أعتقد أنهم سيتعرضون للأذى. وباستثناء أولئك الذين وُلدوا عميانًا، فقد أدركوا منذ زمن طويل أنه من المستحيل تمامًا الحصول على موافقة عرب فلسطين الطوعية لتحويل "فلسطين" من دولة عربية إلى دولة ذات أغلبية يهودية"(40).
يحاول نتنياهو جاهدًا تسخير الحرب على غزة ذريعة أخرى لخدمة مشروعه الرئيسي، وهو تجاوز الوساطات والمفاوضات وإقبار مبدأ حل الدولتين للمضي قدمًا في تذويب القضية الفلسطينية. ويكشف تقرير سري تم تسريبه من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعنوان: "ورقة سياسات: خيارات السياسة المتعلقة بالسكان المدنيين في غزة"، الكثير عن الهندسة الأيديولوجية المتواترة من روافد الصهيونية. وحدَّد التقرير خمسة أهداف كي تعتمدها حكومة الحرب الحالية: أولًا: إنهاء حكم حماس في القطاع. ثانيًا: إخلاء السكان خارج منطقة القتال لصالح مواطني قطاع غزة. ثالثًا: ضرورة التخطيط وتوجيه المساعدات الدولية للوصول إلى المنطقة وفق السياسة المختارة. رابعًا: من الضروري في كل سياسة تنفيذ عملية عميقة لتنفيذ التغيير الأيديولوجي (إزالة النازية). وخامسًا: ستدعم السياسة المختارة الهدف السياسي للدولة فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة والصورة النهائية للحرب(41).
لكن الأهم من هذه الخطوات التكتيكية هو مسعى حكومة نتنياهو لتوظيف عناصر متجذرة في الأيديولوجية الصهيونية ومحاولة نفخ روح جديدة فيها في ظل الحرب على غزة كما يوضح الشكل رقم (5) وفق ما جاء ضمن أحد بنود التقرير بعنوان "خلق التغيير الأيديولوجي"(42).
جدول (2): الهندسة الأيديولوجية المتواترة من روافد الصهيونية وإستراتيجية التغيير في غزة(43)
البنود |
تصور وزارة الاستخبارات الإسرائيلية لخلق التغيير الأيديولوجي |
البند1 |
"ضرورة تركيب سردية عامة تستوعب فشل حركة حماس وظلمها الأخلاقي، واستبدال التصور القديم بأيديولوجية إسلامية معتدلة. وتُشبه هذه العملية عملية إزالة النازية التي تمت في ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية. ومن الأهمية بمكان إملاء المناهج المدرسية وفرض استخدامها على جيل كامل". |
البند2 |
"يمثِّل إدراج السلطة الفلسطينية في نظام التعليم تحديًا كبيرًا؛ إذ إن المواد التعليمية، المشابهة لتلك التي تعتمدها حماس، تشجع حاليًّا على الكراهية والعداء تجاه إسرائيل". |
البند3 |
"من الممكن التفاوض على استيراد مواد السلطة الفلسطينية المتعلقة بإسرائيل في المواد التعليمية، على الرغم من عدم وجود طريقة لضمان حدوث ذلك بالفعل؛ لأن السلطة الفلسطينية نفسها تشوه سمعة إسرائيل بشكل أساسي". |
البند4 |
"يجب الافتراض أن السلطة الفلسطينية لن تعمل بحزم على صياغة سردية عامة لفهم فشل حركة حماس وظلمها الأخلاقي، ولن تعمل على الترويج لأيديولوجية إسلامية معتدلة". |
البند5 |
"حتى يومنا هذا، هناك تأييد شعبي واسع النطاق لحماس في الضفة الغربية. ويُنظر إلى قيادة السلطة الفلسطينية في جميع أنحاء يهودا والسامرة على أنها فاسدة وجوفاء، وتخسر أمام حماس من حيث الدعم الشعبي". |
المصدر: إعداد الباحث استنادًا إلى تقرير مسرب من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023
يلاحظ الباحث أن ما تنحو إليه إسرائيل بشأن التغيير الأيديولوجي، أو التجديد الأيديولوجي، لا يزال يوظِّف السردية النازية وتكرار "عملية إزالة النازية" ضمن ترسانتها الدفاعية في هذه المرحلة، ويعتبرها إيلان بابيه "محاولة لإضفاء الطابع النازي على الفلسطينيين، وهي ليست جديدة؛ إذ يستخدمها الإسرائيليون بين الحين والآخر. إذا كنت تتذكَّر، فقد شبَّه مناحم بيغن ياسر عرفات في المخبأ، عام 1982، بأنه "هتلر في المخبأ"، أولًا: وقبل كل شيء، هو ترخيص السياسات الإسرائيلية دون أي اعتبار للقانون الدولي أو حقوق الإنسان، وثانيًا: صرفنا عن الحديث حول القضية الحقيقية هنا، وهي ليست قضية حماس أو أفعالها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل الوضع الذي ولَّد هذا النوع من العنف، وبدلًا من الحديث عن أعراض العنف، ينبغي أن نتحدَّث عن مصدر العنف"(44).
4. المؤرخون الجدد وتفكيك خطايا المشروع الصهيوني
بدأت الصهيونية حركةَ صحوةٍ قومية يهودية في أوروبا، لكنها تحوَّلت إلى حركة استعمارية عندما اختارت فلسطين وطنًا لليهود. وقد تشبَّع هرتزل أيضًا بكتابات ليون بينسكر (1821- 1891) الذي كان عالمًا فيزيائيًّا وناشطًا صهيونيًّا، وانقلبت قناعاته إلى أن الإنسانية الخالصة وقيم التنوير ستهزم معاداة السامية. ودعا، عام 1884، إلى عقد ندوة دولية في بلدة كاتووايس في بروسيا آنذاك، قبل أن تصبح تابعة لألمانيا، شارك فيها من كانوا يُعرفون بـ"جماعات محبي صهيون"، التي تأسست في روسيا، عام 1881، وانتشرت فروعها في دول أوروبا الشرقية. من هذه الروافد الفكرية والتنظيمية، انطلق هرتزل في حشد التأييد أيضًا لعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا، والذي شهد ولادة المنظمة الصهيونية العالمية التي قررت، عام 1903، السعي لإقامة وطن لليهود في فلسطين، بل ودعمت الاستيطان على نطاق متدرج في فلسطين، وركزت في الوقت ذاته على تنظيم حركة صهيونية عالمية تمثِّل حقبة عسيرة في تطور الصهيونية بين تيارين متوازيين: تيار التلويح بشعارات براقة تتحايل على إخفاء الفوارق بين الصهيونية واليهودية والقومية، وتيار استعراض لا أخلاقيات الصهيونية بطريقة عملية.
وتلاحظ ميشال بن جوزيف هيرش (Michal Ben-Josef Hirsch)، الباحثة في مركز العلم والشؤون الدولية في جامعة هارفارد، كيف كان الإسرائيليون، قبل ظهور المؤرخين الجدد، "يتمسكون بسردية تاريخية أحادية الجانب عن الظروف التي أدت إلى خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وأن أي روايات موازية أو مضادة أخرى كانت من قبيل المحرمات". غير أن استنتاجات المؤرخين الجدد، وما أثاروه من نقاش واسع النطاق داخل إسرائيل وفي الدول الغربية، أنهت رواج ذلك المحظور وغيَّرت الطريقة التي يُنظر بها إلى مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وأسبابها في إسرائيل.
وترى هيرش أيضًا أن السردية الإسرائيلية التقليدية عن مسؤولية العرب تجاه نزوح الفلسطينيين، استمرت من عام 1948 إلى أواخر التسعينات، وأن حجج المؤرخين الجدد تحدَّت تلك السردية بشكل كبير؛ مما أدى إلى نقاش واسع سواء في الأوساط الأكاديمية أو في الخطاب العام الأوسع، بما فيه الصحفيون وكتَّاب الأعمدة والسياسيين والشخصيات العامة وعامة الناس(45). وتخلص إلى أن تغييرًا كبيرًا حدث في كيفية فهم قضية اللاجئين الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي منذ أواخر التسعينات، مع قبول سردية أكثر تعقيدًا تقرُّ بوجود حالات قامت فيها القوات الإسرائيلية بطرد الفلسطينيين بعلم وإذن القيادة الإسرائيلية. وتعزو هيرش هذا التغيير إلى عمل المؤرخين الجدد والنقاش الدائر بفعل كتاباتهم. ويصنفهم إيلان بابيه على أساس أنهم "مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين المحترفين الذين عملوا على النكبة".
بيد أن المؤرخ بابيه يعبِّر عن حيرته من أن مثل هذا الرأي "لم يظهر في وقت سابق في الكتابات الأكاديمية الإسرائيلية. فماذا يمكن أن نُطلق على حركة الهجرة من أوروبا إلى قلب العالم العربي في نهاية القرن التاسع عشر؟ لم تكن الصهيونية تختلف عن حركة البيض في جنوب وغرب إفريقيا بشعارات وأفكار لا تقل إيثارًا عن القومية، ولا عن المستوطنين الفرنسيين في الجزائر الذين ادعوا فكرة ارتباط رجعي بالتراب الجزائري مع قناعة راسخة بـفكرة "الخلاص" الصهيوني للوطن اليهودي القديم"(46).
في كتاب جديد بعنوان: "قوس العهد: الولايات المتحدة وإسرائيل ومصير الشعب اليهودي" (The Arc of a Covenant: The United States, Israel, and the Fate of the Jewish People) يكشف والتر راسل ميد (Walter Russell Mead) كيف أن "واحدًا وثلاثين من اليهود الأكثر نفوذًا في أميركا، بقيادة السفير السابق لدى الإمبراطورية العثمانية، هنري مورغنثاو، قدموا، عام 1919، التماسًا إلى (الرئيس الأميركي آنذاك)، وودرو ويلسون، أثناء سفره لحضور مؤتمر باريس للسلام يطلبون منه معارضة وعد بلفور قائلين: "لا نرغب في رؤية فلسطين، سواء الآن أو في أي وقت في المستقبل، منظمةً كدولة يهودية"(47).
ويقول الكاتب الأميركي: كريس هيدجز (Chris Hedges): إن "التصورات الإنسانية للصهيونية الليبرالية تتعارض دائمًا مع ذاتها بسبب رفضها منح الفلسطينيين حقوقًا مدنية وسياسية متساوية، وقد دفعت العديد من الإسرائيليين إلى اعتناق صهيونية دينية أكثر شوفينية وتعصبًا"(48). وقد سعت الحركة الصهيونية، التي أصبحت قوة مهيمنة مع إنشاء الدولة اليهودية، عام 1948، إلى إبعاد المنتقدين اليهود للصهيونية. ولم يقتصر الأمر على الافتراء على اليهود الذين لم يعتنقوا الصهيونية فحسب، بل وصفتهم بأنهم "معادون لليهود"، أو "يهود يكرهون أنفسهم"، أو "أعداء اليهود". هذه الحرب داخل اليهودية بين أولئك الذين يضعون إسرائيل في مركز الهوية اليهودية وأولئك الذين لا يفعلون ذلك، قد مزقت اللُّحمة اليهودية"(49).
ويركز أولئك المؤرخون من دعاة المراجعة الموضوعية والذين يُشار إليهم إما باسم "المؤرخين الجدد" أو كُتَّاب "ما بعد الصهيونية"، على ثلاث قضايا رئيسية: "الصهيونية المبكرة بما في ذلك أيديولوجيتها وممارستها في أواخر القرن التاسع عشر، وتاريخ حرب 1948، وتحليل سياسات الدولة تجاه الأقلية الفلسطينية والمهاجرين اليهود من الدول العربية"(50). فانتشر صدى ما توصلوا إليه باعتبارهم مجموعة أكاديميين وباحثين في التاريخ ممن يتبنون المنحى النقدي وتفكيك خطايا المشروع الصهيوني.
يقول الأكاديمي والمؤرخ، بابيه: "أنا اليوم أكثر ثقة مما كنت عليه في السنوات الأولى من حياتي المهنية، سواء كناشط أو كمؤرخ محترف. أشعر بمصالحة تامة مع مواقفي الأخلاقية تجاه إسرائيل والصهيونية"(51). ويكشف بابيه في كتابه الجديد المرتقب أن يصدر في سبتمبر/أيلول 2024 بعنوان: "الضغط من أجل الصهيونية على جانبي المحيط الأطلسي" (Lobbying for Zionism on Both Sides of the Atlantic) كيف أن جماعة ضغط غيَّرت خريطة الشرق الأوسط. فقد مارس الصهاينة ضغوطًا على الكونغرس، وقاموا بقمع المعارضة في حزب العمال وأقدموا على تشويه سمعة المنتقدين بلا هوادة. وطالبت المجموعات التي تمولها دولة إسرائيل بتقديم مساعدات عسكرية غير مسبوقة، والاعتراف بالأراضي المحتلة بشكل غير قانوني، ومحو الحقوق الفلسطينية. ويضيف بابيه أن "ممارسة الضغط لصالح الصهيونية يُبيِّن لنا كيف تم بناء إجماع خطير، وكيف يمكن تفكيكه". ويتعقب مسارًا تاريخيًّا مهمًّا في فهم الحاضر. فقد كانت فكرة الدولة اليهودية في بداية المشروع الصهيوني، عام 1896، حلمًا بعيد المنال. وناقش الصهاينة أماكن متنوعة مثل فلسطين والأرجنتين، وظل معظم اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة بمعزل عن الأيديولوجيين. واليوم، أصبح دعم إسرائيل شرطًا لا غنى عنه للحياة السياسية البريطانية والأميركية، والأغلبية الساحقة من اليهود يعتبرون أنفسهم "صهاينة". فكيف حدث هذا؟(52).
ويقول الصحفي اليهودي الأسترالي، مايكل غاويندا (Michael Gawenda)، في كتاب عن سيرته الذاتية بعنوان: "حياتي كيهودي" (My life as a Jew): إن "مفهوم الصهيونية مشحون بمعان جديدة ومظلمة، ويبدو أن كل يهودي في الشتات مجبر على اختيار التسمية التي تناسبه بشكل أفضل". ويشير إلى أن الصهيونية كانت ذات يوم موضوع نقاشات داخلية بين اليهود فقط، وأن الصهاينة يعتقدون أن الدولة اليهودية ستحل مشاكل اليهود، بينما ساورت خصومَهم شكوك كثيرة. ويستغرب أنهم "لم يسألوا أنفسهم ولم يناقشوا قط ما إذا كانت إسرائيل دولة استعمارية عنصرية أم لا؟ لكن حتى حق دولة إسرائيل في الوجود أصبح الآن موضع تساؤل، خاصة بين الأوساط اليسارية في أوروبا وأميركا". والآن يشعر المدافعون عنها في أعمار متقدمة والصهاينة اليساريون بأنهم مستبعدون تمامًا من "وطنهم" السياسي اليساري ما لم يوافقوا على أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والاستعمار"(53).
5. تيار التحرر اليهودي من الصهيونية
يؤجِّج تقابل الخطابات ومراميها حول الصهيونية معركة قديمة متجددة بين معاداتها ومعاداة السامية باعتبارهما نسقين يرتبطان بوضع إسرائيل في الشرق الأوسط، ويسهم التفاعل بينهما في تركيب معاني جديدة لما يرقى إلى خطاب تحرري من آفات الصهيونية وخطاياها التاريخية بين النكبة والإبادة الجماعية للفلسطينيين. وعند تقاطع الخطابين المتنافسين، يتسع نشاط منظمة في الولايات المتحدة منذ 1996 تُعرف باسم "الصوت اليهودي من أجل السلام"، وتعتبر نفسها "أكبر منظمة يهودية تقدمية مناهضة للصهيونية في العالم"، وأنها "تنظم حركة شعبية ومتعددة الأعراق وتمثِّل مختلف الطبقات الاجتماعية والأجيال لليهود الأميركيين للتضامن مع النضال من أجل الحرية الفلسطينية"(54).
الأخلاقيات ومحاكمة الصهيونية
في بلاغ أصدرته منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، في 27 أبريل/نيسان 2024، بعنوان: "النزوح من الصهيونية: نحو التحرر الجماعي"، جاء فيه: "ينبغي أن نبقى صامدين، ليس لأن لدينا واجبًا أخلاقيًّا لبذل كل ما في وسعنا لوقف هذه الإبادة الجماعية، التي يتم تنفيذها باسمنا ويتم تمويلها بأموال ضرائبنا فحسب، ولكن أيضًا لأننا نعلم أن المد قد بدأ في التحول. وفي غضون أيام، ظهر أكثر من مئة مخيم تضامني في حرم الجامعات في جميع أنحاء البلاد للمطالبة بسحب الاستثمارات من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والإبادة الجماعية. إنها أكبر حركة طلابية منذ الاحتجاجات ضد حرب فيتنام"(55).
في الوقت ذاته، اتسع نطاق اعتصامات الطلاب في شتى الجامعات من كولومبيا وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في ولايات الشمال الشرقي إلى جامعة جورج واشنطن في العاصمة، وجامعة شيكاغو في الوسط، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في أقصى الغرب الأميركي للتنديد أيضًا بموقف حكومة بايدن والكونغرس الداعم لسياسة نتنياهو ومسعاه لتذويب القضية الفلسطينية ضمن تشبُّعه بالمشروع الصهيوني. وعبر شتى مظاهرات الاحتجاجات الطلابية، كثرت اللافتات التي تقول: "لا للصهاينة"، وتعتبر مضمون خطاب الصهيونية مرادفًا "للعنصرية" أو "الفاشية"(56).
وتقول المديرة التنفيذية لمنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، تالي بن دانييل (Tallie Ben Daniel): إن العديد من المتظاهرين يستخدمون لفظ "الصهيونية" لوصف رؤيتهم للسياسات والقيادة الحالية لدولة إسرائيل. وتتمسك المنظمة بأن الصهيونية حركة تستهدف "إنكار حقوق الفلسطينيين وإنسانية الفلسطينيين". وتضيف بن دانييل: "نريد أن نكون واضحين: شكل الصهيونية الذي بقي ويتمتع بالقوة الآن هو شكل توسعي ويميني وإبادة جماعية.. إن الأشخاص الذين هم في السلطة في إسرائيل الآن… يريدون إبادة الفلسطينيين والحصول على كل الأراضي لليهود، وليس هناك أي فكرة عن إمكانية التعايش"(57).
في مقابل ذلك، خرج المتظاهرون الإسرائيليون، ومن بينهم وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، يوم الخامس من يونيو/حزيران 2024، فيما يعرف بـ"مسيرة الأعلام" في القدس، في تقليد سنوي بدأه الحاخام يهودا حزاني من المدرسة الدينية المعروفة باسم "ميركاز هراف-مركز الحاخام"، عام 1968، عندما دعا إلى "تخليد ذكرى احتلال الشطر الشرقي من القدس"، عام 1967، والذي تُسمِّيه إسرائيل "يوم توحيد القدس وإحلال السيادة الإسرائيلية واليهودية على المدينة والأماكن الدينية اليهودية فيها". ونشرت صحيفة "هآرتس" افتتاحية بعنوان "بدأ العد التنازلي لانهيار إسرائيل"، ووصفت المرحلة التي تعيشها إسرائيل حاليًّا بالوحشية"؛ إذ "يتعذَّر النظر إلى التصوير الموثَّق للمتظاهرين العنيفين القبيحين أثناء مسيرة التفوق اليهودي (مسيرة الأعلام) في شوارع القدس، دون أن يتذكَّر المرء ما قاله يهوشع ليبوفيتش"(58).
كان المفكر الإسرائيلي، يهوشع ليبوفيتش (1903-1994)، يُنعت بـ"ضمير إسرائيل" في المنحى النقدي بين المثقفين في إسرائيل والشتات اليهودي، وعمل رئيس تحرير لعدة إصدارات من أعداد الموسوعة اليهودية (Encyclopedia Hebraica). ومن أهم مؤلفاته "اليهودية والشعب اليهودي ودولة إسرائيل (Judaism, Jewish People, and the State of Israel) (1975)، و"الإيمان والتاريخ والقيم" (Faith, History, and Values) (1982)، و"اليهودية والقيم الإنسانية والدولة اليهودية" (Judaism, Human Values, and the Jewish State) (1995). وخلصت "هآرتس" إلى أحد الاقتباسات من كتابات ليبوفيتش عندما قال: "إن العزة الوطنية والنشوة في أعقاب حرب الأيام الستة (عام 1967) مؤقتة، وستحملنا من نزعة قومية صاعدة إلى القومية المتطرفة، والمرحلة الثالثة ستكون الوحشية، بينما المرحلة الأخيرة ستكون نهاية الصهيونية"(59).
كان ليبوفيتش في عقوده الأولى متشبِّعًا بالصهيونية الدينية، وكان متحمسًا لتطبيق نظام قانوني مستمد من القانون اليهودي أو "الهالاخا". وفي ثلاثينات القرن العشرين، كان متحالفًا مع الحركة الصهيونية الدينية المزراحية بينما كان لا يزال في ألمانيا، وكتب عن الصهيونية قائلًا: "لقد أُتيحت لنا الفرصة والمهمة لتحقيق قوة التوراة المخفية من خلال أرض إسرائيل وداخلها"، ودعا إلى "قانون هالاخا محدد ومفصل لإدارة المجموعة الكاملة من وظائف الدولة" لتوضيح كيف ستدير الأحزاب الدينية الدولة اليهودية في المستقبل(60).
كان ليبوفيتش صهيونيًّا بلا خجل. ومع ذلك، فإن الصهيونية تمثِّل في نظره "المسعى لتحرير اليهود من حكم الأمم"(61). وعلى الرغم من كونه يهوديًّا متدينًا، فإن صهيونيته علمانية بشكل واضح، وتنبع نسخته العلمانية من الصهيونية مباشرة من المبادئ الأساسية لفلسفته. أولًا: تمليها مقاربته المتعمدة للعمل الديني؛ إذ إن الدافع لإقامة الدولة كان سياسيًّا وقوميًّا وليس دينيًّا. ويذكر أن الصهيونية كانت في البداية ثورة يهودية علمانية، وحركة سياسية ذات تطلعات قومية. ثانيًا: تشير وجهة نظره ضمنًا إلى أن خدمة الاحتياجات والمصالح الإنسانية لا يمكن مساواتها بخدمة الله؛ إذ يرى ليبوفيتش أن الدولة تحقق هدفًا سياسيًّا نبيلًا تمامًا، وهو خدمة الاحتياجات الإنسانية. ولكن مرة أخرى لا ينبغي الخلط بين هذا وقيمته الدينية في حد ذاتها: فالدين المزيف يربط المصالح الوطنية بخدمة الله وينسب للدولة، التي هي مجرد أداة تخدم احتياجات الإنسان، وهي قيمة عليا من وجهة نظر دينية(62).
تآكل السرديات المركزية في الصهيونية
ينعكس هذا المنحى النقدي للصهيونية لدى عدد من الكُتَّاب اليهود الأميركيين منهم بيتر بينارت (Peter Beinart)، مؤلف كتاب: "أزمة الصهيونية" (The Crisis of Zionism). فهو يبدي جرأة واستعدادًا نادرين من داخل مجتمعه اليهودي لتحطيم بعض المحرمات طويلة الأمد المتمثلة في تحدي الوضع الراهن. ويشدِّد على الحاجة لبناء "سردية يهودية أميركية جديدة" تتمحور حول حقيقة أن اليهود "ليسوا الضحايا الدائمين للتاريخ"(63). وتذهب منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" خطوة أبعد نحو إعادة تصحيح الخطاب الإسرائيلي من مغالطات الصهيونية. ونظرًا لأن "تأسيس دولة إسرائيل قام على فكرة "أرض بلا شعب"، فإن الوجود الفلسطيني في حدِّ ذاته يشكِّل مقاومة. إننا نشعر بالتواضع أكثر إزاء حيوية ومرونة وصمود الحياة والثقافة والتنظيم الفلسطيني، لأنها تمثِّل رفضًا عميقًا للأيديولوجية السياسية القائمة على محو تلك الوقائع"(64). وتُنبِّه منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" أيضًا إلى تباين أصناف خطاب الصهيونية، وأن لدى الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم صهيونيين "تفسيرات مختلفة لما تعنيه هذه التسمية في اللحظة السياسية الحالية، بالنسبة لهم شخصيًّا وتاريخيًّا. علاوة على ذلك، ظهرت سلالات متعددة من الصهيونية مع مرور الوقت بما فيها الصهيونية السياسية، والصهيونية الدينية، والصهيونية الثقافية(65).
وفي مقالة رأي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان: "حدود الفضيلة في إسرائيل وغزة" يوجِّه روس دوتات(Ross Douthat) اهتمام المؤسسة السياسية في واشنطن إلى ما يرقى إلى التعامل بمكيالين، قائلًا: "من الممكن أن تنزلق السياسة الخارجية "الواقعية" من وصف القوة إلى تبرير أعمال النهب. ويمكن أن تُقلِّل من شأن قوة القضية العادلة كما قلَّلت، على سبيل المثال، من قدرة أوكرانيا على الدفاع عن نفسها عام 2022. لكن رؤية فن الحكم كتوازن مأساوي للشرور لا يزال ضروريًّا، خاصة وسط هذا النوع من الحماس الأخلاقي الذي يصاحب صراعًا مثل حرب إسرائيل في غزة. والبديل هو شكل من أشكال الحجة تختفي فيه ببساطة جوانب أساسية من العالم، كونها غير ملائمة للاستبداد الأخلاقي"(66).
في المقابل، تسعى منظمة موازية أخرى تُسمَّى "حقائق على الأرض" (Facts on the Ground) لتعزيز التأييد لإسرائيل، ومن مؤسسيها جوردانا ليفين (Jordana Levine)، وهي طالبة يهودية في دراسات الشرق الأوسط في جامعة ميشيغن، تقول: "إن الصهيونية تعني فقط: حق تقرير المصير في وطننا التاريخي، لكن الكثير من الناس لا يفهمون أن الأمر لا يقتصر على وجود دولة فلسطينية... وهذا لا يعني أن لليهود الحق في إخراج جميع الفلسطينيين من المنطقة. إنها ليست حصرية بشكل متبادل"(67). لكن السجال حول ما للصهيونية وما عليها يمتد إلى تسليط الضوء على عدة مناطق رمادية بين المفهوم الأصلي وسياسات الاستيطان والتوسع التي مارستها حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ 1948 في مناطق الفلسطينيين التي يعتبرونها أرضهم الشرعية منذ عدة قرون. ويوضح جيمس زغبي، مدير المعهد العربي الأميركي في واشنطن وأحد مؤسسي اللجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز، أن التعريف الأكثر تطرفًا للصهيونية، وهو مسعى يميني، قد "انتصر". ويشير إلى كتاب هرتزل بعنوان: "الدولة اليهودية"، الذي يقول إنه في فلسطين، "يتعيَّن على اليهود أن يشكِّلوا جزءًا من سور أوروبا ضد آسيا، أي موقعًا متقدمًا للحضارة في مواجهة الهمجية". ويشدد زغبي على أن "هذا الانحدار هو ما يميز الصهيونية"(68).
مع تواتر كتابات هؤلاء خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فَقَدَت الصهيونية الكثير من بريقها الأيديولوجي بفعل اتساع الحقول الدلالية في خطاب هؤلاء المؤرخين الجدد الذين سلطوا الضوء على تناقضاتها ومغالطاتها التاريخية والسياسية ونتائجها وتأثيراتها على الجغرافيا والإنسان الفلسطينيين، كما يوضح الجدول رقم (3).
جدول (3): مفهوم الصهيونية وحقوله الدلالية في خطاب المؤرخين الجدد
المؤرخون الجدد |
الحقول الدلالية لمفهوم الصهيونية |
بيني موريس |
- ينتقد الصهيونية لكونها تتعارض مع القيم الإنسانية والفضيلة العالمية. - يفهم الصراع على أنه صدام بين شعبين: الصهاينة والعالم العربي. - يرى المستوطنات تعبيرًا عن الاحتلال والتوسع، ورمزًا لاحتلال إسرائيل للأراضي العربية بشكل أو بآخر منذ عام 1967. - يخلص إلى أن العرب رفضوا الوجود الصهيوني واليهودي في المنطقة، ورفضوا شرعية المطالبات الصهيونية واليهودية ولو بجزء من فلسطين، وما زالوا يفعلون ذلك. |
سيمحا فلابان |
- يميز بين مرحلتين في تطور الصهيونية: مرحلة قديمة اتسمت بالرغبة في خلق مجتمع جديد، يجسد القيم العالمية للديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومرحلة جديدة تفككت خلالها تلك القيم. - يعزو تراجع الصهيونية إلى حدٍّ كبير إلى التسمم بالنجاح العسكري والاعتقاد بأن التفوق العسكري يشكل بديلًا للسلام. - ما لم تتم استعادة القيم الليبرالية والتقدمية للصهيونية والاعتراف بحقوق الفلسطينيين في تقرير المصير في إطار من التعايش السلمي، فإن سعي إسرائيل إلى السلام محكوم عليه بالفشل. - يتنبأ بأن التيارات المعارضة للصهيونية ستصبح في نهاية المطاف القوة الحاسمة في إسرائيل. |
موشيه زيمارمان |
- "مذبحة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تجبرنا على التشكيك في فكرة الصهيونية برمتها". - لا يرى في 7 أكتوبر نهاية الفكرة الصهيونية، لكنه فشل في لحظة حاسمة. إذا كان مثل هذا الخلل موجودًا، فيجب التشكيك في فكرة الصهيونية برمتها. - كنا نؤمن بفكرة التحرر الذاتي وإقامة دولتنا الخاصة كأمة، وليس كدين، هو الحل، وتبيَّن أن حياة اليهود في خطر، حتى داخل دولة يهودية قادرة على الدفاع عن نفسها، مما خلق مشكلة جديدة في الشرق الأوسط. عليك أن تتساءل عما إذا كان قد تم أخذ ذلك في الاعتبار مسبقًا أم لا؟ - كانت الصهيونية في البداية فكرة أوروبية بشكل نموذجي. وتُعد أوروبا مركز العالم والتي يمكن لسكانها أن يستعمروا أو يهاجروا إلى أي مكان. وتلك كانت الطريقة التي أُنشِئت بها الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا. هكذا كان يعمل الاستعمار في القرن التاسع عشر، ولم يكن اليهود غرباء على ذلك، ومن ثم فإن الصهيونية فكرة استعمارية. - اعتقدت أغلبية الصهاينة أن أوروبا ستوفر لهم الأمن، بل وأصبحت الحجة الرئيسية لصالح الصهيونية بعد عام 1945. وهذا يطرح مشكلة منذ ذلك الحين. |
آفي شلايم |
- لدي واجب أخلاقي في إدانة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والإمبريالية الأميركية. - يعارض ما يُسمَّى بالاتفاقيات الإبراهيمية الموقعة بين إسرائيل وأربع دول عربية: الإمارات والبحرين والسودان والمغرب عام 2020. - لا يعتبر نفسه يهوديًّا متدينًا، لكنه يعلم أن ركائز الصهيونية الثلاثة هي: الحقيقة والعدالة والسلام، وعندما ينظر إلى إسرائيل اليوم، لا يرى في الحكومة أيًّا من هذه القيم. - يعتبر نتنياهو كذَّابًا كبيرًا، وكذَّابًا عنيدًا؛ إذ لا توجد عدالة للفلسطينيين وليس هناك مصلحة في السلام، فقط هناك قمع وتضييق الخناق على الفلسطينيين وإخضاعهم بالقوة. - يتمسك بضرورة توضيح الخلط الذي تقع فيه إسرائيل وأصدقاؤها في مختلف أنحاء العالم عندما يوازون بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية. ويُعرِّف معاداة السامية بأنها "كراهية اليهود، لأنهم يهود"، وهذا لا علاقة له بإسرائيل. - يعتبر معاداة الصهيونية انتقادًا أو اعتراضًا على الأيديولوجية الصهيونية، والأيديولوجية الرسمية لدولة إسرائيل، وخاصة السياسة الرسمية، تجاه الفلسطينيين والاحتلال والفصل العنصري والاستخدام الغاشم للقوة كما يجري اليوم في غزة. - ليس العداء اليهودي تجاه العرب هو نفسه فحسب، بل ازداد بشكل كبير جدًّا في السنوات العشرين الأخيرة، منذ أن اتجهت إسرائيل نحو اليمين. إن الحكومة الحالية، التي تضم الصهيونية اليمنية والصهيونية الدينية، هي الحكومة الأكثر يمينية وشوفينية وعنصرية بشكل علني في تاريخ إسرائيل. - في ظل الحرب الحالية في غزة، سيتحرك الجمهور الإسرائيلي أكثر نحو اليمين ويصبح أكثر عدائية تجاه الفلسطينيين. |
إيلان بابيه |
- لم تكن الصهيونية في بداياتها تختلف عن حركة البيض في جنوب وغرب إفريقيا بشعارات وأفكار لا تقل إيثارًا عن القومية، ولا عن المستوطنين الفرنسيين في الجزائر الذين ادَّعوا فكرة ارتباط رجعي بالتراب الجزائري مع قناعة راسخة بـفكرة "الخلاص" الصهيوني للوطن اليهودي القديم. - كانت فكرة الدولة اليهودية في بداية المشروع الصهيوني عام 1896 حلمًا بعيد المنال. وناقش الصهاينة أماكن متعددة مثل فلسطين والأرجنتين، وظل معظم اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة بمعزل عن الأيديولوجيين. - اليوم، أصبح دعم إسرائيل شرطًا لا غنى عنه للحياة السياسية البريطانية والأميركية، والأغلبية الساحقة من اليهود يعتبرون أنفسهم "صهاينة". - تغيرت نظرة الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة وبعض المتخصصين في نظام التعليم الأميركي إلى قصة فلسطين، سواء تاريخيًّا أو في المرحلة الراهنة. وقد تحولوا بالفعل في التسعينات إلى فهم أن السردية الصهيونية ليست علمية ولا صحيحة، ولا تستند إلى حقائق. ولسنوات عديدة الآن يفهمون الأمور بشكل أفضل. - تفوح من تصرفات اللوبي المؤيد لإسرائيل أو إسرائيل نفسها رائحة الذعر الشديد واليأس كرد فعل على أن إسرائيل ستصبح في وقت قريب جدًّا دولة منبوذة مع كل الآثار المترتبة على مثل هذا الوضع. - سواء كناشط أو مؤرخ محترف، أشعر بمصالحة تامة مع مواقفي الأخلاقية تجاه إسرائيل والصهيونية. |
في دراسة سابقة(69)، خلص الباحث إلى أن خطاب الصهيونية والتأييد السياسي الغربي له أضحيا في "منطقة الانحباس السياسي والثقافي والإعلامي، خاصة أن الإعلام التقليدي لم يعد يُستقبل سوى بالتشكيك والاتهام بأنه يكيل بمكيالين. وسيزداد هذا الانحباس في المستقبل بوتيرة أسرع نتيجة تقابل أربعة عوامل بنيوية وديمغرافية وتواصلية وتكنولوجية رئيسية". ووسط هذا السجال، تتباين دلالات الخطابين بين أفول الصهيونية ومسعى تمطيط معاداة السامية. ويقول أجاي سكاريا(Ajay Skaria) ، أستاذ التاريخ في جامعة مينيسوتا والباحث في تركة غاندي والحركات غير العنيفة منذ أكثر من عقدين: إن "معاداة السامية تُعد عداء مُوجَّهًا ضد اليهود بسبب هويتهم الدينية أو الثقافية، أما معاداة الصهيونية فهي معارضة للصهيونية باعتبارها أيديولوجية عنصرية؛ لأنها تطالب بالدولة الإسرائيلية وأرض إسرائيل-فلسطين للمجتمع اليهودي حصريًّا"(70).
شكل (5): الصهيونية في الخطاب النقدي للمؤرخين الجدد
6. التاريخ الإسرائيلي من منظور الخطاب غير الصهيوني
يُعزى بروز حركة "المؤرخين الجدد" إلى تفاعلهم مع أعمال بعض علماء الاجتماع اليهود، مثل باروخ كيمرلينج (Baruch Kimmerling) ، وأوري رام(Uri Ram) ، وغيرشون شافير (Gershon Shafir)، باعتبارهم "متأثرين بشدة" بالمناخ الأكاديمي الدولي في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، والذي شكَّل "موجة عالية من نظريات ما بعد الحداثة والتاريخ متعدد السرديات". وقد أدخل علماء الاجتماع هؤلاء مفاهيم جديدة في الخطاب المحيط بالتاريخ الإسرائيلي، بما فيها أن الصهيونية أحد أشكال الاستعمار، كما يقول آدم كومون (Adam Comon) في دراسة بعنوان: "إعادة كتابة التاريخ الإسرائيلي: المؤرخون الجدد وعلماء الاجتماع النقدي"(71).
ويفصِّل آفي شلايم، في دراسة بعنوان "حرب المؤرخين الإسرائيليين"، الفروق الدقيقة بين كتابات المؤرخين الجدد وما يصفه بـ"التاريخ الرسمي" لإسرائيل من منظور مقارن كما يبدو في الجدول رقم (4).
جدول (4): الفروق بين سرديات "التاريخ الرسمي" الإسرائيلي وخلاصات "المؤرخين الجدد"
م |
سرديات التاريخ الرسمي |
ردود المؤرخين الجدد |
1 |
بريطانيا حاولت منع قيام دولة يهودية. |
سعت بريطانيا لمنع إقامة دولة فلسطينية. |
2 |
غادر الفلسطينيون منازلهم بمحض إرادتهم خلال نكبة 1948. |
تمَّ طرد النازحين واللاجئين الفلسطينيين. |
3 |
ميزان القوى كان لصالح العرب. |
إسرائيل كانت تتمتع بالتفوق في القوة البشرية والسلاح. |
4 |
العرب لديهم خطة منسقة لتدمير إسرائيل. |
العرب منقسمون. |
5 |
التعنت العربي يمنع السلام. |
إسرائيل هي المسؤولة في المقام الأول عن "الطريق المسدود". |
7. إنقاذ خطاب الصهيونية
كما تعوَّد مناصرو خطاب الصهيونية في العقود السابقة إطلاق صرخة استغاثة نحو مرمِّمي هذه الأيديولوجية، يتكرر المشهد ذاته بالنفخ في السور والتلويح بخطاب معاداة السامية طوق نجاة من الموجات العاتية. ومنذ الأيام الأولى للحرب على غزة، انعكس الارتباك والانفعال في تصريحات القادة الإسرائيليين، ومنهم وزير الدفاع، يوآف غالانت، الذي قال: "نحن نحارب حيوانات بشرية، ونتصرف على هذا الأساس"(72).
في الوقت ذاته، تحمَّس بعض قادة الحزب الجمهوري في مجلس النواب الأميركي لتوسيع تعريف معاداة السامية في وزارة التعليم الأميركية. وكان مجلس النواب قد أصدر قرارًا، في ديسمبر/كانون الأول 2023، عقب تصويت أيدته أغلبية 311 عضوًا، وعارضه 14 عضوًا، فيما امتنع 92 عن تحديد موقفهم بالتصويت بأنهم "حاضرون" في المجلس. ويؤكد نص القرار الجديد أن مجلس النواب "يصرِّح بوضوح وحزم بأن معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية"، كما يدين شعار "من النهر إلى البحر" الذي يعتبره المدافعون عن حقوق الإنسان دعوة طموح للمساواة في فلسطين التاريخية، بل ويعتبره "صرخة حاشدة للقضاء على دولة إسرائيل والشعب اليهودي". كما وصف المتظاهرين الذين تجمعوا في واشنطن العاصمة للمطالبة بوقف إطلاق النار بأنهم "مثيرو الشغب". ويزعم أنهم "استخدموا لغة كراهية وحقيرة لتضخيم الموضوعات المعادية للسامية"(73).
لكن، بعض الكُتَّاب اليهود يعتقدون أن استخدام معاداة السامية سلاحًا لمواجهة مناوئي خطاب الصهيونية ومنتقدي السياسة الإسرائيلية لم يعد فعالًا في هذه المرحلة، وأن فوهة الصهيونية غدت تُطلق عياراتها دون تركيز. ويشير شاوول مجيد إلى حالة أحد المؤرخين الذي اتُّهِم بمعاداة السامية قائلًا: "بالأمس فحسب، تم استخدامه ضد زميل لي وهو مؤرخ للصهيونية، ديريك بنسلار، الذي تم تعيينه مديرًا مشاركًا لفريق العمل المعني بمعاداة السامية في جامعة هارفارد، وهو صهيوني. لقد أصبح هذا المصطلح مستخدمًا -وهنا ألوم رابطة مكافحة التشهير وجوناثان جرينبلات- بشكل واسع النطاق وبطريقة غير متقنة لدرجة أنه لم يعد يعني أي شيء بعد الآن. شخص صهيوني أمضى حياته كلها في تدريس التاريخ اليهودي والطلاب اليهود، ويُطلق عليه مصطلح معاد للسامية؛ لأنه ينتقد إسرائيل، فإن المصطلح يفقد كل معناه"(74).
ويقول مايكل أورن، سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة (2009-2013) وأستاذ الدبلوماسية الدولية في جامعة ريخمان في هرتسليا في إسرائيل: إن "الحركة الصهيونية على الرغم من أنها تأسست قبل أقل من 150 عامًا، إلا أنها انبثقت من رابط دام 4000 عام بين الشعب اليهودي ووطنه التاريخي، وهو ارتباط استمر طوال 20 قرنًا من المنفى. ولهذا السبب حققت الصهيونية أهدافها ولا تزال ذات صلة وحيوية حتى يومنا هذا. ولهذا السبب يحمل مواطنو إسرائيل، الدولة التي أنشأتها الصهيونية، السلاح عن طيب خاطر. ويعتقدون أن فكرتهم تستحق القتال من أجلها. ومع ذلك، يمكن القول: إن الصهيونية، أكثر من أي أيديولوجية معاصرة أخرى، تتعرض للشيطنة"(75). ويجادل أرون بأن "عددًا متزايدًا من اليهود التقدميين يعتبرون الصهيونية قومية متشددة للغاية، في حين يعتد العديد من اليهود المتشددين بأنها غير تقية بالقدر الكافي، بل مجرد هرطقة"(76).
خلاصة
سلطت الدراسة الضوء على مجموعة من الدوائر التي يتحرك فيها النقاش والتقييم لمسار الصهيونية في ظل تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، وكيف تحركت معها حزمة من البنيات الفكرية والسياسية على مستويين: يتجلى المستوى الأول في تداعيات السجال الفكري والإعلامي والأسئلة الملحَّة التي يطرحها حراك المجتمع المدني العالمي بشأن الروافد الفكرية والسياسية لخطابي الصهيونية والتصهين ورؤيتهما لمآل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بفعل المظاهرات الشعبية الحاشدة في عواصم الغرب واعتصامات الحركة الاحتجاجية الطلابية. وحانت اللحظة التاريخية في دول الغرب خاصة لتحديد أوجه الاختلاف لمجموعة مفاهيم ونظريات ومعتقدات وسرديات حاولت الحركة الصهيونية لأكثر من قرن أن تدَّعي شراكتها في الخطاب وفي تركيب الجغرافيا السياسية لأرض فلسطين، مثل "اليهودية"، و"القومية الإسرائيلية"، و"معاداة السامية". وتناولت الدراسة أيضًا حصيلة التغيير الذي طرأ على فهم قضية فلسطين وقيام إسرائيل بفعل الكتابات الجديدة التي نشرها المؤرخون الجدد منذ منتصف التسعينات. ويبدو أن هذه التحولات تؤكد الفرضية الثانية التي انطلقت منها هذه الدراسة بأن أصوات النقد في الغرب وارتباطها بالأكاديميا ومناهج البحث التاريخي غير المؤدلجة، والحرية الفكرية في الجامعات ودور النشر، وحرية التعبير عبر وسائل الإعلام، تغدو اليوم قوة الدفع في تآكل بريق الصهيونية وزيف غاياتها المعلنة.
ويؤدي هذا الحراك الفكري بين منتقدي الصهيونية والحراك الأخلاقي عبر مظاهرات التنديد بالحرب على غزة، واعتصامات الطلاب ضد دعم الدول الغربية لحكومة الحرب في إسرائيل، إلى نتيجتين ستؤكدان دلالتهما مع مرور الوقت: أولًا، السجال الدائر حول الصهيونية يجسد معركة جديدة بين قوى الحفاظ على الوضع القائم والتي تضغط من أعلى إلى أسفل (الحكومات والمؤسسات اليمينية في الغرب) وقوى التغيير التي تناضل من أسفل إلى أعلى (حركات الاحتجاج الطلابية، منظمات الدفاع عن الحقوق والحريات الإنسانية، مؤسسات المجتمع المدني التقدمي في أميركا الشمالية وأوروبا). وهذا التحول ليس في صالح الصهيونية، خاصة أن القرن الحادي والعشرين يميل إلى أن الرهان يكون لقوى التغيير، وأن البنيوية لم تعد تستطيع الحفاظ على نفوذها وتأثيرها الأيديولوجي في مجتمعات شبكات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي وقوة الحركات الاجتماعية. وتكمن النتيجة الثانية في أن المظاهرات واعتصامات الطلاب في جامعات الغرب تؤشر إلى أفول خطاب الصهيونية في المجال العام الدولي، وفق تصور يورغن هابرماس. على خط متواز، يُسهِم المؤرخون الجدد وغيرهم من كتَّاب المدرسة النقدية فيما يمكن تصنيفه بأفول أيديولوجي للصهيونية المنتجة للإبادة الجماعية المتوحشة، في حقبة تراجع الأيديولوجيات.
نشرت هذه الدراسة في العدد الرابع من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)
(1) Martin Griffiths, "The world’s moral failure in Gaza should shame us all," Aljazeera Opinion, February 21, 2024, "accessed February 21, 2024. https://shorturl.at/aXPTk.
(2) "Netanyahu defends Israel's unparalleled 'morality' in Gaza war," france24, December 31, 2023, "accessed February 21, 2024. https://rb.gy/5ml6nx.
(3) Aaron Gell, "Has Zionism Lost the Argument?," The New Republic, March 3, 2024, "accessed March 3, 2024". https://tinyurl.com/38ws9z8e.
(4) Adam Coman, "Rewriting Israeli History: New Historians and Critical Sociologists," Historická Sociologie, Vol. 10, No. 1, (2018): 107–122.
(5) Nur Masalha, "New History, Post-Zionism and Neo-Colonialism: A Critique of the Israeli 'New Historians'," Holy Land Studies, Vol. 10, No. 1, (May 2011): 1–53.
(6) Simha Flapan, Zionism and the Palestinians, (Croom Helm, 1979), 13-14.
(7) جمال الدين طالب، "هل أنت من أنصار حماس؟.. "إف بي آي" يوقف مؤرخًا إسرائيليًّا بمطار أميركي ويحقق معه ويحتجز هاتفه!" القدس العربي، 16 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 16 مايو/أيار 2024)، https://tinyurl.com/4ph8fv45.
(8) Shaul Magid, "In Search of a Critical Voice in the Jewish Diaspora: Homelessness and Home in Edward Said and Shalom Noah Barzofsky’s Netivot Shalom," Jewish Social Studies, Vol. 12, No. 3, (Spring/Summer 2006): 196.
(9) Ibid.
(10) إيزابيلا فيركلاو، نورمان فيركلاو، تحليل الخطاب السياسي: مقاربة لطلاب الدراسات المتقدمة والعليا، ترجمة عبد الفتاح عمورة، ط 2 (دمشق، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، 2021)، ص 52.
تعتمد الترجمات العربية في كتابة اسم الباحث (Norman Fairclough) أكثر من صيغة، منها: نورمان فيركلوف، نورمان فيركلف، نورمان فاركلوف، نورمان فيركلو. لذلك اعتمد الباحث الاسم كما ورد في المصدر.
(11) المرجع السابق، ص 53.
(12) Teun A. Van Dijk, "Discourse Analysis as Ideology Analysis," in Language and Peace, eds. Christina Schäffne, Anita Wenden, (Routledge, 1995), 21.
(13) Ibid, 17-33.
(14) Teo Van Leeuwen, Discourse and Practice: New Tools for Critical Discourse Analysis, (UK: Oxford University Press, 2008), 55.
(15) Teo Van Leeuwen, "The Representation of Social Actors," in Texts and Practices: Readings in Critical Discourse Analysis, eds. Carmen Rosa Caldas-Coulthard, Malcolm Coulthard, (Routledge, 1996), 32–70.
(16) Juan Cole, " Poll: Americans have no Idea what Biden Means when he says he is a Zionist, or What Israel’s Ideology is," Informed Comment, January 8, 2024, "accessed January 8, 2024. https://tinyurl.com/c57hh672.
(17) Sadie Plant, "1968 and After" in An Introduction to Modern European Philosophy, eds. Jenny Teichman, Graham White, (London: Palgrave Macmillan, 1995), 175.
(18) Deepti Hajela, "How Columbia University’s complex history with the student protest movement echoes into today," Associated Press, May 1, 2024, "accessed May 1, 2024". https://tinyurl.com/ywy6chxh.
(19) Ibid.
(20) Chris Hedges, "Liberal Zionism is Dead," The Real News Network, February 23, 2024, "accessed February 23, 2024". https://tinyurl.com/2uvyxy3c.
(21) Thomas A. Kolsky, "Diaspora Anti-Zionism," in Encyclopedia of the Jewish Diaspora: Origins, Experiences, and Culture, ed. Ehrlich M. Avrum, Vol. 2. ABC-CLIO. (2009), 333.
(22) Jean -Pierre Chretien avec Reporters Sans Frontières, Rwanda: les medias du genocides, (Paris: Karthala, 1995), 139.
(23) "Journalist casualties in the Israel-Gaza war," Committee to Protect Journalists, June 4, 2024, "accessed June 4, 2024". https://rb.gy/wkr5f5.
(24) ورد مصطلح "الإبادة الإعلامية" في ورقة للباحث محمد الراجي بعنوان "الحرب على غزة وهندسة الإبادة الإعلامية للجماعة الصحفية الفلسطينية (2023-2024)"، قُدِّمت في الدورة الخامسة عشرة من منتدى الجزيرة: "تحولات الشرق الأوسط بعد طوفان الأقصى"، يومي 25-26 مايو/أيار 2024. ويقصد الراجي بالمصطلح: "كل فعل يندرج في تنفيذ خطة منظمة ومنسقة ومنهجية بقصد التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة الصحفية وكيانها المهني والاجتماعي، من خلال قتل أعضاء من الجماعة الصحفية واستهداف أفراد أسرهم وأقربائهم وتصفيتهم جسديًّا، وإلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة الصحفية وأفراد أسرهم وأقاربهم...".
(25) Ksenia Svetlova, "Netanyahu might be losing ground, but his politics still resonate with most Israelis," Atlantic Council, March 6, 2024, "accessed March 6, 2024". https://tinyurl.com/m85xuaxn.
(26) محمد الشرقاوي، "بين خطابي الصهينة والفلسطنة: تحول نسقي في تمثلات الرأي العام الغربي"، مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، العدد 3، يناير/تشرين الثاني 2024)، ص 265-303.
(27) Derek J. Penslar, Book Description: Zionism: An Emotional State, (Rutgers University Press, 2023), rutgersuniversitypress, "accessed March 6, 2024". https://tinyurl.com/mr2v88yn.
(28) Ibid.
(29) Cole, "Poll: Americans have no Idea what Biden Means when he says he is a Zionist," op, cit.
(30) Ibid.
(32) Ibid.
(33) Ibid.
(34) Gell, "Has Zionism Lost the Argument?," op, cit.
(35) Ibid.
(36) Chris Hedges, "Liberal Zionism is Dead," op, cit.
(37) Robert M. Dover, "Why Israel’s intelligence chiefs failed to listen to October 7 warnings – and the lessons to be learned," The Conversation, December 7, 2023, "accessed December 7, 2023 ". https://tinyurl.com/4r7b5vc2.
(38) Eran Kaplan, "Israel’s ‘Iron Wall’: A brief history of the ideology guiding Benjamin Netanyahu," The Conversation, March 25, 2024, "accessed March 25, 2024". https://tinyurl.com/ynpafed9.
(39) Vladimir Jabotinsky, The Iron Wall: Colonisation of Palestine Agreement with Arabs Impossible at present Zionism Must Go Forward, Razsviet (In Russian), November 4, 1923, "accessed April 1, 2024". https://tinyurl.com/bdf9bk4a.
(40) Ibid.
(41) "Policy paper: Options for a policy regarding Gaza’s civilian population," Israeli Intelligence Ministry, Translation by 972 Magazine, October 13, 2023, "accessed October 13, 2023". https://tinyurl.com/bdf9bk4a.
(42) Ibid.
(43) Ibid.
(44) Ilan Pappé, "Gaza War, Hostages & the Context Behind Current Violence: Interview with Ilan Pappé," by Amy Goodman, Democracy Now, October 31, 2023, "accessed October 31, 2023". https://rb.gy/vcie0m.
(45) Michel ben-Josef Hirsch, "From Taboo to the Negotiable: The Israeli New Historians and the Changing Representation of the Palestinian Refugee Problem," Perspectives on Politics, Vol. 5, No. 2, (June 2007): 241–258.
(46) Ilan Pappé, "Fifty Years Through the Eyes of “New Historians” in Israel," Middle East Research and Information Project, Summer 1998, "accessed October 31, 2023". https://tinyurl.com/2vzz6uem.
(47) Walter R. Mead, The Arc of a Covenant: The United States, Israel, and the Fate of the Jewish People, (Deckle Edge, 2022), 184-185.
(48) Hedges, "Liberal Zionism is Dead," op, cit.
(49) Ibid.
(50) Pappé, "Fifty Years Through the Eyes of “New Historians” in Israel," op, cit.
(51) Pappé, "Gaza War, Hostages & the Context Behind Current Violence: Interview with Ilan Pappé," op, cit.
(52) Pappé, Fifty Years Through the Eyes of “New Historians” in Israel, op, cit.
(53) Mikhail Krutikov, "Rise in anti-Zionism forces journalist to rethink his leftist Jewish identity," Forward, May 8, 2024, "accessed May 8, 2024". https://tinyurl.com/yc2xjpm5.
(54) "Jewish Voice for Peace, jewishvoiceforpeace, "accessed April 27, 2024". https://www.jewishvoiceforpeace.org .
(55) "An Exodus from Zionism- and towards collective liberation," Jewish Voice for Peace, April 27, 2024, "accessed April 27, 2024". https://tinyurl.com/mrxzzxny.
(56) Michelle Boorstein, Annie Gowen, "What is Zionism? The movement college protesters oppose, explained," The Washington Post, May 3, 2024, "accessed May 3, 2024". https://tinyurl.com/5n7ccnxw.
(57) Ibid.
(58) "Haaretz: The countdown to Israel's collapse has begun," alquds.com, June 7, 2024, "accessed June 12, 2024". https://rb.gy/t4rx9a.
(59) Ibid.
(60) "Yeshayahu Leibowitz," Stanford Encyclopedia of Philosophy, March 6, 2019, "accessed June 12, 2024". https://rb.gy/lundyb.
(61) Yeshayahu Leibowitz, Judaism, Human Values, and the Jewish State, (Harvard University Press 1995), 214.
(62) Ibid, 226-227.
(63) Max Blumenthal, "Beinart, The Crisis of Zionism (Book Review)," Journal of Palestine Studies, Vol. 42, No. 3, (Spring 2013): 103-104.
(64) "An Exodus from Zionism- and towards collective liberation," op, cit.
(65) Ibid.
(66) Ross Douthat, "The Limits of Moralism in Israel and Gaza," The New York Times, May 11, 2024, "accessed May 11, 2024". https://tinyurl.com/y7zt2r3e.
(67) Michelle Boorstein, Annie Gowen, What is Zionism? The movement college protesters oppose, explained," The Washington Post, May 3, 2024, "accessed May 3, 2024". https://tinyurl.com/5n7ccnxw.
(68) Ibid.
(69) الشرقاوي، "بين خطابي الصهينة والفلسطنة"، مرجع سابق، ص 265-303.
(70) Ajay Skaria, "Are Critics of Student Protests Subconsciously Anti-Semitic?," The Wire, May 2, 2024, "accessed May 2, 2024". https://tinyurl.com/5h9wnws5.
(71) Coman, "Rewriting Israeli History," 107–122.
(72) Jamie Stern-Weiner (ed), Deluge: Gaza and Israel from Crisis to Cataclysm, (OR Books, 2024), 11.
(73) Ali Hard, "Anti-Zionism is antisemitism, US House asserts in ‘dangerous’ resolution," Aljazeera, December 6, 2023, "accessed December 6, 2023". https://tinyurl.com/4h4d23vw.
(74) Penslar, Book Description: Zionism: An Emotional State, op, cit.
(75) Michael B. Oren, In defense Of Zionism, The Israel Forever Foundation, "accessed April 27, 2024". https://tinyurl.com/5fu84jwt.
(76) Ibid.