المقدمة
من الهامش إلى مركز الأحداث، هكذا تحوّل دور التيارات الإسلامية في الصومال بعد سقوط الدولة المركزية عام 1991، إذ حظي الإسلاميون بنفوذ واسع في فترة ما بعد التسعينيات بانتهاء فترة القمع والملاحقة من قبل النظام العسكري بقيادة الجنرال محمد سياد بري (1969-1991).
ارتبطت نشأة التيارات الإسلامية بوصول موجات من البعثات الإسلامية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، خاصة من القاهرة، ومؤسسات تعليمية أخرى من السعودية، ولدت في أعقابها تيارات إسلامية تنتمي إلى المدرسة السلفية في السعودية، والإخوانية في مصر. كان التيار الإخواني في البدايات هو الطاغي على بقية التيارات الإسلامية من حيث الأعداد والأتباع والتأثير الفكري في المشهد الصومالي الحركي. وقد ذاع صيت التيار الصوفي في بدايات القرن 20 لخوضه معارك ضد الاستعمار الغربي (المملكة المتحدة وإيطاليا)، رغم تراجع دوره بعد استقلال البلاد في يوليو/تموز 1960، نتيجة افتقاره إلى روح التجديد والإحياء التنظيمي، وملاصقته للنظام العسكري، حتى إنه شكل واجهة دينية له، فاستفادت الدولة العسكرية من هذا التيار لضرب خصومها من الإسلاميين أنفسهم، خاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث كان بعض رموز الصوفية قريبين من نظام الحكم، وهذا الأخير استعان بهم لمقارعة أفكار "الصحوة الإسلامية".
تاريخياً، يرجع ظهور التيارات الإسلامية في الصومال إلى مرحلتين:
الأولى: ظهرت حركات التحرر في فترة ما قبل الاستقلال كردّ فعل طبيعي لمواجهة الاستعمار الغربي منذ توقيع اتفاقية برلين عام 1984 لتقسيم الصومال، إلا أن شرارة التيارات الإسلامية وبروزها في الساحة تمثلت في ثورة الدراويش بقيادة السيد محمد عبد الله حسن (1) الذي قاد أول حركة تحررية ضد الاستعمار الغربي (فرنسا، إيطاليا، بريطانيا) ولمدة 21 عاما، بين عامي 1899 و1920. ومن المعروف انتماؤه إلى الطريقة الصالحية (إحدى فروع الصوفية في الصومال).
كما نشطت تيارات صوفية أخرى في الجنوب الصومالي، مثل ثورة أتباع الشيخ حسن برسني (1853-1927)، والشيخ أحمد مهدي (توفي عام 1900) الذي ينتمي إلى الطريقة القادرية ونشط في مواجهة المستعمر الإيطالي. واستمر نضال الحركات الصوفية في الجنوب (لغاية 1930)، واتسع ليشمل المدن والأرياف، ووجد احتضانا شعبيا من العشائر الصومالية، خاصة من قبيلة "بيمال"(2).
استخدم الإيطاليون القوة الغاشمة لإجهاض حركات التحرر بحلول عام 1924، وتمكنوا من استهداف قيادات تلك الحركات الثورية واغتيالها. يشير المؤرخون إلى أن سقوط الصومال بيد المستعمر الإيطالي والبريطاني على نحو كامل، تحقق بعد نحو 100 عام من مقاومة الصوماليين للقوى الاستعمارية، منذ توقيع اتفاقية بين بريطانيا والقبائل الصومالية في مدينة بربرة عام 1827، واكتمل احتواء حركات التحرر الصومالية على يد المستعمر الإيطالي في الجنوب عام 1927(3).
الثانية: جاءت تحديداً عقب انتهاء حقبة الحكومات المدنية بعد الاستقلال (1960-1969)، بوصول الجنرال محمد سياد بري (1969-1991) إلى السلطة بانقلاب أبيض، وتبني حكمه الثورة الاشتراكية في بيئة إسلامية تتمذهب بالمذهب "الشافعي". انتشرت بالمقابل التيارات الإسلامية لمواجهة موجة المد الشيوعي التي شكلت الأيديولوجية الناظمة لمعالم "نظام بري"، لهذا باتت التيارات الإسلامية أول ضحية للنظام الاشتراكي، برغم أن السنوات الأولى من عمر الانقلابيين الجدد في الحكم كانت هادئة. لكن جاءت التناقضات ووقع التباعد بين الإسلاميين والنظام الاشتراكي سريعاً، بعد تبني النظام العسكري قانون المساواة المطلقة بين الجنسين في الميراث يوم 11 يناير/كانون الثاني 1975. اعتبرت قيادات التيارات الإسلامية تلك الخطوة مسًّا بثوابت الدين الإسلامي، لأن الاستعمار الذي حكم الصومال قرابة قرن من الزمن لم يستطع فرضها على المجتمع الصومالي، حتى الدول العربية والإسلامية التي انتهجت الشيوعية أو العلمانية في بلادها لم تتبن ذلك(4).
التيارات الإسلامية الفاعلة
ليس للحركات الإسلامية حضور تنظيمي في السلطة راهنا، لكن هناك شخصيات إسلامية تشارك في الحكومة الحالية، أبرزهم رئيس الوزراء، حمزة عبدي بري. عموماً، يعترف تيار الإسلام السياسي، والتيار الصوفي، وأغلب التيار السلفي بالحكم والحكومة في الصومال، بينما تحارب التيارات الجهادية النظام الحاكم وتعتبره غير شرعي من الناحية الإسلامية.
غير أن التيارات الإسلامية بنسخها المختلفة تعيش حاليا في دائرة الكمون أو الجمود، إذ رغم مرور أزيد من ثلاثة عقود لم تبلغ في العمل الحركي والتجربة السياسية المستوى السائد في بعض الدول العربية. أما أهم التيارات الإسلامية الفاعلة فهي ثلاثة:
أولا- الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون):
أسس الحركة الإسلامية في الصومال (الإخوان المسلمون)، خمسة أشخاص، هم: الشيخ محمد أحمد نور غريري، والدكتور علي شيخ أحمد أبو بكر، والدكتور محمد يوسف عبد الرحمن، والشيخ أحمد رشيد حنفي، والأستاذ عبد الله محمد عبد الله، وذلك في منزل أحمد رشيد حنفي بالعاصمة السعودية الرياض، وأعلنوا ميلاد حركة الإصلاح ذات النهج الإخواني عام 1978، وأصبحت في عام 1987 عضوًا في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وممثلة له في منطقة القرن الإفريقي. ومنذ التسعينيات أصبحت تُعد واحدة من أقوى الحركات الإسلامية ذات التأثير المباشر في المجتمع الصومالي.
تؤدي الحركة دورا رئيسياً في مؤسسات المجتمع المدني، حتى إنها نظمت مصالحة شاملة بين القبائل القاطنة في العاصمة (مصالحة العاصمة)، الأمر الذي مهد الطريق وساهم في إنجاح مؤتمر عرتا عام 2001، الذي أسفر عن انتخاب أول رئيس صومالي في الخارج (جيبوتي) عبد القاسم صلاد حسن، بعد الحرب الأهلية، وصبّ لصالح جهود انتشال الصومال من أزماته.
تأثرت الحركة الإسلامية -كغيرها من التيارات الأخرى- بواقع البلاد المأزوم سياسيا وأمنيا، فظهور المحاكم الإسلامية كان بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد دب الخلاف في صفوف الحركة بين المعارضين والمؤيدين للمشاركة في الهيكل الإداري لاتحاد المحاكم الإسلامية، الذي انبثق من رحم محاكم إسلامية مختلفة الأيديولوجية والمشارب عام 2006. وجاء التوغل الإثيوبي عام 2007 ليفاقم الأزمة الداخلية للحركة الإسلامية، فقد اجتمع نحو 40 شخصًا من قيادات وكوادر الحركة وأعلنوا إقالتهم إدارة حركة الإصلاح الإسلامية، وتعيين إدارة جديدة محلها، ولكن إدارة الأخيرة رفضت هذا الإجراء وكذلك مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان، لكن المعترضين أصروا على موقفهم وأنشؤوا تنظيمًا مستقلا بهم، عرف محليا باسم "الدم الجديد"، مع محافظته على الاسم الرسمي له أي "حركة الإصلاح".
وقد برزت تيارات عدة تحمل نفس الفكرة، لكن بتوجهات سياسية مختلفة، مما حول الحركة الإسلامية إلى تيار عريض هش تتوزعه كيانات وتنظيمات عدة تؤكد ارتباطها بالإخوان المسلمين في مصر. ويشمل هذا التيار العريض حاليا:
- الجناح القديم وهو "حركة الإصلاح الإسلامية"، وينتمي إليه شيوخ الحركة التقليديون، وهو لا يزال التيار الرئيسي للإخوان.
- "الدم الجديد" وهو التيار التجديدي الذي انفصل عام 2007 عن حركة الإصلاح أو تم فصله منها، في أعقاب الأزمة الداخلية للحركة منذ بدايات عام 2002. وأعيد تشكيل "الدم الجديد" مجدداً عام 2013 في مقديشو، بعد انضمام رموز من حركة الإصلاح إلى الحركة الجديدة.
- "حركة الإصلاح والتغيير"، أسسها الشيخ محمد غريري(5) عام 2015، بعد إعلان انشقاقه عن "الدم الجديد"، لاختلافه معهم حول كيفية إدارة الحركة.
-
حركة التجمع الإسلامي، أو جماعة آل الشيخ كما تسمى، نسبة إلى الشيخ محمد معلم حسن. تراجع حضورها الميداني دعويا واجتماعيا نتيجة ظروف البلاد الأمنية، سيما بعد صعود "التيار الجهادي" في البلاد. لكن بعض شخصياتها لا تزال مؤثرة في الوسط الإسلامي، ويتقلدون مناصب وزارية في الحكومة الفيدرالية.
يهيمن التيار الإسلامي الإخواني بكافة تشكيلاته على مناح عديدة في المجتمع الصومالي، ويعتبر المحرك الرئيسي في القطاع التعليمي والتنموي رغم حالة الانقسام التي اعترته، كما أن أفراداً ينتمون إليه أو يُحسبون عليه، يتولون مناصب قيادية في الحكومة الصومالية، وأبرزهم رئيس الوزراء حمزة عبدي بري، كما يشغلون مناصب في بلدية العاصمة مقديشو.
ثانيا- التيار السلفي:
يرجع تاريخ انتشار المنهج السلفي في الحواضن الصومالية إلى الفترة ما بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، فقد وضع الشيخ نور الدين علي علو (توفي عام 1996) (6) نواة الفكر السلفي في مدينة غالكعيو الواقعة شمال شرقي الصومال، وشكلت مدينة أيل مركزاً لبواكير منتسبي هذا التيار. أسس الشيخ نور الدين في الصومال جماعة "أنصار السنة" التي انتمى إليها في مصر، وانخرط في الحكومة الصومالية وأصبح مديرا للشؤون الدينية في وزارة العدل، لكنه لم يؤسس أي حزب أو اتجاه سياسي عام، واقتصر عمله على النخب.
وهناك اتجاه سلفي آخر يتمثل في "جماعة الأهل"، لكنها تفككت بعد أن تحول بعض قياداتها نحو "التشدد"، في مقدمتهم رئيس الجماعة الشيخ عبد القادر محمود بعد تأثره بفكر شكري مصطفى، الذي كان يكفر المجتمعات الإسلامية. وقد ولّدت الموجة التكفيرية نقاشا وتجاذبا إسلاميا، تشكلت في سياقه "الجماعة الإسلامية" عام 1980، بعد الإعلان عن حركة الإصلاح بوقت قصير، وأصبح الشيخ محمود عيسى محمود رئيسها الأول(7).
في عام 1982 تأسست جماعة الاتحاد الإسلامي، منطلقة من توجه سلفي جديد يشكل هيكلاً جامعاً للمدرسة السلفية في الصومال، وذلك إثر اندماج بين الجماعة الإسلامية في جنوب الصومال مع حركة وحدة الشباب الإسلامي في الشمال، برئاسة الشيخ علي ورسمة، خريج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
وقد سعت الحركة الإسلامية في السودان بقيادة الشيخ حسن الترابي، نحو توحيد القوى الإسلامية في الصومال. فالترابي كان يريد تأسيس شبكة من التنظيمات الإسلامية المرتبطة بالسودان في إفريقيا، وكان للصومال الأولوية في خطته. يروي الشيخ حسن طاهر أويس في مذكراته "أمير المجاهدين في القرن الإفريقي"، أن الجماعات الإسلامية في الصومال دُعيت في بداية عام 1982 إلى السودان لتوحيدها. والتيارات الإسلامية التي كانت موجودة حينها في الساحة الصومالية، هي: حركة الإصلاح (الإخوان)، وجماعة التكفير، والجماعة الإسلامية (سلفية) في جنوب الصومال، ووحدة الشباب الإسلامي (سلفية) في شمال البلاد. قبلت حركتا الجماعة الإسلامية ووحدة الشباب الإسلامي الدعوة، وذلك اتساقاً مع الرغبة الجامعة للحركة الإسلامية في السودان.
اندمجت الجماعة الإسلامية في الجنوب مع حركة وحدة الشباب الإسلامي في الشمال، منطلقة من توجه سلفي جديد يشكل هيكلاً جامعاً للمدرسة السلفية في الصومال، برئاسة الشيخ علي ورسمة. وبهذه الجماعة يمكن القول إن الدعوة السلفية أخذت تنتشر في المجتمع الصومالي(8). هذا الاندماج تحت غطاء "الاتحاد الإسلامي" لم يدم أكثر من ستة أشهر بسبب الاختلاف في المنهج، إلا أن حركة الاتحاد بقيت جماعة قائمة بذاتها باستمرار انتماء بعض المنتسبين إليها، بل واكتسبت زخما متزايدا وزاد عدد أعضائها بسبب معارضتها للنظام أولاً، ولأسباب تتعلق "بوضوح منهجها" وأيديولوجيتها السلفية ثانيا، فاستقطبت هذا الاتجاه(9).
واجه الاتحاد الإسلامي مثل بقية التنظيمات الإسلامية في الصومال، تحدي البقاء والتكيف مع المتغيرات التي شهدتها البلاد، خاصة بعد سقوط الدولة المركزية، وتوسعت دائرة نفوذه شرقاً وجنوباً، إلا أن عوامل داخلية وأخرى خارجية عرّضت الاتحاد للتفكك بعد التدخل الإثيوبي وما صاحبه من أحداث في إقليم جدو جنوبي الصومال عام 1996(10)، والتي أضحت كفيلة بضرب قوة الاتحاد الإسلامي، وإجهاض مشروع المدرسة السلفية ذات "النزعة الجهادية".
ورغم الجدل الدائر حول كون الاتحاد الإسلامي تياراً جهادياً، فإن هذه الفكرة لم تكن غائبة عن مشاريعه قبل انهيار الدولة، فبعد تفكك البلاد تنازع على توجيه الجماعة عدةُ أجنحة، أحدها كان "جهاديا" متأثرا بما يجري في أفغانستان، إلا أن التيار الدعوي بقي هو الغالب، بينما بقيت جيوب جهادية كامنة في الاتحاد لفترة، ثم بعد بروز حركة الشباب، التحق بها الجناح الجهادي.
وعلى غرار التيار الإخواني، تفككت جماعة الاتحاد الإسلامي السلفية إلى مجموعات شتى، تنتمي إلى مدارس مختلفة، منها مدرسة الوادعية والمدخلية، وأخرى لها صلات بالمدرسة السلفية اليمنية، ولديها حاليا نشاط دعوي في الصومال، وبدأت تؤسس حاضنات سلفية خاصة بها في ضواحي مقديشو.
في الوقت الراهن يتشكل التيار السلفي من عدة جماعات أهمها:
- جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة، تأسست عام 1996، وهي تنظيم كبير لكنه هشّ سياسيا، يوحّده الانتماء السلفي والإيمان بضرورة العمل الجماعي المنظم بقيادة رموز دعوية ذات تأثير كبير في الساحة الصومالية.
- السلفية اللا تنظيمية، أو كما تسمى "المدخلية" أو"الوادعية"، ويجمعها رفض العمل الجماعي في إطار تنظيمي.
- السلفية الجهادية، وتلتقي مع حركة الاعتصام في نهجها السلفي، لكنهما على طرفي نقيض في النهج "الجهادي"، إذ ترفض قيادات الاعتصام ربط أيديولوجية العنف التي تتبناها حركة الشباب بالمدرسة السلفية، وهو ما يعكس حجم التباعد بين الحركة المسلحة والتنظيم الدعوي السلفي فكراً ومنهجاً.
بالنظر إلى التفاعلات السياسية السائدة في المنطقة والإقليم، فإن التيار السلفي بشكل عام لديه حاضنة شعبية لا يستهان بها، بحكم الكوادر الدعوية والأكاديمية والانخراط في التجارة، مما يؤهله للبقاء مؤثراً في النسقين الاجتماعي والسياسي داخل الصومال، بالإضافة إلى توفر البنية الفكرية والمنهجية التي تتيح له طرق باب السياسة رغم التحديات التي تفرضها المحاصصة السياسية والعشائرية الموجودة في البلاد بشأن تقاسم السلطة ومناصب الدولة في النظام الفيدرالي والولائي.
ثالثا- التيار الجهادي:
والمقصود به حركة الشباب المجاهدين، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش).
- حركة الشباب المجاهدين الموالية لتنظيم القاعدة:
كانت حركة "الشباب المجاهدين" أول أمرها فصيلا مسلحا من اتحاد المحاكم الإسلامية، وذلك في أعقاب بروز أمراء الحرب في البلاد بين عامي 2004 و2006. أعلنت الحركة انفصالها عن الاتحاد عام 2007 بعد الاجتياح العسكري الإثيوبي للصومال في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2006.
لكن تاريخياً، بدأت إرهاصات ولادة "حركة الشباب" من رحم القاعدة منذ زيارة الجيل الأول من الإسلاميين الصوماليين إلى قندهار وكابل في أفغانستان لتلقي تدريبات عسكرية، وذلك في فترات متلاحقة خلال تسعينيات القرن الماضي، ومثلت ساحة الصومال واليمن هدفاً محتملاً ورئيسياً للقاعدة(11). واتخذت خلية "شرق إفريقيا" من نيروبي الكينية مقراً لها، تحت قيادة المسؤول العسكري للقاعدة "أبو عبيدة البنشيري" الذي باشر الإعداد لتأسيس معسكرات في الصومال أواخر عام 1991. وانخرط مسلحون إسلاميون لهم صلة بالقاعدة في الحرب ضد القوات الأميركية العاملة في البعثة الأممية "اليونيصوم" عام 1993، لكن بعد انتهاء مهمة البعثة في الصومال عام 1995، اختفى تنظيم القاعدة، وفشل في استقطاب أتباع أو تجنيد مسلحين جدد، نظراً للتعقيدات الاجتماعية وأبرزُها التركيبة العشائرية للمجتمع الصومالي، وكذلك بسبب رفض قيادات رفيعة في الاتحاد الإسلامي، مشروع تدويل الجهاد المحلي ضد أميركا وحلفائها في المنطقة. يقول الشيخ حسن طاهر أويس (من مؤسسي الاتحاد) إنه رفض مبايعة تنظيم القاعدة وأمير حركة طالبان الملا محمد عمر قبل أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 بأشهر قليلة فقط، وجرى نقاش بينه وبين قيادات في التنظيم بهذا الخصوص، وأخبروه أنه فوَّت فرصة كبيرة لتنصيبه أميراً للقاعدة في شرق إفريقيا، برفضه عقد البيعة. برر أويس موقفه بأنه كان يريد من تنظيم القاعدة دعماً مادياً وعسكرياً فقط، ويرفض تدخله في شؤون الجهاد بالصومال، فذهب تنظيم القاعدة إلى التنسيق مع أعضاء آخرين في الاتحاد الإسلامي، سيما الجيل الثاني من الإسلاميين، وهنا بدأت قصة نشأة أقوى فرع للقاعدة في العالم من حيث التخطيط الهجومي والانتشار والقوة العسكرية(12).
تمثل "حركة الشباب المجاهدين" أبرز الكيانات الجهادية ذات التوجه السلفي في الصومال، وتُعد من التيارات التي يحرك دفتها الجيل الثاني من الإسلاميين برغم أنها ضمت في بدايات تشكلها قيادات من الجيل الأول، لكنْ نتيجة الانشقاقات الداخلية والهزات العنيفة التي أصابت بنية تركيبتها، أصبح يقودها حالياً قيادات من الجيل الثاني، من أبرزهم أحمد عبدي ديرية "أبو عبيدة" الذي كان عضواً سابقاً في "ألوية رأس كمبوني". وتسيطر الحركة حالياً على أجزاء واسعة من جنوب الصومال، لكنها خسرت مناطق شاسعة في وسط وشمال شرق البلاد مع حلول عام 2023.
- تنظيم الدولة الإسلامية في الصومال (داعش):
أعلن القيادي السابق في حركة الشباب، عبد القادر مؤمن، في أكتوبر/تشرين الأول 2015، ولاءه لتنظيم الدولة الإسلامية مع نفر من مقاتلي الحركة لا يزيد عددهم عن 30 مسلحًا، في خطوة حملت نواة تشكُّل تنظيم جهادي مسلح جديد في الصومال. يعتبر هذا الإعلان أول خطوة من نوعها، منذ أن تردد في الأوساط الإعلامية بداية العام 2016 اعتزام الحركة الإعلان عن بيعتها لتنظيم داعش، على غرار ما قامت به بوكو حرام النيجيرية، إلا أن القيادة العليا للحركة كما يبدو، بقيت مصممة على بقائها في عباءة تنظيم القاعدة الذي أعلنت الولاء له في العام 2012(13).
أما أسباب تمدد تنظيم الدولة في الصومال، فمن أهمها تصاعد وتيرة الانشقاقات الداخلية التي برزت في البداية كأزمة عابرة في جسد حركة الشباب، إلا أنها تحولت إلى تصفيات ميدانية أدت إلى تآكل دور حركة الشباب العسكري والميداني في المنطقة. والجدير بالذكر أن بنية الحركة التنظيمية بدأت تتداعى منذ مقتل قائدها الروحي أحمد عبدي غودني، بغارة جوية أميركية في جنوب الصومال أواخر العام 2014. ولا شك أن الفراغ الروحي والرمزي الذي خلفه غياب غودني، وما صاحبه من ظهور قوي لتنظيم داعش في العراق، والانتصارات التي حققها هناك، عجّلا بانشقاق مجموعة صغيرة عن التنظيم الأم(14).
كما أن الموقع الحيوي والاستراتيجي الذي يتمتع به الصومال، يُمثل أهمية كبرى لتنظيم الدولة ليعزز وجوده في القارة السمراء، في منافسة مع تنظيم القاعدة في شرق القارة وشمالها. ويشكل الصومال بالنسبة للتنظيم منطقة عبور آمنة لتهريب المقاتلين والعتاد العسكري من الشرق الأوسط إلى الصومال ومن ثم إلى ليبيا، وصولًا إلى جماعة بوكو حرام في نيجيريا التي أعلنت ولاءها لداعش عام 2015(15).
ورغم إعلان مجموعة من المقاتلين السابقين في حركة الشباب ولاءهم لتنظيم الدولة الإسلامية، فإن التنظيم الجديد لا يزال في طور التشكل، ويتراوح عدد أفراده بين 800 و1000 مقاتل، وهناك تقديرات أمنية تفيد بأن التنظيم بدأ يتمدد في شمال شرق الصومال، ويُخرّج أفواجًا جديدة من المقاتلين، تجاوز عددهم مؤخرا 300 مسلح أنهوا تدريباتهم العسكرية قبل أشهر قليلة.
يترأس عبد القادر مؤمن التنظيم في الصومال، ولم تُعلن جماعته رسميًّا عن أي هيكل إداري لها كما هو معروف لدى الجماعات المسلحة ذات الصبغة الأيديولوجية، ولا تتوافر معلومات دقيقة حول القدرة العسكرية للتنظيم، وهل يُشكل في هذه المرحلة تهديدًا عسكريًّا للصومال وجواره الجغرافي، ومدى احتمالية تفوقه ميدانيًّا وعسكريًّا على القوات الصومالية والإفريقية في وسط البلاد وجنوبها.
تعتبر حركة الشباب المجاهدين أحد أقوى التنظيمات الجهادية في إفريقيا والقرن الإفريقي على نحو خاص، إذ تسيطر على أجزاء شاسعة من جنوب البلاد، كما تنشط في شمال شرق كينيا، وتنفذ هجمات على البلدات الحدودية بين الصومال وإثيوبيا. أما تنظيم الدولة الإسلامية فرع الصومال، فإنه رغم قلة أفراده، أصبح نقطة التقاء ومركزاً مالياً لأفراد التنظيم في إفريقيا، مما يرجّح فرضية تحوّله إلى مركز جهادي يستقطب العديد من المقاتلين الأجانب، وفق الدوائر الأمنية الغربية.
رابعا- التيار الصوفي:
شهد الصومال في الحقبة التي سبقت الاستقلال عام 1960، نوعين من الطرق الصوفية: أولهما، الطرق القديمة أو التقليدية ذات المشيخات والقيادات المتعددة والإدارة اللامركزية، مثل الطريقة القادرية.
أما النوع الثاني فهو عبارة عن الطرق ذات القيادة المركزية والمتأثرة بالحركات التجديدية والإصلاحية التي شهدها العالم الإسلامي في الفترة ما بين أواخر القرن 17 وأواخر القرن 19. ويندرج تحت هذا النوع، الطريقة الأحمدية مع فرعها الصالحي المتأثر بمدرسة السيد أحمد بن إدريس(16).
من أهم الطرق الصوفية في الصومال راهنا:
- الطريقة القادرية: تنسب إلى مؤسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني الصوفي الشهير، وهي من أقدم الطرق الصوفية التي وصلت إلى شرق إفريقيا مع التجار والمهاجرين اليمنيين، فانتشرت في المدن الساحلية مثل مصوّع -التي يعتقد بعض سكانها أن عبد القادر الجيلاني نفسه مات بها أثناء زيارته لها- وزيلع ومقديشو وهرر. قام أتباع القادرية في شرق إفريقيا بنشاط ديني وعلمي، وأنشؤوا المراكز العلمية والدينية المتمثلة في الزوايا والروابط العلمية، فخرّجت جماعات من المريدين والفقهاء الذين ساهموا في نشر الإسلام في إثيوبيا وإريتريا وتنزانيا والصومال.
- الطريقة الأحمدية: أسسها السيد أحمد بن إدريس الفاسي المتوفى عام 1837 في "صبيا" بمنطقة عسير جنوبي المملكة العربية السعودية حاليا. وأدخل الطريقة إلى شرق إفريقيا الشيخ علي مية درجبا الصومالي المتوفى عام 1917، وقد التف حوله عدد كبير من المريدين، وخصوصًا سكان وادي شبيلي الأوسط. ويُعد الشيخ عبد الرحمن الشهير بلقب "مولانا"، أول شيخ للطريقة الأحمدية في جنوب الصومال، وهو تلميذ السيد أحمد بن إدريس، وكان التقى بشيخه في مكة المكرمة. ومن الشيوخ الذين أخذوا الطريقة من الشيخ عبد الرحمن مولانا، الشيخ حسن معلم، ومركزه في قرية بصرة في ناحية بلعد. أما الشيخ علي ميه الذي اتخذ من مدينة مركا مركزا علميا له، فكان تلميذا للشيخ حسن معلم.
- الطريقة الصالحية: تنتسب إلى محمد بن صالح المتوفى عام 1919، وهي فرع من الأحمدية، وخلفه الشيخ محمد الذي أسس مركزًا للطريقة الصالحية في منطقة شدلي القريبة من بلدتَيْ جوهر وبلعد على نهر شبيلي. وكان من أهم أتباع هذه الطريقة السيد محمد عبد الله حسن، الذي قاد المقاومة ضد الاستعمار البريطاني في شمال الصومال.
- طرق صوفية أخرى: تنتشر في البلاد جماعات صوفية أخرى كالرفاعية، وبعضها يحمل أسماء محلية نسبة إلى أئمتها وشيوخها. ونشاط هذه الطرق لا ينقطع طيلة العام، لكن تأثيرها محدود في المجالين السياسي والاجتماعي.
تقتصر تجربة الطرق الصوفية الحالية على الجانب الدعوي ونشر الدين الإسلامي وعلى نحو تقليدي في منطقة القرن الإفريقي، ويؤخذ عليها بشكل عام أن مناهج عملها لا تواكب العصر. لكن بالمقابل، يلاحظ أن دور الصوفيين أخذ يتعاظم شيئاً فشيئاً في الفترة الأخيرة، خاصة بعد تزايد النقد لفكرهم. فقد أصبح أنصار الصوفية معنيين بتعزيز وجودهم في أجهزة الدولة، وعاودوا نشاطهم وأصبحوا أكثر نموا وتماسكا من قبل، لشعورهم بالتحدي من جانبين: التحدي العسكري الذي تمثله حركة الشباب، والتحدي الفكري الذي يمثله التيار السلفي بشكل عام.
التيارات الإسلامية والتفاعلات السياسية
تبدو السمة الغالبة على معظم الحركات الإسلامية في الصومال هي الضعف والانقسام نتيجة الهشاشة في تركيبتها التنظيمية.
فمن مظاهر الانقسام المتفشية في التيارات السلفية، رمي بعضها بالكفر أو الاتهام بالردة، فضلا عن التصفية والاغتيالات انطلاقاً من رؤى وفتاوى تكفيرية. كما أن بعض الاغتيالات ليست بعيدة عن أهداف سياسية، كما هو الشأن مع حركة الشباب واغتيالها لبعض العلماء، خاصة أن الحركة صاحبة مشروع سياسي عالمي. وهناك غياب لدور التيار الصوفي في النسقين الاجتماعي والسياسي إذ يقتصر على الديني التقليدي، ولم يستطع الاستفادة من الفراغ الذي يهيمن على الساحة ليعزز حضوره أو تأثيره.
أما التيار الإخواني فبدا أكثر تفككا وتشرذما من غيره، نتيجة الانقسامات والتحزبات التي طالته، لذا فإن مستقبل المكون الإسلامي يلفه الغموض، وخاصة بعد صعود التيار السلفي الجهادي، الذي قضى على أي دور محتمل للإسلاميين، خاصة الإخوان والصوفية. فالتيار الإخواني تقاطعت مصالحه مع الحكومة الفيدرالية، والصوفية متهمة بالتواطؤ في الحرب ضد التيار الجهادي في جبهات القتال، خاصة في أقاليم جلجدود ومدق وسط البلاد(17).
أبرزت التحولات التي شهدها الصومال منذ عام 2000، مشاركةً فعالة للتيارات الإسلامية، خاصة التيار الإخواني متمثلاً في حركة الإصلاح الإسلامية. وعُرفت الحركة بدورها في إنجاح مؤتمر عرتا المنعقد في جيبوتي عام 2001. وفي العقدين الأخيرين، انخرطت حركة الإصلاح وجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة في السياسة بثقلهما الشعبي والدعوي، استجابة لرغبة بعض كوادرهما في الانضمام إلى مجال السياسة. وقد نجح كثير منهم في شغل مناصب سيادية برلمانية وتنفيذية حتى على المستوى الفردي، لكن المحاصصة القبلية كانت تحول أحيانا دون خوض تجربة سياسية فاعلة(18).
ويُعد التيار الإخواني الأكثر حضورا في العملية السياسية، ولديه حظوظ لتعزيز دوره في السلطة عبر المشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية بأفراد وشخصيات نافذة. ولدى الإخوان حالياً حضور فعَّال في الحكومة الفيدرالية، ويعتبر رئيس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بري عضواً بارزاً في هذا التيار، بينما أسند إلى العديد منهم مناصب قيادية في الإدارات المحلية، من أبرزهم عمدة مقديشو، يوسف حسين جمعالي. كما أنهم أعضاء فاعلون في مؤسسات القضاء والتمثيل السياسي الخارجي.
ولهذا، فإن الدور المتنامي لحركة "الدم الجديد" المتغلغل في هياكل ومفاصل الدولة، يحظى بمستقبل واعد في البقاء في هرم السلطة وقريباً من دوائر صنع القرار، بما لديه من قيادات وكفاءات بارزة في الوسطين الاجتماعي والسياسي. لكن يؤخذ على هذا التيار أن مشاركته ليست منظمة، ولم يشكل كتلة سياسية في البرلمان أو في الحكومة، وهو ما يُمكن أن يقوض مستقبلاً جهوده السياسية في حال وصول تيار آخر إلى الحكم. وهو ما حدث فعلاً في انتخابات عام 2017، التي فاز بها الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو، وهي الفترة التي تراجع فيها دور التيار الإخواني في المشهد السياسي، وأصبح مراقباً للوضع رغم وجود شخصيات تنتمي إليه ذات تأثير وثقل سياسي في حكومة فرماجو (2017 - 2022).
أما بالنسبة للتيار الصوفي، ورغم تراجع دور الصوفية في أكثر من مجال في الحياة العامة داخل الصومال، وعدم تمتعه حاليا بشعبية كبيرة، ورجحان الكفة لصالح التيارات الإسلامية السياسية، فإن الفكر الصوفي يظل كامنا لدى طيف واسع من المجتمع الصومالي(19). وقد تراجع دوره السياسي منذ أن حُسمت المواجهات بينه وبين الجيش الصومالي في وسط البلاد، بعد أن وجّه سلاحه ضد الجيش والقوات الأمنية التابعة لولاية جلجدود عام 2022، وهو ما أجهض المشروع السياسي للتيار الصوفي المتمثل في تنظيم "أهل السنة والجماعة". هذا الأخير كان لديه تأثير سياسي وأمني وسط البلاد، نتيجة اصطفافه وراء الجيش الصومالي والحكومة الفيدرالية للقضاء على حركة الشباب، لكن بعد احتواء نفوذه أصبح التنظيم غير قادر على المشاركة السياسية، خاصة في انتخابات عام 2022. ولا تتوفر لديه حالياً أجندة أو مشروع سياسي يمهد له طريق العودة إلى ركب السياسة، ما لم تتغير الظروف لصالحه(20).
بشكل عام، فإن تياري "الدم الجديد" الإخواني، و"جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة" السلفية، هما الأكثر تأثيراً واتساقاً في المشهد السياسي، إلا أن هناك غيابا للتعددية الحزبية، إلى جانب غياب التجربة السياسية الفعلية للتيارات الإسلامية بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بالمشاركة في العملية السياسية، والمساهمة في عملية بناء الدولة الصومالية الحديثة.
أما بالنسبة للتيار الجهادي المسلح، فإن مستقبله مرهون بطريقة استجابته للظروف المحيطة به والتحديات التي تواجهه. من ذلك، مدى قبوله بالدخول في شراكة سياسية مع الحكومة الفيدرالية، والانخراط في محادثات مباشرة لإنهاء صراع ممتد منذ نحو عقدين. لكن إذا استمرت الحركات الجهادية المسلحة على حالها، فإن التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، لن تسمح بوجود كيانات لها ارتباط بتنظيمي القاعدة وداعش، نظراً لاهتمام الحكومة الفيدرالية بالقضاء على مهددات الأمن العام، وإنهاء تمرد حركة الشباب في الجنوب وتنظيم الدولة (داعش) في شمال شرق البلاد. وكلما استطاعت الحكومة الفيدرالية إعادة ترتيب صفوف قواتها المسلحة، وانخرطت في اتفاقيات دفاع عسكري مشتركة مع دول أجنبية لها مصالح في المنطقة، فإن ذلك قد يُعجل من نهاية تلك التنظيمات لاسيما بشكلها "الجهادي" المتشدد الحالي.
التيارات الإسلامية واتجاهات المستقبل
إن تأثير الإسلاميين في المشهد السياسي الصومالي سيستمر بشكل فردي بحكم ارتباطهم وقربهم من دوائر الحكم، لكنهم في المقابل لا يملكون مشروعا ملموسا وواضحا للتأثير في نظام الحكم والمساهمة في عملية التحول الديمقراطي وبناء دولة المؤسسات. وحتى على الصعيد الفكري لم يطرحوا بدائل بشأن نظام الحكم، ولم يدخلوا تجربة سياسية فعلية، لهذا فإن أي تأثير مستقبلي للتيار الإسلامي بوجهيْه المعتدل والمتشدد يبقى رهين تحولات جديدة في التركيبة الداخلية للقوى الإسلامية.
ويمكن تحديد ثلاثة سيناريوهات تواجهها التيارات الإسلامية غير الجهادية، فيما يخص دورها السياسي:
- السيناريو الأول، المشاركة السياسية والتعاون مع الدولة، إذ تحاول الحكومة الفيدرالية منذ مجيء الرئيس الحالي حسن شيخ محمود، دفع التيارات الإسلامية إلى التعاون مع المؤسسات الحكومية، وتعمل على استيعاب شخصياتهم وأفرادهم المؤثرين ليكونوا إلى جانبها في مواجهة التيارات الإسلامية المسلحة، وبالتالي المساهمة في جهود وعمليات بسط نفوذ الدولة. وهذا بدوره سيوفر لتلك الشخصيات فرصا لأداء دور أكبر في السلطة واستلام مناصب حكومية مستقبلا، بما يعني إمكانية أن تتشكل أحزاب إسلامية سياسية ذات تأثير مباشر في السلطة، أو على الأقل سيتوفر للإسلاميين مناخ إيجابي وبيئة عمل سياسي إيجابية مستقبلاً.
- السيناريو الثاني، استمرار الوضع القائم، وهو ما يعني أن تبقى جُل التيارات الإسلامية (الإخوان، السلفية، الصوفية) في وضعها الحالي، دون أن يكون لها تأثير كبير في المشهد السياسي نتيجة غياب مشروعها السياسي، إلى جانب تراجع مكانتها في الوسط الشعبي بسبب الخلافات الداخلية العميقة التي أثرت سلباً على تماسك ووحدة تلك التيارات. هذا السيناريو هو الراجح حالياً في ظل ما يعانيه الصومال من أزمات سياسية وأمنية نتيجة تعقيداتٍ في تركيبة نظامه الإداري المنبثق من رحم العشائرية والطائفية السياسية.
- السيناريو الثالث، التفكك والتهميش، فقد عانت التيارات الإسلامية من التهميش في ظل النظام العسكري (1969-1991)، وتعرضت للملاحقات والمضايقات، وتعرض أفرادها للسجن، لكنها تنفست الصعداء بعد الإطاحة بالنظام العسكري عام 1991. ولا تزال الخلافات الداخلية والجمود أهمَّ المخاطر التي تُواجهها اليوم، وفي حال انخراطها في أي مواجهات مع السلطة، أو مع قوى أخرى، أو فيما بينها، فإن سيناريو تلاشيها محتمل، وستبقى في الهامش ولن يُكتب لمشروعها أي نجاح.
أما بالنسبة للتيارات المتشددة، فحركة الشباب الموالية لتنظيم القاعدة، يرتبط مستقبلها وبقاؤها قوةً نافذة بكثير من العوامل، أهمها ضعف وعجز الحكومة الصومالية عن مواجهة الحركة، أو عجزها عن معالجة الأزمات التي تسهم في تقوية الحركة. والجدير بالذكر أن قوات الاتحاد الإفريقي تستعد للانسحاب من الصومال بعدما قضت قرابة 13 عامًا فيها، بينما لم يتضح بعدُ كيف ستتعامل القوات الصومالية مع التهديدات المختلفة في البلاد، حيث لا تزال هذه القوات غيرَ مؤهلة لتولي هذه المسؤولية. كما يتَّسم الجهد الذي يبذله المجتمع الدولي للحدّ من تمويل حركة الشباب بالبُطء، إذ بحسب لجنة الخبراء في الأمم المتحدة، لا تزال الحركة تتلقى أموالًا بواسطة التبرعات، كما أن عددا من التقارير الدولية تؤكد ضلوع دول في دعمها(21).
أما تنظيم الدولة في الصومال فيواجه هو الآخر مصيراً مجهولاً في حال تمكّن الحكومة الفيدرالية وإقليم بونتلاند من تحجيم نفوذه في سلسلة جبال "عَلْ مِسكاد" وجبال غلغلا. لكن بشكل عام، ينحصر نشاط التنظيم في بونتلاند، وهو ما يعكس توجُّهاً ملحوظاً لدى التنظيم لتعزيز وجوده هناك، بعد انحسار نطاق سيطرته في مناطقه الأساسية بالعراق وسوريا. ويسعى بذلك إلى تحقيق مكاسب إقليمية في مختلف أنحاء إفريقيا، وقد سجل نجاحات مهمة في هذا الشأن، تحديداً في أجزاء من مالي وموزمبيق والصومال، وهو اتجاه قد يفسح أمامه الأفق لتوسيع نشاطه المالي، واستئناف عملياته الخارجية، بما يُغير قواعد اللعبة، ويُعيده إلى رأس الأجندة الدولية لمكافحة الإرهاب.
وقد نمت إيرادات داعش الصومالي من حوالي 70 ألف دولار شهرياً في عام 2018، إلى 2.5 مليون دولار في عام 2021، وأكثر من مليونَي دولار في النصف الأول من عام 2022. وبحسب تقرير صادر عن فريق المراقبة الأممي في فبراير/شباط 2023، كان "مكتب الكرار" للتنسيق الإقليمي لتنظيم الدولة في إفريقيا، الذي يتخذ من الصومال مقراً له، يُرسل أموالاً إلى "ولاية خراسان" الإسلامية في أفغانستان بقيمة 25 ألف دولار شهرياً بالعملة المشفرة(22).
خلاصة الأمر، أن أي فشل من الحكومة الفيدرالية في الصومال أو الجهات الدولية في القضاء على تنظيمي حركة الشباب وداعش-فرع الصومال، سيعني استمرار تلك التنظيمات المسلحة، وربما اشتداد عودها واستعادة عافيتها، إذ يمكن لحركة الشباب أن تتوسع وتحقق مزيداً من الانتصارات وتتمدد في مناطق جديدة، بينما سيتحول تنظيم داعش إلى مركز ثقل مالي، خاصة في إفريقيا. فقد كشف تقرير لمجموعات الأزمات الدولية، أن المسؤولين الأمنيين الأميركيين يعتقدون أن "مؤمن" هو القائد الحالي لتنظيم الدولة في الصومال، لكن التنظيم لم يعلن رسميًا عن الأمر، بينما أفادت تقارير أخرى أن الأجهزة الأمنية الأميركية تبادلت معلومات استخباراتية مع نظيراتها الإثيوبية حول تنظيم داعش في الصومال، وتحديدا فيما يتعلق بإمكانية وجود زعيمه أبو حفص الهاشمي القرشي في إقليم بونتلاند(23). وبهذا سيكون التنظيم استطاع تشكيل نواة أساسية في بونتلاند، والتغلغل في النسيج المجتمعي للإقليم، بحكم أن رئيس التنظيم ينتمي إلى قبيلة المجيرتين القاطنة هناك، وهو ما يمنح التنظيم قدرة على إحباط المخططات الأمنية التي تستهدف وجوده، استناداً إلى قبيلته أولاً، وطبيعة المنطقة الجبلية الوعرة ثانيا(24).
خاتمة
تشكل التيارات الإسلامية في الصومال جزءاً مهماً من تركيبة المجتمع الصومالي، وقد تعاظم دورها في فترة ما بعد الألفية الأولى نتيجة تأثيرها السياسي والاجتماعي، خاصة من قبل التيارات الإخوانية والصوفية والسلفية بجناحها غير المسلح. لكن بروز التيار الجهادي في البلاد، خطف من الإسلاميين هذا التأثير، مما أدى إلى تراجع دورهم، من حيث مواجهة خصومهم وتراجع نشاطهم الدعوي في عموم البلاد. لهذا يتوقف مستقبل الإسلاميين بالمجمل على كيفية تعاطيهم مع الملفات السياسية السائدة، والانخراط في استعادة دورهم ونفوذهم ومراجعة سياساتهم فيما يتعلق بمواجهة خصومهم من التيار الجهادي من جهة، وبتقديمهم رؤية سياسية للمشاركة في العملية السياسية والحكم بشكل فعال من جهة ثانية. وباختصار، فإن مصير التيار الإسلامي السياسي مرهون بمدى استيعابه للواقع الحالي وقدرته على التأقلم مع المتغيرات الجديدة في الشأن الصومالي والبيئة الإقليمية.
أما التيار الجهادي، وخاصة حركة الشباب الموالية لتنظيم القاعدة، فمن المرجح أن تزداد الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الفيدرالية ضدها، تحديداً في جنوب الصومال. فقد أجبرت القوى الحكومية حركة الشباب على تغيير استراتيجيتها القتالية، من الهجوم على الحكومة إلى الدفاع عن مكاسبها الميدانية والحيلولة دون خسارة المزيد من الأراضي والمدن، حتى لا تفقد السيطرة على الجنوب الصومالي، ويتراجع نفوذها في شمال شرق كينيا وتنزانيا، وتضعف قدرتها على التهديد في أوغندا وإثيوبيا وجيبوتي.
أما تنظيم داعش، فإن التهديد الذي يشكله في الصومال والمنطقة مستمد بشكل أكبر من طموحه المستقبلي لا من قدراته الحالية، وقد لعب دورا كبيرا بوصفه مركزا ماليا إقليميا، وله دور رئيسي في توسيع العمليات في القارة الإفريقية، ويطمح إلى فرض سيطرة إقليمية في منطقة بونتلاند كخطوة أولى ليصبح الأقوى في جميع أنحاء الصومال. لكن يبدو أن هذا الهدف صعب المنال، نظرا للقاعدة العشائرية المحدودة للتنظيم، ومعارضة حركة الشباب له، وعمل السلطات في المنطقة على الحد من توسعه.
- السيد محمد بن عبد الله بن حسن نور، عالم صوفي وأحد أبرز "المجاهدين" في الصومال، قاد الكفاح ضد الاحتلال البريطاني. ولد عام 1863، وأطلق عليه البريطانيون لقب "المُلا المجنون"، بينما يدعوه الصوماليون باسم الشيخ محمد. شرع عام 1899 في مهاجمة القوات البريطانية في مدينة بربرة، وخاض ضدها 270 معركة انتصر في معظمها، واستطاع أن يسيطر على الأجزاء الداخلية من الصومال. في عام 1920 قتل في قصف للطيران البريطاني استهدف مواقع "الثوار" في مدينة جالكاعيو غربي الصومال.
- بيمال إحدى القبائل الصومالية وفرع من عشيرة "در" الرئيسية، تنتشر في الصومال ويوجد أقلية منها في إثيوبيا وكينيا، برزت إبان الاستعمار بعد قيادتها المقاومة في جنوب الصومال وأرض الصومال.
- عبد الرحمن معلم عبد الله (باديو)، تاريخ الحركة الإسلامية في الصومال، إسطنبول، خواطر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2022، ص 168.
- Abdi Shakur Mire Adan, Kobocii Islaamiyiints Soomaaliya (1952-2022), Bosaaso, Horiyaal printing center, 2011, page: 10.
- محمد أحمد عمر، الإسلاميون في الصومال.. سباق على المركز، الجزيرة نت، 18 ديسمبر/كانون الأول 2012، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، https://cutt.us/btAm7
- تخرج الشيخ نور الدين على يد شيخه الحاج آدم أحمد موسى (1917 - 1986) ثم عينته إيطاليا قاضيا في بلدوين (وسط الصومال)، ونقلته لاحقا إلى الشرق، فما لبث أن سافر في عام 1949 إلى بلاد الحرمين والتقى كبار العلماء في الحرمين، ثم توجه إلى مصر عام 1955، والتحق بالأزهر وانضم إلى جماعة أنصار السنة، ثم افتتح مكتبا لها في الصومال. وانخرط في الحكومة الصومالية، وأصبح مديرا للشؤون الدينية بوزارة العدل، ولكنه سُجن إثر قيام ثورة سياد بري عام 1969، ثم انتقل إلى كينيا ومن ثم إلى أوغندا حيث واصل دعوته في معهد بلال الإسلامي في جينجا، ومعهد كُساووني في مومباسا، وتخرج على يديه العديد من "الدعاة".
- حسن طاهر أويس (مذكرات)، أمير المجاهدين في القرن الإفريقي، الحزب الإسلامي، مقديشو، عام 2010، ص 31.
- عبد الرحمن معلم عبد الله (باديو)، تاريخ الحركة الإسلامية في الصومال، إسطنبول، خواطر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2022، ص 374.
- حسن محمد إبراهيم، الاتجاه السلفي ومستقبله في الصومال، مركز الجزيرة للدراسات، 5 سبتمبر/أيلول 2013، (تاريخ الدخول: 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، https://cutt.us/HFdpK
- في العام 1996 خاض الاتحاد الإسلامي معارك شرسة ضد القوات الإثيوبية التي اجتاحت الأقاليم الجنوبية من الصومال، خاصة إقليم جدو، وبعد مواجهات عنيفة خسر الاتحاد المعركة، ولم يصمد طويلا أمام القوات الإثيوبية، فلجأ إلى حرب العصابات لفترة قصيرة، وسرعان ما تفكك مع اشتداد المعارك ضده، وخسر العديد من عناصره نتيجة انخراطه في حرب غير متكافئة.
- مقابلة مع الدكتور شيخ بشير صلاد أحمد، رئيس رابطة علماء الصومال، ورئيس جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة (التيار السلفي في الصومال)، فندق الجزيرة، مقديشو، أكتوبر/تشرين الأول 2023.
- محمد الأمين محمد الهادي، الإسلاميون في الصومال.. النشأة والتطور، الشاهد الدوري، العدد الأول، السنة الأولى، يناير/كانون الثاني 2020، ص 15.
- مرجع سابق، عبد الرحمن معلم عبد الله (باديو)، تاريخ الحركة الإسلامية في الصومال، ص 508.
- أنور أحمد ميو، الحركات الإسلامية الصومالية.. مراحل النشأة والتطور، مطبعة صوم برنت، مقديشو، 2017، ص 113.
- استراتيجية مكافحة التمرد والإرهاب في الصومال، تقييم الحملة ضد حركة الشباب، مؤسسة رندا، كاليفورنيا، 2016، (تاريخ الدخول: 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، https://cutt.us/S3Wrl
- شافعي محمد، خارطة الحركات الإسلامية في الصومال، إخوان أون لاين، 19 مايو/حزيران 2009، (تاريخ الدخول: 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، https://cutt.us/nRfdn
- تأسس تنظيم أهل السنة والجماعة عام 2008 كرد فعل طبيعي ضد استهدافات حركة الشباب لمقابر الصوفية وأضرحتها ومنع مزاولة نشاطها في مناطق متفرقة من البلاد، وتمكنت الطريقة من إلحاق هزيمة عسكرية نكراء بحركة الشباب وسط البلاد في أكثر من معركة. ونتيجة لنفوذ الصوفية في النظام الفيدرالي، أعلنت قيادات تنظيم أهل السنة الحرب على الجيش الصومالي عام 2021، وانتهت تلك المواجهات بتفكيك التنظيم عسكرياً ودمج مسلحيه في القوات المحلية بإقليم جلمدغ وسط البلاد.
- سالم سعيد الحضرمي، المشهد الصوفي في الصومال.. الصلة بالسلفية وانحسار الدور، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 25 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2023).
- أنور ميو، دور التيار الإسلامي في الانتخابات الصومالية.. آل شيخ والاعتصام نموذجا، مركز الصومال للدراسات، 9 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 15 ديسمبر/كانون الأول 2023)، https://cutt.us/dq1a4
- مرجع سابق، مقابلة مع الدكتور شيخ بشير صلاد أحمد.
- أميرة محمد عبد الحليم، حركة الشباب الصومالية والتحديات، التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، 24 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 9 سبتمبر/أيلول 2024)، https://imctc.org/ar/eLibrary/Articles/Pages/Articles2342020.aspx
- توسُّع "داعش" في ولاية بونتلاند: جولة جديدة من الاقتتال "الجهادي" في الصومال، مركز الإمارات للسياسات، 22 مايو/أيار 2024، (تاريخ الدخول: 10 سبتمبر/أيلول 2024)، https://epc.ae/ar/details/featured/twssue-daeysh-fi-wilayat-puntland-ja…
- كيف يتعاطى الصومال مع معلومات استخباراتية عن تمدد "داعش"؟ إندبندنت عربية، 22 يونيو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 21 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://bit.ly/3YvhaKn
- The Islamic State in Somalia: Responding to an Evolving Threat, crisis group, 12 September 2024, (visited on: 15 September 2024), https://bit.ly/3C1JMC4