هاريس وترامب: تزاحم انتخابي وسط اضطراب تاريخي

تتقارب حظوظ هاريس وترامب في استطلاعات الرأي، للدلالة على حدة الاستقطاب بين الكتلتين الناخبتين الرئيسيتين، واستمرار هذا الاتجاه الكبير، الذي سيظل يشد النظام السياسي الأميركي بين الاتجاه نحو إجراء إصلاحات تقضي على عوامل السخط أو الانجرار إلى نزاع وطني كبير شبيه بالنزاعات الداخلية، التي فتكت بالولايات المتحدة من قبل.
3 نوفمبر 2024
هاريس وترامب يتدافعان بشدة على البيت الأبيض [Alex Brandon/AP Photo]

عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، تشير استطلاعات الرأي إلى تقارب المتنافسين، هاريس وترامب، على المستوى الوطني، يرجح بعضها تقدم كامالا هاريس بنقطة أو نقطتين أو يرجح غيرها تقدم دونالد ترامب بنقطة أو نقطتين، تضبط هذه النتائج بالنسبة التي حصل عليها ترامب فعليًّا في انتخابات 2016 و2020 وقد كانت 47%من الأصوات على المستوى الوطني. لكن التدافع بينهما متباين في الولايات الحاسمة. تتقدم هاريس في الولايات المهمة لفوز الديمقراطيين: ميتشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن، نتيجة الزخم الذي أحدثه ترشحها، بما في ذلك فئة الناخبين البيض المستقلين الذين كانوا يدعمون ترامب في هذه الولايات المسماة الجدار الأزرق لأنها تعد بمنزلة دعامة تقليدية منذ ثمانينات القرن الماضي للديمقراطيين الذين يجعلون من اللون الأزرق شعارًا لهم. لا يتجاوز ترامب في هذه الولايات المفصلية 48% من الأصوات(1).

حققت هاريس هذا الزخم لأنها تعطي انطباعًا بالتغيير إلى الأحسن، لكن في المقابل يعطي ترامب انطباعًا بميله الواضح نحو الاستمرارية، وتخشى نسبة كبيرة في الولايات المتأرجحة من أضرار توليه عهدة رئاسية جديدة.

توجد تشابهات عديدة وبعض التباينات بين هذه الصورة الانتخابية وصورة الانتخابات الرئاسية في 2020 بين جو بايدن ودونالد ترامب. كان حينها بايدن تقدم على ترامب في التصويت الشعبي بفارق نحو 4.5 نقطة بين النسبتين المتحصل عليهما من المتنافسين. هذا بخلاف الفارق الأقل الذي تتقدم به هاريس حاليًّا، في بعض الاستطلاعات، على المستوى الوطني الذي يدور حول 1-2 في المتوسط. كذلك تتمتع هاريس بتقدم لكنه طفيف في الولايات الحرجة أو المرجِّحة التي فاز بها أيضًا بايدن.

تبيِّن المقارنة أن الفارق صار أضيق بين المتنافسين، الديمقراطي والجمهوري، على المستوى الوطني وفي الولايات المرجحة، وذلك يدل على أن الاستقطاب بين الجهتين صار أشد، وأن سنوات بايدن لم تعالج الأسباب العميقة التي جعلت نصف الكتلة الناخبة الأميركية تقريبًا تستمر في الالتفاف حول ترامب، وترى في خطابه الشعبوي المناهض للمؤسسات السياسية وللقواعد الديمقراطية والليبرالية حلًّا لمشاكلهم. تدل كذلك هذه النتائج المتقاربة على أن موقف المترشحين من الحرب في غزة لم يُحدث فرقًا معتبرًا في الناخبين، للدلالة على أن قضية غزة لم يكن لها تأثير كبير، أو لأن المترشحيْن، هاريس وترامب، لا يختلفان كثيرًا في التسابق لدعم إسرائيل.

مشهد انتخابي ضبابي

تظل استطلاعات الرأي مؤشرًا فقط على الوجهة الحالية لحظوظ المترشحين ولمزاج الفئات المستطلعة، لكن التجارب السابقة تدل على أن الاستطلاعات ليس لها قيمة مؤكدة في توقع النتائج، لأنها تعاني من نقصين، فهي تغفل تمثيل فئات ناخبة مثل إغفالها، في 2016، إعطاء الوزن الحقيقي في استطلاعات الرأي للناخب الأبيض الذي لم يتحصل على شهادة جامعية، وهم يوجدون بكثرة في المناطق الريفية بالولايات الحرجة كبنسلفانيا وميتشيغان وويسكونسن، ولكن حين بدأ التصويت الحقيقي، نهضت هذه الفئات بكثافة للتصويت لترامب، وأسهمت في فوزه. أما النقيصة الثانية، فهي إغفال استطلاعات الرأي عوامل مخفية عن الاستطلاعات مثل حماسة فئات معينة للإقبال على الانتخاب على موضوعات لم تحظ بالاعتبار الكافي في استطلاعات الرأي، مثل خطأ استطلاعات الرأي في توقع فوز الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في 2022، لأنها ركزت على موضوع استياء الناخبين من الارتفاع العام للأسعار، لكنها استهانت برفض عدد واسع من النساء والشباب لإلغاء المحكمة الدستورية الحماية الفيدرالية لحق الإجهاض، وتفويض كل ولاية لإصدار تشريع خاص بها، فنهضت هذه الفئات إلى التصويت الكثيف وأحدثت فرقًا لم تتوقعه استطلاعات الرأي في نتائج الانتخابات حال دون اكتساح الجمهوريين انتخابات التجديد النصفي(2).

تكاد الخريطة الانتخابية تحافظ على نفس السمات المتباينة، فكلاهما يستمد قوته من وعاء سكاني يكاد يظل ثابتًا، ترث هاريس دعم الناخبين الشباب والنساء والفئات غير البيضاء الأنجلو بروتستانتية (اللاتين، السود، الآسيويون)، بينما يحافظ ترامب على القاعدة الانتخابية المكونة من البيض غير الحاصلين على الشهادات الجامعية ومن كبار السن، لكن مع فارق هو نجاح هاريس في توسيع قاعدة الناخبين الشباب ذوي الأصول الإسبانية والنساء.  

تحافظ كذلك الحواضن الانتخابية للمرشحين على فروقهم في الجوانب الدينية، فحاضنة ترامب لا تزال تشتمل على فئة معتبرة من البيض البروتستانت الذين يولون أهمية لدمج القيم المسيحية في تدابير الحكومة، بخلاف الحاضنة الديمقراطية التي تتمسك بفصل الأخلاق عن الدين والكنيسة عن الدولة. يؤدي هذا التمايز إلى خلاف الطرفين على حقوق المثليين، وبنية العائلة، وأدوار الجنسين.

هناك أيضًا اتجاه آخر مستمر يميز بين الطرفين حول الاقتصاد والعولمة، فخطاب هاريس يروج لسياسات الانفتاح الاقتصادي والسوق العالمية التي تخدم سكان المرافئ والحواضر الكبرى، بينما يعبِّر خطاب ترامب المناهض لهذه السياسات والداعي إلى فرض الحواجز الحمائية عن استياء الفئات الصناعية والمزارعين المتضررين من انفتاح السوق الأميركية على المنتوجات الخارجية. يوظف ترامب مشاعر الاستياء ليحرض هذه الفئات على المؤسسات السياسية، ويتهمها بالتفريط في مصالح البلاد والأميركيين. علاوة على أن هذه الفئات، مثل المزارعين والصناعيين توجد غالبًا في المناطق المحافظة التي تتمسك بالقيم الدينية والتقليدية، فيتغذى شعور الاستياء من أوضاعها الاقتصادية مع شعور الاستياء من انتهاك قيمها وتقاليدها. وقد نجح ترامب في التركيب بين الجانبين ليشكِّل منهما قاعدة ناخبة متماسكة ظلت تدعمه منذ 2016.

يزيد من الارتياب في استشراف نتائج الانتخابات أن الاستطلاعات قد تكون صائبة في معرفة الفائز على المستوى الوطني، كما وقع في تقديرها فوز هيلاري كلينتون التي تقدمت على ترامب في التصويت الوطني الشعبي بنحو 2.9 مليون صوت، لكنها خسرت الانتخابات لأن المجمع الانتخابي صوَّت بالأغلبية لترامب. وهذا المجمع هو هيئة مكونة من 538 عضوًا يتوزعون على الولايات بنفس عدد ممثليها في الكونغرس (شيوخ ونواب)، وتختار هيئات المترشحين للرئاسة هؤلاء الممثلين للولاية في المجمع الانتخابي من الشخصيات المعروفة بولائها وبإسهاماتها في دعم المرشح للفوز. وإذا فاز المرشح للرئاسة بأغلبية نسبية من أصوات المجمع الانتخابي يفوز برئاسة البلاد. 

لذلك، تقتضي دقة التقدير مراعاة دور هذا المجمع الانتخابي في النتائج النهائية؛ لأنها منظومة تعيد تطويع التصويت الشعبي، ليتوافق مع وزن كل ولاية في المجمع الانتخابي؛ وذلك أن النظام الانتخابي على مستوى الولايات يعطي جميع المقاعد في المجمع الانتخابي للمترشح الرئاسي الفائز في الولايات، فإذا فاز ترامب بفارق ضئيل على هاريس في ولاية بنسلفانيا مثلًا، فإن كامل ممثلي هذه الولايات في المجمع الانتخابي الذين يبلغ عددهم عدد ممثلي هذه الولاية في الكونغرس يكونون تابعين لترامب، ولا يعتد بالأصوات التي فازت بها هاريس، وهذا تفسير فوز كلينتون بالتصويت الشعبي وخسارتها تصويت المجمع الانتخابي.

يزيد من ضبابية المشهد أن هذه الولايات المتأرجحة التي تأخذ حجمًا انتخابيًّا في المجمع الانتخابي يفوق حجم التصويت الشعبي للمترشحين، ليست ثابتة بل تشهد تزايدًا وتناقصًا في عددها حسب التحول الديمغرافي فيها والتوجه السياسي، فهي عادة ولايات أريزونا وجورجيا وميتشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن، أضيف إليها مؤخرًا نيفادا ونورث كارولينا لأن التحولات بداخلها جعلت السباق محتدمًا ومتقاربًا. وفي المقابل، خرجت ولاية أيوا وأوهايو من مجموعة الولايات المتأرجحة لأن التغييرات بداخلها جعلت التوجه الجمهوري غالبًا على سلوكها الانتخابي. يمثل هذه الولايات المتأرجحة 94 عضوًا في المجمع الانتخابي، بنسبة 17% من المجموع الكلي للأعضاء، لكن نسبة تأثيرها في نتائج الانتخابات ستكون هائلة، لأن الفارق البسيط في الفوز في ولاية منها يمنح جميع الأصوات للفائز، فيحصل بفارق بسيط في الأصوات على مكسب استثنائي. في انتخابات 2020، فاز بايدن بفارق 1% في بنسلفانيا وأريزونا وجورجيا لكنه حصل على جميع أصواتها في المجمع الانتخابي.

يجدر التنويه إلى أن إعلان بعض القيادات المسلمة في فيرجينيا دعم ترامب لم يغير مؤشرات السلوك الانتخابي في هذه الولاية، فلقد أبان استطلاع للرأي نشرت نتائجه رويترز، في 30 أكتوبر/تشرين الأول، أن هاريس تتقدم على ترامب بنحو 48% مقابل 43%(3).

يستخرج من استطلاعات الرأي والمطابقة بين الحواضن الانتخابية للمعسكرين، الديمقراطي والجمهوري، في 2020 و2024، والارتياب في تصويت المجمع الانتخابي، أن حالة عدم اليقين في نتائج الانتخابات لا تزال قائمة، وأن حظوظ المرشحين متقاربة لأن الاستقطاب لا يزال على أشده. لذلك، يقتضي هذا الموقف الداكن الاستعانة بأدوات أخرى، تستعمل أدوات قياس أخرى لتساعد على رؤية القوى المتحكمة في نتائج الانتخابات، وتفرق بين المؤشرات المؤثرة والضجيج الزائل.

مفاتيح هاريس الثمانية

يمتلك الخبير آلن ليشتمان أداة أثبتت قدرتها على توقع نتائج الانتخابات الأميركية منذ 1984، بما فيها انتخابات 2016 التي فاز بها ترامب، بينما أخطأت الغالبية العظمى من أدوات القياس الانتخابي في توقع نتائجها.

استعان ليشتمان بنموذج كيليس بوروك للتعرف على نمط الزلازل في بناء نموذجه، واعتبر الرئيس الحاكم وحزبه هما حالة الاستقرار، وإزاحتهما هي حالة عدم الاستقرار، وحالة الاستقرار والاضطراب هي حالات الزلازل، وانكب ليشتمان يفحص التاريخ الانتخابي الأميركي ليستخرج العوامل البنيوية التي تحكم الاستقرار وحساب الحد الذي يعقبه الاضطراب أو فقدان الحزب الحاكم البيت الأبيض. وقد خلص إلى وجود 13 عاملًا (سماها مفاتيح) تتحكم في تولي البيت الأبيض، وهي، أولًا: فوز الحزب الحاكم بانتخابات التجديد النصفي. ثانيًا: هل واجه مترشح الحزب الحاكم منافسة في الترشيحات التمهيدية قبل اتفاق الحزب على ترشيحه لمنصب الرئاسة؟ ثالثًا: هل الرئيس هو المترشح لعهدة جديدة؟ رابعًا: هل يوجد مترشح ثالث قوي علاوة على المترشحيْن، الديمقراطي والجمهوري. خامسًا: هل يعاني الاقتصاد من ركود خلال السنة الانتخابية؟ سادسًا: هل الدخل الحقيقي للفرد (بعد انتزاع نسبة التضخم) مشابه أو أفضل من الدخل في آخر عهدتين رئاسيتين؟ سابعًا: هل أجرت الرئاسة الراهنة تدابير سياسية مهمة؟ ثامنًا: هل يعاني البلد خلال عهدة الحزب الحاكم من اضطرابات اجتماعية كبرى؟ تاسعًا: هل يواجه الرئيس القائم فضائح لطخت سمعته؟ عاشرًا: هل حقق الرئيس القائم إنجازات خارجية وعسكرية معتبرة؟ أحد عشر: هل عانى الرئيس القائم من إخفاقات خارجية أو عسكرية كبيرة؟ اثنا عشر: هل الرئيس القائم ذو مهابة أو بطل وطني؟ ثلاث عشرة: هل المترشح المنافس للرئيس القائم ذو مهابة أو بطل وطني؟ ووجد ليشتمان أن حصول الحزب الحاكم والرئيس القائم على ستة مفاتيح تضمن فوزه بالرئاسة.

طبَّق ليشتمان هذا النموذج على انتخابات 2024، وخلص إلى أن مرشحة الحزب الديمقراطي، هاريس، تمتلك ثمانية مفاتيح، تضمن فوزها بالانتخابات الرئاسية. وهذه المفاتيح هي: أولًا: لم تواجه منازعة في ترشيح الحزب الديمقراطي لها. ثانيًا: انعدام مرشح ثالث قوي من جهة أخرى غير الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ثالثًا: لم تتعرض هاريس أو حزبها لفضائح تشوه سمعتهما. رابعًا: استفادت هاريس من التحسينات الاجتماعية التي دبرها بايدن، مثل توسيع الرعاية الصحية ضمن مخطط الإنقاذ الأميركي، ومساعدة الطلبة في ديون الدراسة، ومنح الدعم للعائلات ذات الأبناء. خامسًا: لم يشهد الاقتصاد خلال السنة الانتخابية ركودًا. سادسًا: ظل الدخل الفردي الصافي معادلًا للدخل الفردي الصافي في آخر عهدتين رئاسيتين. سابعًا: لم تقع اضطرابات اجتماعية كبرى. ثامنًا: استفادت هاريس من نجاح بايدن في بناء تحالف داعم لأوكرانيا لصد الاحتلال الروسي. وبذلك، تعدت هاريس الحد الأدنى المطلوب للمفاتيح التي تضمن لها الفوز، وهي ستة مفاتيح، وحصلت على مفتاحين إضافيين حسب نموذج ليشتمان، فرجحت أكثر حظوظ توليها رئاسة الولايات المتحدة(4).

أصول الاستقطاب العميقة

يؤشر استمرار الاستقطاب في الكتل الناخبة إلى عوامل بنيوية تضغط على المؤسسات السياسية التي نشأت من أجل تغليب المصالح المشتركة والروابط الجامعة على المصالح الفئوية والنزاعات الجزئية، وبرزت هذه العوامل نتيجة التغيرات التي تشهدها الولايات المتحدة.

تذهب بعض التحليلات إلى أن هذا الاستقطاب عائد إلى تزايد عدد النخب المتعلمة والمرفهة مقارنة بالمناصب المتوافرة، فلقد فاق مثلا عدد حاملي شهادات القانون المناصب المتوافرة لهم بثلاث مرات. تستاء هذه النخب لأنها لم تستطع النفوذ إلى مناصب السلطة، فتسعى إلى تغيير الوضع القائم حتى تجد مواقع لها في وضع جديد. وتتبنى لأجل ذلك خطابًا يطالب بالتغيير الجذري وليس الإصلاح، ويعتمد على الطعن في المؤسسات القائمة، واتهامها بالفشل والفساد. إضافة كذلك، إلى عامل التفاوت في الدخل بين الطبقات في الولايات المتحدة، وقد بات تركيز الثروة هائلًا، فقد كتب جوزيف ستيغليتز الحاصل على نوبل للاقتصاد في ذلك: "من أجل 1% وعلى يد 1% ولصالح 1%" ليصف تركز الثروة في أياد قليلة بالولايات المتحدة، وفصَّل بأن 1% يحصلون على 25% من الدخل السنوي في البلد ويمتلكون 40 من الثروة الإجمالية (ممتلكات)، وتردى دخل الفئات الشعبية؛ لأنه وقع فصل بين الإنتاجية والرواتب، فلقد ارتفعت الإنتاجية بنحو 74% من سنة 1973-2013 لكن الرواتب لم تتقدم إلا بنحو 9.2%. وقد أثار ذلك استياء هذه الفئات الشعبية، فألقت باللوم على المؤسسات السياسية القائمة التي أخفقت في رأيها في رعايتها، بل ساعدت في إفقارها وإثراء هذه القلة.

يذهب رأي آخر إلى أن عامل العولمة أساسي في تفسير هذه التحولات البنيوية في الولايات المتحدة، فيرى أن العولمة نفعت السكان الحضريين المتعلمين، بينما أضرَّت بالفئات الزراعية والطبقة العاملة. هذا التمايز بين الفئتين تحول إلى نزاع ثقافي وأيديولوجي، فناصرت الفئات المتضررة الزعماء الشعبويين الذي يهاجمون المؤسسات القائمة لأنها تنفذ هذه السياسات التي أضرت بهم. ويؤكد هذا التحليل أن خريطة انتخابات 2020 تؤكد ذلك في اتجاهات الكتل الانتخابية، فلقد انتخب بايدن آنذاك الفئةُ الأولى، بينما انتخبت ترامب الفئة الثانية.

يضيف فرانسيس فوكوياما عاملًا أحدث هذا الاستقطاب، فشرح أن مصادر الهوية التقليدية مثل القومية والدين والوطنية، باتت ضعيفة وبرزت مصادر جديدة، هي العنصر والجنس والأيديولوجيا. هذا التباين يشكِّل فئات متعارضة، روابطها ضعيفة. يفسر هذا التحول بالعولمة التي مزقت البنى التقليدية للإنتاج والتوزيع، والتكنولوجيا التي دعمت هذا الاتجاه وأضعفت تحكم المؤسسات التقليدية كالعائلة في الحفاظ على القيم التقليدية. تغذَّى ذلك، من تغير حدث في الستينات من القرن الماضي سماه فوكوياما اللفة العلاجية، وهي تحول ثقافي نحو الصحة الشعورية، ممثلة بالتقدير الذاتي والتمايز الفردي والكرامة والاعتراف بالتمايزات الفردية مثل الميول الجنسية. وقد مزق هذا التحول الثقافي الروابط المشتركة مثل التساوي في الفرص أو الإنصاف الاقتصادي الذي كان سائدًا من قبل. وتجد أجندة هذا الاتجاه مكانة مهمة في الحزب الديمقراطي. لكن حاضنة الحزب الجمهوري في المناطق المحافظة تصاب بالفزع منها لأنها تهديد للقيم التقليدية الأميركية، وتعتبرها برنامجًا للانحطاط والتفسخ، ويتطلعون إلى زعيم شعبوي يتعهد بتخليصهم من هذه التهديدات القيمية، ويعيد الفردوس الأميركي المفقود(5).

تعد وسائل التواصل الاجتماعي عاملًا بنيويًّا في إحداث الاستقطاب الحاد بالولايات المتحدة؛ لأن هذه الوسائط تشجع المتشابهين في الرؤى على التواصل، وتعزيز معتقدات بعضهم بعضًا، وصد الباب في وجه الرؤى المخالفة لهم، فتتشكل قبائل رقمية مغلقة على معتقداتها وأفكارها. كذلك، فإن برمجيات هذه الوسائط تشجع على بروز المضامين المثيرة والمتطرفة، فتتشكل منتديات مغلقة للمزايدة في الإثارة والمبالغة في التأكيدات والأوصاف. كذلك، توفر هذه الوسائط للقيادات السياسية منصات للتواصل دون وجود أطراف تحقق معها أو تطلب منه إثباتات، أو تخفف من مبالغاتها، فتطلق تصريحات على هذه الوسائط تؤجج مخاوف جمهورها وتزيد من هلعهم على وظائفهم ومكانتهم ومستقبل عائلاتهم وأمنهم وأمن بلدهم، دون وجود أحد يرد عليها أو يفند ادعاءاتها. هذه الحال لم تكن موجودة في وسائل الاتصال التقليدية مثل التليفزيون والإذاعة التي كانت تراعي نسبيًّا التحقق من الادعاءات وتقديم وجهات نظر مخالفة، وتحرص على التوازن في خطابها ليلقى القبول من مختلف فئات الجمهور، فتتفادى هذه الوسائل الميل الكامل لفئة فتخسر فئة أخرى، فتراعيها جميعًا حتى توسع قاعدة المشاهدة أو الاستماع، فتحصل على عقود إشهارية أكبر.

دورة الاستقطاب

ليست هذه المرة الأولى التي تعاني فيها الولايات المتحدة من الاستقطاب، وصعود الموجة الشعبوية، بل شهدت حالات مماثلة كلما كانت الأوضاع الاقتصادية صعبة، وتفاقم التفاوت في الثروة، ووقع تحول ثقافي في نظرة الأميركيين لأنفسهم، فيلقى حينها التذمر من النخبة القائدة صدى في آذان فئات واسعة من الجماهير، ويبرز قائد شعبوي يتعهد بحماية الأميركيين من المهاجرين الذي يأخذون وظائفهم ويخالفون عاداتهم وثقافتهم، وحماية أرزاقهم بتطبيق سياسات حمائية تبني حواجز جمركية في وجه البضائع الأجنبية الرخيصة التي تقضي على الصناعات المحلية، وتطهير المؤسسات من النخبة الفاسدة والعاجزة.

فلقد شهدت الولايات المتحدة موجة شعبوية أعقبت الأزمة المالية في 1873، فظهرت حركة عودة الخضر والأحزاب الشعبوية، فبرز مثلًا الزعيم الشعبوي، دونيس كارني، الذي شن حملة على المهاجرين الصينيين والنخبة القائمة، فمهَّد لإصدار قرار إقصاء الصينيين في 1882. تلت بعد ذلك موجة شعبوية أعقبت الكساد الكبير عقب الأزمة المالية في 1930، فبرز هيو لونغ من ولاية لويزيانا، ودعا إلى تقاسم الثروة، وانتقد تركز الثروة، وحرض الطبقة العاملة الأميركية على النخبة الحاكمة. ثم جاءت حركة حزب الشاي التي أعقبت الأزمة المالية في 2008، واتصف هذا الحزب بالمحافظة على التقاليد الاجتماعية ومناهضة المؤسسات الحكومية، وقد استغل موضوع تمويل الحكومة الفيدرالية للمصاريف العامة، ورافع من أجل تقليص دور المؤسسات الحكومية. وقد استفاد ترامب بعد ذلك من قاعدة هذه الحركة ووسعها لفئات أخرى، فجمع بين الوطنية الاقتصادية التي تعطي الأولوية للسوق الأميركية والمشاعر المناوئة للمؤسسات القائمة.

نجحت المؤسسات الأميركية في تطويع كل موجة شعبوية بتبني بعض الإصلاحات التي تعالج القضايا التي تثير الاستياء. مثلًا، في الموجة الشعبوية بنهاية القرن 19، أدخلت المؤسسات السياسية القائمة تدابير تحمي العمال وتكبح القوى الاحتكارية. أما في الموجة الشعبوية في ثلاثينات القرن الماضي، فلقد اعتمد الرئيس روزفلت برنامج الصفقة الجديدة الذي يعزز دور المؤسسات الفيدرالية في حماية الأمن الاقتصادي والرفاه، وتمهيد السبيل للتقدم الاجتماعي بتشجيع صعود الفئات الأميركية المحرومة سلم الترقي الاجتماعي. قد تلجأ كذلك هذه المرة المؤسسات الأميركية إلى تدابير اقتصادية واجتماعية في المقام الأول، تحسِّن الوضع الاقتصادي للأميركيين وتصحح الحراك الاجتماعي، وتخفف تركز الثروة، لكن قد لا تكفي هذه الإصلاحات لأن وضع الولايات المتحدة يختلف عن كل الأوضاع السابقة.

تراجعت الولايات المتحدة في قياس الثروة بين دول العالم لأن قوى أخرى ناهضة مثل البرازيل أو متعافية مثل الصين والهند صارت أكثر تنافسية من الولايات المتحدة، فباتت بضائعها أرخص وأفضل، فاستولت على أسواق كانت ضمن حصة الولايات المتحدة، بل إن الولايات المتحدة نفسها باتت سوقًا لمنتجات هذه القوى الاقتصادية. كذلك صارت هذه القوى مصنع العالم لأنها توفر بيئة جاذبة لرؤوس الأموال، توصف بالعمالة الماهرة والتكلفة المنخفضة والنفوذة إلى المواد الأولية، فجذبت إليها المستثمرين الأميركيين الذي يجدونها أفضل من البيئة الاستثمارية في الولايات المتحدة، فارتحلت مصانع كثيرة من الولايات المتحدة إلى هذه الدول الجاذبة. هذا الوضح جعل القيادة الأميركية بين خيارين: التمسك بالانفتاح على السوق الدولية فيستمر هذا الاتجاه الضار بالولايات المتحدة، أو اللجوء إلى الحماية الاقتصادية بفرض حواجز جمركية عالية، لكن هذا الخيار لا يؤدي بالضرورة إلى عودة الحيوية للاقتصاد الأميركي.

تشهد كذلك الولايات المتحدة، تغيرًا في تكوينها السكاني، فلقد تناقص عدد البيض الأنجلوبروتستانت من 83% في 1970 إلى 58% من السكان وتشير التقديرات إلى انخفاضهم إلى 50% في 2045. وقد بات السكان من أصول إسبانية (لاتينية) يشكلون شرائح كبيرة في الولايات المتحدة، وحصلوا على مستوى تعليمي معتبر، وترقوا في سلم الثروة والنفوذ، وباتوا جزءًا مهمًّا في المؤسسات القيادية وفي القاعدة الناخبة، خاصة في المعسكر الديمقراطي. مثلًا باتوا أكثرية في ولاية كاليفورنيا التي تعد قاطرة الولايات المتحدة في الإنتاج الثقافي والريادة في الأعمال(6). ويتركز هؤلاء في الجنوب الغربي للولايات المتحدة (كاليفورنيا، وتكساس). وقد حمل هؤلاء معهم قيمًا وثقافات مختلفة عن القيم السائدة من قبلُ في الولايات المتحدة. ويتعذر في هذا السياق أن تصدر مثلًا تدابير قانونية تقصي هذه الفئات كما حدث من قبل في إقصاء الصينيين. سيترسخ هذا الاتجاه، فتقل نسبة الأميركيين البيض الأنجلوبروتستانت ضمن سكان الولايات المتحدة، وتنتشر لغات غير الإنكليزية مثل اللغة الإسبانية لكثرة الأميركيين من أصول إسبانية، فيشعر هؤلاء الأميركيون البيض الأنجلوبروتستانت بأن ما يعتبرونها بلادهم التي ورثوها عن أجدادهم تضيع منهم، ويستولي عليها غيرهم بالطرق القانونية والانتخابية، فيستاؤون من النظام الديمقراطي لأنه يخذلهم، ويلتفون حول القائد الشعبوي الذي يتعهد بالحد من دخول هؤلاء المهاجرين الذي يستولون على أميركا بطرق قانونية.

بين الحرب الأهلية والتدابير التقدمية

من كل ذلك، لم يعد الأميركيون يثقون في اقتصاد السوق المفتوح الذي اغتنوا في السابق منه، لأنه بات حاليًّا يسلب منهم وظائفهم، ويأخذها إلى دول أخرى استعملت نفس نظام السوق لتأخذ حصص الولايات المتحدة. ولم يعد الأميركيون البيض الأنجلوبروتستانت يثقون أيضًا في النظام الديمقراطي الذي يستعمله المهاجرون من أصول مختلفة عنهم لتولي قيادة البلد والانتفاع بها، وانطلقوا وراء ترامب الذي يتعهد لهم بوقف دخول هؤلاء اللاجئين وتغيير النظام السياسي الذي يتيح لهؤلاء الاستيلاء على مقادير البلد.

لم يسبق أن شهدت الولايات المتحدة هذا التحول، بل كانت الموجات الشعبوية السابقة تحدث كلها، والأميركيون البيض مطمئنون على تحكمهم في البلد، بخلاف هذه المرة التي يشعرون فيها أنهم باتوا أقلية فيما يعتبرونها بلدهم.

يتوقع تورشان ان تندلع حرب أهلية في الولايات المتحدة، واعتمد في توقعه على نمط تاريخي، هو الحرب الأهلية الأميركية والثورة الفرنسية، وحسب أن الأوضاع الحالية في الولايات المتحدة شبيهة بالأحوال التي سبقت هذه الحروب الأهلية، ونبه إلى أن العشرية الجارية بين 2020-2030 خطيرة جدًّا بناء على نمط تاريخي دائري، يكشف أن كل 50 سنة تعاني الولايات المتحدة من اضطراب شديد وأزمات حادة، مثل 1870 أثناء الحرب الأهلية، و1920 أثناء الحرب العالمية الأولى والاحتجاجات العمالية، و1970 أثناء حركة الحقوق المدنية والتظاهرات المناهضة للحرب في فيتنام(7).

يرجِّح نيال فيرغسون من جانبه، أن تؤدي هذه الموجة الشعبوية إلى إصلاحات تقدمية في المجال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، قياسًا على الموجات الشعبوية السابقة، في القرنين، التاسع عشر والعشرين، التي انتهت كلها بإحداث تغييرات في التدابير تكون تقدمية لتمتص موجة الاستياء وتعيد الاستقرار(8)

سيكون السؤال الذي يحدد أفق الجولات الانتخابية القادمة: هل سيظل الأميركيون البيض الأنجلوبروتسانت يسلِّمون بنتائج الانتخابات حتى لو أدت إلى تسليم مقاليد البلد بالكامل لفئات تختلف في ملامحها وفي ذاكرتها وقيمها وثقافتها عن الأجيال المنحدرة من المستعمرين البيض للولايات الأميركية؟

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- Robert de Neufville, Why I'm Betting Trump Will Lose, Telling the Future, Nov 01, 2024

https://tellingthefuture.substack.com/p/why-im-betting-trump-will-lose

2- Edward Yu, Nassim Taleb calls Nate Silver totally clueless about probability: who is right about election forecasting?, 11 Oct 2020.

https://quant.am/statistics/2020/10/11/taleb-silver-feud/

3-  Reuters, CNN poll shows Harris up in Wisconsin and Michigan, tied with Trump in Pennsylvania,

October 30, 2024

https://www.reuters.com/world/us/cnn-poll-shows-harris-up-wisconsin-michigan-tied-with-trump-pennsylvania-2024-10-30/?utm_source=chatgpt.com

4- Karissa Waddick, Allan Lichtman vs. Nate Silver: Who will accurately predict the 2024 election?, USA TODAY, Nov 3, 2024.

https://www.usatoday.com/story/news/politics/elections/2024/11/03/allan-lichtman-nate-silver-election/75993624007/

5- Online, Interview: Marcus Gatzke und Rieke Havertz, Francis Fukuyama:"There is no American identity anymore", Zeit 25. Mai 2021.

https://www.zeit.de/politik/ausland/2021-05/francis-fukuyama-usa-donald-trump-democracy-republicans

6- James A. Nuechterlein, Who Are We? by Samuel P. Huntington, Commentary, May 2004.

https://www.commentary.org/articles/james-nuechterlein/who-are-we-by-sa…

7- Henry Mance, Forecaster Peter Turchin: ‘The US is in a much more perilous state than Russia’

Academic’s models predicted 2020 instability. Was it just luck? Financial Times, March 11 2024

 

https://www.ft.com/content/39084b44-ad8a-4954-a610-82edee9a377d

8-  Niall Ferguson,Progressives Are Beating Populists Yet Again, But Don’t Celebrate, Bloomberg, January 15, 2023.

https://www.bloomberg.com/opinion/articles/2023-01-15/progressives-beat-populists-again-but-don-t-celebrate-niall-ferguson?embedded-checkout=true