الحكومة والعهد الجديد في مواجهة التحديات الاقتصادية في لبنان

لا يستطيع لبنان التعافي المالي والاقتصادي والنقدي ولا حتى البدء بإعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية الأخيرة، دون مساعدة المجتمع الدولي والدول الصديقة، وهذا منوط بتوجهات الحكومة وقدرتها على تنفيذ الشروط المطلوبة لنيل هذا الدعم، وستواجه صعوبة في تحقيق بعضها خاصة فيما يتعلق بسلاح حزب الله.
الطريقة التي جاء بها انتخاب عون رئيسًا للجمهورية وتشكَّلت وفقها حكومة سلام تؤشر إلى نهاية حقبة حلفاء النظام السوري السابق في لبنان (الأناضول).

مقدمة

شهدت الجمهورية اللبنانية منذ نشأتها حالة الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية 4 مرات، اثنتان منهما حدثتا بعد اتفاق الطائف الموقع في السعودية العام 1989 والذي أنهى الحرب الأهلية. مضى على الشغور الرئاسي الأخير حوالي عامين وأكثر من شهرين بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق، ميشال عون، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، في ظل أسوأ أزمة اقتصادية وانهيار مالي تعرضت لهما البلاد، ومن ثم كانت الحرب التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بين حزب الله وإسرائيل تحت عنوان حرب "إسناد غزة"، واستمرت أكثر من عام وانتهت باتفاق على وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، قد فاقمت تداعياتها من حدة التدهور الاقتصادي والمالي ومن الآثار الاجتماعية الكارثية. وزاد من حدة هذه الأزمات أيضًا الواقع السياسي الداخلي المأزوم بفعل القوى السياسية الداخلية المتناحرة، والذي أدى إلى حالة من الاستعصاء السياسي وتعطيل لمؤسسات الدولة ومواقعها الدستورية، ومنها انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة. وقد أسهم في ذلك التركيبة اللبنانية المعقدة ذات التنوع المذهبي والطائفي وارتباطها جميعها بقوى خارجية مؤثرة في القرار السياسي اللبناني؛ مما يجعل هذه الاستحقاقات الدستورية خاضعة أيضًا لتأثير الخارج. وقد جاء تغير الظرف السياسي الداخلي والخارجي لصالح انتخاب قائد الجيش، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، في 9 يناير/كانون الثاني من العام الجاري (2025)، لتبدأ مرحلة جديدة وبداية عهد جديد مع الرئيس عون سيستمر لمدة 6 سنوات. ثم أعقب ذلك بأيام قليلة، في 13 يناير/كانون الثاني، تكليف القاضي الدولي، نواف سلام، بتشكيل أول حكومة في العهد الجديد، نالت الثقة من مجلس النواب بتاريخ 26 فبراير/شباط 2025 بعد عرضها عليه البيان الوزاري، وهو عبارة عن أهداف الحكومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية.

تواجه هذه الحكومة، بتركيبتها المختلفة عن سابقاتها وبظرفها الداخلي والخارجي الذي أدى إلى ولادتها، تحديات سياسية واقتصادية ومالية كثيرة ولكن مع اختلاف في ترتيب أولوياتها. وهذا ما تسعى الورقة إلى بحثه، بالإضافة إلى التوقعات حول مآل الأزمة الاقتصادية والمالية في ظل الإدارة اللبنانية الجديدة عهدًا وحكومة.

التحديات السياسية

بعد أن أخفق مجلس النواب اللبناني في انتخاب رئيس في 12 جلسة خُصِّصت لهذه الغاية، جاء انتخاب جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، بفعل جهود متواصلة للجنة مكونة من سفراء 5 دول مؤثرة في القرار الداخلي اللبناني، وهم سفراء كل من الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، والمملكة العربية السعودية، ومصر، وقطر، والمعروفة باللجنة الخماسية. وقد تكثفت جهود اللجنة قبل أيام من موعد جلسة الانتخاب الأخيرة عبر زيارات قام بها موفدوها للضغط على القوى السياسية اللبنانية، فأثمرت هذه الضغوط انتخاب عون رئيسًا. وأفضت المشاورات النيابية، إلى تكليف نواف سلام لرئاسة الحكومة، ولم تكن اللجنة الخماسية بعيدة عن هذه النتيجة، ثم تشكلت الحكومة وقد أتت من خارج السياق التقليدي المعتاد في لبنان في تشكيل الحكومات، لكنها تتلاءم من حيث تركيبتها وخلفية معظم وزرائها، إلى حدٍّ ما، مع توجهات العهد الجديد وما تضمنه خطاب القسم الذي ألقاه جوزيف عون في مجلس النواب عقب انتخابه مباشرة. كسر نواف سلام التقليد السياسي في تشكيل الحكومات، القائم على تقاسم الحصص وحصول كل فريق سياسي على عدد من الوزراء بما يتناسب وحجم تمثيله النيابي، لكنه أخذ ذلك في الاعتبار في التمثيل الشيعي، واختار الوزراء الشيعة وفق تسمية حزب الله وحركة أمل، مراعيًا ما "تعرض" له الثنائي أمل وحزب الله في الحرب الأخيرة مع إسرائيل وحفاظًا على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. في حين تكونت الحكومة بمختلف مكوناتها الأخرى من لون سياسي متقارب، لاسيما من حيث رفضها "للنفوذ الإيراني" في لبنان ودعوتها لاحتكار الدولة السلاح؛ ما يجعلها إلى حدٍّ ما متجانسة ومتينة في مواجهة التحديات، إلا أنها تفتقر إلى الخبرة في إدارة الدولة، لأن معظم وزرائها ينحدرون من خلفيات أكاديمية بحتة. ولم يعد الثنائي، أمل وحزب الله، يمتلك الثلث المعطل للحكومة؛ فالدستور اللبناني ينص في المادة 65 على أن أكثرية الثلثين هي النصاب القانوني لانعقاد جلسة لمجلس الوزراء، وأن أي جلسة حكومية لا تؤمِّن العدد المطلوب غير قانونية(1). فالحكومة بتركيبتها الحالية تؤشر لبدء حقبة جديدة في التوجه السياسي الداخلي والخارجي، منها الالتزام بالقرارات الدولية وبعض المطالب العربية والدولية، للحصول على الدعم الذي تحتاجه لمواجهة التحديات الاقتصادية. ومن أهم هذه المطالب:  

- التنفيذ الكامل لاتفاقية وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل: يتضمن الاتفاق الخطوات التي تلتزم بها كل من إسرائيل ولبنان من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 بالكامل، بالإضافة إلى التنفيذ الكامل للقرارات السابقة لمجلس الامن منها القرار رقم 1559 الذي ينص على نزع سلاح جميع المجموعات المسلحة في لبنان وحصرها بالقوات المسلحة اللبنانية الرسمية بمختلف مسمياتها، بالاعتماد على مندرجات الاتفاق الذي ينص على: "نزع سلاح جميع المجموعات المسلحة في لبنان"، وينص البند السابع من الاتفاق: "أنه بدءًا من منطقة جنوب الليطاني، تفكيك جميع المنشآت غير المصرح بها المشارِكة في إنتاج الأسلحة والمعدات ذات الصلة، ومنع إقامة مثل هذه المنشآت في المستقبل"، ويفسرون ذلك بأنه يبدأ تنفيذ نزع السلاح والمواقع والمنشآت من جنوب الليطاني وصولًا إلى كامل الأراضي اللبنانية(2).

- تحقيق الإصلاحات المطلوبة: بهدف إعادة الانتظام العام للإدارات والمؤسسات العامة وفق أسس الدستور والقوانين والمراسيم التشريعية المنظمة لعملها، فقد عانت الدولة في السنوات الأخيرة من تحلل إداراتها العامة. وهذا فضلًا عن تفشي الفساد والمحسوبية والزبائنية على أساس طائفي أو نتيجة هيمنة أحزاب على مقدرات الدولة. 

- التعيينات الإدارية المرتقبة: وخاصة في المراكز الحساسة الأمنية والقضائية والنقدية. يأتي في مقدمها تعيين قائد للجيش اللبناني ورؤساء للأجهزة الأمنية المختلفة والذين سيقع على عاتقهم بالدرجة الأولى التنفيذ الفعلي للقرارات الدولية، وكذلك استتباب الأمن في الداخل اللبناني لبثِّ الثقة لدى الداخل اللبناني، وأيضًا لجذب الرساميل والاستثمارات الأجنبية الضرورية لعودة التعافي الاقتصادي والمالي. إضافة إلى إتمام التعيينات القضائية وبطريقة تؤكد استقلال القضاء بوصفه سلطة ثالثة توازي السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكذلك تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان وللمجلس المركزي في المصرف، وهو المسؤول عن السياسة النقدية وعن الخزينة العامة للدولة وخطة التعافي النقدي.

الأولويات الاقتصادية

هناك تحديات تواجه العهد الجديد، أي رئاسة الجمهورية، الذي يستمر لمدة 6 سنوات، وهناك أخرى تواجه الحكومة بعمرها القصير الذي لن يتجاوز العام و3 أشهر؛ فالأولويات الاقتصادية الأساسية أمام الحكومة العتيدة:

1- البدء بإعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان واستصلاح الأراضي الزراعية المتضررة: تشير التقديرات الواردة في آخر تقرير صدر عن البنك الدولي بهذا الخصوص، في 7 مارس/آذار 2025، إلى أن احتياجات إعادة الإعمار والتعافي تبلغ 11 مليار دولار أميركي. يُقدِّر التقرير أن هناك حاجة إلى تمويل بنحو 3 إلى 5 مليارات دولار أميركي من قبل القطاع العام، منها مليار دولار أميركي لقطاعات البنية التحتية (الطاقة، والخدمات البلدية والعامة، والنقل، والمياه والصرف الصحي والري). في حين سيكون هناك حاجة إلى تمويل من القطاع الخاص بنحو 6 إلى 8 مليارات دولار أميركي، يكون معظمه موجهًا إلى قطاعات الإسكان، والتجارة، والصناعة، والسياحة. وخلص التقرير إلى أن التكلفة الاقتصادية للصراع في لبنان تقدر بنحو 14 مليار دولار أميركي(3). وقد اختلفت التقديرات بالخسائر التي لحقت بالقطاع الزراعي إذ قدرها البنك الدولي بأكثر من مليار و200 مليون دولار، بينما قدرتها وزارة الزراعة بحوالي 3 مليارات دولار(4). وهي معضلة حقيقية تواجهها الحكومة لأن قدرات الدولة المالية لا تستطيع القيام بهذه المهمة دون مساعدة المجتمع الدولي وخاصة الدول الخليجية له.

2- عودة التفاوض مع صندوق النقد الدولي والالتزام بوصفاته الإصلاحية: في آخر زيارة قام بها خبراء صندوق النقد الدولي إلى لبنان، في مايو/أيار 2024، حذروا من أن عدم اتخاذ إجراءات بشأن الإصلاحات الاقتصادية الضرورية يلحق خسائر فادحة بالاقتصاد اللبناني والسكان(5). وفي 16 فبراير/شباط 2025، أبدى صندوق النقد الدولي استعداده لتقديم برنامج دعم جديد للبنان(6)، مع العلم أن اتفاقًا قد وُقِّع على مستوى الخبراء، في أبريل/نيسان 2022، لتسهيل تمويل من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار لكنه لم يتحول إلى حيز التنفيذ. يتمحور دعم صندوق النقد حول تقديم المشورة الفنية وعلى صعيد السياسات، والعمل مع المجتمع الدولي لدعم جهود الدولة في تعزيز عملية إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الإنسانية والمنح. إن صندوق النقد الدولي ليس هو خشبة الخلاص حصرًا للبنان من أزماته، ولكن أهم ما في هذه العملية هو الثقة التي يعطيها صندوق النقد للدولة اللبنانية والمالية العامة والقطاع المصرفي فيه، فيمتلك لبنان بذلك بما يشبه شهادة حسن سلوك لاقتصاده ومؤسساته في المحافل الدولية والأسواق المالية العالمية، فيتحسن تصنيف لبنان الائتماني من قبل وكالات التصنيف العالمية وتعود الثقة إلى سندات الدَّيْن الحكومية وخاصة اليوروبوندز، ويزداد الطلب عليها فتتوافر موارد مالية من الدولارات للخزينة لاسيما أن الشح في الدولارات كان السبب المباشر للأزمة والانهيار في لبنان عام 2019.

3- وضع رؤية ومقاربة لكيفية التعافي والنهوض الاقتصادي: عبر خطة واضحة المعالم تشمل معالجة قضايا أساسية سبَّبتها الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي، وبذلك ينطلق قطار التعافي والإنقاذ، وتشمل هذه الخطة:

  • هيكلة القطاع المصرفي وحل مشكلة الودائع التي يعتبرها صندوق النقد الركيزة الأساسية للتعافي الاقتصادي، وبالتالي عودة توفير الائتمان إلى الاقتصاد وتكوين ودائع جديدة تسهم في تكوين احتياطي متزايد من العملات الأجنبية وتحقيق الاستقرار النقدي.  
  • تعزيز المالية العامة عبر إقرار الموازنات العامة في مواعيدها الدستورية واستهداف العجز الصفري من خلال إصلاحات مالية. والبدء بنقاش حول هيكلة الدَّيْن العام والتوقف عن دفع سندات الخزينة بالدولار (اليوروبوند) والتواصل مع الدائنين لمعالجة هذه المعضلة.
  • الحوكمة والشفافية والمساءلة واتخاذ تدابير لزيادة الشفافية في القطاع العام، فضلًا عن إصلاحات المؤسسات العامة على نطاق أوسع وفي مقدمها قطاع الكهرباء.
  • إرساء نظام موثوق للنقد والصرف(7).

4- البدء بمعالجة مشكلة انقطاع الكهرباء: وهي المشكلة المزمنة منذ عدة عقود المرتبطة بقطاع الطاقة، هذا القطاع الذي تسبب بحوالي 45% من الدين العام اللبناني.

أما التحديات الاقتصادية والمالية والمرتبطة بالعهد في ظل الحكومة الحالية والحكومات اللاحقة، فأهمها:

1- تحريك العجلة الاقتصادية والماكينة الاقتصادية وتوفير فرص عمل: من أجل زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي انخفض بنسبة تقدر بـ7.1% في عام 2024، وهي انتكاسة كبيرة مقارنة بنسبة النمو المقدر بنحو 0.9٪ في حال عدم حصول الصراع. ومع نهاية عام 2024، لامس الانخفاض التراكمي في إجمالي الناتج المحلي للبنان منذ عام 2019 الـ40٪؛ مما يؤدي إلى تفاقم آثار الركود الاقتصادي متعدد الجوانب، ناهيك عن الآثار السلبية على آفاق النمو الاقتصادي في البلاد، وفقًا لتقرير التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في لبنان لعام 2025 (RDNA) الصادر عن البنك الدولي في 7 مارس/آذار 2025(8)؛ الأمر الذي سينعكس على معيشة حياة اللبنانيين ويساعد تخفيض نسب البطالة وحل العديد من المشاكل الاجتماعية والأمنية ذات الصلة.

2- تحسين سعر صرف العملة الوطنية وقيمة الليرة اللبنانية: فقدت الليرة اللبنانية خلال الأزمة أكثر من 98% من قدرتها الشرائية، وأسهم ذلك في ارتفاع الأسعار والتضخم المالي وتآكل الرواتب والأجور وازدياد معدلات الفقر وتقلص الطبقة الوسطى، وكان لذلك تداعيات اجتماعية خطيرة. لذلك من أولى الأولويات العمل على تحسين قيمة الليرة اللبنانية، وهو مسار تراكمي طويل ويحتاج إلى الخطط الاقتصادية والنقدية وإلى الإصلاحات المطلوبة.

3- التنقيب عن النفط والغاز: توقف التنقيب عن النفط والغاز في لبنان وهناك خلافات بين الدولة اللبنانية وشركة توتال في هذا الصدد، ولا يزال لبنان يأمل الاستفادة من الموارد الطبيعية والقدرة على استخراج النفط والغاز ضمن الحدود البحرية اللبنانية والحصول على موارد مالية ضخمة مأمولة من ذلك. مع العلم بأن أعمال التنقيب بدأت، في فبراير/شباط 2020، في بلوك واحد من أصل 10 بلوكات وهو البلوك رقم 4، ثم تكثفت بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، في أكتوبر/تشرين الأول 2022(9).  

4- تنشيط بعض القطاعات المهمة للاقتصاد وفي مقدمها السياحة: وهو من أكثر القطاعات تضررًا بسبب الحرب الأخيرة وكذلك بسبب الأوضاع السياسية المضطربة في لبنان، ويعتبر هذا القطاع من أهم القطاعات في الاقتصاد اللبناني لناحية مساهمته بـ27% من الناتج المحلي وتوفيره إيرادات مالية تصل إلى حوالي 5.41 مليارات دولار في العام 2023، بعد خسارة مقدرة تصل إلى النصف بفعل الحرب(10).

مآل الأزمة الاقتصادية والمالية في ظل المسار السياسي الجديد

إن الطريقة التي جاء بها انتخاب عون رئيسًا للجمهورية وتشكيل الحكومة بهذه التركيبة يؤشر إلى انتهاء حقبة سياسية في التاريخ اللبناني، تميزت بتعزز نفوذ حزب الله وحلفائه في الدولة اللبنانية ومن سواهم خلال العشرين سنة المنصرمة، وإلى بدء حقبة جديدة تترافق مع تطورات كبيرة وإستراتيجية في المنطقة، خاصة بعد سقوط نظام حكم الأسد في سوريا، الحليف الأساس لحزب الله وإيران في المنطقة.

بالنظر إلى تركيبة الحكومة الحالية، تستهدف المرحلة الجديدة تهيئة الظروف والقواعد لمرحلة انتقالية في مسار السياسة الداخلية في لبنان، والتأسيس لمرحلة جديدة في موازين القوى الداخلية تنهي "هيمنة" فريق سياسي على الحكم استمرت لمدة عقدين من الزمن، أي حزب الله وحلفاءه، وبحيث لا تكون الغلبة فيها لفريق سياسي على آخر. تسعى الحكومة الجديدة للحصول على الدعم الدولي، لتحقيق أهدافها ولن تلقى معارضة صلبة كما في السابق من حزب الله، الذي فقد جزءًا كبيرًا من قدراته وقوته وقادته التاريخيين، وتبدو الفرصة الآن سانحة للحكومة لبحث سلاح الحزب وإضعاف النفوذ الإيراني في لبنان. وعلى مستوى العلاقات الإقليمية والدولية ستقوم الحكومة بوضع أسس لقواعد علاقات دولية قائمة على حياد لبنان في المرحلة الأولى عن أزمات المنطقة، وإقامة علاقات طبيعية مع كل الدول العربية بالدرجة الأولى.

أما التحديات الاقتصادية والمالية فهي كبيرة وتتطلب مواجهتها ومعالجتها مسارًا طويلًا، وكذلك الأمر بالنسبة للإصلاحات المطلوبة، فهي تحتاج إلى وقت طويل لتحقيقها، وعمر الحكومة قصير، ناهيك عن الشروط الصعبة التي يتطلبها دعم المجتمع الدولي والدول الصديقة، وفي مقدمها نزع سلاح حزب الله. ويبدو لبنان في هذا السياق أمام ثلاثة سيناريوهات بالجملة:

الأول: في حال استطاعت الحكومة الحالية تنفيذ القرارات الدولية والإصلاحات المطلوبة كاملة وبوقت قصير، وهو أمر صعب، عندها سيحصل لبنان على دعم كبير قد يتمثل بتحمل كلفة كامل إعادة الإعمار إضافة إلى سواها من الأعباء بما يساعد لبنان على النهوض والازدهار في المجالات كافة، وحينها سيكون لبنان أصلًا في وضعية إستراتيجية مختلفة عما هو عليه الوضع الراهن جذريًّا.

الثاني: في حال استطاع لبنان أن يحرز تقدمًا جزئيًّا، بتحقيق الإصلاحات والبدء بتنفيذ جزئي للقرارات الدولية مثلًا، وبما ينعكس هدوءًا حقيقيًّا ولو نسبيًّا وبما يرضي الدول العربية الفاعلة على الأقل، فإن كوة في جدار الأزمة ستفتح، لاسيما على صعيد عودة الاستثمارات إلى لبنان وخاصة الخليجية منها، وسيعود القطاع السياحي للنشاط من جديد. يبدو أن بوادر هذا المسار قد تتعزز، إذا ما جرى توقيع وتفعيل الاتفاقيات الموعودة بين لبنان والمملكة العربية السعودية، ويبلغ عددها 22 اتفاقًا وتشمل عدة مجالات: التعاون التجاري، والمعارض، والملكية الفكرية، وحماية المستهلك، والحبوب، والبيئة والزراعة والمياه، والإعلام، والتربية والتعليم العالي، والثقافي المرتبط بدار الفتوى، والإسكان، والنقل البحري، وشهادات الأهلية المرتبط بموضوع الصادرات، والركاب، والبضائع عبر الحدود البرية، والدفاع المدني، والقضائي، والتعاون بين مصرف لبنان ومؤسسة النقد العربي السعودي، وتعزيز التعاون الفني في مجال المواصفات والمختبرات وأنظمة الجودة، والتعاون الجمركي، والدفاع العسكري، ومكافحة الإرهاب، والتعاون لتفادي الازدواج الضريبي ومنه التهرب الضريبي، والتعاون بين المديرية العامة للطيران المدني في لبنان والسعودية(11). سيكون لهذه الاتفاقيات، لو تمت، التأثير الكبير على الاقتصاد اللبناني وعلى ماليته العامة، وستُفتح الأبواب لعودة لبنان إلى المنظومة العربية، وبالتالي إلى المجتمع الدولي وسيجعل حصول لبنان على الدعم العربي والدولي أمرًا أسهل من قبل. وقد زار في هذا السياق الرئيس جوزيف عون المملكة العربية السعودية، في 3 مارس/آذار الحالي (2025)، وصدر بيان مشترك في ختام الزيارة، يؤشر إلى القضايا التي توليها السعودية أهمية خاصة في علاقتها مع لبنان، منها التطبيق الكامل لاتفاق الطائف وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة وبسط الدولة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. وجاء في البيان ربط واضح بين هذا الشرط الأخير والدعم الاقتصادي(12).

الثالث: عدم قيام الحكومة بالإصلاحات المطلوبة أو القيام ببعض الإصلاحات دون أن تحصل على رضى العرب والمجتمع الدولي، عندها لن يحصل لبنان على أي دعم مهم ولا في أي مجال من المجالات، وستبقى الأزمة تراوح مكانها وبتفاوت بل من الممكن أن تزيد سوءًا في حال تعرض لبنان لمزيد من الضغط الاقتصادي.

خاتمة

لا يستطيع لبنان التعافي المالي والاقتصادي والنقدي ولا حتى البدء بإعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية الأخيرة، دون مساعدة المجتمع الدولي والدول الصديقة وخاصة المملكة العربية السعودية وقطر، وهذا منوط بتوجهات الحكومة وقدرتها على تنفيذ الشروط المطلوبة لنيل هذا الدعم، والتي يوجد صعوبة في تحقيق بعضها خاصة فيما يتعلق بسلاح الحزب. ولكن تستطيع الحكومة في هذا الإطار البدء بالحوار حول السلاح وتحجيم تأثيره على القرار في الشؤون الداخلية، ومحاولة منع استعماله جنوبًا ضد إسرائيل، ويبدو أن الأمور متجهة في هذا الاتجاه. إن نزع سلاح الحزب ليس بالأمر السهل فقد يتسبب بمواجهات واضطرابات داخلية، وهو مطلب يحتاج إلى وقت طويل ليس بمقدور الحكومة بعمرها المحدود تحقيقه بسبب قرب الانتخابات النيابية القادمة، في مايو/أيار 2026، واستقالة الحكومة على إثرها. ويبدو أن الحكومة ستعمل خلال فترة حكمها على تأسيس قواعد وآليات وتهيئة الظروف المناسبة في هذا الإطار، وكذلك البدء بمعالجة بعض المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الطارئة مثل مشكلة الكهرباء، وتفعيل دور المصارف لحين هيكلتها، والتفاوض مع صندوق النقد وغيرها. وستركز الحكومة على كسب ثقة الشعب اللبناني بتحقيق بعض الإنجازات الاقتصادية والمالية، وإعادة تشكيل الإدارات والمؤسسات العامة عبر شخصيات تبث الطمأنينة وبما يوحي بالبدء ببناء دولة القانون والمؤسسات.

نبذة عن الكاتب

مراجع
  1. موقع مجلس النواب اللبناني، الدستور اللبناني، ص20، (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/dCw8f
  2. الشرق، النص الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/1I69Z
  3. البنك الدولي، احتياجات لبنان من التعافي وإعادة الإعمار تقدر بـ11 مليار دولار أميركي، 7 مارس/آذار 2025 (تاريخ الدخول: 9 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/pJ5vO
  4. فؤاد بزي، تقديرات البنك الدولي: 1.2 مليار دولار خسائر القطاع الزراعي، جريدة الأخبار، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/2d3DA
  5. صندوق النقد الدولي، خبراء الصندوق يختتمون زيارتهم إلى لبنان، 23 مايو/أيار 2024 (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/Ky430
  6. سكاي نيوز عربية، صندوق النقد: مست عدون للتفاوض مع لبنان على برنامج دعم جديد، 19 فبراير/شباط 2025 (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/xm61w
  7. صندوق النقد الدولي، خبراء الصندوق يختتمون زيارتهم إلى لبنان، مصدر سابق.
  8. البنك الدولي، احتياجات لبنان من التعافي وإعادة الإعمار تقدر بـ11 مليار دولار أميركي، مصدر سابق.
  9. الطاقة، مسؤول لبناني يطلب إلغاء اتفاقية التنقيب عن الغاز مع توتال، 24 يناير/كانون الثاني 2025، (تاريخ الدخول: 10 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/dQKBY
  10. محمد غساني: الحرب الإسرائيلية وأسوأ أزمة اقتصادية...السياحة اللبنانية تعاني وأمامها 6 إلى 8 أشهر للنهوض، جريدة النهار، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2025)، https://shorturl.at/u9GgI
  11. جريدة النهار، اتفاقيات بمجالات عدة بين لبنان والسعودية... ما أبرزها؟، 23 يناير/كانون الثاني 2025 (تاريخ الدخول: 4 مارس/آذار 2025)،  https://shorturl.at/8dbC6
  12. جريدة الأخبار، بيان لبناني سعودي مشترك لتطبيق «اتفاق الطائف» وحصر السلاح بيد الدولة، 4 مارس/آذار 2025 (تاريخ الدخول: 4 مارس/آذار 2025)، https://rb.gy/er3t2s