المدني الفلسطيني في الإعلام الغربي والآليات السردية لتشكيل صورته

تُحلِّل الدراسة أساليب وسمات السرد في تغطية وسائل الإعلام الغربي لحقوق الإنسان بوصفه مدنيًّا في فلسطين، من خلال أحداث الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (2023-2024). وتُحَاجِج الدراسة بأن أنظمة حقوق الإنسان يمكن أن تكون مؤثرة، أو غير مؤثرة، بالنظر إلى أساليب وأنماط تغطيتها في وسائل الإعلام. ويَبْرُز مفهوم المدني كما هو مُقرَّر في القانون الدولي الإنساني مفهومًا مركزيًّا في أشكال التغطية الإعلامية لمحنة المدنيين الفلسطينيين في غزة. وتُعد عمليات نزع صفة المدني التطبيق القانوني والتقني لسرديتين لا تَقِلَّان أهمية وهما الحَيْوَنَة والشَّيْطَنَة. وتضطلع هذه السرديات الثلاث بدور مركزي في عمليات التدمير الممنهج للبنية المدنية الفلسطينية. وتركز الدراسة على سَبْرِ ماهية تغطية الإعلام الغربي، ولاسيما الخدمة الإخبارية لموقع "بي بي سي" في نسختيه، الإنجليزية والعربية، وتحديد أبعاد نمط المعالجة الإعلامية لمعاناة الإنسان الفلسطيني بوصفه مدنيًّا.
الإعلام الغربي يفاقم محنة حقوق الإنسان الفلسطينية من خلال القصور في تغطية الانتهاكات الإسرائيلية (الأناضول)

مقدمة

تدرس الأبحاث، ويتداول الإعلام أيضًا، مساعي حَيْوَنة (Dehumanization) وشَيْطَنَة (Demonization) المُسْتَعْمَر من طرف مؤسسات المُسْتَعْمِر حتى تكون لأفراد مجتمعه أرضية أخلاقية لإبادة من يسطو على أرضهم ويسلب مواردهم ومقدراتهم. وبنشوء نظام حقوق الإنسان، في منتصف القرن العشرين، كان لابد للاستعمار الاستيطاني في فلسطين أن يُعزِّز فكرة الحيونة والشيطنة بصورة ذهنية تنسجم مع المستجدات، فلجأ -في سياق ما بات يُعرف بالحرب القانونية- إلى نزع مدنية المدني عن الفلسطيني كي يُبرِّر قتله وإبادته. ولئن حظي مصطلحا الحيونة والشيطنة باهتمام الباحثين في الدراسات الثقافية ودراسات الاتصال، فقلَّما عُنِي هؤلاء بتقصِّي عمليات نزع صفة المدني عن الأشخاص المحميين بموجب القانون الدولي الإنساني. ويمكن القول: إن تجريد المُسْتَضْعَف من صفة المدني هو في الواقع التطبيق القانوني للمصطلحين الثقافيين: الحيونة والشيطنة. ونزع صفة المدني (Decivilianization) مصطلح استخدمته هيئات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة فيما يتصل بسياسات الإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل في فلسطين. فإسرائيل تُعامل الفلسطينيين باعتبارهم "تهديدًا جماعيًّا يتعذَّر اعتقالهم جملة"(1) لتجريدهم "من وضعهم كأشخاص محميين"(2) بموجب القانون الدولي الإنساني، ولذلك فهم -من وجهة نظر إسرائيلية- غير مؤهلين، أو لا يستحقون الحماية بصفتهم مدنيين. وثمة فروق بين الحيونة والشيطنة من جانب، ونزع صفة المدني من جانب آخر. فالأولان يشيعان في الثقافة، ولهذا خطورته الخاصة، أي إنهما يرتحلان ذهابًا وإيابًا في السرديات الشخصية والسرديات العامة، التي سنناقشها في الدراسة.

أما مفهوم نزع صفة المدني، فيشيع استخدامه وترويجه في مجتمع المتخصصين، أو فيما يُسمَّى السرديات الأفهومية، عبر استخدام أساليب وإستراتيجيات سرد متعددة لإحكام عملية محو السكان الأصليين وإبادتهم. ويُطلق على هذه الأساليب: سمات السرديات، كما بيَّنتها الأكاديمية، منى بيكر، في كتابها الصَرْحِي: الترجمة والصراع: تبيان سردي، الذي تحيل إليه هذه الدراسة. إن شيطنة الفلسطينيين وحيونتهم في دوائر المجتمعات الواسعة تُشيِّد شبكة أمان تُمهِّد إلى تيسير عملية نزع صفة المدنيين عنهم أمام الجهات القانونية. ولئن كانت الحيونة والشيطنة تنشطان في دوائر السردية العامة داخل إسرائيل، وخارجها، حتى يستطيع الإسرائيلي بوصفه إنسانًا التعايش مع فكرة إبادة شعب آخر، فإن نزع صفة المدني ينشط داخل الدوائر الأفهومية، أي بين المختصين والأكاديميين والقانونيين وغيرهم ممن لا يتماشون مع السرديات العامة بيسر وسهولة. وهنا، قد تُساعدنا النظرية السردية في تفسير تَقَبُّل إفراط إسرائيل في عنفها ضد الفلسطينيين؛ إذ تحظى بالتغطية من كل دائرة من دوائر المجتمع داخليًّا وخارجيًّا بحكم سردية تسودها وتؤثر في سلوكها، وتوفر كل سردية طبقة من طبقات الحماية؛ مما يجعل إسرائيل في نجوة من كل دعوى أخلاقية كانت أو قانونية مهما كانت مسوغاتها، ولاسيما في بلدان الشمال العالمي التي ترى في ترابها مهد حقوق الإنسان وفي حكوماتها راعيته.

ففي الحرب التي تشنُّها على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أفرطت إسرائيل في تدمير البنية التحتية المدنية؛ مما جعل الحياة المدنية مستحيلة في القطاع الذي لا تزيد مساحته عن 365 كيلومترًا مربعًا؛ إذ لم تكتفِ آلتها العسكرية بالقصف السجادي للمنازل والممتلكات، بل امتد التدمير إلى المدارس والجامعات والمستشفيات بالجملة، وقتلت وأصابت الرجال والنساء والأطفال بالآلاف. أما أولئك الذين بقوا على قيد الحياة فقد حُرِمُوا من الوصول إلى الماء والغذاء والدواء... واعتُقِل العديد منهم وتعرَّضوا للتعذيب والاحتجاز بعيدًا عن العالم الخارجي، كما تعرَّض المئات من المدنيين الفلسطينيين للاختفاء القسري. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، "بلغ عدد الضحايا في قطاع غزة -منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى 25 سبتمبر/أيلول 2024- 41534 شهيدًا، و96092 جريحًا، وأكثر من 10 آلاف مفقود ما زالوا تحت الركام"(3). ووفقًا للجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، فإن عدد الشهداء في قطاع غزة نتيجة الحرب بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى تاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بلغ 44142 شهيدًا، منهم 17289 طفلًا، و11815 امرأة في غزة. وليس الأمر محصورًا في القطاع؛ إذ تُواجه الضفة أيضًا الآلة العسكرية الإسرائيلية؛ حيث بلغ عدد الشهداء منذ السابع من أ كتوبر/تشرين الأول 768 شهيدًا(4). وبالرجوع إلى غزة، فليس المدنيون وحدهم من يتعرَّض للاصطلام، بل كل شيء له علاقة بالحياة المدنية والمدينية، فقد جاء في بيان لوزارة الصحة الفلسطينية أن ما يقارب 65% من المؤسسات الصحية (الحكومية، الأهلية، الخاصة، وكالة الغوث الدولية) جرى استهدافها، وما تبقى يعمل بشكل أقل من جزئي وبنسبة إشغال 300%، خاصة أقسام العناية المركزة والحضَّانات.

ومن أبرز الدلائل على تجريف إسرائيل للحياة المدنية بشكل قصدي تلك الاعتداءات المتكررة التي تستهدف العاملين في المجال الصحي الذين يُفترض أن يتمتعوا بالحماية بموجب القانون الدولي الإنساني. وقد قضى من هؤلاء -بحسب البيان- 986 شخصًا، منهم 4 داخل السجون الإسرائيلية، إضافة إلى 12 ألف مريض أصيبوا بالسرطان ولا يستطيعون تلقى العلاجات الأساسية ولا حتى المسكنات، ومئات من مرضى غسيل الكلى الذين فارقوا الحياة بسبب عدم توافر رعاية صحية لهم(5). ويُعد ذلك جزءًا من أحدث حرب إسرائيلية ممتدة اسْتُؤْنِفت بضراوة غير معهودة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عندما شنَّت حركة حماس هجومًا على مستوطنات إسرائيلية في غلاف غزة.

ومنذ بدء الحرب تداعت منظمات حقوقية مختلفة إلى جانب هيئات دولية أخرى، مثل منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، وعبَّرت في كثير من الأحيان عن مخاوفها العميقة إزاء النطاق الواسع لتدمير مظاهرة الحياة في غزة. لكن يبدو تفاعل هذه الهيئات بطيئًا، ولا تتحرك إلا عندما يبلغ الوضع مداه الأقصى، وهاهنا فقط تنتفض الأمم المتحدة وتُعلن عن قلقها المعهود من "الاعتداء المنهجي الذي تشنُّه إسرائيل على البنية التحتية الطبية في غزة"(6). ولا يكتفي الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بتصريح واحد بل تتواتر تصريحاته حول تدمير إسرائيل الممنهج لغزة والمدنيين الذين "يتعرضون للتدمير على نطاق وبسرعة غير مسبوقين في التاريخ"، مُبيِّنًا أن ما تفعله إسرائيل إنما هو "عقاب جماعي" لا "يُبرَّر بأي حال من الأحوال"(7). إن السكان المدنيين في غزة هم الطرف الرئيس الذي يُعاني التشريد في هذه الحرب؛ إذ إن 61% من القتلى هم من المدنيين(8)، ومَنْ لم يُقتل منهم يتعرَّض لأقسى وأقصى ألوان الاصطلام اليومي؛ إذ أمسى 1.7 مليون من المدنيين في غزة نازحين داخليًّا(9)، ويُشكِّل هؤلاء 75% من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.

ويُفترض أن تحظى هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان بتغطية مناسبة في وسائل الإعلام، وخاصة وسائل الإعلام التي تتمتع بتأثير دولي وتُقدِّم خدماتها الإخبارية بلغات مختلفة، ومنها "بي بي سي" (BBC) التي تحظى بحضور وازن في العالمين، الغربي والعربي، ولها تأثير في تشكيل السرديات بأنواعها، وهو تأثير بوسعه أن يمتد إلى دوائر صناعة القرار ومن ثم يُفضي إلى اتخاذ إجراءات إذا أُتِيح لهذه الدوائر اطلاع حقيقي دقيق على أوضاع المدنيين في فلسطين. وتفترض الدراسة أن المدني الفلسطيني لا يحظى باهتمام يليق بالمأساة المدنية من قِبَل وسائل الإعلام الرئيسة مثل "بي بي سي"، ولاسيما في نسختها الإنجليزية، ومن هنا استمرار محنة المدنيين في فلسطين. وفي هذا السياق، تأتي أهمية إضاءة الفروق بين تغطية "بي بي سي" العربية والإنجليزية كما سيأتي بيانه. ولا يمكن تجاهل العلاقة بين معالجة وسائل الإعلام للأحداث وحقوق الإنسان؛ لأن التقارير الإعلامية التي "تُعد في حدِّ ذاتها حقًّا من حقوق الإنسان"(10) يمكن أن تُسهِم في تعزيز حقوق الإنسان للمحرومين والضعفاء. ولم تغفل الأبحاث تحليل هذه العلاقة؛ إذ نُشِرت أوراق بحثية كثيرة في هذا المجال، مثل دراسة الأكاديمي إبراهيم سيغا شو Ibrahim Seaga Shaw))(11)، والعمل الذي أنجزته الباحثة سوزانا سامبايو دياس Susana Sampaio Dias))(12)، ودراسة الأكاديمي مارك هامبتون (Mark Hampton)، وأستاذ التاريخ الأميركي، ديانا ليمبيرغ (Diana Lemberg)(13)، وأستاذ السياسات والإعلام إيكاترينا بالابانوفا (Ekaterina Balabanova)(14)، ودراسة الأكاديمي محمود الحرثاني(15). كما أُنْجِزَت أبحاث عن حيونة الفلسطينيين وشيطنتهم، بيد أن التعامل مع مفهوم المدني إعلاميًّا لم يلقَ حتى الآن اهتمامًا بحثيًّا، سواء في العربية أو الإنجليزية. ومن هنا أهمية هذه الدراسة التي تُلقي الضوء على موقع المدني الفلسطيني في وسائل الإعلام الغربي.

إن دور وسائل الإعلام في تعزيز أو قمع حقوق الإنسان أمر محوري؛ إذ يمكنها تسليط الضوء على الانتهاكات، وجذب الانتباه العام، وتُشكِّل خطوة أولية نحو السعي لتحقيق العدالة، والضغط على الجهات المعنية لإيلاء الاهتمام الواجب لانتهاكات حقوق الإنسان التي قد تمر دون أن يُلاحظها أحد، وفي النهاية دون حلٍّ، إذا لم تُتَح لها تغطية إعلامية مناسبة. صحيح أن ثمة دراسات تتقصى التغطية الإعلامية الناطقة باللغة الإنجليزية لفلسطين، مثل العمل البحثي الذي أعدَّته الأكاديمية عبير النجار(16)، ودراسة الأكاديمي نور الدين الميلادي وآية الميلادي(17)، والباحثة زين عساف(18)، لكن نادرًا ما تُعنى الأبحاث بفحص معالجة وسائل الإعلام لحقوق الإنسان في فلسطين، وتحديدًا تغطية القضايا المتعلقة بالمدنيين.

1. اعتبارات منهجية ونظرية

إشكالية الدراسة

تبحث الدراسة سمات السرد وإستراتيجياته في تغطية وسائل الإعلام الغربي، وتحديدًا "بي بي سي"، لوضع الإنسان الفلسطيني بوصفه مدنيًّا في سياق الحرب على غزة. وتحاول الإجابة عن سؤال محوري: كيف تُغطي "بي بي سي" معاناة المدني الفلسطيني في فلسطين، لاسيما في غزة، في ظل الحرب التي تشنها إسرائيل على القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؟

الإستراتيجية المنهجية

تعتمد الدراسة المنهج الوصفي/التحليلي لخصائص السرديات التي يُنتِجها موقع "بي بي سي" باللغتين، العربية والإنجليزية. وهنا، تفحص الدراسة وتُقارن بين محتوى تقريرين باللغتين، العربية والإنجليزية، نُشرا في نفس التاريخ لتغطية نفس الحدث (اعتقال فلسطينيين). أحد هذين التقريرين نُشر على موقع "بي بي سي" الإنجليزي عن "احتجاز" (Detention) إسرائيل لفلسطينيين من قطاع غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وقد جاء هذا التقرير الذي نُشر بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2023، ويتكون من 852 كلمة، بعنوان: "فيديو يُظهر فلسطينيين محتجزين وقد عُرُّوا من ملابسهم في غزة"(19). وبحسب التقرير، فإن الفلسطينيين المحتجزين هنا هم من خان يونس وبيت لاهيا في قطاع غزة، ويُركز التقرير على تعرية هؤلاء الفلسطينيين، كما ترد فيه كلمة (Civilian) سبع مرات، وهو تكرار ستبحث الدراسة دلالته. التقرير الآخر نُشر على موقع "بي بي سي عربي"، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2023، بعنوان: "ماذا نعلم عن الرجال الذين اعتقلهم الجيش الإسرائيلي في غزة؟". وهو يُعالج نفس الموضوع: اعتقال فلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي وعدد كلماته 557 كلمة(20).

وتُعنى الدراسة بجدلية العلاقة بين المرئي وغير المرئي في الواقع الإعلامي؛ حيث تُسْتَبْطَنُ الأيديولوجيات عادة في سرديات يتداولها المتلقون وتُؤثر في سلوكهم وأفعالهم. وحين نعلم أن آليات عمل بناء السردية لا تختص بتقرير أو تقريرين وإنما هي دندنة مألوفة، ندرك خطورة ما تُسمِّيه الأكاديمية، منى بيكر، "التراكم السردي" كما سيأتي بيانه. فعلى سبيل المثال، عندما يُمنح متحدث إسرائيلي مساحة في تقرير آخر من تقارير "بي بي سي" ليقول: "لا نسعى إلى إلحاق الأذى بالمدنيين"(21) دون استجوابه حول أعمال الإبادة الجماعية المتلفزة التي يقترفها جنوده مزهوين صوتًا وصورة في الميدان، فإن النظرية السردية تُمكِّن من الكشف عن الديناميكيات ذات الصلة وتعرية السياقات الكامنة التي تنشط فيها هذه الديناميكيات. ويستعرض الباحثان في المحور الموالي نظرية السرديات بوصفها إطارًا تحليليًّا رئيسًا في الدراسة، بالإضافة إلى مفهومي "التحرير الترجمي" و"الصحفي المترجم" اللذين يتواتر استخدامهما في دراسات الاتصال الثنائي اللغة كأدوات لتعميم سرديات وطمس آخر. 

نظرية السرد والإعلام

نظرية السرد -كما تُستخدم في العلوم الاجتماعية وليس في النظرية الأدبية- جهاز ثري بأدوات ومفاهيم تُساعد في فهم حركيات الإعلام وتفسيرها؛ إذ تُوفر نموذجًا تحليليًّا يتمتع بالقدرة على توصيف، والحفر في، مستويات التأثير وآليات عمله في العلاقة بين وسائل الإعلام والمتلقي. فالسرد، كما يرى الفيلسوف وأستاذ الأدب المقارن، فريدريك جيمسون (Fredric Jameson)، "وظيفة مركزية من وظائف العقل البشري"(22)؛ إذ يُحدِّد رؤية المرء للآخرين، ويُوجِّه ليس فقط حكمه عليهم، وإنما سلوكه إزاء قضاياهم. ومن هنا، فإن "الناس لا يرون العالم أمام أعينهم إلا إذا صِيغ في شكل سردية"(23). وأكثر من ذلك يُؤثر السرد في صناعة الواقع باعتباره "نشاطًا اجتماعيًّا يُشكِّل السياق الاجتماعي ويتموقع داخله في نفس الوقت... ويحمل السرد سمات الثقافة السائدة ومعانيها في ضوء علاقات القوة... ومن ثم فإن السرد مُنْتَج ثقافي"(24).

وكان الفيلسوف والباحث في علم النفس، فلهيلم وندت(Wilhelm Wundt)  (1832-1920)، من أوائل من تنبَّهوا إلى قوة السرد في الحياة اليومية للبشر(25). كما كان عالم النفس جيروم برونر(Jerome Bruner) من الباحثين الذين أكدوا مبكرًا قوة السرد في تشكيل الواقع؛ إذ يرى أن السرد "شكل من أشكال بناء الواقع وليس تَمْثِيلَه وحسب"(26). وتلك نقطة تحوُّل في النظرة إلى السرد، فليس هو إذن ما يحكي الواقع وإنما يُسهِم في تشكيله وتطويعه وفقًا لقوة السارد وتوجُّهاته، الذي هو في حالتنا الإعلام، ولاسيما مؤسسات ذات ثقل مثل "بي بي سي" وما تملك من أدوات توجيه وتأطير وفعل. ولا يمكن للسرد أن يكون ذا معنى وسلطة إذا لم يكن يتمتع بالاتساق، فالاتساق والتماسك سمتان لهما أهميتهما في السرد وقدرته على تشكيل الواقع حتى ولو على أساس زائف. ولهذا كان على السرد أن "يربط بين الأحداث ويُعطيها معنى"(27) بغض النظر عن منسوب الحقيقة في النقل. ولا يكاد يخلو عنصر من عناصر المجتمع من سردية تؤثر فيه وتُوجِّه سلوكه، ويقوم هو بدوره في حكايتها وإعادة حكايتها من أجل إنتاج الواقع الذي أفرزته هذه السردية أو أفرزها. ولأن الإعلام والاتصال فعلان اجتماعيان، ولأن الصحفي وسيط يُسهِم في عملية إنتاج القصة الصحفية وإخراجها وتعميمها، فهو عنصر نشط في عملية تعميم سردية وقمع أخرى.   

ومما يزيد من خطورة عمل الصحفي إذا كان ينقل أخبارًا من مواطن نائية لغاتها غير معروفة للمتلقي، وهو ما يُعزِّز سلطته وقدرته على تشكيل الواقع في مخيلة جمهوره الذي لا يعرف عن تلك المواطن إلا ما يصله عبر وسائل إعلامه الناطقة بلغته. وإنما تنشأ خطورة فعل الصحفي أو الإعلامي؛ لأنه بالدرجة الأولى عنصر من عناصر المجتمع النشطة التي لا تتحرك في فراغ، بل تُؤثر فيها سرديات اجتماعية أو سياسية أو أيديولوجية، ومن ثم فإن تصرفاته، كوسيط، وليس كقناة سلبية، ينقل أحداثًا تتبلور وتحصل في سياقات لغوية وثقافية وجغرافية مختلفة، يمكن أن تحكمها، وفقًا للنظرية السردية، أربع سرديات. وهي السردية الأنطولوجية (Ontological Narrative)، والسردية العامة (Public Narrative)، والسردية الأفهومية (Conceptual Narrative)، والسردية الكبرى (Meta Narrative).

أما في دراسات الترجمة، فقد كانت الأكاديمية منى بيكر(28) أول من طبَّق نظرية السرد؛ إذ شكَّلت تلك النظرية المفصل الرئيس في كتابها: "الترجمة والصراع: تبيان سردي"، فتحاول تفسير سلوك المترجمين باعتبارهم فاعلين اجتماعيين، يقومون بدور محوري في عملية الاتصال، ولاسيما في أزمنة الصراع. وترى بيكر في نظرية السرد قدرة على الحفر في البنى التحتية الكامنة وراء النصوص، ولما في النظرية من مدى يُمَكِّن الباحث من النظر في سياق النصوص الأوسع التي تؤثر في النص وتتأثر به(29). وستعرض الدراسة هذه السرديات وأنواعها وآليات عملها في الإعلام، ولاسيما حينما يتعلق الأمر بالتغطية التي تعتمد على ثنائية اللغة، وما يحيط بكل ذلك من آثار على سلوك المتلقي. ولأغراض هذه الدراسة يمكن تعريف السرديات بـ"حكايات أو قصص نؤمن بقوتها وتُوجِّه سلوكنا، وهي القصص التي نحكيها لأنفسنا، وليس فقط تلك الحكايات التي نحكيها للآخرين وحسب، عن العالم الذي نعيش فيه"(30). وتُحدِّد أستاذ علم الاجتماع والتاريخ في جامعة ميشيغن، مارغريت سومرز (Margaret Somers)(31)، أربعة أنواع من السرديات كما ذُكِر آنفًا: السرديات الأنطولوجية، والعامة، والأفهومية، والكبرى. وتنطلق بيكر من هذا الإطار، وتُضيف إليه، في نقاشها لأهمية السرديات في عمليات النقل والاتصال عبر اللغات. 

أنواع السرديات

أولًا: سرديات أنطولوجية

يتبنَّى الأفراد حكايات يروونها عن أنفسهم من أجل الحصول على مكانة رمزية في السياق الاجتماعي، ولكي يكون أيضًا لحياتهم معنى. لقد وصفت مارغريت سومرز(32) ثم سومرز والأكاديمية غلوريا جيبسون (Gloria Gibson)(33) هذه السرديات بـ"السرديات الأنطولوجية" التي تُمكِّن المرء من الحصول على مكان له في العالم. غير أن وظيفة هذه السردية المركزية هو إخراج الأحداث من الحالة العشوائية إلى حلقات متصلة فيما بينها مما يمكِّننا من منح معنى لحياتنا بصفتنا كائنات اجتماعية. وحين يسرد المرء قصته الشخصية فلابد أن يلجأ إلى ما أسمته بيكر "الموارد السردية واللغوية المشتركة في النطاق الجديد"(34). وينطبق هذا على القصة الصحفية كما ينطبق على القصة الأدبية. فلكي تُكْتَب للسردية حياة، لابد لها من الانسجام مع المخزون الثقافي واللغوي للمتلقين. ويُطلق على هذه السردية في أدبيات السرد الاجتماعية: السردية الشخصية التي لا تنفك تنسجم مع السردية العامة من أجل الاستقرار والانتشار.

ثانيًا: سرديات عامة

السرديات العامة حكايات تترسخ في وجداننا الجمعي لضمان موقف موحد تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين. وترى سومرز(35) ثم سومرز وغبسون(36) أن السرديات العامة "مرتبطة بالتشكيلات الثقافية والمؤسسية" في المجتمع بدءًا من البيت وانتهاء بالمسجد والكنيسة مرورًا بمكان العمل والنظام التعليمي، وهي جميعها مؤسسات تُسهِم في تأطير تلقي المرء للأحداث والأفكار وفهمه لها وسلوكها إزاءها. ومن الأمثلة على السرديات العامة المُشَكِّلَة للوعي الجمعي هناك السردية الصهيونية التي تبني أطروحتها على أن حرب 1948 كانت حربًا بين دولة ناشئة هاجمتها سبع دول أكبر منها فهزمتها بالعزم والتصميم(37). ولقد بيَّن إدوارد سعيد في كتابه: "الثقافة والإمبريالية" أن "الحكايات تقع في قلب ما يقول المستكشفون والروائيون عن المناطق الغريبة"(38)، وهو هنا يقصد السرديات العامة تجاه المناطق المُسْتَعْمَرَة؛ حيث كانت تلك السرديات تؤدي دورًا غير منكور في العملية الاستعمارية برمتها. ولا شك أن ما يُقال عن الروائيين، ووصفهم للمناطق الغريبة، ينطبق على الصحفيين والمترجمين.

أما في مجال الترجمة والاتصال، فإن السرديات العامة تضطلع بشأن فعَّال، سواء في عملية اختيار ما يُترجَم وما لا يُترجَم وما يُنقَل وما لا يُنقَل. ففي الغرب، على سبيل المثال، تقضي السرديات العامة على دور النشر بألا تُترجِم من العالم العربي إلا ما اتَّفَق مع السرديات الغربية عن العالم العربي أو عن الإسلام. فمن الأعمال الروائية العربية أو غيرها ما تُرجِم من العربية إلى الإنجليزية ليس لأسباب فنية أو معرفية بقدر ما كانت الترجمة لأسباب تتعلق بالسرديات العامة الغربية. فأي كتاب يُعمِّق فكرة الشرق الحسي أو الكسول أو القابع تحت نير الخرافات أو القامع للمرأة قد يجد طريقه إلى الترجمة والنشر في الغرب. ومثلُ هذا منطبق في حالة الأخبار، فالشرق مسرح للأخبار الغرائبية وليس للفعل الإنساني بكل أبعاده، ولهذا تُعنى الصحف مثلًا بالأخبار الغريبة عن العالم العربي، كما بيَّن أيضًا إدوارد سعيد في كتابه: "تغطية الإسلام في وسائل الإعلام"؛ إذ إن النظر إلى البشر بوصفهم أقل بشرية أمر ليس بمُسْتَنْكَر.  

ثالثًا: سرديات أفهومية

وهي "حكايات وتفسيرات يعتنقها الباحثون بشأن مادة بحثهم ويبثُّونها لغيرهم"(39). وتكمن قوة هذه الحكايات في قدرتها على تشييد المؤسسة والحفاظ على تماسكها، وكذلك في قدرتها على التوجيه نحو الفعل. ولكن هذه السرديات لا تعمل بعيدًا عن السرديات الشخصية والعامة(40). وكثير من السرديات الأفهومية وجدت طريقها إلى السرديات العامة كآراء المستشرقين في الشرق، ورأي الباحثين الغربيين، على سبيل المثال، بأن الديمقراطية لا يمكن أن تنجح في الشرق الأوسط لأسباب تتعلق بطبيعة ساكني تلك المنطقة. وربما يمكن القول: إن أخطر مفاعل السرديات هي السرديات الأفهومية التي تأخذ وقتًا طويلًا في التَّشَكُّل، لكن أثرها كبير؛ لأن الناس في الغالب تثق في قدرة المتخصصين على الحكم على الأشياء والأحداث والأفكار والبشر. ولئن اضطلعت دور النشر والجامعات والباحثون بالسرديات الأفهومية، فإن الإعلام يتولى تحويل تلك السرديات إلى سرديات عامة مما يجعل عملية التغيير في الرأي العام الغربي عسيرة، لاسيما إذا انتقلت تلك السرديات إلى أن تكون جزءًا من سردية كبرى، كسردية الحرب على الإرهاب مثلًا.

رابعًا: سرديات كبرى

تُعرِّف سومرز وغبسون(41) السرديات الكبرى بـ"السرديات المُسَيْطِرَة" الغلَّابة التي تلفُّ حياة الناس في كل أنحاء المعمورة، مثل: سردية التقدم، وسردية التصنيع، وسردية التنوير. ويمكن للسردية الكبرى أيضًا أن تكون ثنائية التكوين الضدي، مثل: سردية الرأسمالية مقابل الشيوعية، والفرد مقابل المجتمع، والبربرية مقابل التَّمَدُّن. وترى بيكر أن من أبرز الأمثلة على السرديات الكبرى في الوقت الراهن سردية الحرب على الإرهاب(42) التي تُؤثر في حياة كل فرد على وجه الأرض الآن لما تتمتع به من دعم من قِبَل القوى الكبرى التي تُروِّجها. وتتضح قوة هذه السردية إذا ما وُسِمَ شخص أو جماعة بعلامة الإرهاب؛ إذ لا ينفك مُلْتَهِبًا بنار ذلك الوسم حتى لو كان منه براء. ومن هنا، تركيز الإعلام الغربي على وضع المقاومة الفلسطينية في هذا الإطار لتسهيل عملية نزع الشرعية عنها، ومن ثم نزع صفة المدنية عن كل ما له صلة بها. وترى بيكر أن استخدام وَسْم "الحرب على الإرهاب" (War on terror) تركيب مقصود من الناحية الخطابية. فكلمة (Terror) المستخدمة في الوسم أسرع انتشارًا، وأكثر تجريدًا وتأثيرًا من الكلمة الأخرى (Terrorism) التي قد تُشير إلى فعل منفصل من أفعال الإرهاب. فالأولى (Terror) حالة ذهنية، كما ترى بيكر، وبهذا فوقعها في نفس المتلقي أكبر. ولعل هذه السردية من أ كثر السرديات التي اعتمدت عليها إسرائيل في نزع صفة المدني عن الفلسطينيين؛ مما جعل قتلهم وتشريدهم وإبادتهم أمرًا مستساغًا؛ لأن آلة الدعاية الإسرائيلية جهدت في تأطير حربها الضروس على الفلسطينيين بأنها جزء من حرب عالمية على الإرهاب. ولا تُبْنَى السرديات على نحو عشوائي، بل تُعد نظامًا له طرائق عمل، رصدتها بيكر، كما هو مُبَيَّن أدناه.

آليات عمل السرديات

تناقش الأكاديمية، منى بيكر(43)، آليات عمل السرديات وتورد ثماني آليات أو سمات كما تُسمِّيها، وهي: الزمنية (Temporality)، والعلائقية (Relationality)، والتحبيك السببي (Causal Employment)، والاقتطاع الانتقائي (Selective Appropriation)، والخصوصية (Particularity)، والنوعية (Genericness)، والمعتمدية والخرق (Canonicity and Breach)، والتراكم السردي (Narrative Accrual). ولأغراض التحليل في هذه الدراسة، يركز الباحثان على آليتين اثنتين، هما: التراكم السردي، والاقتطاع الانتقائي، ويمكن أن يُضاف إليهما آليتان نستعيرهما من حقل دراسات حقوق الإنسان، وهما: الاستنساخ (Mirroring) والقلب (Inversion) اللتين يناقشهما الأنثروبولوجي وأستاذ العلاقات الدولية، نيكولا بيروجيني (Nicola Perugini)، وأستاذ القانون الإنساني الدولي، نيف غوردون (Neve Gordon) في كتابهما عن "حق الإنسان في الهيمنة"، وهي عمليات تنطوي على أفعال ترجمة، كما بيَّن الباحث في ترجمته للكتاب(44).

أولًا: اقتطاع انتقائي

لكي تسود سردية ما لابد لها أن تستبعد عناصر وتُقرِّب أخرى. فقد يحصل حدثان مهمَّان في مكان ما، فيحظى أحدهما بالاهتمام والتغطية بينما يُهْمَل الآخر، وهذا ما يُعرف بالاقتطاع الانتقائي. وقد يكون الاقتطاع الانتقائي واعيًا أو غير واع، ولكنه في الحالتين له تأثير في العالم(45). ولهذا فهو "يُمثِّل اختيارًا ووزنًا للأحداث في أي سردية"(46).

ثانيًا: تراكم سردي

يتبلور التراكم السردي عن إنتاج وإعادة إنتاج سردية معينة وعرضها وإعادة عرضها، وتُعرِّفه بيكر بأنه "ناتج عن التعرض لمجموعة من السرديات ذات الصلة، ويُفْضِي بدوره إلى تَشَكُّل ثقافة ما أو تقليد ما أو تاريخ ما"(47). ويُساعد التراكم السردي على ثبات السرديات في الثقافة، وإِنْ لاحظت بيكر أن هذه الآلية تصبح قيدًا مع الزمن لثقل وطأتها. ولهذا ترى أن سردياتنا الأنطولوجية تتقيَّد بالعملية بقدر ما تنتشر. وبعبارة أخرى، يصبح التراكم السردي عبر الزمن إصرًا على السردية بعد أن كان رافعة لها. ولكن بيكر ترى أن التراكمات السردية تُنْشِئ عبر الزمن "أدبيات معتمدة ذات قدرة تفسيرية وسلوكية"(48)؛ مما يعني أن متلقي تلك السردية يصبح عقله وتصرفاته مجرد أصداء لهذه السردية. ولا تتجاهل بيكر في نموذجها التحليلي دور الإعلام في التراكم السردي؛ إذ ترى أن الإعلام، بوصفه "مؤسسة نافذة"(49)، يُسهِم في إشاعة السرديات العامة، بل و"يفرضها على وعينا من خلال العرض المتواتر"(50). وهي عملية يُسمِّيها عالم الاجتماع، بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، التغذية التستيلية الرمزية (Symbolic Dripfeed)(51)؛ بحسب ما ذكرته بيكر(52). وتكمن خطورة التراكم السردي بأنه ما ينفك يُعزِّز السردية ويُمكِّنها في المجال العام حتى تصبح عصية على النقض، ولربما صارت فوق الأعراف والقوانين. وتضرب بيكر مثالًا بما أحرزته سردية الهولوكوست في هذا الباب، وهي سردية بلغت من قوتها أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين لم يسلب الفلسطينيين أرضهم ومقدراتهم، وإنما اختطف واستنسخ أساليب المستضعفين في الدفاع عن أنفسهم، ليُعزِّز سردية الضحية التي ما فتئت تخدم أغراضه منذ الهولوكوست وحتى الآن.

ثالثًا: قلب واستنساخ

في معالجتهما لآليات عمل منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية اليمينية، يستعرض بيروجيني وغوردون كيف تتوسَّل هذه المنظمات بالقلب والاستنساخ للآليات التي تستخدمها منظمات حقوق الإنسان الليبرالية التي تدافع عن الفلسطينيين، مثل استلهام القانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان المختلفة وإصدار التقارير وتوثيق معاناة المستوطنين في فلسطين. وهكذا تستنسخ هذه المنظمات اليمينية المتطرفة آليات عمل منظمات حقوق الإنسان؛ إذ تُظهر المستوطن منزوع الحقوق في أرضه الموعودة في فلسطين. وبذلك تُراكم تلك المنظمات سردياتها حتى تصبح هي والقضايا التي تُنافح عنها محلَّ تضامن نظام حقوق الإنسان أو قل تعمية فكرة الحق الفلسطيني. والاستنساخ يعني أن هذه المنظمات تتَّبع نفس طرائق منظمات حقوق الإنسان التي تُنافح عن حقوق الفلسطينيين وتتبنَّاها نهجًا في الدفاع عن وجودها في الأراضي الفلسطينية؛ حيث يصبح هؤلاء المستوطنون هم الضحايا والفلسطينيون هم من سلب الأرض، وبهذا الاستنساخ تكون عملية القلب قد تمت. والقلب وكذلك الاستنساخ مفهومان يناقشهما نيكولا بيروجيني، ونيف غوردون، في كتابهما: "حق الإنسان في الهيمنة"، وهي عمليات كلها تنطوي على أفعال ترجمة كما يُبيِّن بيروجيني وغوردون: إن تحويل عملية نزع الملكية والتشريد إلى حق من حقوق الإنسان جزء حيوي من الاقتصاد الأخلاقي للاستعمار الاستيطاني. ويرتكز ذلك على قلب للحقائق يحوِّل الفلسطينيين غزاة ووجودهم المادي بؤرة استيطانية. ويحصل هذا القلب عن طريق إنتاج لغة حقوق إنسان تعتمد بدورها على عملية محو تاريخية للمُسْتَعْمَر وإعادة بناء تاريخ وجغرافيا استيطانيين محددين(53).

التحرير الترجمي والصحفي المترجم

التحرير الترجمي (Transediting) مصطلح مركب من "ترجمة" و"تحرير"، ويستخدمه في العادة الصحفيون الذين ينقلون تقارير من لغات وثقافات أخرى في تغطية أحداث بلدان بعيدة وأجنبية لا يستطيع المتلقون اللغويون الوصول إليها(54). يمكن استخدام التحرير الترجمي، فضلًا عن وظائفه المهنية، لإعطاء الأولوية لبعض الخيارات المعجمية على غيرها من أجل "إعادة إنتاج خطابات سائدة"(55)، وخاصة عندما لا يكون المتلقون المستهدفون على دراية بالموقف أو الحدث على الأرض بسبب الحواجز الجغرافية واللغوية والثقافية. ويمكن أن ينشط التحرير الترجمي، كـ"ممارسة مؤسسية ضمن العلاقة الأوسع للمجتمعات غير المتكافئة"؛ إذ "تُجيِّش خطابات سياسية محددة أو تُوجه سلوك الناس في مواقف ثقافية معينة"(56). ومن الأمثلة على التحرير الترجمي الممارسة الصحفية لـ"هآرتس" الإسرائيلية، التي تحاول تقديم نفسها "غير متحيزة وتتسم بالتوازن في نسختها الإنجليزية، بينما يكون تحيزها واضحًا في نسختها العبرية"(57). وقد ناقش الأكاديميان، أشرف عبد الفتاح ورشيد يحياوي(58)، فعلًا من أفعال التحرير الترجمي مُورس على موقعي "بي بي سي" فيما يتعلق بفلسطين؛ إذ تُلبِّي النسخة العربية من الخبر جزئيًّا توقعات القرَّاء العرب، بينما تنسجم النسخة الإنجليزية مع السردية الإسرائيلية.

أما الصحفي المترجم (Journalator) فهو مصطلح يتكوَّن من "صحفي" و"مترجم" لوصف كيف يمكن إخضاع قصة إخبارية "لألوان من الترجمة وإعادة الصياغة المتعددة"(59) لخدمة غايات معينة. ويرى أستاذ دراسات الترجمة، لوك فان دورسلار (Luc van Doorslaer)، أن الصحفي المترجم هو "مهني يقيم في غرفة الأخبار ويُكثر من استخدام الترجمة"(60). ويمكن للصحفيين المترجمين، في إطار دورهم المهني، إما أن يمنحوا صوتًا للضعفاء أو أن يقمعوا، بل ربما قَلَبُوا، معاناتهم أثناء إعدادهم تقارير ابتغاء إرسالها إلى بلدانهم الأصلية؛ حيث لا يستطيع المتلقون الوصول إلى اللغة (أو اللغات) المحلية لموقع الحدث، لاسيما أن أغلب المتلقين تعوزهم المعرفة اللغوية والثقافية التي تُمكِّنهم من التحقق مما يُنْقَل إليهم. ويبدو أن هامش الحرية التحريرية لدى الصحفي ربما كان أكثر خارج اللغة مما لو كان داخلها. بعبارة أخرى، حين ينقل المراسل خبرًا داخل حدود لغته، يمكن تتبُّع هفواته وتقييمه من قِبَل الجمهور على نحو أفضل مما لو نقل من خارج حدود لغته، أي من لغات أخرى. وقد يلجأ الصحفيون المترجمون إلى عدد من الإستراتيجيات السردية، مثل الاقتطاع الانتقائي، والتراكم السردي؛ حيث الإفراط في استخدام مفردات معينة ووسوم محددة في خطاب الأخبار لجعل جوانب معينة من الحدث أكثر بروزًا من غيرها من خلال الاختيارات المعجمية التي قد تؤدي إلى تمثيل غير متناسب للواقع. لا غرو إذن أن يرى نقاد مختلفون أن اللغة في علاقات الغرب بالعرب تقف حائلًا دون التَّفاهم، بل ربما عزَّزت غيابه(61)، لكن سوء التفاهم هذا ليس عائدًا إلى سوء ترجمة بقدر ما هو عائد إلى طغيان سرديات عامة وكبرى وأفهومية تؤثر فيمن يستحق أن يُنظر إليه على أنه حقيقٌ بحقوقه كإنسان ومن هو ليس كذلك.

2. دور السرديات في محنة المدني الفلسطيني

ثمة أربعة عوامل، أو حتى جهات فاعلة، يُمكنها التأثير في تغيير وضع حقوق الإنسان: 1) المجتمع الدولي من خلال القرارات. 2) المنظمات الدولية لحقوق الإنسان من خلال التقارير. 3) القوى العظمى التي يُمكنها المساعدة في فرض قرارات المجتمع الدولي. 4) وسائل الإعلام التي يُمكن أن تعمل رافعة لحقوق الإنسان ليس فقط من خلال تقارير باردة، ولكن أيضًا من خلال تقارير دؤوبة. والافتراض السائد على نطاق واسع هو أن التغطية الإعلامية الغربية لفلسطين لا تُقدِّم تقارير جادة أو صادقة عن محنة الفلسطينيين. وفي أفضل الأحوال، ما تنقله إلى متلقيها هو إخبار مُبْتَسَر غرضه رفع الملامة، والإيهام بالموضوعية، ولكنها لا تُثْمِر تضامنًا ولا تُحقِّق عدالة، وبهذا تظل سردية الفلسطينيين محجورًا عليها. وهذا ينطبق على التغطية ذاتها لانتهاكات حقوق الإنسان في الحرب على غزة (2023/2024) التي قد لا تكون جديرة، من وجهة نظر الصحفيين أو المحررين الناطقين باللغة الإنجليزية، بتغطية تُنْتِج فعلًا حقيقيًّا. لا يُمكن أن تُعزى هذه التقارير الإخبارية الباردة إلى ندرة المعلومات أو التوثيق. في الواقع، تُعد جزءًا من سرديات أنطولوجية وعامة وأفهومية وكبرى تُسهِم في تعزيز تجاهل حقوق الفلسطينيين من طرف وسائل الإعلام الرئيسة في الغرب، والتي ينطلق معظمها من السرديات الغربية المهيمنة حول الجغرافيات غير الغربية، بما في ذلك فلسطين.

صدرت، منذ نكبة عام 1948، مئات القرارات عن الأمم المتحدة التي تؤكد الحقوق الأساسية للفلسطينيين. وتشمل هذه القرارات حق العودة (194/1948)، وحق تقرير المصير (2672/1970)، وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (607/1988) الذي يؤكد أن اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين في وقت الحرب تنطبق على الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967. وأبعد من ذلك صدرت عشرات القرارات عن الأمم المتحدة ضد إسرائيل(62). أما في الحرب التي تدور رحاها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد شجب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش(63)، "القصف المتواصل لغزة من القوات الإسرائيلية"، و"مستوى الخسائر بين المدنيين" الذي وجده "مثيرًا للقلق الشديد" غير أن هذه الحرب ليست حادثة منفصلة كما تُقدِّمها وسائل الإعلام الغربي، بل تمثِّل حلقة من "حرب المئة عام على فلسطين"، بحسب توصيف المؤرخ والأكاديمي، رشيد خالدي(64)، أو قل: عملية بطيئة ومتواصلة وممتدة ومكثفة من التطهير العرقي لفلسطين منذ عام 1948(65)(66)، تستهدف النظام البيئي الكامل لحياة الفلسطينيين. ولأن هذا الفعل يحتاج إلى كثير من التبرير فكان لابد من توظيف سرديات متعددة لكي تجري عملية الإبادة والتطهير على أكمل وجه وبالسماح بقليل من احتجاج في المجال العام لا تزيد مهمته عن أن يضفي على المؤسسة المنتجة لهذه السرديات مسحة من الموضوعية.

بالإضافة إلى المنظمات الفلسطينية، مثل "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" و"مركز الميزان"، وكذلك المنظمات الدولية، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" ومؤسسات الأمم المتحدة ذات الصلة، تقوم منظمات حقوق إنسان إسرائيلية مثل "بتسيلم" بتوثيق وتسليط الضوء على انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني، كما تدين سياسة إسرائيل في سلب أرواح المدنيين الفلسطينيين. ففي عام 2021، أصدرت "بتسيلم" تقريرًا يؤكد أن إسرائيل دولة فصل عنصري. وقد لاحظت تلك المؤسسات أن إسرائيل تجتهد في حجب التغطية لانتهاكاتها لحقوق الإنسان في فلسطين. ففي سابقة تُعد الأولى من نوعها، أرسلت عشر منظمات حقوق إنسان إسرائيلية رسالة مشتركة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، في 28 ديسمبر/كانون الأول 2022، أشارت فيها إلى أن "إسرائيل لديها سجل في منع الوصول الدولي" إلى فلسطين، وبيَّنت أن "لجان التحقيق التابعة للأمم المتحدة، والمقررين الخاصين، وموظفي مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، والباحثين الدوليين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، مُنعوا جميعًا على مرِّ السنين من الدخول إلى فلسطين"(67).

على الرغم من تلك التقارير، فإن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين لا تزال مستمرة، حيث تواصل إسرائيل انتهاكاتها دون مساءلة جادة وسط مطالبات بالتحقيقات، وإدانات لا لبس فيها من قِبَل الكيانات الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية، ومن بينها مؤسسات حقوق إنسان إسرائيلية. وبالإضافة إلى الإرادة الهشة للجهات الفاعلة، مثل المجتمع الدولي، إزاء القضية الفلسطينية، فإن وسائل الإعلام الغربي البارزة لا تُتيح لهذه القضية المساحات التي تستحقها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك تغطية الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، في 11 يناير/كانون الثاني 2024، وتتهمها بارتكاب جرائم إبادة جماعية في الحرب على قطاع غزة. وقد حظرت معظم القنوات الرئيسة الناطقة باللغة الإنجليزية بث الجلسة. وتشمل هذه القنوات "سي إن إن" (CNN)، و"فوكس نيوز" (Fox News)، و"إم إس إن بي سي" (MSNBC)، وغيرها، بل ولحقت بها "بي بي سي"، التي تُبيِّن أبحاث مختلفة مساهمتها أحيانًا في سرد "الخطاب الإسرائيلي الرسمي وكأنه بيان للحقيقة"، كما يقول ليون بارخو(68).

3. صناعة السرديات في الإعلام الغربي

تُعد الموضوعية سردية أفهومية شائعة، وكما لها شأن في العلوم الاجتماعية فإنها تحظى بمكانة مركزية في أدبيات الاتصال والإعلام. وتتضمن، على سبيل الافتراض، الحياد والشمول والوزن المناسب وتجنب تأثير أصحاب السلطة. ومع ذلك، فإن هذا ليس هو الحال مع التغطية الإعلامية الغربية لمحنة المدنيين في غزة. فعند فحص تغطية هذه الوسائل، لن يكون عسيرًا على المتلقي أن يرى خللًا إعلاميًّا يُعرِّض حقوق الفلسطينيين للخطر، ويُعزِّز إفلات إسرائيل من العقاب. الخبر الذي نشره موقع "بي بي سي" عربي، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2023، بعنوان "فيديو يُظهر رجالًا فلسطينيين عُراة محتجزين في غزة"(69)، يبدو فيه التحيز السردي جليًّا في العنوان الذي يُفضِّل الاصطلاح الإنجليزي للتدليل على المعتقلين الفلسطينيين، ألا وهو (Detained) أي "محتجزين" وليس "معتقلين". وهنا، تكون عملية الاقتطاع الانتقائي بدأت انطلاقًا من العنوان بهذا الاختيار اللغوي. والعنوان هو بوابة القارئ أو العتبة النصية للولوج إلى محتوى الخبر، ويتم من خلاله تأطير وعي المتلقي إزاء السردية العامة التي يُراد إيصالها وترسيخها. ومن هنا، فإن تأطير هؤلاء الفلسطينيين بوصفهم "محتجزين" -وهي كلمة محايدة تمامًا أي لا تتهم ولا تُبَرِّئ- لا يُشير بوضوح إلى أنهم مدنيون تجب حمايتهم بموجب القانون الدولي الإنساني. وليس هناك ذكر لمصطلح "مدني" في العنوان، أو في نص الخبر، وعوض ذلك يتكرَّر استخدام مصطلح "رجال" 14 مرة في النص؛ مما يوحي بأن هؤلاء الأشخاص قد لا يكونون مدنيين؛ مما يزيد من احتمالية الاشتباه بهم، أو يفتح الباب بهدوء تجاه هذا المنحى. ولابد أن من يصوغ الخبر يُدرك ما لمفردة "مدنيين" من حمولة دلالية تصبُّ في صالح المُتَضَرِّر وفقًا للقانون الدولي الإنساني. ولهذا، ونظرًا لغموض هوية هؤلاء المحتجزين، يمكن القفز خطوة أخرى، من وجهة نظر مفهوم النص، والانتقال بهم من فئة المدني (Civilian) في القانون الدولي إلى فئة المحارب (Combatant) بغض النظر عن كيفية أو مكان أو زمان أو ظروف احتجازهم. صحيح أن استخدام مفردة "رجال" يختلف عن استخدام مفردة "محاربين"، ولكن رجال في الغالب، إذا ما أُخِذَت بالنظر إلى بقية الصياغة، فإنها قد تميل بالقارئ تجاه "المحارب" أكثر من "المدني".

ورغم ذكر مصطلح "مدني" سبع مرات في الخبر، إلا أنه يُستخدم فقط مرتين للإشارة إلى هؤلاء الفلسطينيين، في حين تحمل الاستخدامات الأخرى دلالة سلبية. على سبيل المثال، حينما يُسْأل المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية عن المحتجزين يصفهم بأنهم "جميعًا في سن الخدمة العسكرية"، وأن هؤلاء "اكتُشِفوا في مناطق كان من المفترض أن المدنيين قد أخلَوها منذ أسابيع". الواقع هنا أن الأولوية في هذا النص للسردية الإسرائيلية؛ إذ يُمنح المتحدث مساحة لتقديم وجهة نظره، مما يُوحي بشكل تراكمي بأن هؤلاء الرجال قد يكونون من المشتبه بهم. أضف إلى ذلك أن الخبر لا يُعلق على معاملة إسرائيل لهؤلاء الرجال، الذين تمَّ تجريدهم من ملابسهم وتغطية أعينهم بطريقة مُهِينة؛ الأمر الذي يجليه محتوى الخبر العربي. وتكشف المقارنة بين محتوى هذا الخبر المنشور باللغة الإنجليزية ونظيره المنشور باللغة العربية تفاوتًا، مهما كان بسيطًا، في التغطية، مما قد يؤدي إلى تفسيرات ومواقف متضاربة بين جمهور اللغتين.

في هذا الخبر عن "بي بي سي" عربي، تُمنح السردية الفلسطينية العامة هامشًا أوسع، مع التركيز بشكل نسبي على الوضع المدني للرجال المحتجزين. وهنا عناصر حري الالتفات لها في هذا الخبر، أولًا: تسمية إسرائيل بشكل صريح كفاعل في عنوان الخبر؛ إذ يُشير إلى أن الذي اعتقل هؤلاء الفلسطينيين هو الجيش الإسرائيلي؛ الأمر الذي غاب عن عنوان الخبر الإنجليزي، الذي يطمس الفاعل تمامًا باستخدامه صياغة المبني للمجهول. ثانيًا: يتضمن النص العربي تصريحًا لم يعرضه النص الإنجليزي، وهو تصريح لمسؤول من حركة حماس، يُشدِّد على أن اعتقال إسرائيل "لمجموعة من المواطنين المدنيين النازحين ... وتجريدهم من ملابسهم بأنه جريمة صهيونية مفضوحة للانتقام من أبناء شعبنا المدنيين العزل"(70). وهنا، تُستخدم إستراتيجية الاقتطاع الانتقائي في العربية لصالح السردية العامة الفلسطينية، بينما تُستخدم الإستراتيجية ذاتها في النص الإنجليزي لإبراز السردية الصهيونية. ولئن كانت آليات العمل هذه تخفى على القارئ العادي رغم تأثيرها فيه، فإنها لا تخفى على المختصين.

ومن هنا، فإن هذه الأساليب في تغطية "بي بي سي" الإنجليزية للأحداث دفعت بعض صحفييها إلى الاحتجاج على ما يرونه "ازدواجية في المعايير حول كيفية النظر إلى المدنيين"؛ إذ قارنوا تغطية الشبكة لفلسطين بتغطيتها الأكثر عاطفية للحرب في أوكرانيا(71). ويتهم هؤلاء الصحفيون "بي بي سي" بالفشل في "مساعدة الجمهور على التفاعل مع انتهاكات حقوق الإنسان الجارية في غزة"(72)، وحين يُقارَن هذا بعناية "بي بي سي"، في نسختها الإنجليزية، بالمحتجزين الإسرائيليين في غزة يُدرك الفرق في التغطية والاهتمام بالتراكم السردي لصالح السردية الإسرائيلية في "بي بي سي" الإنجليزية. فقد نشر الموقع تقريرًا، بعنوان: "رهائن حماس: قصص عن الأشخاص الذين أُخِذوا من إسرائيل"، في 6 أبريل/نيسان 2024، يتسم بالتفصيل والتعاطف الإنساني والتضامن السردي والتحديث من آن لآخر عن الإسرائيليين المحتجزين، وقد خضع للتحيين أكثر من مرة(73) بعنوان واحد. ويتضمن التقرير -في 18 صفحة- روايات شخصية لـ89 إسرائيليًّا، ويعرض 19 صورة شخصية للأسرى الإسرائيليين. وتُشير لغة التقرير إلى أن معظم هؤلاء الأفراد هم من المدنيين، ويُقدِّم تفاصيل عن حياتهم المدنية، بما في ذلك مهنهم وجنسياتهم، وبعضهم من الولايات المتحدة والبرازيل والمكسيك والأرجنتين. ولا ينسى التقرير أن يتساوق في سرده مع سردية كبرى هي سردية الهولوكوست حين يُبرز أن عددًا من هؤلاء هم من الناجين من الهولوكوست أو أبناء الناجين منها، وهو ما تُطلق عليه منى بيكر التأطير الحيزي (special framing)، حيث تُستدعى سرديات كبرى لخدمة سرديات ناشئة لتوفير حماية وتعزيز صورة.

ونظرًا للانتشار العالمي لـ"بي بي سي" وتأثيرها، فمن المرجح أن يتم تداول هذه القصة على نطاق واسع، وتلتقطها وسائل إعلام أخرى وتترجمها إلى لغات مختلفة. ويفيد عرض هذا التقرير في النظر إلى كيفية صناعة السرديات على جانبي اللغة. فبينما تحرص "بي بي سي" على الظهور بصفة الموضوعية في عرض أخبار المعتقلين الفلسطينيين في العربية، فإنها أيضًا على نحو خفي تُسهِم في الترويج للسردية الإسرائيلية وإشاعتها، بينما يظل القارئ العربي تحت انطباع أن "بي بي سي" تحافظ على موضوعيتها في التغطية. ولابد من فحص هذه التغطية جنبًا إلى جنب السلوك الأوسع لوسائل الإعلام الإنجليزية الأخرى، ولا يمكن فصل تغطية "بي بي سي" عن السياق الأكبر للسرديات الغربية حول "الآخر".

إن التراكم السردي في هذا التقرير وأضرابه من التقارير، التي تُعالج قضية المحتجزين الإسرائيليين وتهتم بتفاصيل سردياتهم الشخصية، يتجلى في إغفال أو إهمال غير مدرك لمعاناة آلاف الفلسطينيين الذين اعتقلتهم إسرائيل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. فلا يفتأ المتابع للأخبار أن يسمع بتطورات وأخبار الرهائن الإسرائيليين في غزة في معظم وسائل الإعلام الناطقة بالإنجليزية، ومنها "بي بي سي"، ولا يكاد يسمع شيئًا من هذا القبيل عن آلاف الفلسطينيين المعتقلين في ظروف تحيط بها الحيونة والشيطنة ونزع صفة المدني عن المدنيين الفلسطينيين. ولا يمكن فصل الترابط بين هذه الوسائل الإعلامية والمؤسسات الرأسمالية على مستوى العالم التي تعرض إسرائيل وسرديتها جزءًا من سرديات كبرى، مثل: سردية الحضارة، وسردية الحرب على الإرهاب، وسردية معاداة السامية، وسردية الهولوكوست؛ مما يعسِّر مقاومتها. وليس ذلك في الحقيقة سوى صدى لمحاولات "استغلال الأسواق الإعلامية التابعة من قبل الغرب المتروبوليتاني الرأسمالي"، و"اعتماد الأطراف الصريح على الدول الإمبريالية المتروبوليتانية؛ مما يجعل الهيمنة الغربية ضمنية"(74)؛ مما يفضي إلى مزيد من الركود في تَقَدُّم حقوق الإنسان. وتفعل أنواع التغطية تلك أفعالها؛ إذ يصبح المتابع غير المدقق يظن، في سياق الاقتطاع الانتقائي والتراكم السردي والتأطير الحيزي، أن المحتجزين الإسرائيليين أكثر من المعتقلين الفلسطينيين لدى إسرائيل. وذلك هو القلب الذي ناقشه الباحثان في المدخل النظري. لذلك تصبح حقوق الإنسان نظامًا فاقدًا لقدرته على التمييز بين الجاني والضحية بسبب التغطية التي تبدو في ظاهرها موضوعية ويأتي من باطنها العذاب.

وقد سبق ذكر دراسة الأكاديميين، عبد الفتاح ويحياوي(75)، التي تُظهر كيفية تغطية تقريرين صحفيين في لغتين مختلفتين لحدث ما؛ حيث يمكن أن يتبنَّى كل واحد منهما سردية مختلفة؛ إذ "يسعى كلاهما إلى استمالة قرائه ليتبنَّى" موقفه "مع الاحتفاظ بمسحة الحياد والموضوعية"(76)، للإيحاء بأن الطرفين مُمثَّلان في التقريرين، حتى مع حصول خلل في التمثيل. وللتدليل على ذلك، فقد خلصت دراسة نشرها موقع "دي إنترسبت" (The Intercept) لأن وسائل إعلام غربية رئيسة تميل إلى صالح الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين في التوصيفات الداعية للتضامن عبر عمليات استنساخ وقلب بيِّنة المعالم. وتشمل هذه الوسائل "نيويورك تايمز" و"لوس أنجلوس تايمز" و"واشنطن بوست". وقد استخدم محررو ومراسلو هذه الصحف مصطلح "مذبحة" (Slaughter) لوصف قتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة60 % إلى 1%، واسْتُخْدِم مصطلح "مجزرة" (Massacre) لوصف قتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة 125% إلى 2%، واسْتُخْدِم مصطلح "مروع" (Horrific) لوصف قتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة 36% إلى %4(77). ولا يمكن للقراء العاديين اكتشاف ديناميكيات وسياق هذا الإفراط في استخدام المصطلحات بسهولة؛ إذ تقع آراؤهم ضحية للتراكم السردي والاقتطاع الانتقائي الكامنين في هذه الاختيارات اللغوية. وقد يزعم محررو هذه الصحف، وكذلك الصحفيون والمحررون، أنهم يلتزمون بالمبادئ التوجيهية العامة التي تنص على تمثيل كلا جانبي الصراع. ومع ذلك، فإنهم يتجاهلون نتائج تغطيتهم غير المتوازنة التي تؤدي إلى تَمْثِيل غير متناسب للواقع؛ مما يُسهِم في نهاية المطاف في المزيد من معاناة المدنيين الفلسطينيين.

بالمثل، قد تزعم "بي بي سي" حرصها على عرض وجهة النظر الفلسطينية من خلال بث تصريح لحركة حماس تتهم فيه إسرائيل بـ"ارتكاب جريمة حرب باستهداف المستشفى"(78). وقد ورد هذا التصريح في تقرير لمراسلة "بي بي سي" في القدس، آنا فوستر (Anna Foster)، عن "الغارة" الإسرائيلية على مستشفى الشفاء، في 20 مارس/آذار 2024. ومع ذلك، فإن فعل الاقتطاع الانتقائي الذي يتجلى في المساحة الأكبر والحضور البصري الممنوح للإسرائيليين في نفس التقرير قد يمر دون أن يُلاحظه أحد مع تداعيات سردية لصالح إسرائيل؛ إذ يُمْنَح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، معظم وقت التقرير للتعبير عن آرائهم باللغة الإنجليزية، بينما يتم تسجيل وجهة نظر الفلسطينيين بإيجاز ترجمي في 7 ثوان في بداية التقرير. أعطى التقرير، الذي تبلغ مدته 6 دقائق و4 ثوان، دقيقة واحدة و48 ثانية، لهاغاري. وعلاوة على ذلك، خصصت دقيقة و29 ثانية أخرى لنتنياهو، الذي أكد الرعاية والخطوات التي "وجَّهت" وتستمر في توجيه اهتمام حكومته بالمدنيين الفلسطينيين. وكان دور المراسلة في التقرير هو فقط تقديم بيان هاغاري، و"تعليقات بنيامين نتنياهو المثيرة للاهتمام"، على حدِّ تعبيرها.

من خلال التدقيق في تغطية "بي بي سي" في هذا التقرير، يرى الباحثان أن المؤسسة الإعلامية تعمل منصة للمسؤولين الإسرائيليين الذين يُقدِّمون الواقع بشكل مريح من وجهة نظرهم الخاصة لمدة إجمالية تبلغ 3 دقائق و17 ثانية، في تقرير مدته 6 دقائق و4 ثوان، بزعم حماية المدنيين في الوقت الذي يقومون فيه بالقضاء عليهم جماعيًّا. وبتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية الموثقة لحقوق الإنسان المتعلقة بحياة المدنيين تحت ستار الموضوعية، قد تكون "بي بي سي" متورطة في قمع حقوق المدنيين، ومن ثم لا تخدم الموضوعية المزعومة الضعفاءَ بقدر ما تخدم الأقوياء. وبهذا تكون مرادفًا موضوعيًّا للعنف الرمزي(79). لا تُسائل مراسلة "بي بي سي" أيًّا من التصريحات التي قدَّمتها في تقريرها، مثل تصريح هاغاري الذي يؤكد فيه قائلًا: "لا نسعى إلى إيذاء المدنيين"(80) على الرغم من أن قتل المدنيين موثق ومُتَلْفَز. وخلافًا لذلك، فإن الطريقة التي تمَّ بها إنتاج التقرير قد تُعطي الانطباع بأن إسرائيل تتخذ كل التدابير الممكنة لتجنُّب وقوع إصابات بين المدنيين. إن ما يظهر في هذا التقرير هو إبراز عنصر من عناصر التراكم السردي الذي يُعلي من شأن السردية الإسرائيلية، في حين لم يتم ذكر تقرير الأمم المتحدة الذي نُشِر بشأن الإجراءات الإسرائيلية، وتؤكد فيه فرانشيسكا ألبانيز (Francesca Albanese)(81) أن إسرائيل في حربها على غزة كثفت من نزع الصفة المدنية عن الفلسطينيين بتمطيطها نطاق "مفاهيم القانون الدولي الإنساني مثل الدروع البشرية، والأضرار الجانبية، والمناطق الآمنة، والإخلاء، والحماية الطبية بطريقة متساهلة؛ إذ تُجرِّد هذه المفاهيم من محتواها المعياري... مما يؤدي إلى تآكل التمييز بين المدنيين والمقاتلين"(82).

إن "ابتلاع" وصفة الموضوعية دون نقد، قد يُسهِم في إعادة إنتاج السرديات المهيمنة "في الوقت الذي تتظاهر فيه بالتحرر من أي تأثير أيديولوجي"(83)، بل قد يُواجه الصحفيون الذين لا يتوافقون مع "الموضوعية" و"الاحتراف" المُقرَّرَيْن على هذا النحو عواقب عندما "يُقرِّرون اتباع مسار الصحافة المستقيمة في الإبلاغ عن انتهاكات حقوق الإنسان"(84). في تغطيتها للحرب الإسرائيلية على غزة، تثبت "موضوعية" وسائل الإعلام الغربي، بما لا يدع مجالًا لشك، أنها "تتجاهل عيانًا بيانًا المعاييرَ الصحفية المهنية والأخلاقية"(85). ووفقًا للباحثيْن، دافنة غولان (Daphna Golan) وزفكا أور (Zvika Orr)(86)، فإن حقوق الإنسان في فلسطين ليست قضية محلية، بل "حوارًا مع المجتمع الدولي الذي يضم وسائل الإعلام" والتي عادة ما تصنع تقاريرها من خلال الترجمة، وهي عملية مركبة لا تخلو من إشكالات(87).

فالطريقة التي يتم بها تمثيل الواقع في هذه الوسائل، تعمل في الغالب على عرقلة "مناقشة القضايا الأخلاقية ... مما يجعلها مناقشة مهنية لتفسيرات مختلفة للقوانين"(88)، مما يجعل القوانين في نهاية المطاف وسائل مشلولة ليس بوسعها مساعدة الضعفاء. وإلا فلماذا لا تولي وسائل الإعلام هذه ما يكفي من نقاش للعديد من قرارات الأمم المتحدة التي تدافع عن حقوق الفلسطينيين؛ إذ يتسم تعاطي وسائل الإعلام الغربي مع هذه القرارات وغيرها بالتجاهل، أو التغطية الباهتة؛ مما يُقلِّل من أثر هذه القرارات على الأرض. ومن هنا، تنشأ فجوة بين سرديات منظمات حقوق الإنسان الدولية والباحثين في مجال حقوق الإنسان، أي السرديات الأفهومية، وبين سرديات المؤسسات الإعلامية الكبرى في الغرب، أي السرديات العامة والكبرى. ففي حين تبذل منظمات، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، جهودًا في توثيق وإدانة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطينية، ما فتئت تقاريرها تتعثر في طريقها إلى الجمهور أو الفاعلين، مما يحد من تأثيرها في الإدراك العام والسياسة. إن تأثير القوى العظمى، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، والأنظمة العالمية، مثل الرأسمالية، بالإضافة إلى تأثير المنافذ الإعلامية التي تنشط ضمن سرديات هذه الجهات الفاعلة، يؤدي إلى تفاقم هذا الوضع؛ إذ يُشجعها دعمها الواضح لإسرائيل على مواصلة سياساتها الإبادية، ابتداء بالحيونة والشيطنة في السرديات العامة وانتهاء بنزع صفة المدني في السرديات الأفهومية.

خاتمة

إن الدعم الذي تتلقَّاه إسرائيل بأشكاله المختلفة (العسكري والمالي والدبلوماسي والإعلامي...) من الدول الغربية وبعض القوى الدولية غالبًا ما تنتج عنه سرديات تُقلِّل من شأن معاناة الفلسطينيين أو تُشَرْعِن الإجراءات الإسرائيلية. وينسحب هذا على وسائل الإعلام التي يُفترض أن تُسهِم في تشكيل الرأي العام ومحاسبة السلطة ومناصرة حقوق الإنسان. ويُسلِّط النقاش الضوء على الأساليب التحريرية التي تتبنَّاها وسائل الإعلام الغربي عادة فيما يتصل بمعاناة المدنيين الفلسطينيين. صحيح أن هذا الإعلام قد يُقدِّم حقائق، ولكن دون سياق ودون عمق. وفي حين تعمل وسائل الإعلام نظريًّا رافعة لحقوق الإنسان، فإن تصوير وسائل الإعلام الغربي للفلسطينيين غالبًا ما يكون قاصرًا ولا يُسهِم في إحقاق الحقوق الفلسطينية. وبدلاً من ذلك، يعمل هذا الإعلام على استدامة السرديات التي تُبرِّر أو تُشَرْعِن الإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الذين يتم تقديمهم بصفتهم "غير مدنيين" أو "دروعًا بشرية" أو حتى "بشرًا دون المستوى الإنساني"، وبهذا لا يستحقون الحماية الإنسانية الكاملة بموجب القانون الدولي الإنساني.  

على الرغم من التقارير الصادرة عن مؤسسات حقوقية مختلفة حول الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان في فلسطين، فإن محنة حقوق الإنسان الفلسطينية لا تزال دون حلٍّ، بل تتفاقم. وتقوم وسائل الإعلام الغربي بدور سلبي يُكرِّس هذا التفاقم، وتراجع حقوق الإنسان، من خلال القصور في تغطية الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق المدنيين الفلسطينيين؛ إذ لا تخترق السردية الفلسطينية ما هو أبعد من السرديات الشخصية أو الأفهومية لدى أقلية من الباحثين، بينما تظل قدرتها على الوصول إلى السرديات العامة والكبرى حسيرة. وبهذا تنجح محاولات إسرائيل في نزع صفة المدني عن المدنيين الفلسطينيين قانونًا بعد أن نجحت بمساعدة وسائل الإعلام نفسها، ومنها "بي بي سي" في حيونتهم وشيطنتهم. وعادة ما يتم تأطير نزع الصفة المدنية عن الفلسطيني في وسائل الإعلام الغربي باستخدام إستراتيجيات مختلفة مبثوثة على نحو لا يمكن التقاطه بيسر من طرف القارئ العادي، مثل الاقتطاع الانتقائي والتراكم السردي بطرق تجعل من الفاعل لهذا الفعل مجهول الهوية عبر تعمية الفاعل أو عرض الأمر باعتباره نزاعًا بين طرفين متكافئين، أو نزاعًا بين المتحضرين والمتوحشين. وأكثر من ذلك، تمنح التغطية الإعلامية الغربية الأولوية للسردية الإسرائيلية ليس باستخدام آليات مثل التراكم السردي والاقتطاع الانتقائي وحسب، وإنما بالذهاب إلى أبعد من ذلك باللجوء إلى الاستنساخ والقلب، ويكون ذلك على حساب السردية الفلسطينية التي تُلْبَس لباس الغموض الذي يطمس الخط الفاصل بين الضحية المدنية العزلاء والجاني المسلح بترسانة الإبادة الجماعية.

على الرغم من ثقلها الذي لا يُنكر، فإن السرديات الأوسع التي تتجلى في التفاوت الهائل في القوة، واختلال التوازن، بالإضافة إلى التراكم السردي لتصورات الاستعمار في المنطقة، وعنها، بشكل عام وعن فلسطين بشكل خاص، عادة ما تحظى بتغطية هامشية في تقارير وسائل الإعلام الغربي. وبهذا تمر التغطية الباهتة لمحنة المدني في فلسطين مرور الكرام. قد تُرافع "بي بي سي" عن نفسها بأن تغطيتها موضوعية، لكن تتبُّع الاختلالات مهما كانت بسيطة بين ما تنشره بالعربية وما تنشره بالإنجليزية قد يُظهر فرقًا، لاسيما إذا ما أخذت بعين الاعتبار إستراتيجية التراكم السردي. إن الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية تتخذ مواقف باهتة فيما يتعلق باستخدام لغة القانون الدولي الإنساني في وصف محاولات إسرائيل الحثيثة لنزع الصفة المدنية عن الفلسطينيين. فمعظم هذه الجهات الفاعلة الحكومية المؤثرة في العالم لا تتضارب سياساتها ومواقفها جذريًّا مع السردية الإسرائيلية. نعم هناك عدد من الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ومنظمة الصحة العالمية التي لا تتوافق مع السردية الإسرائيلية؛ ومع ذلك، فإن مواقفها بشأن معاناة الفلسطينيين لا تُمنح مساحة كافية في وسائل الإعلام الغربي التي تتوافق في الغالب مع سياسات بلدانها من ناحية، وتخضع للتأثير الرأسمالي لمالكيها من ناحية أخرى. وهنا، لا يمكن فهم كل هذا الهزال في تحقيق العدالة للمدني الفلسطيني في المجال القانوني الدولي بمعزل عن السرديات السائدة في الغرب والتي لا ترى ضررًا في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين وشيطنتهم؛ إذ يصبح نزع صفة المدني عن الفلسطيني تحصيل حاصل.

ومثل وسائل الإعلام، فإن نظام حقوق الإنسان نفسه راسخ الجذور في الممارسات الاستعمارية. ونظرًا للصياغة والممارسة التاريخية لحقوق الإنسان كنظام، فإنه يُمكِّن الدولة حصريّ منًا الاحتفاظ بالحق في استخدام العنف باعتبارها الحامي الحصري لحقوق الإنسان طالما أنها تتخذ التدابير اللازمة عندما يكون العنف ضروريًّا للحفاظ على النظام. لذلك، عندما لا تأخذ وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية في الاعتبار معاناة المدنيين الفلسطينيين بجدية، يمكن تفسير أدائها في ضوء الموقف القائل بأن نظام حقوق الإنسان نفسه ليس مُصمَّمًا ليكون شاملًا بالكامل، وهو غير قادر بطبيعته على هز "الجذور الاستعمارية الإمبريالية للقانون الدولي"(89). وما لم تؤخذ هذه الديناميكيات في الاعتبار وبدون جهود مخلصة تجاه "إلغاء التسلسلات الهرمية الدولية"(90) التي تؤثر على، وتوجه، أداء آلات بناء السرديات، فإن الوضع في مجال حقوق الإنسان في فلسطين سيظل دون حلٍّ، ولعله يزداد سوءًا.

لا يمكن لوسائل الإعلام أن تعمل عبر الحدود دون ترجمة، وقد تؤدي ترجمة صحفي لتغطية حدث ما إلى استنتاجات مختلفة على جبهات مختلفة، وربما أفعال، بناء على الطرق التي يتم بها تأطير نفس الحدث في ثقافة المتلقي. إن عدم قدرة المتلقي على التحقق مما يُرْسَل إليه عبر الحدود محدود بسبب الحاجز اللغوي. ومن ثم، فإن دور الصحفيين قد يُعزِّز سردية ما وقد يطمسها، وهذا ينسحب على حقوق الإنسان. وتشارك الترجمة، كفعل اجتماعي، في عملية جعل نزع الطابع المدني عن الفلسطينيين غير مرئي للعالم من خلال طبقات لغوية دقيقة من التحرير التي تتم في الإنتاج الإنجليزي والعربي، وكذلك إعادة الإنتاج في نفس الوسيلة الإعلامية. فعندما يتعرض المتلقون الناطقون بالعربية لأخبار "بي بي سي" العربية، على سبيل المثال، لقصص إخبارية تُسلِّط الضوء على معاناة المدنيين الفلسطينيين، مهما كانت نسبية، فلربما يُلْقَى في روعهم أن "بي بي سي"، تتحلى بالموضوعية حين تُعطي سرديتهم مساحة ما، دون التفات إلى أن النسخة الإنجليزية عزَّزت سردية المُسْتَعْمِر الإسرائيلي. وينشأ الخطر السردي حين يُسفر التفاوت في التغطية بين النسخ العربية والإنجليزية عن استنتاجات مختلفة لدى المتلقين في العربية ونظرائهم في الإنجليزية مما يؤدي بدوره إلى توقعات وأفعال مختلفة.

نشرت هذه الدراسة في العدد الخامس من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) Francesca Albanese, Situation of human Rights in the Palestinian Territories Occupied since 1967, United Nation, (October 20, 2023): 1-24.

(2) Ibid, 1-24.

(3) "oPt Emergency Situation Update 46 (7 Oct 2023 - 25 Sep 2024)," World Health Organization, September 25, 2024, "accessed September 25, 2024". https://tinyurl.com/5dde57bx.

 (4) "الشهداء"، الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، (د.ت)، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2024)، https://tinyurl.com/583p9k2r.

(5) "صحة غزة: إسرائيل استهدفت 65% من مؤسسات الصحة خلال عام الإبادة"، الجزيرة نت، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2024، (تاريخ الدخول: 8 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، https://tinyurl.com/385suf8n.

(6) Annie Sparrow, Kenneth Roth, "Destroying Gaza’s Health Care System Is a War Crime," Foreign Policy, February 9, 2024, "accessed October 1, 2024". https://tinyurl.com/yp2rpuxb.

(7) Patrick Wintour, "UN Secretary General Says Israel’s Rejection of Two-State Solution is ‘unacceptable’," The Guardian, January 23, 2024, "accessed October 1, 2024". https://tinyurl.com/4evww6px.

(8) Julian Borger, "Civilians Make up 61% of Gaza Deaths from Airstrikes, Israeli Study finds," The Guardian, December 9, 2023. "accessed July 22, 2024". https://tinyurl.com/2tmbd5sc

(9)  "غزة: نزوح أكثر من مليون شخص وإمدادات الوقود والإغاثة آخذة في النفاد"، الأمم المتحدة، يونيو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2024)، https://tinyurl.com/mr3czrfu.

(10) Susana Sampaio Dias, Reporting Human Rights, (New York: Peter Lang, 2016), 34.

(11) Ibrahim Seaga Shaw, Human Rights Journalism: Advances in Reporting Distant Humanitarian Interventions, (London and New York: Palgrave Macmillan, 2012).

(12) Susana Sampaio Dias, Reporting Human Rights, (New York: Peter Lang, 2016).

(13) Mark Hampton, Diana Lemberg, "History of Media and Human Rights," in the Routledge Companion to Media and Human Rights, eds. Howard Tumber, Silvio Waisbord, (New York: Routledge, 2017), 30-38.

(14) Ekaterina Balabanova, The Media and Human Rights, 1st ed, (London: Routledge, 2014).

(15) اهتم الباحث بدراسة العلاقة بين معالجة وسائل الإعلام للأحداث وحقوق الإنسان، منها بحث قيد النشر في مجلة (Journal of Arab & Muslim Media Research):

Mahmoud Alhirthani, "Media Coverage of Human Rights in Palestine, Case Study: Israel’s War on Gaza 2023-24," Journal of Arab & Muslim Media Research, Vol. 18, Issue. 1, (2024).

(16) Abeer Al-Najjar, "Telling the Palestinian Story: An Uphill Battle Against Western Media Bias," The New Arab, July 28, 2022, "accessed October 7, 2024". https://tinyurl.com/bdh8m4s4.

(17) Noureddine Miladi, Aaya Miladi, "Digital Media and the War of Narratives in Reporting the Palestinian-Israeli conflict," in Global Media Coverage of the Palestinian-Israeli conflict, ed. Noureddine Miladi, (London: Bloomsbury Publishing, 2023), 11-30.

(18) Zain Assaf, Hegemonic Frames in Mainstream Coverage on Palestine: A Case Study of Shireen Abu Akleh's Killing, (Thesis, Georgetown University, Qatar, 2023).

(19)  Paul Adams, "Video Shows Stripped Palestinian Men Detained in Gaza," bbc.com, December 8, 2023. "accessed November 6, 2024". https://tinyurl.com/4fvv5m2p.

(20) "ماذا نعلم عن الرجال الذين اعتقلهم الجيش الاسرائيلي في غزة؟"، "بي بي سي عربي"، 8 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2024https://tinyurl.com/4fvv5m2p.

(21) "Israel Launches Night Raid on Gaza’s Al-Shifa Hospital," bbc.com, March 18, 2024, "accessed November 6, 2024". https://tinyurl.com/89m9n2w9.

(22) Fredric Jameson, The Political Unconscious: Narrative As a Socially Symbolic Act, (Ithaca: Cornell University Press, 1983), 13.

(23) Porter Abbott, The Cambridge Introduction to Narrative, (Cambridge: Cambridge UP, 2003), 6.

(24) Patricia Ewick, Silbey Susan, "Subversive Stories and Hegemonic Tales: Toward a Sociology of Narrative," Law and Society Review, Vol. 29, Issue. 2, (1995): 197-226.

(25) Michael Murray, "Social Representation of Health and Illness," Social Science Information, Vol. 41, Issue. 4, (2002): 653-673. 

(26) Jerome Bruner, "The Narrative Construction of Reality," Critical Inquiry, Vol. 18, Issue. 1, (1991): 1-21. 

(27) Lewis Hinchman, Kinchman Hinchman, "Introduction", in Memory, Identity, Community: The Idea of Narrative in the Human Sciences, eds. Lewis Hinchman, Kinchman Hinchman, (Albany: State University of New York Press, 1997), 13-32.

(28) Mona Baker, Translation and Conflict, 1st ed. (London: Routledge, 2006).

(29) Ibid, 4.

(30) Ibid, 19.

(31) Somers Margaret, "Deconstructing and Reconstructing Class Formation Theory: Narrativity, Relational Analysis, and Social Theory", in Reworking Class, ed. Ithaca John, (London: Cornel UP, 1997), 73-105. 

(32) Ibid, 73-105. 

(33) Somers Margaret, Gloria Gibson, "Reclaiming the Epistemological 'Other': Narrative and the Social Construction of Identity," in Social Theory and the Politics of Identity, ed. Craig Calhoun, (Oxford and Cambridge, MA: Blackwell, 1994), 37-99.

(34) Baker, Translation and Conflict, 29.

(35) Margaret, "Deconstructing and Reconstructing Class Formation Theory," 85.

(36) Somers Margaret, Gloria Gibson, "Reclaiming the Epistemological 'Other': Narrative and the Social Construction of Identity", 62.

(37) Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World, (Penguin, 2001), 34.  

(38) Edward Said, Culture and Imperialism, (Vintage, 1993), 13.

(39) Baker, Translation and Conflict, 39.

(40) Margaret, Gibson, Reclaiming the Epistemological 'Other', 62.

(41) Ibid, 63.

(42) Baker, Translation and conflict, 45.

(43) Ibid.

(44) نيكولا بيروجيني، نيف غوردون، الدروع البشرية: تاريخ بشر على خط النار، ترجمة محمود الحرثاني، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024).

(45) Baker, Translation and Conflict, 100.

(46) Ibid, 88.

(47) Ibid, 101.

(48) Ibid, 101.

(49) Ibid, 102.

(50) Ibid, 102.

(51) نقلًا عن منى بيكر:

Baker, Translation and Conflict, 117.

(52) Ibid, 102.

(53) بيروجيني، غوردون، الدروع البشرية، مرجع سابق، ص 214.

(54) Christina Schäffner, "Rethinking Transediting," Meta Journal des Traducteurs, Vol. 57, No, 4, (2012): 866-883.

(55) Mona Baker, Gabriela Saldanha, Routledge Encyclopedia of Translation Studies. 3rd ed. (London: Routledge, 2020), 121.

(56) Mona Baker, Critical Readings in Translation Studies, 1st ed. (London: Routledge, 2010), 8.

(57) "هآرتس تطبخ الطعام مع جنود الاحتلال في منازل فلسطينيي غزة"، العربي الجديد، 14 فبراير/شباط 2024، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2024)، https://shorturl.at/paYBN.

(58) أشرف عبد الفتاح ورشيد يحياوي، "الترجمة والتحرير الإعلامي: بين تغطية الوقائع وتصوير الواقع"، ألف: مجلة البلاغة المقارنة (الجامعة الأميركية بالقاهرة قسم الأدب الإنجليزي والمقارن، (العدد 38، 31 ديسمبر/كانون الأول 2018)، ص 288-328. 

(59) Luc Van Doorslaer, "Translating, Narrating and Constructing Images in Journalism with a Test Case on Representation in Flemish TV News," Meta, Vol. 57, Issue. 4 (2013):1046–1059.

(60) Ibid, 00.

(61) Baker, Translation and Conflict, 76.

(62) Donald Neff, "UN Resolutions Targeting Israel and the Palestinians," If Americans knew, 2024, "accessed October 2, 2024". https://tinyurl.com/u22fw6u7.

(63) "الأمين العام: دعونا جميعًا نجعل عام 2023 عامًا يستعاد فيه السلام إلى حياتنا ومنازلنا وعالمنا"، الأمم المتحدة، 29 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2024)، https://tinyurl.com/z4hudktd.

(64) Rashid Khalidi, Hundred Years' War on Palestine, (New York: Metropolitan Books, 2020).

(65) Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, (Oxford‏: Oneworld, 2007).

(66) Nicola Perugini, Neve Gordon, The Human Right to Dominate, (Oxford: Oxford University Press, 2015).

(67) Fareed Khan, "A Regime of Jewish Supremacy from the Jordan River to the Mediterranean Sea: This is Apartheid", B’Tselem, 2021, "accessed September 25, 2024". https://tinyurl.com/56tdyuka.

(68) Leon Barkho, News from the BBC, CNN, and Al-Jazeera: How the Three Broadcasters Cover the Middle East, (New Jersey: Hampton Press, Inc., 2010), 00.

(69) Adams, "Video Shows Stripped Palestinian Men Detained in Gaza," op, cit.

 (70)"ماذا نعلم عن الرجال الذين اعتقلهم الجيش الاسرائيلي في غزة؟"، مرجع سابق.

 (71)Anealla Safdar, "As Israel Pounds Gaza, BBC Journalists Accuse Broadcaster of Bias," Aljazeera.com, November 23, 2023. "accessed November 6, 2024". https://tinyurl.com/3k6w7puv.

(72) Ibid.

(73) "Hamas Hostages: Stories of the People Taken from Israel," BBC.com, April 6, 2024, "accessed April 14, 2024". https://tinyurl.com/yaewbvy9.

 (74)Farooq Sulehria, Media Imperialism in India and Pakistan, 1st ed., (New York: Routledge, 2018), 5-6.

(75) عبد الفتاح يحياوي، الترجمة والتحرير الإعلامي، مرجع سابق، ص 288-328.

(76) المرجع السابق، ص 290.

(77) Adam Johnson, Othman Ali, "Coverage of Gaza war in the New York Times and other Major Newspapers Heavily Favored Israel, Analysis Shows," Intercept, 9 January 2024. "accessed October 7, 2024". https://tinyurl.com/23599rze.

(78) Joel Gunter, David Gritten, "Israeli Forces Raid Gaza City’s Al-Shifa Hospital," BBC.com, March 18, 2024, "accessed September 12, 2024". https://tinyurl.com/3bdkp67m.

(79) Farooq Sulehria, Media Imperialism in India and Pakistan, 139.

(80) Gunter, Gritten, "Israeli Forces Raid Gaza City’s Al-Shifa Hospital," op, cit.

(81) Francesca Albanese, Anatomy of a Genocide, Human Rights Council, (March 25, 2024):14.

(82) Ibid, 14.

(83) Shaw, Human Rights Journalism, 57.

(84) Ibid, 56.

(85) Basim Tweissi, "War in the Post-Truth Era: Western Media Coverage of Israel’s 2023 War on Gaza," Arab Center for Research and Policy Studies, November 11, 2023, "accessed October 2, 2024". https://tinyurl.com/ykrs5fe6.

(86) Daphna Golan, Zvika Orr, "Translating Human Rights of the “Enemy”: The Case of Israeli NGOs Defending Palestinian Rights," Law & Society Review, Vol. 46, Issue. 4 (2012): 781–814.   

(87) Ibid, 795.

(88) Ibid, 795.

(89) Nicola Perugini, "Decolonising the Civilian in Third World National Liberation Wars," Millennium, (2024), 1-26.

(90) Ibid, 4.