
أكملت المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، بوساطة عُمانية، الجولة الخامسة دون التوصل إلى اتفاق، لكن الطرفين وصفا هذه الجولة كما في الجولات السابقة بأنها "إيجابية وبنَّاءة"، وقال بدر بن حمد البوسعيدي، وزير الخارجية العماني: "إن المحادثات أحرزت بعض التقدم دون التوصل إلى نتائج حاسمة".
برزت الإشكالية الرئيسية فيما يصفه الإيرانيون بـ"التناقض الأميركي"، وهو ما عبَّر عنه مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، مجيد تخت روانجي، بقوله: "التفاوض يجب ألا يتم خارج الغرف الخاصة به، أي عبر وسائل الإعلام، فهذا أمر غير صحيح، وقد قام الأميركيون بهذا، لذلك علينا أن نرى ما إذا كانوا يتبعون نفس الأسلوب داخل غرف التفاوض أم لا".
كان تخت روانجي يعلق على تصريحات لستيف ويتكوف، ممثل الرئيس الأميركي في المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأميركا، والذي قال: إن أي مستوى من تخصيب إيران لليورانيوم غير مقبول، بينما أكد وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، أن إيران ستواصل التخصيب؛ الأمر الذي يبدو وكأنه يشير إلى طريق مسدود في المفاوضات.
ويأخذ الطرف الإيراني على الأميركيين أنهم يتخذون مواقف متناقضة ومتعارضة أحيانًا. ففي بعض المرات، كانوا يقولون شيئًا خارج المفاوضات، ثم يطرحون شيئًا مختلفًا داخل المفاوضات، و"كان أحد مسؤوليهم يدلي برأي، ثم يدلي مسؤول آخر برأي مختلف تمامًا".
وسط هذه المواقف، قدَّم وزير خارجية عمان، بدر البوسعيدي، مقترحات لاقت قبولًا نسبيًّا من الطرفين وحالت دون فشل الجولة الخامسة معطية المجال لجولة لاحقة.
تسعى طهران لحل دبلوماسي يقود لتخفيف العقوبات وتجنُّب الخيار العسكري وسط تصاعد التحديات داخليًّا على الصعيدين، الاقتصادي والسياسي. أما ترامب فهو يأمل بإنجاز نصر دبلوماسي في السياسة الخارجية دون الدخول في صراع عسكري قد يرفع أسعار النفط ويضر بالاقتصاد الأميركي. وهو يحتاج إلى اتفاق يضمن تنازلًا إيرانيًّا واضحًا ليقنع الجمهوريين، واللوبي الصهيوني، والمحافظين الجدد الذي يعارضون أي اتفاق شبيه بالاتفاق النووي السابق الذي تم التوصل إليه عام 2015، وعُرف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة "(JCPOA) والذي واظب ترامب على وصفه بـ"الاتفاق السيء".
في إيران، لا تبدو مهمة الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، وفريقه التفاوضي سهلة، خاصة مع الدعم المحدود والمشروط من قبل القيادة العليا في إيران والتي لا تحمل تصورًا إيجابيًّا عن المفاوضات ويبدو أنها أعطت ضوءًا أخضر لها على مضض وبفعل مقتضيات داخلية إيرانية ضاغطة. وكذلك الحال لدى التيار الأصولي المنافس والذي يسيطر على مجلس الشورى ويرفض التنازل عن برنامج التخصيب الذي كلف إيران سياسيًّا واقتصاديًّا، ويرى أن أي اتفاق يجب ألا يكون أضعف من اتفاق 2015 بل إن لديه مطالب واضحة بعدم تعطيل منشآت نووية على غرار ما حدث في الاتفاق المذكور.
لقد قدم بزشكيان وعودًا انتخابية واضحة وتحدث بصورة جلية عن ميله للتفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية وحل مشكلة العلاقة معها، وهو ما انتقده آية الله خامنئي. ورغم أن بزشكيان يواظب على إظهار الاحترام و"الطاعة" للقيادة العليا في إيران، إلا أن معطيات كثيرة تقول بقدرته على المراوغة ودخول مساحات مليئة بالألغام مما قد يكلفه ثمنًا سياسيًّا باهظًا.
عُمان وضرورة المرونة التكتيكية
تلعب عمان دورًا محوريًا باعتبارها وسيطًا مقبولًا من الطرفين، وتسعى بشكل حثيث لإنجاز اتفاق. وقد أصبحت المرونة التكتيكية ضرورية للطرفين، على الرغم من ضيق مساحة المناورة بسبب الضغوط السياسية الداخلية لدى كلا الجانبين. في ظل هذه المعادلة لا يمكن الحديث عن اتفاق شامل أو شبه شامل، وإنما يمكن توقع اتفاق مؤقت أو مرحلي باعتبار ذلك خيارًا واقعيًّا. وحتى هذا الخيار الواقعي، فنجاحه مرهون بوجود خطوات واضحة تجعل تطبيقه أمرًا ميسرًا ومن شأنه أن يفضي مستقبلًا إلى اتفاق أوسع، خاصة وأن أي اتفاق يجب أن يكون "أفضل من اتفاق 2015 " بالنسبة للداخل الإيراني" و"أقل منه" بالنسبة للطرف الأميركي، وهي معادلة شديدة التعقيد.
عقدة التخصيب
وفي هذه المحادثات الموصوفة بـ"البنَّاءة" يبرز موضوع "تخصيب اليورانيوم" بوصفة عقبة رئيسية في المحادثات، وبعد تصريحات متضاربة أعلنت إيران صراحة أنها لن تتخلى عن حقها في تخصيب اليورانيوم، في حين قالت الخارجية الأميركية إنها لن تقبل بذلك.
ومن الجيد أن نتذكر أن "الاتفاق النووي في 2015" كان قد تضمن اعترافًا دوليًّا واضحًا بحق إيران في تخصيب اليورانيوم، ولكن بنسبة محدودة، مقابل رفع تدريجي للعقوبات. وبموجب اتفاق عام 2015 مع (5+1)، تستطيع إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67% فقط. وتلقَّى الاتفاق ضربة قاصمة عندما قرر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، انسحاب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق، في عام 2018، وأعاد فرض العقوبات على طهران. وفي المقابل، تخلَّت إيران عن القيود النووية بموجب نص في الاتفاق يعطيها هذا الحق لتواصل تخصيب اليورانيوم بنسبة تفوق المسموح به لتصل إلى 60%.
وقد أدى انسحاب ترامب من الاتفاق (2018) وفرض عقوبات أشد على إيران إلى تعزيز حالة فقدان الثقة وجعل إيران أكثر حذرًا وإصرارًا على تقديم ضمانات بتطبيق ما يتم الاتفاق عليه، خاصة أن الانسحاب أطلق موجة من النقد والهجوم على المفاوض الإيراني من قبل معارضي الاتفاق، ومكَّن مجلس الشورى الإيراني -وفق قانون لحماية المصالح النووية- من أن يعيق التوصل إلى إحياء الاتفاق في نهاية عهد حسن روحاني.
توفر الوساطة العمانية إطارًا هادئًا وعقلانيًّا للتفاوض بعيدًا عن العلانية؛ مما قد يسهِّل التفاهم، ولكن التجارب السابقة لا تنفي وجود حراك سري أعمق من الظاهر بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وقد يكون لزيارة الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، الأخيرة إلى سلطنة عمان جانب سري يعيد إلى الأذهان واقعة ماكفرلين في ثمانينات القرن العشرين، والصفقة التي حدثت بشأن الرهائن.
وهذا الاحتمال لا يمكن إسقاطه على الرغم من تصريحات الناطق باسم الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، حين اعتبر أنه من الطبيعي أن تشمل مباحثات بزشكيان والوفد المرافق له في مسقط مستجدات الأوضاع الإقليمية والمفاوضات النووية مع أميركا، لكن هذا لا يعني أن هناك محادثات مقرَّرة مع الطرف الأميركي على هامش الزيارة.
قد ينجح مقترح "تعليق التخصيب" في منع فشل المفاوضات، لكنه سيذكي نار الخلاف الداخلي الإيراني بشأن مستقبل الاتفاق النووي الإيراني، ولا يبدو حال الرئيس الأميركي مع الدافعين بقوة نحو عمل عسكري ضد إيران بأفضل، فهو معني بالتوصل إلى اتفاق يتضمن تنازلاً إيرانياً واضحا لضمان صمتهم.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول (تعليق مؤقت للتخصيب): قد يفتح المجال لاتفاق شامل مستقبلي، إذا ما تم بالتوازي مع رفع حقيقي لبعض العقوبات. ويواجه هذا السيناريو تحديات، أهمها: صعوبة قبول ذلك داخليًّا في إيران؛ خاصة من قبل تيارات أصولية داخل مجلس الشورى وكذلك الحال بالنسبة للقوى المعادية لإيران داخل الإدارة الأميركية التي لن ترضى بأقل من وقف تام ودائم لعملية تخصيب اليورانيوم داخل إيران.
السيناريو الثاني (ترحيل بحث موضوع التخصيب والتركيز على ملفات أخرى): من شأن ذلك أن يحافظ على مسار التفاوض ويحول دون انهيار المفاوضات، على أمل النجاح في بناء أجواء تساعد في بناء مستوى من الثقة تدريجيًّا. ولكن ذلك لا يمكن أن يستمر طويلًا إذ سيتم اعتباره مماطلة إن لم يُترجم لاحقًا إلى اتفاق حقيقي.
السيناريو الثالث: القبول بالتخصيب: وذلك وفق النسبة التي تضمنها اتفاق 2015.
المستقبل غير واضح
في منتدى طهران للحوار، والذي عُقد في الفترة 17-19 مايو/أيار 2025، قُدِّمت مداخلات عدَّة بشأن البرنامج النووي الإيراني بعضها في جلسات علنية وأخرى في جلسات مغلقة، ويمكن وضع خلاصاتها في النقاط التالية:
- تناقض المواقف الأميركية: فالجانب الأميركي يعبِّر عن مواقف متضاربة بين ما يقال داخل المفاوضات وما يُصرَّح به خارجها، بل وحتى بين مسؤول وآخر.
- تمسك إيران بحق التخصيب: إذ تعتبر أن لها حقًّا مشروعًا في تخصيب اليورانيوم بموجب معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)، ورفض أي محاولة غربية لإنكار هذا الحق.
- الخطوط الحمراء الإيرانية: رسمت إيران خطوطًا حمراء واضحة في المفاوضات، خاصة فيما يتعلق بحقوقها النووية، مع التأكيد على سلمية برنامجها.
- كلفة البرنامج النووي: إيران دفعت أثمانًا كبيرة (مادية ومعنوية) من أجل برنامجها النووي، لذا فهي تصر على ديمومة برنامجها.
- عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل: لم يتضمن أي من هذه المداخلات رؤية واضحة لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل فيما يخص المفاوضات.
خلاصة
لا يمكن التقليل من أثر حدوث اتفاق مؤقت على الحالة الاقتصادية في إيران، لأن تخفيف العقوبات سيؤدي إلى دخول العملة الصعبة والتبادل المالي وتحسن التبادل التجاري مع إيران، ومن شأنه أن يحسِّن من القيمة الشرائية ويساعد على تحقيق نمو اقتصادي ويخفض معدل التضخم الذي وصل إلى معدلات غير مسبوقة.
إن فشل المفاوضات أو تعثرها بصورة كبيرة يعني استمرار العقوبات الاقتصادية، وربما تشديدها خاصة على القطاعات الحيوية مثل النفط والطاقة والبنوك. وهو ما يعمِّق الأزمة الاقتصادية في إيران ويرفع معدلات البطالة ويخفض القيمة الشرائية ويجعل الوفاء بالحاجات المعيشية للناس أمرًا صعبًا، وقد يشكِّل ذلك أرضية احتجاجية من قبل فئات باتت محرومة بصورة كبيرة. أما الشراكات المحدودة مع روسيا والصين فهي غير قادرة وحدها على حل مشكلة الاقتصاد الإيراني، على الرغم من توقيع اتفاقيات شراكة إستراتيجية مع كل من الصين وروسيا.
من شأن نجاح المفاوضات أن يعطي زخمًا إيجابيًّا لعلاقات إيران مع جوارها الخليجي خاصة مع العربية السعودية حيث شهدت علاقة البلدين تحسنًا بعد توتر وقطيعة دامت لسنوات، ومن شأنه أن يمنح هامشًا مساعدًا لاستثمارات خارجية في إيران قد يكون لدول الخليج نصيب فيها.
أما فشل المفاوضات، وهذا وارد، فيعني تصاعد سباق التسلح الإقليمي أكثر مما سبق ودخول العنوان النووي عنصرًا في هذا السباق، وزيادة التوتر بين إيران وجوارها. وقد يعزز ذلك من احتمال توجيه ضربة عسكرية لإيران، وهو ما تتمناه إسرائيل وتسعى إليه لكنها تحتاج إلى دعم لوجستي أميركي خاصة في موضوع التزود بالوقود، كما تحتاج إلى مساندة أميركية لمواجهة أي رد إيراني، كما أن ضرب منشآت نووية قد يؤدي إلى تسرب إشعاعات نووية قد تتضرر بها دول الجوار الإيراني كذلك وهو ما سيعرقل أي تحرك عسكري إسرائيلي ضد إيران فلا أحد يمكنه الجزم بتبعات ذلك وأثمانه على كل المنطقة، خاصة أن إيران أرسلت رسائل واضحة بقدرتها على الرد على أي هجوم.