استخدامات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في قياس اتجاهات الرأي العام وتأثير المعلومات المضللة

تهدف الدراسة إلى التعرف على التطبيقات الأساسية للذكاء الاصطناعي المستخدمة في قياس اتجاهات الرأي العام، وخوارزميات تزييف المعلومات لتضليل الرأي العام من خلال الإجابة على هذا السؤال المركب: كيف تُسْتخدَم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس اتجاهات الرأي العام؟ وكيف تُوَظَّف في نشر المعلومات المُضَلِّلَة لخداع وتزييف وعي الرأي العام؟
توظيف الذكاء الاصطناعي في قياس اتجاهات الرأي العام جعل الخوارزميات تتفوق على الأساليب التقليدية في استطلاع الرأي (رويترز)

مقدمة

اهتم الكثير من الحكومات بقياس الرأي العام لمعرفة ما يُفكِّر فيه الناس، حتى لو كان ذلك لتوفير شروط وظروف لقمع السخط. وكان التمرُّد أحد أقدم أشكال التعبير عن الرأي العام، لذلك أنشأت النظم الحاكمة الشرطة السرية لمعرفة الأشخاص الذين يُعارضون الحكومة، وقد عمل أفراد الشرطة السرية كمراقبين للرأي العام(1). بينما تتمتع الحكومات الديمقراطية بإجراءات أفضل للتعرف على الرأي العام باستخدام أساليب ومنهجيات بحثية لقياس الرأي العام الكلي من خلال الانتخابات العامة، أو القياس الجزئي باستطلاعات الرأي، وتحليل المحتوى باعتماد منهجية البحث المسحي لقياس كيف تتحوَّل آراء أفراد الجمهور إلى سياسة عامة. وقد طوَّر عدد من علماء علم النفس الاجتماعي مفاهيم تُفسِّر كيفية تَشَكُّل الآراء من خلال التفاعلات بين الأفراد وبيئاتهم الاجتماعية. وكانت هذه المفاهيم عبارة عن بيئات وصور نمطية زائفة تُعيد ترتيب، أو تبسيط، أو تفصيل، أو تشويه البيئة الحقيقية التي ترتبط بها. وقد رأى والتر ليبمان (Walter Lippmann) البيئات الزائفة مساحات اجتماعية نفسية؛ حيث تتشكَّل الآراء، وتتنازع عليها، وتتأثر، وتتطور في ظل نظام ديمقراطي(2). وكانت الشائعات والمعلومات المُضَلِّلَة من أبرز الأساليب التي اعتُمِدت للتلاعب بالبيئات الزائفة، أو السيطرة عليها بتزييف الوعي، وخداع الرأي العام(3).

باتت عملية قياس الرأي العام من خلال الاستطلاعات التقليدية تمثِّل مهمة تحليل سياسي كلاسيكية للتنبؤ بنتائج الانتخابات الوطنية أو المحلية، فضلًا عن كونها باهظة التكلفة. وقد تكون نتائجها متحيزة في المقام الأول بسبب اعتماد عينات سكانية غير ممثلة للمجتمع إلا أن توظيف الذكاء الاصطناعي في قياس اتجاهات الرأي العام عبر خوارزميات تحليل المشاعر، واستخراج الرأي مما ينشره المستخدمون على شبكات التواصل الاجتماعي، جعل الخوارزميات تتفوق على الأساليب التقليدية في استطلاعات الرأي العام؛ لأنها تتيح إجراء تقدير للرأي العام أكثر دقة، وسرعة، وأقل كلفة لتقدير نتائج الانتخابات(4).

تهدف الدراسة إلى معرفة كيف تؤثر بيئة الاتصال الرقمية في تشكيل اتجاهات الرأي العام، ومعرفة التطبيقات الأساسية للذكاء الاصطناعي المستخدمة في تحليل بيانات مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي لقياس اتجاهات الرأي العام، وإبراز مزاياها، وكيفية توظيف المؤسسات الإعلامية الغربية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس الرأي العام، أو في الاستهداف السياسي للناخبين، إضافة إلى بيان أساليب توظيف الذكاء الاصطناعي في تزييف الوعي والتضليل للتأثير في تشكيل اتجاهات جمهور الرأي العام.

1. اعتبارات منهجية ونظرية

إشكالية الدراسة

أدى تنامي استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في وسائل الإعلام والاتصال إلى إحداث تغييرات نوعية في مجالات حياة الإنسان كافة، قد تكون لها تأثيرات إيجابية، أو سلبية على الأفراد والمجتمعات، لاسيما بعد ازدياد قوة تأثير شبكات التواصل الاجتماعي في تشكيل اتجاهات الرأي العام. وتُثير هذه التحولات إشكالية مزدوجة حول مستوى دقة استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس اتجاهات الرأي العام ونتائج الانتخابات، وموثوقية تلك النتائج من ناحية، ومخاطر استخدام تلك التطبيقات في تضليل وخداع الرأي العام في ظل متغيرات بيئة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وانعكاساتها على وسائل الإعلام والاتصال والجمهور من ناحية أخرى. وهنا، تركز مشكلة الدراسة على الإجابة عن هذا السؤال المركب: كيف تُسْتخدَم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس اتجاهات الرأي العام؟ وكيف تُوظَّف في نشر المعلومات المُضَلِّلَة لخداع وتزييف وعي الرأي العام؟ 

أهمية الدراسة   

تكتسب الدراسة أهميتها العلمية من الاهتمام المتزايد بظاهرة استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس الرأي العام، والتنبؤ بنتائج الانتخابات، وتأثير ذلك على اتجاهات الجمهور والمجتمع. وتنطلق الدراسة لسد فجوة بحثية في الدراسات العربية التي تتناول بالبحث والتقصي استخدامات تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس الرأي العام، وكذلك استخداماتها في تضليل وخداع الرأي العام. ويتأتى سد هذه الفجوة من خلال الدراسة التطبيقية التي تركز على رصد طبيعة استخدام المؤسسات الإعلامية الغربية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس الرأي العام لنقل التجربة إلى المؤسسات الإعلامية العربية والاستفادة منها؛ لأنها تتفوق على الأساليب التقليدية في استطلاعات الرأي العام، وتُتيح إجراء تقدير للرأي العام أكثر دقة، وسرعة، وأقل كلفة لتقدير نتائج الانتخابات. وتُساعد الدراسة أيضًا في التعرف على أساليب توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تضليل الرأي العام، والاستهداف السياسي للناخبين، ومحاولة الحد من انتشارها وتأثيراتها على المجتمع. 

الإطار النظري للدراسة

نظرية المعرفة الموضوعية 

تستند الدراسة إلى التوظيف الإبستمولوجي لنظرية التطور في بناء المعرفة الموضوعية التي تميز بها كارل بوبر (Karl Popper)؛ إذ تمثِّل واحدة من أبرز النظريات التي أسهمت في تطوير مناهج البحث العلمي لدورها الريادي في تحديد الأسس المنطقية والعلمية في فلسفة العلم التي تُساعد على استنتاج نماذج علمية من المعارف التي تُسهِم في بلورة حقائق موضوعية قابلة للقياس المنطقي. وترتكز أسس نظرية المعرفة الموضوعية على البحث في كيفية نمو المعرفة، وأُسس تطوير المعرفة العلمية؛ إذ يرى بوبر أن الحالات التي نُخضِعها للتجربة لا تُشبه كل الشبه تلك الحالات التي جُرِّبت في السابق، وهي لا تُشبه بالضرورة الحالات التي تأتي فيما بعد. وهذا معناه أنه لا يمكن الحكم على المستقبل بما عرفناه من الماضي، أي لا يمكن أن نحكم بالاستدلال. فالمعرفة عند بوبر تبدأ بالمشكلات؛ إذ لا وجود لمعرفة دون مشكلات، لأنها (المشكلات) تُثير المعرفة. ولهذا فإن المنهج الفرضي لدى بوبر يركز على الاستنباط، وليس الاستدلال.

لقد شكَّلت الإبستمولوجيا الموضوعية في فكر بوبر القاعدة الأساسية لنظرية المعرفة الموضوعية، وذلك بانتقال فلسفة العلم من منطق تبرير المعرفة العلمية، ومحاولة إثبات مصداقيتها، إلى منطق التقدم والكشف العلمي. وتميزت فلسفة العلم عند بوبر بأنها إبستمولوجيا موضوعية ذات نزعة عقلانية نقدية ارتكزت على المنهج الموضوعي الذي يعتمد على النقد العقلي قاعدة أساسية من أجل تمييز المعرفة العلمية عن المعرفة غير العلمية بما يُسهِم في الوصول إلى الحقيقة العلمية(5). وضمن هذا السياق المعرفي، تسعى الدراسة إلى اعتماد إبستمولوجيا موضوعية نقدية في استنباط المخرجات عن توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تشكيل الرأي العام أو تضليله؛ لأن العلاقة بين المعرفة والذكاء الاصطناعي يحكمها منظور الموضوعية الميكانيكية التي تؤمن بالنظم التكنولوجية القادرة على تقديم مخرجات معينة بطريقة تتغلب على حدود الذاتية البشرية، وذلك بالتعامل مع الموضوعية ليس باعتبارها مرجعًا مستقرًّا، ولكن مرجعًا سياقيًّا يمكن أن يكون عرضة للتحولات في الممارسات، والتفاهمات بمرور الوقت.

وتنطلق دراسة إشكاليات تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الاتصال والإعلام أساسًا من الوجود المعرفي للمشكلات الناشئة عن التقدم التكنولوجي، وموضوعية استنباط الحلول لها وفق منظور التقدم والكشف العلمي. ولأن توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس الرأي العام، أو في نشر المعلومات المضللة، هي إشكاليات مستجدة بحكم تقدم التقنيات، ولا تُشبه الحالات التي جُرِّبت سابقًا، وقد لا تُشبه الحالات التي تأتي فيما بعد عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لذلك لا يمكن الحكم عليها بالاستدلال من الماضي. إن الهدف من استخدام الذكاء الاصطناعي هو وضع الأطر المعرفية التي تجعل الآلة ذكية، وبمقدورها القيام بما يمكن أن يقوم به الإنسان باستخدام ذكائه، والتعامل مع المعلومة التي تعتبر مدخلات بالكيفية ذاتها التي يتعامل بها الإنسان. فالذكاء الاصطناعي يهتم بالعمليات المعرفية التي يستخدمها الإنسان في أداء المهام التي تعتبر ذكية. ويدخل ضمن هذا الإطار الإبستمولوجي للعلوم المعاصرة (السيبرنطيقا)، أو علم التحكم الآلي؛ إذ تعتبر السيبرنطيقا إحدى نظريات العلوم المعرفية الجديدة التي انبثقت عن التطور الذي عرفه عالمنا المعاصر، وما نتج عنه من تغير لثوابت، وأسس ومفاهيم المنظومة الإبستمولوجيا الكلاسيكية.

ويرى البعض أن ظهور الذكاء الاصطناعي كان نتيجة من نتائج علم التحكم الآلي السيبرنطيقي، وغالبًا ما يتم الخلط في استعمال مصطلحي علم التحكم الآلي، والذكاء الاصطناعي، باعتبارهما شيئًا واحدًا. فالسيبرنطيقا تختص بالخصائص الرياضية لأنظمة التغذية الراجعة، أما الذكاء الاصطناعي فيهتم بالعمليات المعرفية التي يستخدمها الإنسان في أداء المهام التي تُعد ذكية. لذلك يعتبر الذكاء الاصطناعي نتيجة للسيبرنطيقا في الوقت ذاته الذي تعتبر فيه السيبرنطيقا فرعًا من الذكاء الاصطناعي. هذا وقد يتداخل الذكاء الاصطناعي مع الآلات الذكية التي تحاول أن تحاكي السلوكيات الإنسانية الذكية(6). فالدراسات السيبرنطيقية في مجال الإعلام تهدف إلى التحري والتقصي المعرفي تجاه قضية معينة، مثل توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قياس اتجاهات الرأي العام أو استخدامها في تضليل وخداع الرأي العام، التي تمثِّل ثنائية مدخلات ومخرجات قابلة للدراسة في بحوث الإعلام التي تتطلب ضبط النتائج، والتحكم بمستوى الأدوات المنهجية، وطريقة المعالجة النظرية للموضوع باعتباره بحثًا نظريًّا توثيقيًّا(7).

تشكيل الرأي العام  

يتشكَّل الرأي العام بناء على التفاعل بين جماعات من الأفراد حول قضية خلافية، أو موضوع جدلي تتعارض فيه الآراء. فالرأي العام هو عملية التفاعل التي تحدث بين أفراد المجتمع حول إحدى تلك القضايا، ويتكوَّن رأي الجماعة تعبيرًا عن ذلك التفاعل بين جميع المواقف. ويتفق باحثو الرأي العام على أن الرأي العام هو الحكم الذي تصل إليه الجماعة في قضية ما ذات أهمية بالنسبة للجماعة بعد مناقشات وافية. ويتسم هذا الحكم الذي تصل إليه الجماعة بصبغة اجتماعية، باعتباره حصيلة أفكار، ومعتقدات ومواقف للأفراد والجماعات، تتصل اتصالًا مباشرًا بالعوامل الحضارية والثقافية والدينية إزاء شأن يمس النسق الاجتماعي، كأفراد وتنظيمات ونظم(8). وباتت شبكات التواصل الاجتماعي تؤثر تأثيرًا فاعلًا في تشكيل اتجاهات الرأي العام، ومجريات أمور الجماعة الإنسانية على النطاق المحلي والوطني والقومي والدولي.

ومثلما اختلف باحثو العلوم الإنسانية في تحديد مفهوم الرأي العام، اختلفوا أيضًا في كيفية تشكيله؛ إذ يركز باحثو الاتصال على أهمية الدور الإعلامي في تشكيل الرأي العام، بينما يرى باحثو العلوم السياسية أن عوامل، مثل الحرية والديمقراطية والوعي، لها دور في تشكيل الرأي العام. وأكد الاجتماعيون على أهمية حصيلة الخبرات الاجتماعية السابقة لدى الأفراد ودور النسق القيمي الاجتماعي في تشكيل الرأي العام، بينما ركز علماء النفس المهتمون بدراسة الرأي العام على أهميـة مفاهيم التوافق الاجتماعي، وسعي الأفراد نحو القبول من الآخرين كمتغيرات تؤثر في تشكيل رأي الأفراد تجاه القضايا المطروحة(9). ويتأثر تشكيل الرأي العام بمجموعة من العناصر والعوامل، والمحددات التي تُسهِم في تكوينه إلا أن الثورة الرقمية رجحت كفة التأثير الأقوى لوسائل الاتصال والإعلام الرقمي في تشكيل اتجاهات الرأي، وفي كلا الاتجاهين، الإيجابي والسلبي.

ومن وجهة نظر جون زيلر (John Zeller) ، وهو أحد الباحثين في العوامل المؤثرة في تشكيل اتجاهات الرأي العام، فإن الميول السياسية والوعي السياسي وخطاب الصفوة لها دور في تشكيل الرأي العام، فضلًا عن طبيعة البيئة المعلوماتية التي تُقدَّم من خلالها الرسائل الإعلامية؛ إذ اعتبرها زيلر عاملًا مهمًّا في طبيعة التأثير الذي تُحْدِثه مزايا وسائل الإعلام الرقمي في تشكيل اتجاهات الرأي العام(10).

إن الجماعة الاجتماعية في المجتمع تكون في حالة من الغفلة، أو التفرقة، أو التشتت، حتى تبدأ وسائل الإعلام بالتركيز على قضية مهمة، أو موضوع أو كارثة أو حرب، ذات أهمية بالنسبة لها، حينذاك تبدأ مرحلة تكوين الرأي للجماعة. وتتداخل العديد من العوامل فيما بينها لتكوين الرأي العام، أثناء عملية التشكيل منها: عوامل مجتمعية مثل الحرية والديمقراطية، وأساليب الاتصال المعتمدة في المجتمع، وجماعات الضغط والأحزاب السياسية، وكذلك الموروث الفكري والعقائدي، إضافة إلى العوامل الخارجية، أو الدولية والإقليمية، وعوامل شخصية مثل مستوى الفرد التعليمي والثقافي والاقتصادي، وطريقة التنشئة الاجتماعية. وتتفاعل هذه العوامل مع بعضها بعضًا تفاعلًا ديناميكيًّا؛ إذ يؤثر كل عامل منها في الآخر ويتأثر به، وتمثِّل في مجموعها قوى فاعلة، لا يمكن فهمها إلا باعتبارها مؤثرات متكاملة تُسهِم في تكوين الرأي العام، وتشكيل صوره المختلفة(11).

شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل اتجاهات الرأي العام

يختلف تأثير وسائل الإعلام في تشكيل اتجاهات الرأي العام تبعًا للبيئات الاتصالية التي تتم من خلالها عمليات التلقي؛ إذ تختلف باختلاف وسائل الاتصال، فلكل وسيلة عدد من الخصائص التي تجعلها تتميز من حيث التأثير عن الوسيلة الأخرى، ويزيد تكرار التعرض لوسائل الإعلام من قوة تأثيرها في تشكيل اتجاهات الرأي العام. وقد تميزت شبكات التواصل الاجتماعي بقوة التأثير؛ لأنها جمعت عدة مزايا تفوقت بها على وسائل الاتصال التقليدية المقروءة والمسموعة والمرئية. وامتلكت خصائص مؤثرة مثل: الفورية، والتفاعلية، والكونية في النشر.

أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي من الوسائل المهمة في البيئة الاتصالية الرقمية والفاعلة في الأحداث التواصلية؛ إذ تؤدي دورًا بالغ الأهمية في تشكيل الرأي العام، وفي تعبئة الجماعات وحشدها حول أفكار وآراء واتجاهات معينة، مهما كانت هذه الجماهير متباعدة جغرافيًّا، أو غير متجانسة ديمغرافيًّا. وزادت التطورات المتسارعة في تكنولوجيا الاتصال الرقمي وابتكارات الذكاء الاصطناعي من قدرة هذه الشبكات على تحقيق المزيد من التأثير في الجمهور، وتوجيهه نحو آراء وأفكار معينة. كما "منحت وسائل الإعلام النخب السياسية في المجتمع إمكانات هائلة لإثارة المصلحة، والتأثير في تشكيل اتجاهات المواطنين"(12). وأسهم الانتشار الحر للمعلومات من خلال شبكات التواصل الاجتماعي في إيجاد فرص كبيرة للتحرك الشعبي على أساس معرفة واسعة، ودقيقة بالأحداث السياسية، ومن ثم التأثير في تصور المواطن للفعل السياسي. كما أصبح لشبكات التواصل الاجتماعي تأثير على صانعي القرار السياسي وفي تشكيل الرأي العام؛ إذ تمثِّل هذه الوسائل حلقة الوصل بين الرأي العام، وصانعي القرار، التي توفر لهم المعلومات والأفكار، والصور المختلفة التي تُشكِّل رؤيتهم للعالم. وزاد ذلك من اهتمام الدراسات البحثية بالمعلومات الضخمة لشبكات التواصل الاجتماعي بهدف اكتساب معرفة أفضل بالرأي العام في المجتمعات.

لهذا تستخدم الأحزاب السياسية والتجمعات المدنية والتنظيمات المهنية شبكات التواصل الاجتماعي وسيلة للتحفيز السياسي وكسب الأنصار والمؤيدين لتحقيق التفوق على المنافسين، أو لطرح الأفكار والقضايا العامة، وإثارة المناقشات لمعرفة اتجاهات الجمهور وميوله حولها لاكتساب معرفة أفضل بالرأي العام في المجتمعات. ونجد اليوم الكثير من رؤساء الدول والحكومات لديهم منصات على شبكات التواصل الاجتماعي بهدف التواصل مع الناس(13).

الذكاء الاصطناعي وتحليل بيانات مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي

تُعد شبكات التواصل الاجتماعي من أبرز المنصات الرقمية والأكثر شعبية وشيوعًا في جميع أنحاء العالم؛ إذ بلغ مجموع عدد مستخدميها في عام 2024 أكثر من خمسة مليارات شخص، وارتفع متوسط وقت استخدامها اليومي إلى 151 دقيقة بعد أن كان 111 دقيقة في عام 2015. ومن المتوقع أن يرتفع عدد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي إلى أكثر من ستة مليارات في عام 2028. واحتل فيسبوك الصدارة ما يجعله الشبكة الاجتماعية الأكثر شعبية في العالم(14).كما أن تزايد استخدام الجمهور لشبكات التواصل الاجتماعي يجعلها جزءًا مهمًّا من ثورة البيانات الضخمة؛ إذ يمثِّل تحليل بياناتها -من خلال توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي وباستخدام إطار التعلم العميق- موضوعًا حيويًّا ذا أولوية، استلزم إنشاء تطبيقات رائدة في تطوير العلوم وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تتجاوز القدرات البشرية في كثير من النواحي بهدف تمكين هذه التطبيقات من معالجة كميات كبيرة من البيانات بشكل أفضل، وأسرع من القدرات البشرية، وللمساعدة في اتخاذ القرارات المثلى في المواقف المعقدة في العديد من مجالات النشاط البشري، مثل المجالات الاقتصادية، والسياسية، والصناعية، والعسكرية في عالم تهيمن عليه المنافسة. لذلك تبنَّت الحكومات والشركات الكبرى في الدول المتقدمة في العالم برامج خاصة لتطوير الذكاء الاصطناعي(15).

كما يُنظر إلى شبكات التواصل الاجتماعي على أنها ذات تأثير إيجابي على الديمقراطية، وأسهمت في رفع سقف الحريات في العديد من دول العالم. وفي الوقت نفسه لها آثار سلبية على السياسة والمجتمع؛ لأنها جعلت من السهل التلاعب بآراء وأفكار الناس وتقسيمهم. فهي تقوم بدور الإعلام الاجتماعي الذي يرفع مستوى الوعي بعد تحول الناس في جميع أنحاء العالم بشكل متزايد نحو استخدام هذه الوسائط مثل فيسبوك، وإكس، وواتساب، وغيرها، للحصول على الأخبار والتعبير عن الرأي؛ مما جعل شبكات التواصل مجالًا حيويًا عامًّا للمناقشات، والجدال في كثير من الأحيان حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بينما يرى بعض المحللين أن شبكات التواصل الاجتماعي تُعد أحد الأسباب الرئيسة لتدهور وضع الديمقراطية في الدول حول العالم(16)، وكلا الرأيين له مسوغاته وحججه.

أدى ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى تغييرات نوعية في مجالات حياة الإنسان كافة، قد تكون لها تأثيرات إيجابية، أو سلبية على الأفراد والمجتمعات. وقد برزت ضرورة توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي لدراسة الرأي العام وقياس اتجاهاته، ومعرفة التوقعات حول التحولات التي من المحتمل أن تحدث في جميع مجالات الحياة للتحقق من موقف الناس، وثقتهم تجاه سلطات الدولة ووسائل الإعلام؛ إذ إن هذه الجهات الفاعلة مدعوة لقياس رأي مختلف الفئات الاجتماعية، وذلك بتحليل ما يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي، وتفاعل الجمهور مع أبرز القضايا والموضوعات. وبرز مفهوم جديد يتعلق بقياس اتجاهات وآراء جمهور شبكات التواصل الاجتماعي أُطْلِق عليه تحليل المشاعر المدعوم بالذكاء الاصطناعي.

قياس الرأي العام بتحليل المشاعر المعتمد على الذكاء الاصطناعي

يُعرَّف تحليل المشاعر (Sentiment Analysis) الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي، والمعروف أيضًا بتسمية استخراج الرأي، بـ"عملية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing) والتعلم الآلي لتحليل وتصنيف الآراء والعواطف والمواقف المُعبَّر عنها في النص المكتوب بالاستفادة من خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تُمكِّن من استخلاص المشاعر، وتصنيفها تلقائيًّا من منشورات شبكات التواصل الاجتماعي، والأشكال الأخرى من المحتوى الذي يُنْشِئه المستخدمون"(17). ويُعَرَّف تحليل المشاعر أيضًا بـ"المعالجة التلقائية للبيانات النصية لتحديد وجهات النظر والموقف الذي يُستخدم على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي لتقييم التصورات العامة للعلامات التجارية، والمنتجات. كما يُستخدَم بشكل متزايد لتوفير نظرة ثاقبة للقضايا والأحداث بدلًا من استخدام التقنيات اليدوية لتحديد الموضوعات الإيجابية والسلبية"(18).

وقد استُخدمت خوارزميات تحليل المشاعر، أو التنقيب عن الرأي، في التعرف على آراء، أو مشاعر عامة الناس، من خلال تحليل ما يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي، وأصبحت وسيلة للتنبؤ بنتائج الانتخابات، وقياس اتجاهات الرأي العام، والحالة المزاجية للجمهور(19).

ويعتمد استخراج الرأي، أو تحليل المشاعر، على خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تقوم بتقييم وتحليل وتفسير منشورات مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال تحليل النصوص والصور والرموز التعبيرية؛ إذ تُحدِّد خوارزميات الذكاء الاصطناعي ما إذا كان المنشور إيجابيًّا، أم سلبيًّا أم محايدًا. وهو ما يُتيح اكتساب فهم أعمق لمشاعر المستخدمين وآرائهم واتجاهاتهم، وتحديد أبرز الاتجاهات السائدة فيما يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي.

ويمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي استخراج الرأي وتحليل المشاعر ضمن خمسة مستويات، وهي: تحليل المشاعر على مستوى الكلمة، ومستوى الجملة، ومستوى الوثيقة، ومستوى الجانب، ومستوى المفهوم(20)؛ إذ يتم تحليل النص المحدد لمعرفة اتجاه الكلمة العاطفية، والجملة الذاتية، والوثيقة بأكملها على التوالي. وفي تحليل المشاعر على مستوى الجانب، يتم تحديد ميزات، أو جوانب المنتج، أو أي كيان آخر يتم تحليله باعتباره أهدافًا، ويتم العثور على الموقف تجاه هذه الأهداف. أما تحليل المشاعر على مستوى المفهوم، فتتم الإشارة إلى الكلمات الموجودة في النصوص والتي لها معان مماثلة، وتحمل نفس المفهوم. إضافة إلى ذلك، فإن تحليل المشاعر المبني على المفهوم يتجاوز تحليل المشاعر على مستوى الكلمة في النص، ويوفر طرقًا جديدة لأداء مهمة التحليل، واستخراج الرأي. وتقوم أساليب مستوى المفهوم بتصنيف النص بناء على الدلالات باستخدام الشبكات الدلالية، مثل "كونسبت نت" (ConceptNet)(21).

وكما بدأت استطلاعات الرأي العام في عام 1824 بقيام بعض الشركات الأميركية باستطلاع آراء الزبائن لمعرفة رغباتهم وتفضيلاتهم(22)، كانت بدايات استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل مشاعر العملاء، وقياس اتجاهات الرأي العام من قِبَل الشركات الأميركية، وذلك بتحليل منشورات مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي لمعرفة مشاعر العملاء، وتحديد اتجاهاتهم لاتخاذ قرارات تعتمد على نتائج تحليل تلك البيانات لتحسين إستراتيجيات عملها وبرامجها التسويقية. وتأتي بعد ذلك مراكز البحوث والدراسات، والمؤسسات الإعلامية، وشركات الاستشارات السياسية، في توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في صناعة وقياس الرأي العام.

يُعد استخراج الرأي من شبكات التواصل الاجتماعي المدعوم بالذكاء الاصطناعي تغييرًا جذريًّا في قواعد عمل المؤسسات، ومراكز البحوث والشركات التي تتطلع إلى فهم ما يشعر به مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي تجاه موضوعات بعينها، أو العلامة التجارية للشركة، أو منتجاتها، أو خدماتها. ويمكن للذكاء الاصطناعي، من خلال الاستفادة من معالجة اللغة الطبيعية وخوارزميات التعلم الآلي، تحليل كميات هائلة من بيانات شبكات التواصل الاجتماعي في الوقت الفعلي لتحديد المشاعر والاتجاهات في المنشورات والتعليقات والمراجعات.

ومن مزايا استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل المشاعر واستخراج الرأي مما يُنشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي وقياس اتجاهات الجمهور(23):  

أ- يُمكِّن تحليل المشاعر من التنبؤ بنتائج الانتخابات، ومراقبة وقياس الرأي العام.

ب- استخدام تحليل المشاعر لاستطلاع آراء المستخدمين بشأن مسألة، أو قضية من القضايا ذات الاهتمام العام.

ج- يُساعد تحليل المشاعر في فهم اتجاهات الرأي العام، والمواقف حول الشخصيات السياسية، أو السياسات، أو الأحزاب أو الأحداث(24).

د- يُوفر تحليل المشاعر في الوقت الفعلي رؤى حول ما يشعر به المستخدمون، مما يسمح بالاستجابة بسرعة لأي تعليقات أو اتجاهات سلبية.

ه- يُساعد تحليل المشاعر واستخراج الرأي المعتمد على الذكاء الاصطناعي المؤسسات والشركات على تحديد الاتجاهات الناشئة، والموضوعات التي تهم جمهورها، بما يخدم تطوُّر وتَقَدُّم عملها.

و- يُساعد استخدام تحليل المشاعر الشركات على مراقبة وتحليل اتجاهات المنافسين، مما يسمح لها بتحديد الفرص، والبقاء في صدارة المنافسة.

ز- قابلية التوسع للتعامل مع كمٍّ هائل من البيانات الضخمة، وتمييز فئات المشاعر القابلة للتخصيص.

ح- يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحديد المشاعر في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وتصنيفها بدقة، مما يوفر رؤى أكثر دقة.

ط- توفر أتمتة عملية تحليل المشاعر الوقت والموارد التي كانت تُنفق على الاستطلاعات التقليدية.

ك- تحليل مشاعر العملاء يُمكِّن الشركات من تنظيم حملات تسويقية أكثر استهدافًا وفعالية تُخاطِب فيها مشاعر جمهورها وتفضيلاته.

2. الذكاء الاصطناعي واستطلاعات الرأي العام حول الانتخابات

أُجريت عدة محاولات لقياس اتجاهات الناخبين في الانتخابات الرئاسية، أو الانتخابات العامة، في بعض الدول عبر تصميم خوارزميات تحليل المشاعر لاستخراج آراء واتجاهات جمهور الناخبين، وذلك بتحليل ما ينشره المستخدمون من نصوص على شبكات التواصل الاجتماعي. وأُنجز العديد من الدراسات لتقييم دور شبكات التواصل الاجتماعي في قياس اتجاهات الرأي العام عبر استخدام خوارزميات تحليل المشاعر. وأظهرت النتائج أن هناك إمكانية لاستخدام بيانات شبكات التواصل الاجتماعي في التنبؤ بنتائج الانتخابات بدقة(25).

بدأ في العقد الماضي استخدام شبكات التواصل الاجتماعي منصات رقمية للتواصل السياسي على نطاق واسع. وقد حثَّ ذلك المجتمع العلمي على دراسة موضوع تشكيل اتجاهات الرأي العام، والتنبؤ بنتائج الانتخابات باستخدام البيانات المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي وتحليلها. وقد استُخدِم تحليل بيانات شبكات التواصل الاجتماعي حول الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية عام 2016 وحقق نتائج إيجابية. كما تمَّ تحسين خوارزميات تحليل المشاعر لقياس الشعبية والتنبؤ بنتائج الجولة النهائية لانتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2017(26).

وصمَّم الأكاديمي مفتهول كوريب Miftahul Qorib))، وزملاؤه من قسم علوم الحاسوب بجامعة مقاطعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، خوارزميات لدراسة بيانات شبكات التواصل الاجتماعي، وتحليل المشاعر للتنبؤ غير المُتَحيِّز بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020، أسلوبًا جديدًا في استطلاعات الرأي العام؛ إذ تُتيح شبكات التواصل الاجتماعي لمجموعات واسعة من الأشخاص التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم عبر هذه المنصات الرقمية. كما تؤثر مثل هذه الأفكار والآراء والاتجاهات على وجهات نظر المستخدمين الاجتماعية والسياسية. وتُعد هذه الاتجاهات مدخلات خاصة، ومفيدة لإجراء تحليل المشاعر(27). اعتمدت خوارزمية كوريب وزملائه على التعلم الآلي للتنبؤ، وتصنيف البيانات النصية من "إكس" (تويتر سابقًا) حول الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020. وتمَّ اختيار هذه المنصة؛ لأنها تُشكِّل المنصة الرقمية الأكثر شعبية للدراسات التي تتنبَّأ بنتائج الانتخابات؛ إذ يُشارك الكثير من المستخدمين وجهات نظرهم حول مواضيع مختلفة، بينما ينشر السياسيون رسائل عامة ويتفاعلون مع الناخبين. إضافة إلى ذلك، يستخدم الناخبون "إكس" لمشاركة آرائهم حول المرشحين السياسيين، وتقديم وجهات نظرهم حول المناقشات العامة. وتتمتع "إكس" بمتابعة عالية، خاصة بين الأميركيين(28). وتوخيًا للدقة وعدم التحيز، يتم تنظيم وفحص والتحقق من صحة البيانات آليًّا، ثم تقوم خوارزميات تحليل المشاعر بمقارنة الكلمات والعبارات بقاموس المفردات ومواءمتها مع درجات المشاعر المحددة مسبقًا باستخدام تطبيق "تكست بلوب" (TextBlob) لمعالجة البيانات النصية بعد تجهيز الحزم بقواميس المشاعر لتوفير أداة قوية لاستخراج المشاعر والرأي. وتقوم المعاجم بتقييم كل كلمة بشكل مستقل ضمن التغريدة وتخصيص درجة، ثم يتم حساب النتيجة الإجمالية لكل تغريدة. وتشير الدرجات الإيجابية إلى مواقف إيجابية بينما تُشير الدرجات السلبية إلى مواقف سلبية، أما الكلمات غير الموجودة في المعجم فتحصل على درجة صفر.

وقد وجدت الدراسة أن المرشح الرئاسي، دونالد ترامب، كان أكثر شعبية من جو بايدن على منصة "إكس"، وعلى الرغم من ذلك حظي بايدن بمتوسط ​​نسبة من المشاعر الإيجابية أعلى من ترامب على المستوى الوطني. وكانت نسبة المشاعر السلبية تجاه ترامب أعلى من بايدن؛ مما أدى إلى التنبؤ بتفوق جو بايدن على دونالد ترامب في انتخابات 2020. وخلصت الدراسة إلى أن تحليل المشاعر القائم على بيانات شبكات التواصل الاجتماعي يوفر نموذجًا دقيقًا للتنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وأن منصة "إكس" لها مزايا متعددة مصدرًا معلوماتيًّا مقارنة باستطلاعات الرأي التقليدية؛ إذ توفر عينات أكبر بكثير مما يحد من تأثيرات تحيز انتقاء العينات، وذلك بجمع ملايين التغريدات لعدد المشاركين وهو أعلى بكثير من الاستطلاعات التقليدية، بالإضافة إلى ذلك، فإن تكلفة الحصول على البيانات من "إكس" قليلة جدًّا، وأسرع بكثير، وغير مثقل بالقيود من المستجيبين غير المتعاونين(29).

وأعدَّ الباحثان، أنيستز كايماكامديس (Anestis Kaimakamidis) وأيونيس بيتاس (Ioannis Pitas)، دراسة لتحليل المشاعر السياسية على منصة "إكس" لاستطلاع اتجاهات الرأي العام عن الانتخابات العامة في اليونان، التي جرت يومي 21 مايو/أيار و25 يونيو/حزيران 2023، وذلك بتصميم نموذج (OPTR) الذي جمع أكثر من مليون تغريدة حول ستة أحزاب سياسية يونانية متنافسة باستخدام واجهة برمجة التطبيقات "إكس" من 25 يونيو/حزيران 2022 حتى 25 يونيو/حزيران 2023. وصُنِّفت التغريدات إلى ثلاثة اتجاهات: محايدة، وإيجابية، وسلبية(30)، "بما يظهر دقة في التعرف على الاتجاهات بنسبة 79%، وتمَّ اختبارها على أرض الواقع من خلال التغريدات السياسية اليونانية"(31). وسعت الدراسة إلى تقدير درجات الشعبية السياسية من خلال تحليل المشاعر لبيانات شبكات التواصل الاجتماعي باعتماد النموذج المقترح الذي تضمن الطريقة الإرشادية، وطريقة الانحدار. وكلاهما يُقدِّم تقديرًا جيدًا لدرجات الشعبية السياسية؛ إذ تُعد الطريقة القائمة على الانحدار أكثر دقة من الطريقة الإرشادية، لكنها تتطلب معرفة بيانات استطلاعات الرأي ونتائج الانتخابات السابقة.

وخلصت نتائج الدراسة إلى أن الفرق بين تقديرات الشعبية الإرشادية والطريقة الهجينة (باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي، واستطلاعات الرأي التقليدية السابقة) لا يزال كبيرًا، لكن مع تقدم برامج وأدوات معالجة اللغة الطبيعية تصبح نتائج التنبؤ السياسي باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل المشاعر واستخراج الرأي من شبكات التواصل الاجتماعي أكثر دقة. فقد أثبتت الطريقة الهجينة التي تستخدم بيانات منصة "إكس" واستطلاعات الرأي أنها توفر نتائج أفضل من شركات استطلاع الرأي التقليدية. وتُقدِّم مستوى جديدًا في التحليل السياسي لشبكات التواصل الاجتماعي؛ إذ إنها المرة الأولى التي تتفوق فيها تقنية تحليل المشاعر واستخراج الرأي من بيانات شبكات التواصل الاجتماعي حول الانتخابات العامة في اليونان على استطلاعات الرأي العام التقليدية(32).  

وتميَّز نموذج الباحث ديونيزيوس كاراموزاس (Dionysios Karamouzas) وزملائه باعتماد آلية جديدة مُؤَتْمَتَة لمراقبة الرأي العام، تستند إلى أساليب تحليل سمات المحتوى الدلالي للتغريدات المنشورة على "إكس" لقياس الرأي العام بطريقة تلقائية. وتتكوَّن الآلية من واصف دلالي يعتمد على خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية التي تقوم باستخراج واصف رباعي الأبعاد لكل تغريدة بشكل مستقل لتحديد اتجاه النص (إيجابي، سلبي، محايد)، والإهانة، والتحيز، والمجازية، ثم تلخيصها عبر تغريدات متعددة، وفقًا لإستراتيجية التجميع المطلوبة، وهدف التجميع. وجرى تطبيق هذه الآلية في سياق دراسة حالة عينات من التغريدات حول الانتخابات الرئاسية الأميركية في عامي 2016 و2020 لاستكشاف اتجاهات الرأي العام الأميركي وقياسه(33) بهدف تجاوز الأساليب غير الدلالية التي تأخذ في الاعتبار فقط تكرارات الكلمات الرئيسة، أو حجم التغريدات؛ مما يؤدي إلى رؤى غير دقيقة إلى حدٍّ ما، ومحاولة الوصول إلى رؤى نوعية بحتة(34).  

ويتمثل هدف نموذج كاراموزاس وزملائه في استكشاف الإمكانيات ذات الصلة لتحليل التغريدات الجمعي متعدد الأبعاد من خلال الشبكات العصبية العميقة (Deep Neural Networks)، وتصميم آلية جديدة مؤتمتة لمراقبة الرأي العام تتكوَّن من واصف مركب، وكمي، ودلالي يعتمد على خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية الممكنة للشبكات العصبية العميقة؛ إذ يتم أولًا استخراج ناقل رباعي الأبعاد، أي مثالًا للواصف المقترح لكل تغريدة بشكل مستقل، وتحديد اتجاه النص، والإهانة، والتحيز، والمجازية. بعد ذلك، يتم تلخيص الأوصاف المحسوبة عبر تغريدات متعددة وفقًا لإستراتيجية التجميع المطلوبة (المتوسط ​​الحسابي) وهدف التجميع (فترة زمنية محددة). ويمكن استغلال ذلك بطرق مختلفة تُتيح تجميع التغريدات الخاصة بكل يوم على حدة، وإنشاء سلاسل زمنية متعددة المتغيرات، يمكن استخدامها لتدريب خوارزمية الذكاء الاصطناعي لاستخراج التنبؤات اليومية للرأي العام(35).

وتُتيح عملية استخراج الآراء من التغريدات جمع معلومات قيمة تُساعد أدوات تحليل النص الدلالي الآلية التي تعتمد على الخوارزميات في تحليل المشاعر، وتصنيف نصوص التغريدات إلى مجموعة فئات تُعبِّر كل فئة عن شعور محتمل للمستخدم فيما يتعلق بالمحتوى. قد تكون المشاعر ذات اتجاهات تتراوح بين موقف سلبي للغاية إلى موقف إيجابي للغاية، أو متعددة الأبعاد. كذلك تُحدِّد خصائص النص الدلالي الإضافية المرتبطة بالرأي، إلى جانب مشاعر التحيز أو السخرية. ومن ثم يُتيح الذكاء الاصطناعي الحديث التعرف على المرشح الذي من المرجح أن يفوز في الانتخابات المقبلة من خلال تحليل مشاعر التغريدات ذات الصلة. كما يمكن استخدام استطلاع الرأي لتحديد آراء الجمهور بشأن مسألة حاسمة، أو قضية من القضايا ذات الاهتمام العام(36). 

شملت عينة تحليل المحتوى الدلالي الجمعي لنموذج كاراموزاس وزملائه 32 مليون و720 ألف تغريدة حول الانتخابات الرئاسية الأميركية لعامي 2016 و2020، بعد تطبيق عملية تقييم ومراجعة لإزالة الصفوف الفارغة والنص غير الإنجليزي، والتغريدات المكررة، والرسائل التي تحتوي على أقل من خمس كلمات بعد المعالجة المسبقة للنص؛ لأن التحليل الدلالي المناسب يستلزم وجود عدد كاف من الكلمات في كل تغريدة لتحقيق دقة عالية في استخراج الآراء. وبعد ذلك، تمَّ استخدام الكلمات المفتاحية: كلينتون، وأوباما، وترامب، وبايدن، لتقسيم الرسائل إلى رسائل تشير إلى الديمقراطيين وأخرى إلى الجمهوريين. وخلصت الدراسة إلى أن المراقبة الآلية للرأي العام باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي تمثِّل أداة قوية للغاية من أدوات الذكاء الاصطناعي، قادرة على التنبؤ وقياس اتجاهات الرأي العام، ويمكن تعميمها واستخدامها في التنبؤ بالانتخابات؛ لأنها طريقة عامة بالكامل ومؤتمتة، وتسمح للمستخدمين المهتمين باستخدام النموذج لقياس اتجاهات الرأي العام، والتنبؤ بنتائج أية انتخابات(37).

3. توظيف المؤسسات الإعلامية للذكاء الاصطناعي في قياس الرأي العام

تزايد استخدام المؤسسات الإعلامية لخوارزميات الذكاء الاصطناعي وبيانات شبكات التواصل الاجتماعي منذ أكثر من عقد، وتنوعت الخوارزميات ذات الصلة بالممارسة الصحفية، وما يتعلق بجمع الأخبار، وإعداد التقارير والقصص الصحفية. وتشمل هذه الأنواع ذات الصلة من الخوارزميات النماذج التنبؤية التي تعتمد إلى حدٍّ كبير على الصيغ الرياضية مثل التنبؤ بنتائج الانتخابات، وإحصائيات وصفية مثل تحليلات ما يُنشر في شبكات التواصل الاجتماعي.

وساعد توظيف الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار على ظهور مفهوم جديد ضمن سياقات العمل الصحفي، وهو الصحافة التنبُّؤية التي تمثِّل شكلًا من أشكال صحافة الذكاء الاصطناعي القائمة على التركز لتوليد التوقعات، أو التنبؤات الآنية، أو التنبؤات اللاحقة، أو التقديرات الأخرى في عمليات إنتاج الأخبار، والتقارير بالاعتماد على خوارزميات التعلم الآلي والمحاكاة. وغالبًا ما تُهيمن القضايا السياسية على التنبؤات بما في ذلك الانتخابات، إلا أن تطبيق الصحافة التنبؤية مقيد بالبيانات المتاحة(38).

ومن الأمثلة الأكثر شهرة للصحافة التنبؤية ما قامت به مؤسسة "نيت سيلفر" (Nate Silver) من خلال تحليل بيانات موقع "فايف ثيرتي إيت" (Five Thirty Eight)، المختص في استطلاعات الرأي وتحليل البيانات، لحساب صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times). فقد استخدمت "نيت سيلفر" مزيجًا من بيانات نتائج الانتخابات التاريخية، وأنماط التصويت الحالية، والتوقعات المحتملة لتقدير نتيجة الانتخابات المستقبلية. ونالت مؤسسة سيلفر بذلك اهتمامًا كبيرًا بعد أن تنبَّأ نموذجها بدقة نتائج انتخابات مجلس الشيوخ الأميركي في عام 2014. وساعدت بيانات شبكات التواصل الاجتماعي صحيفة "الغارديان" البريطانية بفاعلية في تغطية أعمال شغب توتنهام، وما بعدها(39).

ومن النماذج الرائدة للذكاء الاصطناعي إنشاء صحيفة "نيويورك تايمز"، في 2014، وحدة التطبيق "ذا أب شوت" (The Upshot) التي ضمت مجموعة من الصحفيين وخبراء البيانات لتطوير خوارزميات قادرة على إنتاج قصص، وتقارير إخبارية، من تحليل البيانات الضحمة على شبكات التواصل الاجتماعي. وقد أنتج تطبيق "ذا أب شوت" سلسلة من التقارير المتميزة عن الظلم الاجتماعي، وعدم المساواة في الولايات المتحدة، والانحدار طويل الأمد بثقة الجمهور في الحكومة الأميركية، واتجاهات التوظيف في الولايات المتحدة(40).   

وطوَّرت وكالة" أسوشيتدبرس" (Associated Press) أداة مصممة من شركة "سام" (SAM) الكندية تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تسمح بتحديد أبرز الأحداث والقضايا المتداولة على شبكات التواصل الاجتماعي لإصدار كتابها اليومي (AP Daybook) لمساعدة وسائل الإعلام على متابعة الأحداث والقضايا ذات الاهتمام العام في وقت مبكر. إن استخدام الكتاب اليومي لوكالة "أسوشيتدبرس" يُوفر نظرة سريعة ودقيقة على أبرز الأحداث الرئيسة في كل ولاية من الولايات الأميركية، ويُساعد الكتُّاب في التنبؤ بأبرز قضايا الرأي العام، واتجاهات الجمهور حولها(41). وتوفر الخوارزميات أيضًا إمكانية تسهيل مستوى التفاعل بين الجمهور والمراسلين والمحررين، وتُساعد وسائلَ الإعلام الإخبارية في معالجة الحجم الكبير من مضامين الخطاب الذي ينشره المستخدمون على شبكات التواصل الاجتماعي حول القضايا ذات الأهمية العامة، وإنشاء ملخصات للصحفيين والمحررين، وتوجيه مثل هذه الملخصات إلى الصحفيين والمراسلين الذين يعملون في المجالات ذات الصلة لتساعدهم في تحديد أفكار القصة الجديدة لتقارير المؤسسة الصحفية، وكذلك المصادر الجديدة المحتملة للمساعدة في توسيع التنوع في إعداد التقارير(42).

تزايد عدد وسائل الإعلام الأميركية التي تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي في كتابة التقارير الصحفية التنبؤية. فقد اعتمدت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" (Los Angeles Times)، عام 2014، خوارزمية "كويكبوت" (Quakebot)  لانتقاء موجز بيانات المسح الجيولوجي عن زلزال بقوة 4.2 درجة بجنوب كاليفورنيا في الوقت الفعلي. وصمَّم البرنامج مراسل بشري، وكتب "كويكبوت" أيضًا القصة، ونبَّه محررًا بشريًّا إلى الأخبار العاجلة، وقام بتسليم القصة إلكترونيًّا للنشر في موقع "لوس أنجلوس تايمز" (LATimes.com)، كل ذلك في غضون لحظات من حدث الزلزال(43). 

واستخدمت الصحيفة الفلندية "هلسنغن سانومات" (Helsingin Sanomat)  خوارزمية الذكاء الاصطناعي للتعلم الآلي (VAA) لتحليل نشاطات المرشحين للانتخابات البرلمانية في فنلندا، عام 2015، من خلال تتبُّع آثارهم الرقمية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتقييم المواقف السياسية للجهات الفاعلة سياسيًّا، بما يُمكِّن من التنبؤ بالمؤشرات عن نوايا تصويت الناخبين(44). ومن الأمثلة الأخرى على توظيف الصحافة التنبؤية لخوارزميات الذكاء الاصطناعي في مجال توقعات نتائج الانتخابات ما نشرته "نيويورك تايمز" (New York Times) و"هافينغتون بوست"(The Huffington Post)  من توقعات عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016 قبل يوم من الانتخابات. وكانت نتائج هذه الانتخابات بمنزلة تنبيه للعديد من المحللين الاستشرافيين لمراجعة أسباب إخفاق توقعاتهم في فوز المرشحة هيلاري كلينتون. كما نشرت مجلة "الإيكونوميست" (The Economist)  توقعات الانتخابات النصفية لمجلس النواب الأميركي، عام 2018، والانتخابات الرئاسية الأميركية، عام 2020. واعتمدت تلك النماذج الخوارزمية بشكل كبير على معلومات استطلاعات الرأي والناخبين، وقامت في بعض الأحيان بدمج المعلومات الاقتصادية لتشغيل عمليات المحاكاة التي تُنتج توقعات قبل أشهر من يوم الانتخابات. وتنبَّأ نموذج "الإيكونوميست" بنيَّة التصويت لكل حزب بناء على عدد التركيبة السكانية. وبيَّن النموذج إمكانية استخدام النماذج التنبؤية لوصف وشرح خصائص الناخبين المرتبطة بأنماط تصويت معينة(45).

ومن النماذج التفاعلية للذكاء الاصطناعي في الصحافة التنبؤية محاكي الرأي في صحيفة "واشنطن بوست" (Washington Post)، الذي كان يطلب من المستخدم المشاركة في اختيار المؤشرات لنموذج تنبؤي للانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2020؛ إذ تدعو واجهة التطبيق المستخدمين إلى تقديم تنبؤاتهم الخاصة من خلال اختيار مستوى أداء مرشحهم في استطلاعات الرأي، وفي جمع التبرعات خلال الفترة التي تسبق الانتخابات التمهيدية. وبناء على تلك الاختيارات، يحاكي النموذج النتائج المحتملة ويُظهِر للمستخدمين فرص المرشح المحتملة للفوز مقابل بقية المرشحين(46).

4. الذكاء الاصطناعي وتأثير المعلومات المضللة على الرأي العام

تعاظم استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في نشر المعلومات المضللة والشائعات على شبكات التواصل الاجتماعي حتى باتت تُشكِّل ظاهرة عالمية لها تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الرأي العام، والسلم والأمن المجتمعي. وتكمن خطورة الظاهرة في أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي بإمكانها إنشاء محتوى التضليل آليًّا، ومعالجة النصوص ومحتوى الصور، أو الصوت أو الفيديو، ونشره عبر شبكة الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت محاضن للأخبار المزيفة والمضللة أكثر منها أدوات للتمكين والتغيير الاجتماعي. فانتشار المعلومات المضللة، وحملات التضليل في بيئة النظام الرقمي، تُضعف بشكل كبير قدرة الأفراد على اتخاذ قرارات حرة ومستنيرة، وتتأثر تبعًا لذلك قدرتهم على المشاركة الديمقراطية، وقرارات التصويت جرَّاء التلاعب الفعال بآرائهم مما يُعرِّض الديمقراطية لمخاطر كثيرة(47).

وأصبحت الأخبار الكاذبة، والمعلومات المضللة، والشائعات، سلاحًا فعالًا للخداع وتزييف الوعي للتأثير في تشكيل اتجاهات جمهور الرأي العام لتحقيق أغراض معينة مخطط لها. وهناك قلق متزايد من هذه الظاهرة في البلدان النامية؛ لأنها كانت سببًا في إثارة تحديات سياسية واقتصادية، فضلًا عن زيادة الانقسامات الاجتماعية، وإثارة الكراهية، والعنف لتقويض النظام السياسي. وغالبًا ما يرتبط نشر المعلومات المضللة بحالات الاستقطاب السياسي، والسخرية السياسية، وخطاب الكراهية، والتنمر.

وتُعرَّف المعلومات المضللة بـ"المعلومات التي يتم نشرها عمدًا بهدف الخداع، وقد تكون مقصودة أو غير مقصودة، ويُنظر إلى المحاولات المنظمة لنشر معلومات كاذبة من قِبَل الفاعلين السياسيين، سواء كانوا محليين أو أجانب، على أنها معلومات مضللة"(48). ويشير الباحث نير غرينبرغ (Nir Greenberg) وزملاؤه إلى أن عنصر الحداثة قد يكون له دور في قرارات الأشخاص بنشر، ومشاركة المحتوى الزائف، أو المعلومات المضللة، أو إعادة توجيهها إلى الأصدقاء، والمتابعين، مما يتطلب الموضوعية في تفسير دوافع نشر الشائعات، والمعلومات المضللة، وتأثيراتها على سلوكيات الجمهور. فقد يواجه البعض معلومات مضلِّلة على شبكات التواصل الاجتماعي ويتفاعل معها بشكل متكرر، وهذا من شأنه أن يُفسِّر الأنماط المنحرفة لكل من الاستهلاك والمشاركة، فضلًا عن وجود عدد محدود نسبيًّا من الحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي لروبوتات ذكاء اصطناعي آلية لها دور كبير في نشر ومشاركة المعلومات المضللة(49).

ويرتكز عمل روبوتات أو خوارزميات الذكاء الاصطناعي على تضخيم المعلومات، والمحتوى الخادع الزائف لدعم قضية، أو شخصية عامة؛ مما يؤدي إلى سوء فهم جمعي يخلق تصورًا خاطئًا بهدف تغيير اتجاهات، أو تعطيل وإفساد عملية مشاركة سياسية أو انتخابات، أو إثارة صراع سياسي، عبر تشويه الخطاب، أو التلاعب بالسوق؛ إذ تُساعد مزايا شبكات التواصل الاجتماعي التكنولوجية المؤثرين الاجتماعيين والمتصيدين على نشر المحتوى المخادع، وتقوم روبوتات الذكاء الاصطناعي بإعادة نشر تلك المعلومات عبر مشاركتها على شبكة الإنترنت لإدامة الخداع، وتضليل وتزييف وعي الرأي العام.

والمتصيد (Troll) كما تُعرِّفه الأكاديمية بجامعة هيوستن، آنا كليويفا (Anna Klyueva)، هو "مستخدم الإنترنت الذي ينخرط في ممارسة نشر تعليقات استفزازية، غالبًا ما تكون مضللة عمدًا، وبلا معنى، بقصد استفزاز الآخرين، وبمناقشة لا معنى لها، أو إثارة نزاع"(50). وتُصنِّف كليويفا المتصيدين إلى صنفين، هما: المتصيدون المتلاعبون بالرأي العام، والمتصيدون مثيرو الشغب. وضمن هذا السياق برز مصطلح الروبوتات الاجتماعية (Social Bots)، وهي روبوتات تقوم على خوارزميات الذكاء الاصطناعي ومصممة لإنشاء المحتوى تلقائيًّا، أو مشاركته بشكل مستقل، والتفاعل مع المستخدمين للتأثير على مناقشاتهم وآرائهم. وتحاكي بنجاح سلوك الاتصال البشري عبر شبكات التواصل الاجتماعي لبناء الثقة من خلال نشر روابط للمحتوى المدفوع، وجذب المتابعين، والرد على التفاعلات بهدف الترويج لمنتج، أو أجندة ما. وهناك شبكة من الروبوتات تتم برمجتها وتشغيلها بإشراف مالك واحد لتنفيذ الأغراض المخطط لها. وفي هذا الإطار يُستخدم مصطلح "قنبلة التغريدة"، للتعبير عن إستراتيجية تواصل على منصة "إكس" تتضمن تكرار نشر نفس المحتوى باستخدام نفس الهاشتاج من حسابات متعددة بهدف الترويج لمحتوى، أو مشكلة، أو فكرة معينة، وقد تؤدي قنبلة التغريدة إلى تصنيف "غوغل" العالي للمحتوى المروَّج له(51).

وتعتمد روبوتات أو خوارزميات الذكاء الاصطناعي إستراتيجية محددة في نشر المعلومات المضللة تقوم على(52):

تضخيم المحتوى الزائف أو المضلل في المراحل الأولى من النشر، قبل تحقيق الانتشار.

أ- تُحدد الروبوتات الحسابات المؤثرة للاستفادة من نفوذها عبر جذب انتباهها من خلال الردود والإشارات.

ب- إنشاء كميات هائلة من المحتوى المزيف بسرعة وسهولة(53).

ج- تحديد مواقع الأخبار العاجلة باعتبارها جهات نشر رئيسة للمعلومات المضللة على "إكس" مثلًا. وينسب مستخدمو المنصة الثقة إلى هذه الحسابات التي تُحاكي مصادر الأخبار الشرعية، ولها نوع من السلطة. وهذا يسمح لمواقع الأخبار العاجلة ببناء قواعد كبيرة وصادقة من المتابعين، تبث إليهم معلومات مضللة بنبرة محددة.

لا يقتصر إنتاج ونشر المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة على المتصيدين، أو روبوتات الذكاء الاصطناعي، فهناك عدد من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي الذين يُشغِّلون حسابات متعددة بأسماء مزيفة لإخفاء هويتهم الحقيقية، وينشرون عددًا كبيرًا من التعليقات يوميًّا على المقالات والتقارير الإخبارية، إضافة إلى تحديث صفحاتهم على فيسبوك و"إكس" بعدد كبير من المنشورات اليومية. ويمكن لجزء صغير من منتجي ومستهلكي الأخبار المزيفة أن يولِّد الجزء الأكبر من المشاركة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حتى لو لم يواجهها معظم الناس(54).

ويضيف الذكاء الاصطناعي التوليدي بُعدًا جديدًا إلى مشكلة التضليل؛ إذ إن بعض الأدوات المتاحة تكاد تكون مجانية، وغير خاضعة للتنظيم، مما يُمكِّن أي شخص من إنتاج معلومات كاذبة، ومحتوى مزيف بكميات هائلة. ويشمل ذلك تقليد أصوات أشخاص حقيقيين، وإنشاء صور ومقاطع فيديو لا يمكن تمييزها عن الصور الحقيقية. والذكاء الاصطناعي التوليدي هو أول تقنية تدخل مجال الإنتاج المستقل للمحتوى بأي شكل من الأشكال، وفهم وإنشاء اللغة والمعنى الذي كان في السابق حكرًا على البشر. وما يربط الذكاء الاصطناعي التوليدي بموضوع التضليل الإعلامي هو استحالة معرفة ما إذا كان المحتوى صادرًا عن إنسان أو آلة، وما إذا كان كل ما يُقرأ أو يُرى ويُسمع يحظى بالمصداقية، لكن إذا تمَّ استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل ذكي، فإنه قادر على تزويد أكبر عدد من مستهلكي المحتوى بمعلومات جديرة بالثقة، ومن ثم مكافحة التضليل(55).

وفي سياق البعد الجديد لمشكلة التضليل، هناك التزييف العميق الذي يُطلق على عمليات إنتاج محتوى الصوت والفيديو التي يتم التلاعب بها باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لتكون واقعية للغاية، ولا يُمكن تمييزها بسهولة عن المواد الحقيقية لخداع المتلقين بالتزييف العميق. إن السهولة المتزايدة في صنع ومشاركة محتوى الفيديو والصوت المزيف عبر أجهزة الكمبيوتر والأجهزة المحمولة ساعدت في حالات الترهيب والابتزاز والتخريب. وكانت هناك عدة حالات لمقاطع فيديو أُنْشِئَت باستخدام الذكاء الاصطناعي ويظهر فيها سياسيون يدلون بتصريحات لم يعلنوها أبدًا. لذلك فإن التحقق من الحقائق المؤتمتة بالكامل لا يزال هدفًا بعيد المنال، لكن مع زيادة حجم التدريب ستتحسن أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويمكن أن تحلَّ في النهاية محلَّ الإنسان لكشف التزييف العميق(56). وللتزييف العميق باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي تأثير سلبي على الانتخابات؛ إذ تسعى الجهات الفاعلة المشاركة في الانتخابات دائمًا إلى تحقيق أهداف محددة، إما الفوز بالسلطة لحلفائها، أو لنفسها، أو التأثير على المشهد السياسي في دولة أجنبية. وتُمكِّن خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي أصبحت سلاحًا قويًّا في حرب المعلومات وعمليات التأثير، هذه الجهات الفاعلة من شنِّ حملات لتزييف الوعي، والتلاعب بتشكيل الرأي العام، وخلق تصورات غير واقعية لدى المستخدمين، وغالبًا ما يتم تنسيق مثل هذه الحملات، وتقييمها وقياسها وتمويلها من قبل جهات سياسية أو أجنبية(57).

5. توظيف الذكاء الاصطناعي في الاستهداف السياسي للناخبين

شهدت السنوات القليلة الماضية تعاظم دور خوارزميات الذكاء الاصطناعي في التلاعب بتشكيل الرأي العام، وإضعاف ثقة المستخدمين في وسائل الإعلام والمؤسسات، وتشويه سمعة القيادات السياسية، وتعميق الانقسامات المجتمعية. واستخدمت بعض الجهات المجهولة الخوارزميات للتسلُّل إلى شبكات بعض الحكومات والشركات من أجل سرقة المعلومات، وانتهاك خصوصية الأفراد، وكذلك تشويه الانتخابات دون ترك أي أثر، مما جعل الديمقراطيات الغربية تواجه مزيجًا من الهجمات الإلكترونية، والتخريب السياسي والاجتماعي(58).

لقد أتاحت المعلومات الضخمة عن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي العديد من المجالات لاستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل مشاعر واهتمامات واتجاهات وتفضيلات المستخدمين، وتوظيف تلك المعلومات لأغراض الاستهداف السياسي الدقيق، وتنويع محتوى الإعلانات لزيادة كفاءة نشاط الحملات الإعلانية التي تهدف إلى الوصول لشرائح محددة من المستخدمين، وإثارة دافعيتها للتفاعل مع الحملة. وبات امتلاك تلك البيانات يُشكِّل مكمن القوة في أيدي الذين يمتلكونها، ويستفيدون من القدرة على معالجتها. فقد أتاح الذكاء الاصطناعي ظهور جيل جديد من ممارسات التسويق السياسي والإعلان الرقمي التي تعمل على أتمتة الاستهداف بدقة ونطاق وحجم غير مسبوقين(59).

غالبًا ما يعتمد الأشخاص على تقنيات الذكاء الاصطناعي القائمة على البيانات في كل مرة يتصلون فيها بالإنترنت، سواء كانوا يتسوقون، أو يتصفحون ملخصات الأخبار، أو يبحثون عن الترفيه. وهذا ما يُساعد خوارزميات التخصيص على جمع البيانات الشخصية على نطاق واسع؛ إذ يستفيد منها صانعو السياسات في معرفة اتجاهات ومواقف وميول الناس الذين لا يزال الكثير منهم لا يدرك غايات وأبعاد التخصيص الخوارزمي التي لا تخضع في الغالب إلى التدقيق العام.

ويؤدي توظيف الذكاء الاصطناعي في الاستهداف السياسي إلى عدة مخاطر، منها: التلاعب بالناخبين وتضليلهم، والافتقار إلى الشفافية، وانتشار المعلومات المضللة، وتزايد المنافسة غير العادلة بين الجهات الفاعلة السياسية، وتشويه نموذج الناخبين، والتمييز، والاستقطاب السياسي، وتغلغل التأثير الأجنبي في الشؤون الداخلية، إضافة إلى انتهاكات خصوصية الأفراد. وتتسبب هذه المخاطر في انتهاك استقلالية الإنسان وكرامته على المستوى الفردي، أما على المستوى الجمعي والمجتمعي فإن هذا الاستهداف الممنهج لأغراض سلبية يُشكِّل تهديدًا للتماسك الاجتماعي والسيادة الوطنية والخطاب العام النزيه والمستنير ومبدأ الانتخابات الحرة النزيهة، ويقوض أسس الديمقراطية(60).

وتتضمن برامج التعلم الذاتي للذكاء الاصطناعي مجموعة متنوعة من الأدوات الخوارزمية التي تجمع البيانات الشخصية للأشخاص، وتعالجها من أجل تخصيص المعلومات، والتوسط فيها عبر الإنترنت، لتُقدِّم للمستخدمين ملخصات الوسائط الاجتماعية الشخصية، والإعلانات المستهدفة، وأنظمة التوصية، والتصفية الخوارزمية في محركات البحث. وعلى الرغم من أن العديد من الخدمات الشخصية في التخصيص الخوارزمي قد تكون غير ضارة، مثل اقتراحات الموسيقى أو الأفلام، إلا أن البعض الآخر يُثير تحديات للديمقراطية، وقلقًا كبيرًا من تأثير الرسائل السياسية الشخصية التي تحتوي على ادعاءات كاذبة. فقد أثَّرت رسائل الاستهداف السياسي بتخصيص المعلومات على استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك على الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016. إضافة إلى ذلك يمكن لخوارزميات التخصيص تضخيم نظريات المؤامرة، والمعلومات الخاطئة، أو المضللة والمحتوى المتطرف الداعم لصعود التطرف السياسي. كما تزايدت المخاوف من أن الجمع بين التصفية الخوارزمية، وديناميكيات الرأي على شبكات التواصل الاجتماعي، قد عزَّز انتشار المعلومات الخاطئة حول جائحة كوفيد-19 واستجابات الحكومات لها، ودعم روايات المؤامرة حولها(61).

وأصبحت خصوصية البيانات والشفافية مدعاة للقلق أيضًا؛ إذ تقع بيانات الأشخاص في قلب النظام البيئي عبر الإنترنت؛ حيث يقوم مقدمو الخدمات باستثمار الآثار السلوكية الرقمية التي يتم جمعها مباشرة أو بواسطة متتبِّعين تابعين لجهات خارجية(62). وتمكِّن هذه المجموعة الواسعة من البيانات السلوكية خوارزميات الذكاء الاصطناعي من استنتاج معلومات عما ينوي المستخدمون مشاركته تبعًا لمعلوماتها عن سماتهم الشخصية، واهتماماتهم، وتفضيلاتهم، وآرائهم السياسية. فاستخدام البيانات الديمغرافية والسلوكية في الإعلانات المستهدفة يؤدي إلى التمييز أيضًا؛ إذ من خلال الاستهداف التفضيلي (تضمين أو استبعاد) يمكن توجيه معلومات تهدف إلى التأثير على آراء المستخدمين الذين ينتمون إلى مجموعات اجتماعية عرقية أو دينية. فقد اتُّهِمت حملة ترامب الانتخابية الرئاسية لعام 2016 بمحاولة ثني 3.5 ملايين أميركي من أصل إفريقي في الولايات الأميركية المتأرجحة عن التصويت لهيلاري كلينتون من خلال استهدافهم عمدًا على فيسبوك بإعلانات سلبية على صفحاتهم هاجمت كلينتون بشدة، وزعمت أن المرشحة الديمقراطية تفتقر إلى التعاطف مع الأميركيين من أصل إفريقي(63). كما استهدفت إعلانات لوكالة أبحاث الإنترنت الروسية على فيسبوك أشخاصًا في الولايات المتحدة بناء على عرقهم. وتضمنت هذه الإعلانات مواضيع مثيرة للانقسام الاجتماعي، مثل الهجرة، وانتهاكات الشرطة القائمة على العرق، من أجل إثارة خلافات وتناحر اجتماعي قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016(64).  

إن وعي الناس بالتأثير الذي تُمارسه الخوارزميات على تجربتهم عبر الإنترنت لا يزال محدودًا. ومع تزايد الدعوات لتنظيم الإعلانات السياسية عبر الإنترنت، كان لشبكات التواصل الاجتماعي إجراءاتها المتباينة لمعالجة الاستهداف السياسي والتخصيص. فقد قامت منصة "إكس" بحظر الترويج للمحتوى السياسي، وشدَّد فيسبوك سياساته الإعلانية لتقييد بعض الإعلانات الانتخابية، أو السياسية(65)، إلا أن تلك الإجراءات لم تكن فاعلة لحرص تلك الشبكات على الانتفاع المادي من زيادة إيراداتها الإعلانية. وتظل آليات الاستهداف السياسي الدقيق في الانتخابات غير شفافة، وتحتاج إلى رسم آليات عملية فاعلة تحد من الاستخدامات الضارة للذكاء الاصطناعي في الاستهداف السياسي للناخبين.

خاتمة

‏تؤثر شبكات التواصل الاجتماعي تأثيرًا فاعلًا في تشكيل الرأي العام، ومجريات أمور الجماعة الإنسانية على النطاق المحلي والوطني والقومي والدولي؛ لأنها جمعت عدة خصائص مؤثرة تُميزها على وسائل الاتصال التقليدية، مثل الفورية، والتفاعلية، والكونية في النشر. واستخدمت خوارزميات تحليل المشاعر، أو التنقيب عن الرأي، للتعرف على آراء، أو مشاعر عامة الناس، من خلال تحليل ما يُنشَر على شبكات التواصل الاجتماعي، واعتُمِدت وسيلةً للتنبؤ بنتائج الانتخابات، وقياس اتجاهات الرأي العام، والحالة المزاجية للمستخدمين. وكانت الشائعات والمعلومات المضللة من أبرز الأساليب التي استندت إليها للتلاعب بالمجتمعات، أو السيطرة عليها بتزييف الوعي وخداع الرأي العام. وقد أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي محاضن للأخبار المزيفة والمضللة أكثر منها أدوات للتمكين، والتغيير الاجتماعي. فانتشار المعلومات المضللة، وحملات التضليل في بيئة النظام الرقمي، تُضعف بشكل كبير قدرة الأفراد على اتخاذ قرارات حرة ومستنيرة، وتتأثر تبعًا لذلك قدرتهم على المشاركة الديمقراطية، وقرارات التصويت جرَّاء التلاعب الفعَّال بآرائهم مما يُعرِّض الديمقراطية لمخاطر كثيرة.

إن توظيف الذكاء الاصطناعي في قياس اتجاهات الرأي العام عبر خوارزميات تحليل المشاعر، واستخراج الرأي مما يُنشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي، جعل الخوارزميات تتفوق على الأساليب التقليدية في استطلاعات الرأي العام؛ لأنها تتيح إجراء تقدير للرأي العام أكثر دقة، وسرعة، وأقل كلفة لتقدير نتائج الانتخابات. إن المراقبة الآلية للرأي العام عبر شبكات التواصل الاجتماعي تمثِّل اليوم أداة فاعلة من أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على التنبؤ وقياس اتجاهات الرأي العام، والتنبُّؤ بنتائج الانتخابات.

كما أتاحت البيانات الضخمة عن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي العديد من المجالات لاستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل المشاعر لمعرفة اهتمامات واتجاهات وتفضيلات المستخدمين، وتوظيف تلك المعلومات في تخصيص الرسائل للاستهداف السياسي الدقيق، وفي تنويع محتوى الإعلانات لزيادة كفاءة نشاط الحملات الإعلانية الهادفة إلى الوصول لشرائح محددة من المستخدمين، وإثارة دافعيتها للتفاعل مع الحملة. وبات امتلاك تلك البيانات يُشكِّل مكمن القوة في أيدي الذين يمتلكونها، ويستفيدون من القدرة على معالجتها. فقد أتاح الذكاء الاصطناعي ظهور جيل جديد من ممارسات التسويق السياسي والإعلان الرقمي التي تعمل على أتمتة الاستهداف الدقيق بنطاق وحجم غير مسبوقين. كما رفع توظيف الذكاء الاصطناعي في الاستهداف السياسي مستوى مشاركة الناخبين في الانتخابات واهتمامهم بالسياسة. لكن هذا الاستهداف له عدة مخاطر منها: التلاعب بالناخبين وتضليلهم، والافتقار إلى الشفافية، وانتشار المعلومات المضللة، وتزايد المنافسة غير العادلة بين الجهات الفاعلة السياسية، والاستقطاب السياسي، وتغلغل التأثير الأجنبي في الشؤون الداخلية، إضافة إلى انتهاكات خصوصية الفرد. أما على المستوى الجمعي والمجتمعي، فيُشكِّل استخدام هذا الاستهداف الممنهج لأغراض سلبية تهديدًا للتماسك الاجتماعي والسيادة الوطنية والخطاب العام النزيه والمستنير ومبدأ الانتخابات الحرة النزيهة، ويُقوِّض أسس الديمقراطية.  

إن وعي الناس بتأثيرات خوارزميات الاستهداف السياسي الدقيق في الانتخابات، لا يزال محدودًا؛ لأن آليات الاستهداف الدقيق غير شفافة، مما يقتضي من الحكومات والمؤسسات المعنية رسم آليات عملية فاعلة تحد من استخدامها في الاستهداف السياسي للناخبين. كما أن تزايد توظيف الذكاء الاصطناعي التوليدي في التخصيص والاستهداف السياسي الدقيق، والتزييف العميق للتأثير في تشكيل اتجاهات الرأي العام، يستلزم اتخاذ إستراتيجيات على المستوى الدولي للحد من الاستخدام الضار للذكاء الاصطناعي، وكذلك حماية معلومات مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي من انتهاك الخصوصية، أو الاتجار بها.

إن التلاعب بالحقيقة وتزييف الوعي ظاهرة متكررة عبر التاريخ لتضليل الرأي العام.‏ وقد ساعدت الثورة الرقمية والتقدم السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي على انتشارها في الوقت الحاضر؛ إذ أصبح بإمكان الذكاء الاصطناعي التوليدي إنتاج معلومات مخادعة بسهولة، وبشكل أقرب إلى الواقع، ونشرها بسرعة على شبكات التواصل الاجتماعي لمستخدمين مستهدفين، وفي نطاق لا مثيل له. وتنامت قدرات خوارزميات الذكاء الاصطناعي في إنتاج التزييف العميق حتى باتت المعلومات المضللة تُشكِّل ظاهرة عالمية تستدعي اتخاذ الإجراءات الضرورية على المستوى الدولي لحماية المجتمعات منها.

نُشِرت هذه الدراسة في العدد الخامس من مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا)

مراجع

(1) Russell Brooker et al., "Methods of Measuring Public Opinion," Public Opinion in the 21st Century, (2015), "accessed April 1, 2024". https://rb.gy/rgpo85.

(2) Tom Arnold-Forster, "Walter Lippmann and Public Opinion," American Journalism, Vol. 40, Issue. 1, (2023): 51-79.

(3) Janna Anderson, Lee Rainie, "As AI Spreads, Experts Predict the best and Worst Changes in Digital Life by 2035," pewresearch.com, June 21, 2023, "accessed April 1, 2024". https://rb.gy/h9xmqx.

(4) Anestis Kaimakamidis, Ioannis Pitas, "Political Tweet Sentiment Analysis for Public Opinion Polling," (ICASSP, IEEE International Conference on Acoustics, Speech and Signal Processing, 2024), 123-125.

(5) إبراهيم رزوق، محمود حسن، "البعد الإبستمولوجي في نظرية المعرفة الموضوعية عند كارل بوبر"، مجلة سلسلة العلوم التاريخية والاجتماعية (جامعة البعث، سوريا، المجلد 45، العدد 3، 2023)، ص 155. 

(6) داود خليفة، "السيبرنطيقا: دراسة في المفهوم ومجالاته"، مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (جامعة وهران 2، الجزائر، المجلد 11، العدد 2، 2022)، ص 105.

(7) بطاهر هشام، "الـتأسيس النظري لعلوم الإعلام والاتصال انطلاقًا من البراديغم السيبرنطيقي: دراسة تحليلية على عينة من منشورات (Cairn. info)"، المجلة الجزائرية للأبحاث والدراسات (جامعة محمد الصديق بن يحيى، الجزائر، المجلد 2، العدد 1، 2018)، ص 221.

(8) عادل عبد الغفار خليل، الإعلام والرأي العام: دراسة حول تطبيع العلاقات المصرية-الإسرائيلية"، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003)، ص 84.

(9) عبد الكريم الدبيسي، الرأي العام: عوامل تكوينه وطرق قياسه، ط 2 (الأردن، دار المسيرة، 2016)، ص 131.

(10) أحمد بدر، الرأي العام: طبيعته وتكوينه وقياسه (مصر، دار قباء، 1997)، ص 95.

(11) المرجع نفسه، ص 93.

(12) شيماء ذو الفقار زغيب، نظريات في تشكيل اتجاهات الرأي العام، ط 2 (القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2009)، ص 89.

(13) ميرنا أحمد دلالة، "الميديا المختبر الجديد لصناعة الرأي العام: دراسة سوسيولوجية تحليلية"، مجلة سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة تشرين، سوريا، المجلد 43، العدد 2، أبريل/نيسان 2021)، ص 11-22.

(14) Stacy Jo Dixon, "Number of Social Media Users Worldwide from 2017 to 2028," statista.com, May 17, 2024, "accessed June 1, 2024". https://rb.gy/9wp1oq.

(15) Anatoly Merenkov et al., "Public Opinion on Artificial Intelligence Development," KnE Social Sciences, (January 2021): 565-574.

(16) Richard Wike, "Social Media Seen as Mostly Good for Democracy Across Many Nations, but US is a Major Outlier," pewresearch.org, December 6, 2022, "accessed June 1, 2024". https://rb.gy/nn8mpl.

(17) "Implementing AI for Sentiment Analysis in Social Media," Moldstud, March 20, 2024, "accessed June 1, 2024". https://rb.gy/t8l770.

(18) Miftahul Qorib et al., "Impact of Sentiment Analysis for the 2020 US Presidential Election on Social Media Data," in Proceedings of the 2023 8th International Conference on Machine Learning Technologies, (New York: Association for Computing Machinery, 2023), 28-34.

(19) Priyavrat Chauhan et al., "The Emergence of Social Media Data and Sentiment Analysis in Election Prediction," Journal of Ambient Intelligence and Humanized Computing, Vol. 12, No. 2, (February 2021): 2601-2627.

(20) Orestes Appel et al., "Main Concepts, State of the Art and Future Research Questions in Sentiment Analysis," Acta Polytechnica Hungarica, Vol. 12, No. 3, (2015): 87-108.

(21) Chauhan et al., "The Emergence of Social Media Data and Sentiment Analysis in Election Prediction,": 2601-2627.

(22) جان ستوتزل، آلان جيرار، استطلاع الرأي العام، ترجمة عيسى عصفور، ط 2 (بيروت، منشورات عويدات، 1982)، ص 40.

(23) "Implementing AI for Sentiment Analysis in Social Media," op, cit.

(24) Lenggo Geni et al., "Sentiment Analysis of Tweets Before the 2024 Elections in Indonesia Using Bert Language Models," Jurnal Ilmiah Teknik Elektro Komputer Dan Informatika, Vol. 9, No. 3, (August 2023): 747.

(25) Chauhan et al., "The Emergence of Social Media Data and Sentiment Analysis in Election Prediction,": 2601-2627.

(26) Brandon Joyce, Jing Deng, "Sentiment Analysis of Tweets for the 2016 US Presidential Election," (Conference: IEEE MIT Undergraduate Research Technology Conference, 2017), 1-4.

(27) Qorib et al., "Impact of Sentiment Analysis for the 2020 US Presidential Election on Social Media Data,": 28-34.

(28) Chauhan et al., "The Emergence of Social Media Data and Sentiment Analysis in Election Prediction,": 2617.

(29) Qorib et al., "Impact of Sentiment Analysis for the 2020 US Presidential Election on Social Media Data,": 30.

(30) Kaimakamidis, Pitas, "Political Tweet Sentiment Analysis for Public Opinion Polling,": 122.

(31) Emmanouil Patsiouras et al., "Greekpolitics: Sentiment analysis on Greek Politically Charged Tweets," (31st European Signal Processing Conference (EUSIPCO), IEEE, 2023), 1320-1324.

(32) Kaimakamidis, Pitas, "Political Tweet Sentiment Analysis for Public Opinion Polling,": 124.

(33) Dionysios Karamouzas et al., "Public Opinion Monitoring Through Collective Semantic Analysis of Tweets," Social Network Analysis and Mining, Vol. 12, No. 1, (2022): 1.

(34) Didier Grimaldi, "Can we Analyse Political Discourse Using Twitter? Evidence from Spanish 2019 Presidential Election," Social Network Analysis and Mining, Vol. 9, No. 1, (2019): 49.

(35) Karamouzas et al., "Public Opinion Monitoring Through Collective Semantic Analysis of Tweets,": 3.

(36) Amit Agarwal et al., "Geospatial sentiment analysis using twitter data for UK-EU referendum," Journal of Information and Optimization Sciences, Vol. 39, No. 1, (2018): 303-317.

(37) Karamouzas et al., "Public Opinion Monitoring Through Collective Semantic Analysis of Tweets,": 19.

(38) Nicholas Diakopoulos, Automating the News: How Algorithms are Rewriting the Media, (Harvard University Press, 2019), 13.

(39) John Pavlik, "Cognitive Computing and Journalism: Implications of Algorithms, Artificial Intelligence and Data for the News Media and Society," Brazilian Journal of Technology, Communication and Cognitive Science, Vol. 4, No. 2, (2016): 1-14.

(40) "The Upshot," nytimes.com, July 7, 2015, "accessed June 2, 2024". https://tinyurl.com/53d7veav.

(41) Justin Martin et al., "Employing Perceptual-Learning Research in Journalism and Communication: Immediate and Delayed Effects of a Perceptual-Learning Module on AP Editing Accuracy," Journalism Studies, Vol. 20, No. 10, (2019): 1491-1509.

(42) Pavlik, "Cognitive Computing and Journalism: Implications of Algorithms, Artificial Intelligence and Data for the News Media and Society,": 9.

(43) "Quakebot," Slate, March 17, 2014, accessed June 2, 2024". http://www.slate.com.

(44) Kostas Gemenis, "Artificial Intelligence and Voting Advice Applications," Frontiers in Political Science, Vol. 6, (2024), "accessed June 2, 2024". https://tinyurl.com/3tmjbvek.

(45) Nicholas Diakopoulos, "Predictive Journalism: On the Role of Computational Prospection in News Media," Tow Center for Digital Journalism, (June 1, 2022), "accessed June 2, 2024". https://tinyurl.com/5n6pmtfb.

(46) Ibid.

(47) Noémi Bontridder, Yves Poullet, "The Role of Artificial Intelligence in Disinformation," Data & Policy, Vol. 3, (2021): 32.

(48) Joshua Tucker et al., "Social Media, Political Polarization, and Political Disinformation," A Review of the Scientific Literature, March 19, 2018, "accessed June 2, 2024". https://tinyurl.com/mutw92yz.

(49) Nir Grinberg, "Fake News on Twitter During the 2016 US Presidential Election," Science, Vol. 363, No. 6425, (2019): 374-378.

(50) Anna Klyueva, "Trolls, Bots, and Whatnots: Deceptive Content, Deception Detection, and Deception Suppression," in Handbook of Research on Deception, Fake News, and Misinformation online, (IGI Global, 2019), 19.

(51) Ibid, 21.

(52) Andrew M. Guess, Benjamin A. Lyons, "Misinformation, Disinformation, and Online Propaganda," in Social Media and Democracy: The State of the Field and Prospects for Reform, eds. Nathanial Persily, Joshua Tucker, (London: Cambridge University Press, 2020), 37.

(53) Julius Endert, "Tackling Disinformation: A Learning Guide. Generative AI is the ultimate disinformation amplifier," akademie.dw.com, March 26, 2024, "accessed June 2, 2024". https://tinyurl.com/2evfvwny.

(54) Guess, Lyons, "Misinformation, Disinformation, and Online Propaganda,": 39.

(55) Endert, "Tackling Disinformation: A Learning Guide," op, cit.

(56) Katarina Kertysova, "Artificial Intelligence and Disinformation: How AI Changes the Way Disinformation is Produced, Disseminated, and Can be Countered," Security and Human Rights, Vol. 29, No. 1-4, (December 12, 2018): 68.

(57) Courtney Radsch, "AI and Disinformation: State-Aligned Information Operations and the Distortion of the Public Sphere," OSCE Representative on Freedom of the Media, Organization for Security and Co-operation in Europe, 2022, "accessed June 2, 2024". https://tinyurl.com/38aht45j.

(58) Kertysova, "Artificial Intelligence and Disinformation,": 59.

(59) Jérôme Duberry, "AI and Data-Driven Political Communication (re) Shaping Citizen–Government Interactions," in Research Handbook on Artificial Intelligence and Communication, (Kröger Edward Elgar Publishing, 2023), 231-245.  

(60) Jacob L. Kröger et al., "Promises and Risks of Political Microtargeting," in Mitigating the Risks of Political Microtargeting–Guidance for Policymakers, Civil Society, and Development Cooperation, (2024), 7-9.

(61) Anastasia Kozyreva et al., "Public Attitudes Towards Algorithmic Personalization and Use of Personal Data Online: Evidence from Germany, Great Britain, and the United States," Humanities and Social Sciences Communications, Vol. 8, No. 1, (2021): 11.

(62) Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power, (New York: PublicAffairs, 2019), 203-213.

(63) Dan Sabbagh, Trump 2016 Campaign ‘Targeted 3.5m Black Americans to Deter them from Voting’," The Guardian, September 28, 2020, "accessed June 2, 2024". https://tinyurl.com/3xpe3bmr.

(64) Filipe Ribeiro et al., "On Microtargeting Socially Divisive Ads: A Case Study of Russia-Linked Ad Campaigns on Facebook," (Proceedings of the Conference on Fairness, Accountability, and             Transparency, 2019), 140-149.

(65) Kozyreva et al., "Public Attitudes Towards Algorithmic Personalization and Use of Personal Data Online,": 5.