
كانت الدوحة، مساء التاسع من سبتمبر/أيلول الجاري، على موعد غير مألوف مع ضربة إسرائيلية في موقع سكني بالعاصمة، الدوحة، استهدفت وفد التفاوض مع حماس. وهو الوفد الذي يناقش ورقة التسوية التي قدمها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإيجاد تسوية للحرب في غزة. تبنَّت إسرائيل الهجوم بتباهٍ، وأكدت حماس نجاة قياداتها، ناعيةً بعض العناصر المرافقة، وعدَّت قطر الهجومَ اعتداءً وغدرًا ومروقًا، وندَّدت دول عديدة وهيئات بالهجوم الذي وضع التحالف الأمني القطري/الأميركي أمام تحدٍّ لا سابق له.
وقائع الهجوم
قبل انقشاع غبار الاعتداء، أعلنت إسرائيل استهدافها لاجتماع قياديي وفد حماس المفاوض، الذي يبحث مقترحَ الهدنة الذي تقدم به ترامب. بعد ذلك، أعلنت حماس نجاة قيادات وفد التفاوض واستشهاد خمسة من كوادرها. وبين هذا وذاك أدانت قطر المحاولة بقوة على لسان الناطق باسم الخارجية، ماجد الأنصاري، وفي بيان منفصل لوزارة الخارجية. بعد ذلك، أدلى رئيس الوزراء وزير الخارجية، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بتصريحات قوية وغاضبة، وصف فيها إسرائيل بالدولة المارقة، وترك الباب مواربًا بخصوص استمرار الدوحة في الوساطة.
من جهتها، صرَّحت الإدارة الأميركية بأن الضربة لا تفيد أميركا ولا إسرائيل. وقال الرئيس دونالد ترامب إنه وجَّه مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بتبليغ القطريين بالقصف الإسرائيلي، لترد قطر على لسان الناطق الرسمي للخارجية بأن أحدًا لم يخبرها بالهجوم، فيما قال وزير الخارجية لاحقًا: إن الإخبار الأميركي جاء بعد عشر دقائق من الضربة.
ونبَّه الشيخ محمد بن عبد الرحمن، خلال كلمته في اجتماع مجلس الأمن، إلى أن العدوان يُعد انتهاكًا للقانون الدولي لا يخص قطر وحدها وإنما يشمل كل الدول التي تحترم القانون الدولي، كي يضرب سياجًا من العزلة الدولية على إسرائيل. بينما ظل مندوب إسرائيل في المجلس مصرًّا على خرق سيادة الدول إذا قدَّرت إسرائيل أن ذلك يخدم أمنها. وأصدر المجلس بيانًا صحفيًّا يدعم سيادة قطر، ويدعوها لمواصلة الوساطة بالشراكة مع مصر والولايات المتحدة الأميركية.
واقعًا، الوفد المستهدف أساسي في إدارة التفاوض، وهو معبِّر عن القيادة الميدانية والسياسية في غزة خصوصًا حيث تقاد المعركة. فخليل الحية قيادي رئيسي برز اسمه من أول لحظة في طوفان الأقصى، وقاد جميع عمليات التفاوض لحد الآن، وهو المسؤول السياسي عن غزة. وزاهر جبارين هو رئيس الحركة في الضفة الغربية، وهو منصب قيادي بارز في حماس، ومهندس تفاوضي رئيس. ويكشف حرص إسرائيل على اغتيال هؤلاء أن أولويتها ليست إطلاق سراح أسراها في غزة، بل ترسيخ قواعد جديدة في المنطقة مفادها أن يدها قادرة على البطش بأي أحد في أي مكان دون اعتبار لسيادة الدول أو حتى ضمانات رئيس الولايات المتحدة الأميركية، أي أن تكون إسرائيل شرطي المنطقة.
التداعيات القريبة
أصيب ملف الوساطة بأضرار هائلة، وباتت الثقة في الطرف الإسرائيلي معدومة. ولم تتردد الدوحة في القول: إن آلية الإخطار الذي تحدثت عنه واشنطن، لم تكن مجدية لأنها جاءت متأخرة عن الضربة. لذلك سيستدعي استمرار الوساطة كلفة ضخمة في تأمين الاجتماعات وأماكن استضافتها، وهي أمور صعبة تحتاج جهودًا ضخمة في التأهيل والترتيب. ولن يكون سهلًا على الأطراف المستهدفة أن تستعيد ثقتها في العملية التفاوضية بعد أن تعمق شكها في إسرائيل، خاصة أن القيادة الإسرائيلية لا تزال مصرة على معاودة المحاولة لاغتيال قادة حماس، وتطالب الدوحةَ بطردهم أو إلقاء القبض عليهم. كما أن موقف الرئيس ترامب من العدوان بدا ملتبسًا. فهو من جهة يتأسف لأن العملية حدثت في الدوحة، ولكنه من جهة أخرى يبرر محاولة اغتيال قادة حماس ووفدها المفاوض.
التداعيات البعيدة
قد يكون التحول في عقيدة إسرائيل الأمنية هو المسألة المستجدة في ملف الأمن القومي لقطر وجيرانها الخليجيين. فقد باتوا في دائرة استهداف إسرائيل، التي تعرِّف أمنها دائمًا بأنه توسيع حرية العمل. ويبدو أنها شرعت في توسيعه إلى الخليج، كما تفعل في لبنان وسوريا، دون مراعاة لسيادة الدول. وقد جاء ذلك في كلمة الشيخ محمد بن عبد الرحمن، عقب الهجوم على الدوحة، حين أشار إلى رغبة نتنياهو في تغيير خارطة الخليج.
على صعيد العلاقات القطرية-الأميركية، تعهد الرئيس ترامب بأن مثل هذا الحدث لن يتكرر وأنه ملتزم بعلاقاته مع قطر أميرًا ورئيسَ وزراء ودولة، متعهدًا باستمرار الشراكة. وجدَّدت قطر كذلك تمسكها بالشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، وردَّت على التقارير التي تشير إلى أنها تبحث عن بدائل بأنها غير صحيحة. لكن القيادة الإسرائيلية تصر على تكرار العملية مستقبلًا غير مكترثة بوعود الرئيس الأميركي. ولم تؤكد المتحدثة باسم البيت الأبيض، في الندوة الصحفية التي أعقبت الهجوم على الدوحة، أن نتنياهو التزم خلال مكالمته الهاتفية مع ترامب بعدم تكرار الهجوم على قطر.
يضع الهجوم الإسرائيلي على قطر الشراكة الإستراتيجية القطرية الأميركية أمام رهانين؛ أولهما: رهان الاستمرارية والترسيخ، فقطر تراهن على الحليف الأميركي القوي، خاصة عبر المؤسسات الأميركية التي تحدد إستراتيجيات الأمن القومي على سنوات طويلة ولا تتأثر إلا قليلًا بالعوارض. فهذه المؤسسات مستمرة رغم تغير الإدارات الحاكمة، سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية، وهو ما يضمن استمرار علاقة الشراكة بين قطر والقوة الأولى في العالم. هذا الرهان طويل المدى، وقد تكون الحسابات القطرية قائمة عليه.
وثانيهما: الرهان قصير المدى، وهو أن إدارة الرئيس ترامب أقامت نجاحها الدبلوماسي الكبير في المنطقة، المتمثل في "اتفاقات أبراهام"، على مقولة: إن دول الخليج وإسرائيل تشترك في مواجهة الخطر الإيراني، وتحتاج إلى بعضها لمواجهته. لكن، بعد الهجوم الإسرائيلي على قطر، لم يعد مبرر الاتفاقات الإبراهيمية قائمًا؛ إذ إن إسرائيل هي التي باتت الخطر الحقيقي. فكيف يمكن دعوة دول الخليج إلى التحالف مع إسرائيل وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية وهي تعلن بأنها لن تحترم سيادة أحد، ولن تترد في ضرب أحد، ولو كان حليفًا للولايات المتحدة. قد يكون هذا الهجوم الإسرائيلي نهاية الاتفاقات الإبراهيمية، أو بداية انهيارها أو تجميدها.
لا يتعارض ذلك، مع استمرار قطر في تعزيز تحالفاتها مع شركاء آخرين مثل تركيا أو غيرها من القوى الكبرى. وقد وردت إشارات لذلك في مكالمة أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مع الرئيس ترامب، حين قال: إن قطر ستتخذ "كافة الإجراءات الكفيلة بحماية أمنها والمحافظة على سيادتها، وستواصل نهجها البنَّاء في الوقوف مع الأشقاء والأصدقاء ونصرة القضايا الإنسانية العادلة بما يوطد دعائم الأمن والسلم الدوليين".
أفق دور الوساطة القطري
ترتبط الوساطة والأمن في إستراتيجية قطر، فالوساطة تزيد عدد أصدقائها، وتبعدها عن التمحور والطرفية في النزاعات. وقد تساعد حلفاء كبارًا مثل الولايات المتحدة في أفغانستان فيشعرون بالامتنان، ويسهمون في إعلاء مكانة قطر وزيادة قوتها. وكذلك كانت الوساطة في الحرب على غزة، فإضافة إلى أنها تعبير عن دور قطر العربي والإسلامي في دعم أهلها في فلسطين، إلا أنها أيضًا تخدم أمن قطر والمنطقة، بتسوية النزاعات. لذلك ستكون سيناريوهات ما بعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة مرتبطةً بالوساطة والأمن معًا.
السيناريو الأول: وقف دائم للمفاوضات
عدد من المؤشرات الناتجة عن الهجوم على الدوحة أو التالية عليه، ترجِّح احتمال توقف المفاوضات نهائيًّا إلى حين تغيير القيادة الإسرائيلية. وهذا وارد، سواء بسبب تصميم إسرائيل على مواصلة محاولات اغتيال الوفد المفاوض، أو باعتبارها الهجوم على الدوحة من دواعي الأمن الإسرائيلي. وكذلك نظرًا لموقف ترامب المتفهم لرغبة نتنياهو في اغتيال الوفد المفاوض الذي جاء إلى الدوحة بطلب من ترامب نفسه لمناقشة ورقته التفاوضية.
هذه كلها مؤشرات على أن القيادة الإسرائيلية غيَّرت بالكامل أولوياتها ولم تعد مهتمة بإطلاق سراح أسراها عند حماس، علاوة على أن نتنياهو قد يرفض الاعتذار لقطر عن الهجوم، خاصة أنه حظي بقبول نحو 75% من الإسرائيليين، حسب صحيفة معاريف. وقد تصر قطر على الاعتذار ردًّا للاعتبار.
السيناريو الثاني: مفاوضات مشروطة
هذا السيناريو يؤكد استمرار قطر في الوساطة عمومًا، وهذا ما أكده المسؤولون القطريون عقب الهجوم الإسرائيلي، ودَعَمه مجلسُ الأمن في بيانه الصحفي، الذي نفى فيه الادعاءات الإسرائيلية، ودعمته أيضا القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في قطر.
لكن استمرار الوساطة لتسوية الحرب على غزة سيأخذ مستقبلًا في الحسبان الخطر الإسرائيلي. فلن تستمر الدوحة في لعب هذا الدور إلا بعد إجراء تغييرات هائلة، قد يكون من بينها المطالبة باعتذار إسرائيلي رسمي، كما وردت أخبار عن ذلك نقلتها أكسيوس، وتشديد الإجراءات الأمنية الدقيقة، والحصول على ضمانات أميركية ناجزة. وكل ذلك يحتاج إلى وقت وإعداد ومنشآت، وقد لا يتحقق في الوقت القريب. فالقيادة الإسرائيلية تراهن حاليًّا على توسيع العمل العسكري في غزة، ولا يبدو أنها ستتوقف عن محاولاتها اغتيال قادة حماس في الخارج لإخضاع الحركة.
السيناريو الثالث: استمرار المفاوضات
قد تحاول الأطراف المعنية مواصلةَ التفاوض، لكن مع تفادي الغدر الإسرائيلي. فقد يجري تنظيم لقاءات تفاوضية بين الأطراف المتفاوضة، والوسطاء، قطر ومصر، لكن عن طريق اجتماعات تتبع إجراءات فنية عالية، يتأكد بها أمانُ وفد حماس الذي يكون في منطقة آمنة تمامًا داخل قطر أو خارجها.
لكن هذا السيناريو مستبعد، لأن قطر سترفض أن تشارك في وساطة تريد إسرائيل منها مساعدتها على إطلاق أسراها لدى حماس، لكنها تهدد في نفس الوقت بضرب قطر إن هي استضافت حماس للمفاوضات.