تحول الفاشر: السودان بين خطر التقسيم والتصعيد

تمكنت قوات الدعم السريع من الاستيلاء على الفاشر عاصمة دارفور، فوفرت قاعدة إقليمية تعزز احتمالات تحولها إلى سلطة سودانية شبيهة بسلطة حفتر في شرق وجنوب ليبيا، لذلك قد تجمد الوضع، أو قد تستغل موقعها الجديد لتصعيد المواجهة من أجل السيطرة على كردفان مفتاح السيطرة على مفاصل البلاد.
الفاشر: جرائم انسانية متواصلة (AFP)

تمكنت قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي من السيطرة على الفاشر، عاصمة شمال دارفور، في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025، بعد حصار استمر 18 شهرًا. كان الجيش السوداني قد انسحب من المدينة قبل ذلك بيوم. هذا التطور عزز احتمالات قيام كيان سياسي مستقل مناوئ للحكومة السودانية، قد يستعمل قاعدته الإقليمية الجديدة منصة انطلاق لتضييق الخناق على الحكومة السودانية بالخرطوم.

وجهان لعملة واحدة: النجاح والإخفاق

قد يكون إخفاق الجيش السوداني في الحفاظ على مدينة الفاشر ناتجًا عن نجاحه، في مارس/آذار 2025، في استعادة السيطرة على الخرطوم عاصمة السودان. فقد شنَّ حينها هجومًا واسعًا على قوات الدعم السريع الموجودة في المدينة وضواحيها، مستعينًا بتفوقه الجوي، المتمثل في سلاح الجو. استمرت المعركة أسابيع، وتميزت بالقصف المكثف لقوات الدعم السريع، حتى تمكن الجيش السوداني من إبعادها نهائيًّا عن العاصمة.

عزَّز هذا الإنجاز من شرعية الجيش السوداني بعد تمكنه من استرداد عاصمة البلاد السياسية، رمز السيادة، والعقدة الإدارية الرئيسية، فحظي بشعبية متزايدة، وقدرة على رفع أعداد المجندين الذي يرغبون في الالتحاق به لقتال الدعم السريع.

لكن هذا الإنجاز غير خريطة التمركزات العسكرية على الأرض. فقد اقتضى من الجيش السوداني تركيز قواته في شرق السودان ووسطه، وهي المدن الثلاث الرئيسية: الخرطوم رمز السيادة، وبورتسودان المنفذ التجاري للبلاد الذي يتحكم في 90% من تجارة البلاد الخارجية، والقضارف السلة الغذائية. وتمثل هذه المناطق عقدًا إستراتيجية، لذلك خصصت لها الحكومة غالبية القوات العسكرية لحمايتها من قوات الدعم السريع، وأنشأت قواعد جوية جديدة في بورتسودان، ولم يتبق له للدفاع عن دارفور إلا عدد قليل من القوات للدفاع عنها بالمقارنة مع مساحة الإقليم التي تمثل ربع مساحة السودان أو في مواجهة الكتلة الأكبر من قوات الدعم السريع.

انتهز الدعم السريع نافذة انشغال الجيش السوداني بهذه المدن الثلاث، فركز عملياته في أقصى الغرب بإقليم دارفور، خاصة العاصمة، الفاشر. فهذه المدينة تعد القاعدة التقليدية لقوات الدعم السريع، لاسيما أن حميدتي ينتمي إلى إقليم دارفور، ويحظى هناك بقاعدة قبلية معتبرة. كما يتوفر على خطوط إمداد وانكفاء لقواته في الدول المجاورة للإقليم، مثل مناطق الجنوب الليبي التي يسيطر عليها خليفة حفتر، أو إفريقيا الوسطى أو تشاد. وقد مكَّنه هذا التركيز من تعزيز عدد قواته التي هاجمت مدينة الفاشر. إلى جانب ذلك، تستفيد قوات الدعم السريع من عائدات ذهب جبل عامر في إقليم دارفور لتمويل عملياتها، وتوظيف المزيد من الدعم الخارجي لزيادة عدد الطائرات المسيرة التي استخدمتها في إحكام الحصار على الفاشر وإنهاك القوات السودانية والقوات الرديفة لها المدافعة عن المدينة.

حسابات متغيرة

سيعزز استيلاء حميدتي على مدينة الفاشر، وغالبية إقليم دارفور، الذي يمثل ربع مساحة السودان، قاعدة جغرافية لحكومته الموازية التي أعلن عن تشكيلها في أبريل/نيسان 2025، وسماها حكومة السلام والوحدة، وهي تعتزم إدارة 4 ولايات في دارفور وغرب كردفان، وتخطط لطباعة عملة، وإصدار جوازات، وإنشاء سجل مدني.

لم تحظ هذه الحكومة باعتراف دولي، لكن سيطرتها على إقليم كامل قد يحولها إلى سلطة فعلية تفرض وقائع وتدفع دولا للاعتراف بها في المستقبل أو للتعامل معها دون اعتراف. هذا الوضع يعقد مهمة الحكومة السودانية في الخرطوم في تمثيلها الحصري لكل السودان، ويعيق مساعيها المقبلة في التعامل مع إقليم دارفور دون موافقة حميدتي.

امتدت تداعيات مساعي حميدتي للسيطرة على الفاشر إلى تغيير التركيبة السكانية لتغليب المكونات الموالية له لتكون حاضنته الآمنة، وتهجير المكونات الأخرى التي يعدها قاعدة اجتماعية للقوات المناوئة له. فقد وثَّقت الهيئات الحقوقية، مثل هيومن راتس ووتش ومختبر ييل للأبحاث الإنسانية، حملات تطهير عرقي في الفاشر، وإعدامات جماعية، لفئات إثنية وقبلية يعدها حميدتي مناوئة، مثل الفور والزغاوة والمساليت، وإحلال فئات أخرى إثنية وقبلية مكانها. وقد فَرَّ عشرات الآلاف من الفاشر، وظل الآلاف محاصرين ومجوَّعين، ونزح داخليًّا عشرات الآلاف أيضًا. وأكدت بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية وجود تلك الانتهاكات.

سيسهِّل استيلاء حميدتي على الفاشر، حصوله على الدعم الخارجي أكثر، لأن هذا الاستيلاء يؤكد جدوى الرهان عليه. وسيكون الإقليم الخاضع لسيطرته قاعدة لإرسال الإمدادات والتنسيق وتكوين معسكرات تدريب وتنصت وإرسال طائرات تجسس واستطلاع، فيرفع بذلك الإحراج عن الدول المجاورة التي كانت توفر له قواعد دعم تحت لافتات إنسانية، وتخاطر بالتعرض لاتهامات المشاركة في جرائم الحرب التي تُتهم بها قوات الدعم السريع.

كما أن سيطرة حميدتي على الفاشر، ستغير حسابات الحكومة السودانية التي ستحرص على استعادتها حتى لا يتحول إنجازه العسكري إلى إنجاز سياسي ينازعها تمثيل السودان خارجيًّا. وحتى تمنع تزايد الشكوك في المراهنة عليها، ومنع قوى سودانية من اختيار الحياد أو الالتحاق بقوات الدعم السريع. وحتى تمنع قوات الدعم السريع من إحكام قبضتها على إقليم دارفور وتحد من قدرتها على خوض معركة كردفان القادمة.

من جانبها، ستسارع قوات الدعم السريع إلى خوض معركة كردفان، والسيطرة على الأبيض عاصمة الإقليم، مستغلة الزخم الناتج عن استيلائها على الفاشر، ثم لتوجيه قوات الجيش السوداني بعيدًا عن دارفور. فالسيطرة على كردفان تمليه المقتضيات الإستراتيجية لتحصين الاستيلاء على دارفور، والتقدم خطوة أخرى لمنازعة الحكومة السودانية شرعية السيطرة على السودان.

إذا فشل حميدتي في السيطرة على كردفان، سيظل معرضًا لهجوم مضاد من الجيش السوداني، ومسيطرًا على إقليم يفتقد مقومات القوة، خاصة الطاقة والزراعة والماء والتأثير في الخارج لأنه لا يملك منفذًا إلى البحر. لذلك، سيسعى للسيطرة على الأبيض عاصمة كردفان، لأن مساحتها تبلغ 20% من مساحة السودان، وهو الإقليم الذي يفتح الطريق إلى بورتسودان لتصدير الذهب للخارج. ويوجد في جنوبه حقل نفط هجليج، ويعد سلة غذائية. وهو كذلك الجسر البري الوحيد الذي يفتح طريق الدعم السريع لمحاولة السيطرة على النيل.

ستفرض معركة كردفان القادمة معضلة إستراتيجية على الطرفين المتقاتلين، الدعم السريع والجيش السوداني. وسيوازن كل منهما بين المحافظة على قاعدته بتركيز غالبية قواته فيها أو المخاطرة بخسارتها من أجل دفع قواته إلى معركة كردفان، وإن كان الطرفان غير متساويين في المخاطرة. فمهمة الجيش تبدو أسهل، لأنه يسيطر أصلًا على كردفان، ثم ستكون مهمته دفاعية. أما الدعم السريع فستكون مخاطرته كبيرة، لأنه سيضطر إلى الدفع بغالبية قواته المتمركزة في دارفور إلى إقليم كردفان، فتصبح الفاشر عاصمة دارفور مكشوفة لهجمات الجيش. علاوة على ذلك، سيواجه الدعم السريع مشكلة في تكرار إستراتيجيته التي استخدمها للاستيلاء على الفاشر، وهي الحصار الذي امتد لنحو 18 شهرًا. فإن حاول تكرار نفس الحصار على كردفان، فإنه سيضطر إلى تعريض دارفور لانكشاف خطير لأشهر طويلة. لكنه في المقابل، يتمتع بميزة تتمثل في أن فئات سكانية كبيرة في كردفان يعدها متعاطفة معه لأنها تنتمي للمكونات الإثنية التي تشكل حاضنة له، وقد يستغلها لإحداث اضطرابات داخلية أو للاستفادة منها في رفع عدد قواته المقاتلة.

مفتاح السيطرة على البلاد

ستحدد الموازنة بين المكاسب والمخاطر سيناريوهات الموجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. فالجيش يعد معركة كردفان القادمة خطرًا مميتًا، لذلك سيتعامل معها كخط الدفاع عن الخرطوم وعن القدرات التي تغذي مجهوده الحربي وترسخ سيطرته على البلاد، لذلك سيكثف دفاعه عنها. أما الدعم السريع فسيعدها إضافة إستراتيجية تزيد من قواته وتحصِّن مكاسبه، فيختلف الطرفان في تقدير أهميتها، ويبنيان إستراتيجيتهما استنادًا إلى ذلك.

- سيناريو احتفاظ الجيش بكردفان، وهو السيناريو الأرجح، لأن الدعم السريع لن يستطيع فرض حصار طويل عليها. فقواته ستكون مكشوفة لقصف القوات الجوية السودانية، وسيحتاج إلى قوات كبيرة لإحكام الحصار، وهي غير متوافرة له. ولن يخاطر بإضعاف تأمين الفاشر من أجل السيطرة على الأبيض عاصمة كردفان، لأن كردفان في حساباته مكمِّلة لدارفور وليست بديلًا عنها. أما الجيش السوداني فقد يعزز دفاعات كردفان بالقوات السودانية المنسحبة من الفاشر، وبقوات إضافية من بقية الأقاليم الواقعة تحت سيطرته. ولن تواجه القوات السودانية مشكلات لوجستية في كردفان لأن لديها عدة مطارات في الإقليم، منها مطار الأبيض، وهي مهمة في الإمدادات وعمليات القصف الجوي للقوات التي ستهاجم الإقليم. بخلاف الدعم السريع، الذي سيواجه مشكلات لوجستية في الهجوم على كردفان، لأن قواته ستكون مكشوفة، وخطوط إمداده طويلة، وقدرته على الانكفاء السريع نحو قواعده ستكون معقدة.

إذا نجح الجيش في الاحتفاظ بكردفان، سينتج عن ذلك إما انكشاف دارفور أمام معارك الجيش المضادة لاستراد مدينة الفاشر، أو تجمد خطوط القتال، وتعزز احتمال ترسيخ سلطة حميدتي على إقليم دارفور، في سيناريو شبيه بسيناريو حفتر في الشرق الليبي.

- سيناريو تمكن حميدتي من السيطرة على كردفان، وهو ضعيف، لأنه سيضطر إلى تحمل تكاليف هائلة في أفراد قواته، ورفع أعدادها، والمخاطرة بخسارة الفاشر. وإن غامر رغم ذلك، فإن الجيش لن يتردد في تصعيد المواجهة لأن خسارة كردفان ستفتح الطريق أمام خسارته السيطرة على المفاصل الرئيسية للبلاد.

- سيناريو استرداد الجيش لإقليم دارفور قبل معركة كردفان، وهو أضعف من السيناريو السابق، لأن الجيش يواجه معضلة لوجستية في تأمين الإمدادات والدعم لجبهة دارفور وعاصمتها الفاشر. وقد أظهر أثناء دفاعه عن الفاشر أنه لا يملك قوات إضافية يرسلها لدعم قواته المحاصرة داخل إقليم الفاشر، رغم أن معركة الدفاع هي دائمًا أسهل من معركة الهجوم لاستعادة الفاشر. وكان عدد القوات التي لم يستطع توفيرها أثناء الدفاع أقل من عدد القوات التي سيحتاجها لمعركة الاستعادة. لذلك، قد يكتفي الجيش السوداني بتحصين كردفان لأنها مفتاح سيطرته على البلاد، وقاعدة انطلاق لمهاجمة قوات الدعم السريع في الفاشر حتى لا تبسط سيطرتها على المدينة. وقد تكون كردفان قاعدة استرداد الجيش لإقليم دارفور مستقبلًا.