من الهويات الموروثة إلى الشرعية المعلقة ألبانيا الحديثة بين الانقسامات الداخلية والاصطفاف الجيوستراتيجي

ترصد هذه الدراسة التحولات التي شهدتها ألبانيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بوصفها نموذجًا لمأزق الدولة الصغيرة في بيئة إقليمية مضطربة كشبه جزيرة البلقان. وتفترض الدراسة أن ألبانيا، رغم اندماجها المتزايد في الفضاء الغربي وانخراطها في منظومة الناتو، لم تنجح بعد في تحقيق التوازن بين الشرعية الداخلية والاصطفاف الخارجي.
(الجزيرة)

مثل ألبانيا اليوم إحدى أكثر الحالات تركيبًا في المشهد البلقاني الحديث، من حيث تداخل عناصر الجغرافيا والتاريخ والسياسة والهوية. فهي دولة صغيرة الحجم والقدرات الاقتصادية، لكنها تحتل موقعًا جيوسياسيًّا حساسًا على تخوم البحر الأدرياتيكي، بين فضاءات النفوذ الغربي والشرقي، في منطقة تُعد من أكثر مناطق أوروبا هشاشةً وتقلبًا. ومنذ سقوط النظام الشيوعي في مطلع تسعينات القرن العشرين، ظلت البلاد تسعى لإعادة تعريف ذاتها بين ثلاث دوائر متشابكة: هوية وطنية هشة، ودولة مؤسسات غير مكتملة، واصطفاف خارجي بحثًا عن ضمان البقاء.

بعد الشمولية: البحث عن الدولة المفقودة: لم تخرج ألبانيا من التجربة الشيوعية بوصفها دولة مكتملة، بل مجتمعًا مثقلًا بإرث من العزلة والانغلاق والشك المتبادل بين الدولة والمجتمع. فمرحلة حكم أنور خوجة (1944–1985) شكَّلت تجربة فريدة في أوروبا الشرقية: نظام شمولي مغلق قطع علاقاته تدريجيًّا مع يوغوسلافيا والاتحاد السوفيتي والصين، وحوَّل البلاد إلى نموذج للاكتفاء الذاتي الأيديولوجي والاقتصادي، قائم على القمع والتأميم والعسكرة الداخلية(1).

انعكس هذا الإرث على البنية السياسية والاجتماعية، فأجهض قيام ديمقراطية حقيقية وأعاق تشكيل ثقافة مدنية مستقلة، وأنتج جهازًا بيروقراطيًّا صارمًا يقوم على الولاء للحزب الواحد. ومع انهيار المنظومة الاشتراكية، وجدت ألبانيا نفسها أمام فراغ مؤسسي شبه كامل. فالاقتصاد متهالك، ومؤسسات الدولة غير فعالة، والمجتمع يفتقر إلى أدوات التنظم المدني والسياسي. وقد تجلَّت هذه الهشاشة في أحداث 1997، حين انهارت شركات الهرم المالي وتفككت مؤسسات الدولة؛ ما استدعى تدخلًا دوليًّا لإعادة الأمن(2). كانت تلك اللحظة إعلانًا رمزيًّا عن أن الدولة الألبانية لا تزال "مشروعًا قيد الإنشاء"، وأن مسارها نحو الاستقرار سيمر عبر وصاية خارجية طويلة الأمد.

مأزق الشرعية الوطنية بين الدولة والهوية: على الرغم من تجانس ألبانيا النسبي مقارنةً بجيرانها، فإنها لا تزال تواجه صعوبة في بناء هوية وطنية جامعة. فالفوارق بين الشمال والجنوب، وبين المدن الساحلية والداخل الجبلي، وبين المكونات الدينية (مسلمون، بكتاشيون، أرثوذوكس، كاثوليك)، أنتجت فسيفساء اجتماعية يصعب توحيدها في سردية وطنية واحدة. وقد حاولت الأنظمة المتعاقبة بعد 1991 ترميم هذه الهوية من خلال تبني هوية قومية مدنية علمانية قائمة على شعار "أن تكون ألبانيًّا قبل أن تكون مسلمًا أو مسيحيًّا". لكن غياب عقد اجتماعي متين، وتفشي الفساد، وهيمنة النخب الحزبية، جعل تلك الهوية تبدو أكثر هشاشة من أي وقت مضى، خاصة مع تصاعد موجات الهجرة الجماعية وضعف الثقة بالدولة(3). من هنا تنبع مفارقة الشرعية الألبانية، فالدولة تسعى لاكتساب الشرعية من الخارج عبر الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، بينما تتراجع شرعيتها في الداخل نتيجة فشلها في تحقيق العدالة والتنمية. ومن المرجح أن تظل هذه المفارقة محورًا مفسِّرًا للسياسات الألبانية في العقود اللاحقة.

الاصطفاف القسري بين حماية الغرب وضغوط الجغرافيا: منذ بداية الألفية الجديدة، اتجهت ألبانيا نحو تحالف إستراتيجي واضح مع الغرب، تُوِّج بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، عام 2009، وحصولها على صفة "المرشح الرسمي" لعضوية الاتحاد الأوروبي، عام 2014(4). غير أن هذا الاندماج ظل في كثير من جوانبه اصطفافًا قسريًّا أكثر منه خيارًا سياديًّا حرًّا. فالدولة، التي تعاني من ضعف القدرات الاقتصادية والمؤسسية، اعتمدت على المظلة الأمنية الغربية لضمان استقرارها الداخلي، والحفاظ على توازنها في مواجهة الجوار المعقد، خصوصًا صربيا واليونان. لم يمثل الانضمام إلى الناتو، بالنسبة إلى تيرانا، تحالفًا عسكريًّا فقط، بل كان آلية لإنتاج شرعية دولية تعوض عن هشاشة الشرعية المحلية، وتجعل من الانخراط في الخطاب الغربي عن "الاستقرار والديمقراطية" بديلًا من الإنجاز التنموي الفعلي.

في الوقت نفسه، ظلَّت ألبانيا ساحة مفتوحة لتنافس القوى الكبرى. فالولايات المتحدة تدعمها سياسيًّا وأمنيًّا، بينما يضغط الاتحاد الأوروبي لإصلاحها. أما تركيا فتستثمر في إرثها الثقافي والديني، في حين تسعى الصين إلى توطيد حضورها الاقتصادي ضمن مبادرة "الحزام والطريق". هذا التعدد في الرعاة يعكس توازنًا هشًّا بين التبعية والانفتاح، ويجعل من السياسة الألبانية نموذجًا لما يمكن تسميته "الاستقلال المقيد"، أي استقلالًا شكليًّا ضمن فضاء تحكمه المصالح الخارجية(5).

من الدولة التابعة إلى الفاعل الإقليمي: تحاول ألبانيا منذ سنوات أن تتجاوز صورتها "دولةً هامشيةً" إلى "فاعل إقليمي متوسط"، خاصة في قضايا كوسوفو والطاقة والأمن البحري. غير أن هذا الطموح يصطدم بواقع داخلي مثقل بفساد إداري مزمن ونزيف هجرة مستمر وبنية اقتصادية ريعية، بالإضافة إلى اعتماد شبه كامل على التمويلات والمنح الأوروبية. مع ذلك، فإن قدرة تيرانا على الحفاظ على استقرارها النسبي وسط أزمات البلقان المتكررة، من البوسنة إلى كوسوفو ومقدونيا، جعلتها شريكًا لا يمكن تجاهله في معادلة الأمن الإقليمي.

أولًا: الدولة الصغيرة والتحالفات القسرية في البلقان

1.  الدولة الصغيرة بين المفهوم والتطبيق

تُشكِّل ألبانيا نموذجًا كلاسيكيًّا لما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ"الدولة الصغيرة"، وهي الدولة التي تمتلك موارد محدودة وقدرات مؤسساتية واقتصادية وأمنية ضعيفة نسبيًّا تجعلها عاجزة عن التأثير المستقل في محيطها فتعتمد إلى حدٍّ كبير على التحالفات مع القوى الكبرى. لكن مفهوم "الدولة الصغيرة" لا يُختزل في المعايير الكمية كعدد السكان أو الناتج القومي، بل يتعلق أساسًا بمدى الاستقلال في صنع القرار، وعمق الاعتماد البنيوي على الخارج، وحدود القدرة على إنتاج شرعية داخلية. وفي حالة ألبانيا، تتجسد خصائص الدولة الصغيرة في ثلاثة مستويات مترابطة:

- المستوى البنيوي: اقتصاد هش قائم على التحويلات المالية والسياحة والمساعدات الخارجية، مع ضعف القاعدة الإنتاجية الوطنية.

- المستوى المؤسسي: نظام سياسي تعددي شكليًّا، تحكمه نخبة محدودة وشبكات زبونية تتناوب على السلطة دون تجديد حقيقي للنخبة أو آليات الحكم.

- المستوى الجيوسياسي: موقع إستراتيجي حساس على تخوم الأدرياتيكي والبلقان الغربي، يجعل من ألبانيا ساحة مفتوحة لتقاطعات المصالح الإقليمية والدولية (الغرب، روسيا، تركيا، الصين).

يُتيح لنا إدراك هذه المستويات الثلاثة إجراء قراءة متكاملة لوضع ألبانيا في النظام الدولي المعاصر، بوصفها دولة تتأرجح بين الرغبة في الانخراط الفاعل والاضطرار إلى الارتهان الوقائي. فالسياسات الألبانية، وإن بدت في ظاهرها خيارات سيادية، إلا أنها تُصاغ غالبًا تحت وطأة اعتبارات أمنية واقتصادية تفرضها بيئة خارجية مهيمنة.

2.  التحالفات القسرية: من التبعية إلى إعادة تعريف السيادة

يرتبط مفهوم التحالفات القسرية بتفسيرات حديثة في حقل الجيوبوليتيك والواقعية البنيوية؛ حيث تُجبر الدول الصغيرة على الانخراط في تحالفات كبرى ليس انطلاقًا من إرادة حرة أو توافق مصالح، بل نتيجة ضغوط أو تهديدات خارجية أو حاجات داخلية للحماية والشرعية.

تتميز هذه التحالفات بخصائص محددة:

- غياب التكافؤ البنيوي: الطرف الصغير لا يمتلك أدوات تفاوض متكافئة مع القوة الراعية.

- التحالف المشروط: الانخراط يتم مقابل ضمانات أمنية أو اقتصادية أو سياسية مؤقتة.

- الولاء الخطابي: التبعية تُغطَّى بخطاب سياسي عن "الشراكة" و"القيم المشتركة".

- الارتهان المتجدد: استمرار التحالف يصبح شرطًا لبقاء النظام أكثر منه خيارًا سياديًّا. 

في هذا السياق، وبالنسبة إلى ألبانيا تحديدًا، يمكن تمييز مرحلتين رئيسيتين في تشكل تحالفاتها القسرية؛ المرحلة الأولى تلت عام 1991، ويمكن وصفها بأنها مرحلة التحالف الوقائي مع الغرب، بحثًا عن مظلة أمان بعد انهيار النظام الشيوعي. وقد بدأ هذا التحالف في سياق إعادة بناء الدولة من الداخل، مع دخول برامج المساعدات الغربية وتأسيس علاقات أمنية وثيقة مع الناتو. أما المرحلة الثانية، فقد بدأت بعد عام 2009 وهي مستمرة حتى اليوم، وهي مرحلة التحالف المؤسس، بعد انضمام ألبانيا رسميًّا إلى حلف الناتو، واتساع التبعية للمنظومة الأوروبية والأطلسية. هنا أصبحت الدولة جزءًا من هيكل أمني غربي متكامل، لكنها ظلت تعاني من ضعف القدرات الذاتية؛ ما جعل تحالفها أقرب إلى "التزام وجودي" منه إلى "خيار إستراتيجي متبادل".

تأسيسًا على هذا، يمكننا القول: إن جوهر التحالف القسري، في الحالة الألبانية، يكمن في أن الشرعية الخارجية سبقت بناء الشرعية الداخلية. فقد سعت تيرانا إلى اكتساب الاعتراف والضمان الغربي بوصفه تعويضًا عن ضعف الدولة في الداخل، بينما ظل المجتمع يعيش أزمات الثقة والانقسام والفساد. وبذلك، أصبحت السياسة الخارجية أداة لإنتاج الشرعية أكثر منها وسيلة لحماية السيادة، وهي مفارقة مركزية تفسر هشاشة الأمن الألباني رغم اندماجه في المنظومة الغربية.

3. الشرعية الوطنية في الدول ما بعد السلطوية: مقاربة سوسيولوجية–مؤسساتية

تصنَّف ألبانيا على أنها دولة ما بعد سلطوية، أي إنها لم تستكمل بعدُ عملية التحول الديمقراطي، والشرعية فيها تتوزع بين ثلاثة مستويات متنازعة. فعلى مستوى النصوص، تؤسس الشرعية القانونية-الدستورية للفصل بين السلطات وتعددية الأحزاب، لكنها تبقى شكلية في ظل ضعف تطبيق القوانين، فيما تبقى شرعية الأداء مشروطة بقدرة الدولة على تقديم الخدمات وتحقيق نمو اقتصادي ملموس، وهو ما يظل محدودًا في ألبانيا بفعل هشاشة البنية الاقتصادية. وأخيرًا، لدينا الشرعية الخارجية، أي اعتماد الدولة على اعتراف ودعم القوى الكبرى (الاتحاد الأوروبي، الناتو، الولايات المتحدة) لتثبيت موقعها في النظام الدولي.

في السياقات المشابهة، تُعد الشرعية الخارجية عادة مرحلة مؤقتة تساعد على بناء الشرعية الداخلية. لكن في الحالة الألبانية حدث العكس؛ إذ ترسخت الشرعية الخارجية لتصبح بديلًا وظيفيًّا من الشرعية الداخلية، أي إن الدولة تحافظ على استقرارها بفضل الدعم والوصاية الدولية، وليس بفضل عقد اجتماعي وطني متين.

من هنا يبرز ما يمكن تسميته بـ"المفارقة الألبانية، أي دولة مستقرة ظاهريًّا لكنها ضعيفة بنيويًّا، ديمقراطية في الشكل لكنها زبونية في المضمون، غربية التوجه لكنها لا تملك القدرة على المساهمة الفعلية في إعادة تشكيل بيئتها الإقليمية.

ثانيًا: الإرث التاريخي والخروج من العزلة الشيوعية إلى التعددية المنهكة

1. الشمولية والانغلاق خلال الحقبة الخوجية

تمثل الحقبة التي حكم فيها أنور خوجة (1944–1985) إحدى أكثر التجارب الشيوعية انغلاقًا في أوروبا الشرقية. فقد سعى النظام إلى بناء دولة شديدة المركزية، قائمة على الأيديولوجيا الماركسية-اللينينية الصارمة، وعلى تصور للعالم يقوم على الاستقلال الكامل عن المعسكرات الكبرى، بما في ذلك موسكو وبيجين. وفي إطار هذا الانعزال الممنهج، تحولت ألبانيا إلى نموذج متطرف لـ"الاكتفاء الذاتي السياسي والأيديولوجي"؛ وهو ما أدى إلى تكلس المجتمع والدولة معًا. ويمكننا تلخيص أبرز ملامح تلك المرحلة في ثلاث سمات:

- القمع الأيديولوجي: تجريم المعارضة، وإغلاق المجال العام، وتحويل الحزب إلى تجسيد للدولة.

- الاقتصاد الموجه: اعتمدت الدولة على التصنيع الموجه والزراعة الجماعية، لكنها عجزت عن تحقيق كفاءة إنتاجية؛ ما جعل الاقتصاد هشًّا وغير متصل بالأسواق الخارجية.

- تدمير البنية الرمزية للمجتمع بإعلان ألبانيا، عام 1967، أول دولة "ملحدة رسميًّا" في العالم(6)، فقضت بذلك على الحياة الدينية، وهُدمت الكنائس والمساجد، وحدثت قطيعة عميقة بين الدولة والمجتمع.

كان هذا النظام المغلق، رغم صلابته الظاهرية، يحمل في داخله بذور انهياره(7). فالقمع الممنهج دمر الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم، والعزلة الدولية حرمت البلاد من أي دعم أو انفتاح خارجي. وبوفاة أنور خوجة، عام 1985، بدأت مرحلة ارتباك داخلي وتراجع اقتصادي، مهَّدت لاحقًا للانفجار السياسي والاجتماعي في بداية التسعينات.

2. 1991–2000 ومرحلة التحول: انهيار النظام وصراع الشرعيات

مع انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا، شهدت ألبانيا انتقالًا فوضويًّا نحو الديمقراطية، لم يكن نتيجة لتفاوض نخبوي كما في أوروبا الوسطى، بل نتيجة انهيار شامل للمنظومة القديمة دون بديل جاهز. وهكذا دخلت البلاد عقد التسعينات وهي تواجه ثلاث أزمات متزامنة: انهيار المؤسسات وانقسام المجتمع وتدهور الاقتصاد.

جرت أول انتخابات تعددية عام 1991، ومع أنها أنهت حكم الحزب الشيوعي رسميًّا، إلا أنها لم تؤسس لنظام ديمقراطي مستقر. فالمؤسسات المنتخبة كانت ضعيفة والأحزاب الوليدة تعاني انقسامًا حادًّا. وبين 1992 و1997، تعاقبت حكومات متعددة دون أن تنجح في فرض سلطة الدولة أو تحقيق التوازن الاجتماعي. وفي عام 1997، شهدت البلاد أزمة الهرم المالي، التي كانت التعبير الأبرز عن هشاشة النظام الجديد. فقد انهارت شركات استثمارية وهمية جمعت أموال المواطنين بنظام يشبه "سلسلة بونزي"؛ ما أدى إلى انهيار مالي شامل وانفلات أمني عَمَّ البلاد. اضطرت الأمم المتحدة والناتو حينها للتدخل ببعثة عسكرية سميت "عملية الأمل" (Alba (Operation  لإعادة بناء مؤسسات الدولة. منذ ذلك الحين، ترسخت قناعة لدى النخب الألبانية بأن الاستقرار لا يمكن أن يُصان إلا عبر وصاية خارجية، وهو ما مهد لمرحلة جديدة من الارتباط البنيوي بالغرب.

3. ما بعد 2000: إصلاحات متعثرة واتجاه نحو الغرب

منذ مطلع الألفية الجديدة، دخلت ألبانيا مرحلة إعادة بناء المؤسسات تحت إشراف أوروبي-أطلسي. وفي عام 1998، اعتُمد دستور جديد ينص على التعددية الحزبية والفصل بين السلطات، ووضعت الدولة برامج إصلاح في مجالات العدالة والإدارة والاقتصاد. لكن التطبيق ظل متذبذبًا بسبب ضعف البنية الإدارية واستمرار الزبونية السياسية.

- المؤسسات السياسية

تطورت الحياة الحزبية في اتجاه ثنائية قطبية حادة بين الحزب الاشتراكي والحزب الديمقراطي؛ ما جعل التناوب على الحكم أشبه بـ"تبديل وجوه" داخل نخب محدودة. فبينما قاد الاشتراكيون برامج الانفتاح الأوروبي، ركز الديمقراطيون على خطاب مكافحة الفساد، لكن أيًّا منهما لم ينجح في بناء مؤسسات مستقلة أو في ترسيخ ثقة المواطنين بالنظام. وقد أفرز هذا الوضع ديمقراطية شكلية منهكة؛ حيث تستمر العملية الانتخابية بينما تغيب القدرة على التجديد البنيوي للحوكمة.

- التحول الاقتصادي

عرف الاقتصاد الألباني نموًّا ملحوظًا بفضل التحويلات المالية للمغتربين والاستثمارات في السياحة والطاقة. غير أن النمو ظل غير متوازن، يعتمد على الطلب الخارجي والقطاع غير الرسمي؛ ما جعل الدولة عاجزة عن توفير فرص عمل أو الحد من الهجرة. وفي عام 2009، بلغ التحول السياسي ذروته بانضمام ألبانيا إلى حلف شمال الأطلسي، في خطوة عُدَّت تتويجًا لمشروع "العودة إلى الغرب"، لكنها لم تغير من واقع الضعف الداخلي أو بنية التبعية الاقتصادية(8).

 

4. استمرارية البنى القديمة في ظل التعددية الجديدة

رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط الشيوعية، لا تزال أنماط الحكم في ألبانيا تُظهر سمات الاستمرارية السلطوية المقنعة. فبدل أن تؤدي التعددية إلى تداول فعلي على السلطة، كرست الانقسامات الحزبية والزبونية السياسية تحالفات مغلقة داخل النخبة. ويُظهر تحليل مسار الإصلاحات أن النظام الألباني استبدل بالحزب الواحد "حزبيْن مهيمنَيْن" يتنازعان السيطرة على المؤسسات والموارد العامة. وبذلك تحول الصراع السياسي إلى صراع على التحكم في الدولة لا على إصلاحها(9). أما المجتمع المدني، فرغم نمو منظماته بدعم غربي، بقي ضعيف التأثير أمام هيمنة السلطة التنفيذية. وتُظهر مؤشرات الشفافية العالمية أن ألبانيا تقع في الثلث الأدنى أوروبيًّا من حيث مكافحة الفساد واستقلال القضاء. هذا الواقع جعل من الإصلاحات القضائية، التي بدأ تنفيذها منذ 2016 بدعم الاتحاد الأوروبي، رهانًا مزدوجًا. فهي -من جهةٍ- شرط للانضمام إلى الاتحاد، ومن جهة أخرى، تهديد للنخب السياسية التي تخشى المساءلة.

5. من الانتقال الديمقراطي إلى التأقلم المؤسسي

إذا كان عقد التسعينات قد مثَّل مرحلة الانتقال الديمقراطي الهش، فإن العقدين الأخيرين يُمثلان مرحلة التأقلم المؤسسي، أي محاولة الدولة التكيف مع معايير الاتحاد الأوروبي دون تحقيق قطيعة بنيوية مع الممارسات القديمة. وهنا يُطرح سؤال مركزي: هل أدى الانخراط الأوروبي إلى تحول نوعي في بنية الدولة أم إلى تحسين شكلي في أدائها الإداري؟ الإجابة، وفق أغلب الدراسات المقارنة، تميل إلى الاحتمال الثاني. فالإصلاحات كانت في الغالب استجابة لشروط المانحين لا نتاجًا لرغبة داخلية، وهو ما جعلها جزئية ومتذبذبة. كما أن الانضمام إلى الناتو لم يُترجم إلى تحديث فعلي في المنظومة الدفاعية، بل إلى اعتماد أكبر على الشراكات الغربية. هكذا، أصبحت ألبانيا نموذجًا للديمقراطية التابعة؛ حيث تملك مؤسساتها الشكلية كل سمات النظام الليبرالي، لكنها تفتقر إلى استقلالية القرار وقدرة المحاسبة الداخلية.

يُظهر المسار التاريخي لألبانيا، من الشمولية إلى التعددية، كيف أن التحول السياسي لم يترافق مع تحول مؤسسي موازٍ. فالدولة انتقلت من الانغلاق الأيديولوجي إلى الانفتاح القسري، ومن العزلة الذاتية إلى الارتهان الخارجي، دون أن تبني عقدًا اجتماعيًّا متينًا يضمن تماسكها الداخلي. إن جذور هشاشتها الحالية تعود إلى هذا الإرث التاريخي؛ حيث لا تزال العلاقة بين الدولة والمجتمع قائمة على غياب الثقة المتبادل، ولا تزال النخب السياسية تتعامل مع الدولة كغنيمة لا كجهاز عام.

من هنا، فإن فهم ألبانيا المعاصرة لا يكتمل دون تحليل بنية الحكم والاقتصاد التي نشأت بعد 2000، ودراسة كيفية إعادة الزبونية السياسية إنتاج ضعف الدولة رغم الانخراط الغربي المتزايد.

 ثالثًا: السياسة والاقتصاد والحوكمة من التعددية الشكلية إلى الدولة الزبونية

1. النظام السياسي بين الشكل الديمقراطي والمضمون الزبوني

تقوم البنية السياسية الألبانية المعاصرة على نظام جمهوري برلماني، تُنتخب فيه الحكومة من البرلمان، ويُفترض أن تُمثل الأحزاب فيه تعددية سياسية حقيقية. غير أن التجربة العملية أظهرت أن التعددية لم تُنتج تداولًا فعليًّا على السلطة أو تنوعًا حقيقيًّا في السياسات، بل أسفرت عن نظام زبوني حزبي مغلق يهيمن عليه قطبان رئيسيان، هما: الحزب الاشتراكي الألباني، الذي يقدم نفسه وريثًا للإرث التقدمي والحداثي، والحزب الديمقراطي، الذي يتبنَّى خطابًا ليبراليًّا إصلاحيًّا متقاطعًا مع القيم الغربية.

خلق هذا الاستقطاب الثنائي، الممتد منذ أوائل التسعينات، دينامية تناوب شكلية لا تُنتج تغييرًا في بنية السلطة، بل تُعيد تدوير النخب نفسها في مواقع مختلفة. ويرى باحثون أن النموذج الألباني يمثل ما يُعرف بالديمقراطية الزبونية؛ حيث تُستخدم أدوات النظام الديمقراطي (الانتخابات، الأحزاب، الإعلام) آلياتٍ لتوزيع المنافع لا قنواتٍ للمساءلة(10). ومن أبرز مظاهر هذا النمط السياسي: احتكار الحزبين الكبيرين لموارد الدولة عبر التعيينات الإدارية والمناقصات العامة، وتسييس القضاء والإعلام بما يخدم التوازن الحزبي، وتحول الانتخابات إلى منافسة على الولاءات المحلية بدل البرامج الوطنية. يضاف إلى ذلك ضعف المعارضة البرلمانية نتيجة سيطرة النخبة على دوائر التمثيل. ولا شك أن مثل هذه المظاهر تجعل الديمقراطية الألبانية أقرب إلى "قشرة مؤسساتية" تُخفي تحتها بنية سلطوية متكيفة قادرة على البقاء عبر إعادة إنتاج نفسها ضمن شروط جديدة.

2. الاقتصاد الألباني: من التبعية إلى إعادة التدوير

حققت ألبانيا منذ مطلع الألفية معدلات نمو متوسطة (بين 3% و5%)، مستفيدة من الاستقرار النسبي وتدفقات المساعدات والاستثمارات الأجنبية. لكن خلف هذه الأرقام تكمن هشاشة بنيوية تتمثل في اعتماد مفرط على التحويلات المالية من الجاليات الألبانية في الخارج، خاصة في إيطاليا واليونان، والتي تمثل نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهيمنة القطاع غير الرسمي الذي يقدر بما بين 30% و40% من الاقتصاد الكلي، وضعف القاعدة الإنتاجية الوطنية، مع تراجع الزراعة وتقلص التصنيع لصالح قطاعات الخدمات والسياحة، وتفاوت صارخ بين الساحل المزدهر والمناطق الداخلية المهمشة.

يُظهر تقرير البنك الدولي لعام 2023 أن الاقتصاد الألباني يتسم بـ"نمو دون تنمية"، أي إنه نمو كمي لا ينعكس على تحسين الإنتاجية أو الحد من الفوارق الاجتماعية. وقد أسهم هذا الواقع في تغذية الزبونية السياسية، إذ تعتمد شرعية الأحزاب على توزيع المنافع والوظائف والمشاريع الممولة خارجيًّا. إلى جانب ذلك، يُعد الفساد البنيوي من أبرز عوائق التنمية. فوفق مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة "الشفافية الدولية"، تحتل ألبانيا مواقع متأخرة داخل الاتحاد الأوروبي وجواره، وغالبًا ما تُصنَّف ضمن أكثر الدول فسادًا في البلقان(11). لا يرتبط هذا الفساد بسوء استخدام المال العام فقط، بل أيضًا بتغلغل المصالح الحزبية في مؤسسات الدولة، وهو ما يجعل من الإصلاح الاقتصادي مهمة سياسية قبل أن تكون تقنية.

3.  الحوكمة والإصلاح المؤسسي: بين الضغط الخارجي والممانعة الداخلية

بدأت ألبانيا منذ عام 2016 تنفيذ حزمة واسعة من الإصلاحات بدعم من الاتحاد الأوروبي، خاصة في مجالي القضاء والإدارة العامة، وذلك كجزء من متطلبات الترشح للعضوية الأوروبية. وتُعد إصلاحات العدالة أهم ما أنجزته الدولة مؤخرًا، إذ أنشأت مؤسسات رقابية جديدة، وأعادت تقييم مئات القضاة والمدعين العامين ضمن ما يُعرف بعملية "التحقق من النزاهة". لكن رغم التقدم القانوني، تظل النتائج العملية محدودة بسبب المقاومة السياسية الداخلية؛ إذ تخشى النخب التقليدية من فتح ملفات الفساد والتمويل غير المشروع.

أما على مستوى الحوكمة المحلية، فالتجربة تكشف استمرار مركزية القرار في يد السلطة التنفيذية، مع تراجع فاعلية البلديات وضعف استقلاليتها المالية. وتشير بعض التقارير إلى أن المركزية المفرطة في اتخاذ القرار تمثل أحد أبرز التحديات التي تعوق ترسيخ اللامركزية والتنمية المحلية. بعبارة أخرى، لم تُنتج الإصلاحات المؤسسية تحولًا في ثقافة الحكم، بل بقيت الدولة تعمل وفق منطق "الولاء مقابل الموارد"(12). هذا النمط من الحوكمة جعل ألبانيا عُرضة للاعتماد الخارجي المتبادل؛ حيث تعتمد الدولة على الدعم الغربي لضمان استقرارها، بينما يعتمد الغرب على ولاء نخبها السياسية لضمان نفوذه في المنطقة.

4. البعد الاجتماعي والديمغرافي: الهجرة وانكماش الدولة

يُعد النزيف الديمغرافي المستمر أحد أبرز مؤشرات أزمة الحوكمة في ألبانيا. فمنذ تسعينات القرن الماضي، غادر البلاد أكثر من ثلث سكانها، معظمهم من الفئة الشابة والمتعلمة. وتشير تقارير، بما فيها تلك الصادرة عن الأمم المتحدة، إلى أن ألبانيا من أعلى دول أوروبا من حيث معدل الهجرة الصافية(13). ولا يمثل هذا النزيف ظاهرة اقتصادية وحسب، بل يعبِّر عن فقدان الثقة في الدولة وغياب أفق المواطنة الفاعلة داخل النظام السياسي القائم. ولهذه الظاهرة تأثيرات متعددة المستويات:

- اقتصاديًّا: تشكل التحويلات المالية للمهاجرين مصدرًا رئيسيًّا للدخل القومي لكنها تُعمِّق التبعية.

- اجتماعيًّا: تُضعف شبكات التضامن المحلي وتؤدي إلى شيخوخة سكانية متسارعة.

- سياسيًّا: تفقد الدولة جزءًا من رأسمالها البشري وقدرتها على التجديد المؤسسي.

من هنا، فإن التحدي الديمغرافي أصبح أزمة هوية وطنية؛ حيث يهاجر المواطن بحثًا عن "دولة بديلة" أكثر عدالة وكفاءة؛ ما يجعل من الحوكمة قضية بقاء للدولة نفسها وليست مجرد مسألة تقنية.

5. الاقتصاد السياسي للتحالفات الخارجية

تتجلى العلاقة بين الداخل والخارج في الاقتصاد السياسي الألباني بوضوح لافت. فالاستثمارات الأجنبية والتمويلات الأوروبية لا تُوجَّه وفق خطة وطنية مستقلة، بل وفق أولويات المانحين الغربيين الذين يرون في ألبانيا ركيزة للاستقرار في البلقان الغربي. ويُلاحَظ أن معظم المشاريع الكبرى، في الطاقة والبنية التحتية والاتصالات، ممولة من الاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي للاستثمار أو من مبادرة الحزام والطريق الصينية.

يُنتج هذا التداخل ما يسميه بعض الباحثين "اقتصاد الوصاية" (Tutored Economy)؛ حيث تتحول المساعدات إلى آلية لإدامة الولاء السياسي للنخبة الحاكمة، دون تطوير حقيقي لقدرات الدولة. فالمشاريع الكبرى مثل خط الغاز العابر للأدرياتيك (TAP) أو شبكة الطرق الإقليمية تُدار من خلال شراكات دولية، فيما يقتصر الدور المحلي على التنفيذ الأدنى. وبذلك، يتكرس نموذج الاقتصاد السياسي الذي يجمع بين التبعية والتكيف، أي انخراط محسوب في العولمة دون سيادة اقتصادية فعلية.

6. الإعلام والمجتمع المدني بين الاحتواء والرقابة الذاتية

رغم أن الدستور الألباني يضمن حرية التعبير والصحافة، فإن المشهد الإعلامي يخضع إلى تأثير مصالح اقتصادية وسياسية قوية. فمعظم القنوات التلفزيونية مملوكة لمجموعات تجارية ترتبط بعلاقات وثيقة بالأحزاب الكبرى؛ ما يجعلها أداة تعبئة انتخابية أكثر من كونها سلطة رقابية مستقلة.

ويُلاحظ أن ظاهرة الرقابة الذاتية باتت منتشرة بسبب تداخل المصالح التجارية والسياسية؛ ما يحد من حرية النقد العام. أما منظمات المجتمع المدني، فرغم تزايد عددها، ظل دورها محدودًا في التأثير على السياسات العامة. ويعود السبب الأساسي إلى اعتمادها المالي شبه الكامل على التمويل الأجنبي؛ ما يجعلها جزءًا من منظومة التمكين الخارجي المشروط، أكثر من كونها تعبيرًا عن دينامية اجتماعية وطنية مستقلة. ورغم مساهمتها في دعم الشفافية وحقوق الإنسان، فإنها لم تستطع بعد أن تُحدث تحولًا نوعيًّا في ثقافة الحوكمة أو في توازن القوى بين الدولة والمجتمع.

رأينا أعلاه كيف أن الدولة الألبانية المعاصرة تعيش حالة ازدواج وظيفي بين الشكل الديمقراطي والمضمون الزبوني، وبين الانفتاح الاقتصادي والتبعية البنيوية، وبين الإصلاح القانوني والممانعة السياسية. وهذا ما يجعلها نموذجًا مميزًا لما يمكن تسميته بـ"دولة الاعتماد الخارجي الممأسس" (Institutionalized Dependency State)، أي الدولة التي طورت مؤسسات حديثة تحت إشراف خارجي، لكنها لم تُنتج بعد ثقافة مؤسساتية وطنية. من هنا، فإن أي تحليل لمستقبل ألبانيا لا يمكن أن يتجاهل البُعد الثقافي والهوياتي العميق الذي يشكل الخلفية لكل هذا التعقيد السياسي والاقتصادي. فهوية الدولة والمجتمع، بكل تناقضاتها التاريخية بين الدين والقومية والانتماء الأوروبي، تبقى المحدد الرئيس لمعادلة الشرعية والاستقرار.

رابعا: الهوية والانقسام والشرعية المعلقة

1. الهوية الألبانية: فسيفساء دينية وإثنية

رغم تجانس ألبانيا الإثني النسبي، فإنها تُعد من أكثر مجتمعات البلقان تنوعًا من حيث التكوين الديني والثقافي(14). فالسكان يتوزعون على نحو تقريبي إلى مسلمين، سُنَّة وبكتاشيين (58%)، وأرثوذكس (17%)، وكاثوليك (10%)، والبقية بين لا دينيين وأقليات صغيرة.

تحوَّل هذا التعدد، الذي كان مصدر ثراء تاريخيًّا، في بعض المراحل إلى عامل انقسام رمزي بين الهوية الدينية والهوية الوطنية. فقد حاول النظام الشيوعي، خلال حكم أنور خوجة، القضاء على الدين بوصفه تهديدًا لوحدة الأمة، فأعلن، سنة 1967، ألبانيا أول دولة "ملحدة رسميًّا" في العالم، وهو ما ترك فراغًا روحيًّا واجتماعيًّا كبيرًا. لكن، مع الانفتاح على الغرب بعد عام 1991، برزت الحاجة إلى إعادة تعريف الهوية الألبانية: هل هي هوية أوروبية علمانية، أم هوية بلقانية ذات جذور إسلامية عميقة؟ وقد عبَّر الزعيم القومي، سامي فراشيري (Sami Frashëri)، منذ القرن التاسع عشر، عن هذا التوتر حين كتب: "نحن أوروبيون بالثقافة، شرقيون بالإيمان، وألبان بالوطن". ولا يزال هذا التصور المزدوج يُحدد طبيعة الجدل حول الهوية الوطنية إلى اليوم(15).

2. الانقسام الجغرافي–الثقافي بين الشمال والجنوب

تشكِّل الهوية الإقليمية، إلى جانب البُعد الديني، أحد أعمق خطوط التصدع في البنية الاجتماعية الألبانية. فالتقسيم التقليدي بين الشماليين (غيغا) والجنوبيين (توسك) تمتد جذوره إلى التاريخ العثماني؛ إذ كان الشمال أكثر انغلاقًا وتدينًا، بينما الجنوب أكثر انفتاحًا وتأثرًا بالثقافة اليونانية-العثمانية. وقد انعكست هذه الثنائية على تكوين النخب السياسية بعد الاستقلال، واستمرت عبر النظام الشيوعي الذي حاول طمسها دون نجاح. أما اليوم، فيتجلى هذا الانقسام في أن النخبة الحاكمة، خاصة من الحزب الاشتراكي، تتركز في الجنوب، فيما تشكل المعارضة التقليدية (الديمقراطيون والمحافظون) قاعدة شمالية. ويُستخدم هذا التمايز في الخطاب السياسي لتعبئة الولاءات الانتخابية؛ ما يكرس الزبونية الإقليمية آلية بديلة للهوية الوطنية الجامعة.

إن استمرارية هذه الفوارق الإقليمية تجعل من بناء "أمة مدنية" أمرًا صعبًا، لأن الولاء للمنطقة أو الطائفة يسبق الولاء للدولة(16). وقد كانت الباحثة، ناتالي كلاير، حذَّرت من أن "الهوية الألبانية الحديثة لم تكتمل بعد، لأنها ما زالت مشروطة بخطوط الانقسام القديمة بين الشمال والجنوب، والدين والعلمانية، والريف والمدينة"(17).

3. الإسلام والغرب: علاقة ملتبسة

تحتل مسألة الإسلام في الهوية الألبانية موقعًا إشكاليًّا في النقاشين، السياسي والأكاديمي. فعلى خلاف الصورة النمطية للبلقان كمنطقة مسيحية شرقية، تُعد ألبانيا الدولة الأوروبية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة، لكنها في الوقت ذاته الأكثر قربًا من الغرب سياسيًّا وثقافيًّا. هذا التناقض جعل من الإسلام الألباني موضوعًا للجدل بين اتجاهين: الأول يراه مكوِّنًا ثقافيًّا يجب تحييده لتسهيل الاندماج في الفضاء الأوروبي، في حين يراه الاتجاه الثاني ركيزة للهوية الوطنية ومصدرًا للتمايز في وجه المركزية الأوروبية؛ حيث يُعترف بالأديان كمكونات ثقافية لا مؤسساتية. وهذا النموذج يظل هشًا في ظل التنافس بين جهات فاعلة خارجية. فمن ناحية لدينا تركيا التي تحاول توظيف الإرث العثماني والديني عبر وكالة التعاون التركية (TİKA) ومشاريع المساجد والتعليم، في حين يدفع الاتحاد الأوروبي، من جهته، نحو علمنة صارمة للفضاء العام شرطًا لانضمام ألبانيا إلى النادي الأوروبي. أما الولايات المتحدة فتروج لخطاب "الإسلام الأوروبي المعتدل" بوصفه نموذجًا لمواجهة التطرف.

في نهاية المطاف، يمكننا القول: إن الإسلام في ألبانيا تحول إلى هوية رمزية أكثر من كونه هوية سياسية، تُستخدم لتأكيد الانتماء المتوازن بين الشرق والغرب، لا لتأسيس مشروع بديل(18).

4. القومية المدنية: محاولة لصهر الانقسامات

أمام هذه الانقسامات، حاولت الدولة منذ التسعينات بلورة مفهوم القومية المدنية الألبانية، الذي يقوم على تجاوز الفوارق الدينية والإقليمية لصالح هوية وطنية جامعة. ويقوم هذا التصور على ثلاث ركائز:

- اللغة الألبانية بوصفها الرابط الأسمى بين المواطنين، أي إن "من يتحدث الألبانية فهو ألباني".

- المواطنة الدستورية بديلًا للانتماءات التقليدية.

- الانفتاح الأوروبي مسارًا لتثبيت الهوية في فضاء أوسع من الدولة القومية.

لكن هذا المشروع واجه عقبتين رئيسيتين. تمثلت الأولى في ضعف الدولة كمؤسسة قادرة على احتكار الرمزية الوطنية وتوزيع المنافع بعدالة، في حين تجلَّت العقبة الثانية في استمرار تصدع النخب بين من يرى في أوروبا "مصدر الخلاص"، وبين من يرى فيها "تهديدًا للهوية المحلية". وبين هذين الاتجاهين، تشكلت ما يمكن تسميتها بالهوية المعلقة، أي هوية لم تكتمل بعد، تتأرجح بين التاريخ والمستقبل وبين الشرق والغرب.

5. الشرعية المعلقة: الدولة بين الداخل والخارج

ترتبط مسألة الهوية في ألبانيا ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الشرعية. فالدولة الألبانية الحديثة تستمد جزءًا كبيرًا من شرعيتها من الخارج، من الاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة أكثر مما تستمده من مواطنيها. ويعني ذلك أن "الاعتراف الخارجي" أصبح بديلًا من "الثقة الداخلية". في المقابل، لا تزال شرعية الدولة داخليًّا ضعيفة بسبب استشراء الفساد وضعف العدالة الاجتماعية وغياب المشاركة السياسية الفاعلة واتساع الفجوة بين النخب والمجتمع، بالإضافة إلى استمرار الهجرة التي تُفرِّغ الحقل الاجتماعي من قواه الحية.

إن الدولة التي تبحث عن الشرعية في الخارج تُصبح رهينة للمظلة التي تحميها. فألبانيا، وعلى الرغم من نجاحها في الاندماج الأمني الغربي، لم تتمكن بعد من بناء عقد اجتماعي جديد يُعيد الثقة بين المواطن والدولة. وهذا ما يفسر هذا التوصيف: "ألبانيا دولة مُعترف بها دوليًّا أكثر مما هي مُعترف بها وطنيًّا"(19).

6. ألبانيا والهوية الممتدة عبر الفضاء البلقاني

تسعى ألبانيا إلى توظيف هويتها العابرة للحدود من خلال خطاب "الأمة الألبانية الكبرى"، الذي يربطها بكوسوفو ومجتمعات الألبان في مقدونيا الشمالية والجبل الأسود واليونان. ورغم أن هذا الخطاب يُقدَّم رسميًّا في إطار "التكامل الثقافي" لا "المشروع القومي"، إلا أنه يثير حساسية لدى الجوار، خصوصًا صربيا واليونان. وتعمل تيرانا على موازنة هذا الطموح القومي بالالتزام بخطاب "الاستقرار الإقليمي" الذي تفضِّله بروكسل وواشنطن. بهذا المعنى، تُعد الهوية الألبانية هوية مزدوجة الامتداد: داخلية تبحث عن تماسك وطني، وخارجية تسعى لتوسيع فضائها الرمزي دون تجاوز الخطوط الحمراء الغربية. إنها هوية مرنة بقدر ما هي هشَّة، قادرة على التكيف مع السياقات، لكنها تفتقر إلى عمق مؤسساتي يترجمها إلى مشروع دولة ناضج.

في الخلاصة، إن التفاعل بين البنية الاجتماعية والانقسام الديني والإقليمي، وبين الخطاب القومي والانفتاح الأوروبي، أنتج في ألبانيا شرعية وطنية معلقة، لا تجد أساسها في عقد اجتماعي متين، بل في مزيج من الرموز والخطابات والمظلات الخارجية. فالهوية الوطنية لم تتكرس بعد إطارًا جامعًا، والدولة لا تزال تسعى لاكتساب معنى وجودها من "الآخر"، سواء كان أوروبا أو التاريخ أو الحلفاء. بهذا المعنى، يمكن القول: إن أزمة ألبانيا ليست أزمة هوية فقط، بل أزمة دولة تبحث عن مبرر ذاتي للبقاء. وهو ما يقودنا إلى الفصل السادس والأخير الذي يتناول الاصطفاف الجيوسياسي والتحولات المستقبلية لألبانيا بين الغرب والشرق، في ضوء التحديات الراهنة للنظام الدولي.

خامسًا: الاصطفاف الجيوسياسي والتحولات المستقبلية لألبانيا

1.  بين الشرق والغرب: موقع إستراتيجي معقد

تحتل ألبانيا موقعًا إستراتيجيًّا في قلب البلقان، عند ملتقى شبه الجزيرة الإيبيرية الشرقية والبحر الأدرياتيكي؛ ما يجعلها لاعبًا محوريًّا في التوازن الإقليمي. هذا الموقع منحها أهمية تتجاوز حجمها الجغرافي والسكاني، وجعلها محطَّ اهتمام ثلاثة محاور رئيسية:

- الولايات المتحدة وحلف الناتو: تُعد ألبانيا حليفًا متينًا للغرب، فهي تستضيف قواعد عسكرية وتشارك في برامج أمنية ونووية متعددة؛ ما يعكس اعتمادها على مظلة الحماية الغربية.

- الاتحاد الأوروبي: يشكل الانضمام إلى الاتحاد هدفًا سياسيًّا واقتصاديًّا رئيسيًّا، لكن بروكسل تفرض معايير صارمة تتعلق بالحوكمة ومحاربة الفساد وحقوق الإنسان؛ ما يضع ألبانيا أمام تحديات داخلية كبيرة.

- الفاعلون الإقليميون والشرقيون: تحرص كل من تركيا وروسيا والصين على بناء نفوذها الاقتصادي والثقافي عبر استثمارات متنوعة وبرامج تعليمية ومشاريع بنية تحتية؛ ما يؤجج المنافسة من أجل التأثير ضمن الدولة نفسها.

2. الديناميات الداخلية وتأثيرها على الاصطفاف

إن الهويات المعلقة والانقسامات الإقليمية والدينية تؤثر بشكل مباشر على قدرة ألبانيا على اتخاذ مواقف مستقلة في السياسة الخارجية. فالأحزاب السياسية والأطر النخبوية غالبًا ما تستخدم الاصطفاف الدولي لتعزيز ولاء قواعدها الانتخابية، ما يولِّد ازدواجية في القرارات السيادية. فالحزب الاشتراكي الجنوبي يميل إلى تعزيز روابطه الأوروبية والغربية، مستفيدًا من الدعم الخارجي للاستثمار والتنمية، فيما تسعى المعارضة الشمالية (الديمقراطيون والمحافظون) إلى الاستثمار في العلاقات مع تركيا أو روسيا لتعزيز التوازن مع نفوذ الحكومة مستغلة الخطاب القومي والديني الرمزي.

ومن شأن هذا التوازن الهش أن يجعل ألبانيا دولة تعتمد في جزء كبير من شرعيتها على الاعتراف الخارجي أكثر من الثقة الداخلية، وهو ما يكرس هشاشة الاصطفاف واستمرارية "الهوية المعلقة" في السياسة الخارجية.

3. ألبانيا والناتو: ركيزة أمنية وإستراتيجية

منذ انضمامها إلى الناتو، عام 2009، تحولت ألبانيا إلى نقطة ارتكاز لعمليات الحلف في جنوب البلقان. إن حضورها ضمن منظومة الدفاع الغربي يوفر لها حماية رمزية ومادية، لكنه يربط أيضًا مواقفها الإستراتيجية بمصالح الناتو، بما في ذلك المشاركة في عمليات بحرية في البحر الأدرياتيكي والبحر المتوسط، ودعم الاستقرار الإقليمي في كوسوفو ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود، وكذلك الالتزام بسياسات مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني تحت مظلة الحلف. ورغم هذه المكاسب، يواجه الاصطفاف الغربي قيودًا نابعة من هشاشة الدولة داخليًّا، تتمثل في الفساد وضعف المؤسسات والهجرة المستمرة، وهو ما يحد من قدرة ألبانيا على لعب دور مستقل ضمن التحالف.

4.  العلاقات مع الجوار: كوسوفو، وصربيا، ومقدونيا الشمالية

تسعى ألبانيا لتعزيز هويتها "الممتدة" في المنطقة عبر دعمها السياسي والثقافي لكوسوفو، وهو ما يثير حساسية صربيا. في المقابل، تحافظ على علاقات متقلبة مع اليونان والجبل الأسود؛ حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والثقافية مع المخاوف الإقليمية. إن دعم استقلال كوسوفو يوفر لألبانيا نفوذًا رمزيًّا ويعزز موقعها قوةً إقليميةً صغيرة، في حين يبدو التوازن مع صربيا ضروريًّا لتجنب تصعيد النزاعات، خاصة في إطار الحوار المدعوم أوروبيًّا، أما التنسيق مع مقدونيا الشمالية فيعزز التكامل الاقتصادي والثقافي للأقلية الألبانية لكنه يطرح تحديات على المصالح الوطنية للمنطقة بأسرها.

5.  النفوذ التركي والصيني: تحديات مزدوجة

تستخدم تركيا أدوات ناعمة مثل التعليم الديني، والمساجد، والاستثمارات الاقتصادية لتعزيز حضورها الرمزي والسياسي؛ ما يجعل جزءًا من النخبة المحلية يعتمد على دعم خارجي لتعزيز مشروعه السياسي. أما الصين، فتستثمر في البنية التحتية والموانئ والمشاريع الاقتصادية الكبرى، مثل ميناء دوريس، وهو أمر يزيد من اعتماد ألبانيا على التمويل الخارجي، ويخلق صراعات مصالح ضمن الدولة حول الأولويات الإستراتيجية.

السيناريوهات المحتملة لمستقبل ألبانيا

استنادًا إلى ما تقدم، يمكن تحديد ثلاثة مسارات رئيسية لمستقبل ألبانيا:

1. الاندماج الغربي الكامل: إصلاح مؤسساتي عميق يعزز الدولة المدنية والهوية الوطنية الجامعة، ويضمن دورًا مؤثرًا ضمن الاتحاد الأوروبي والناتو.

2. الاعتماد على القوى الإقليمية: استمرار ضعف الدولة يجعلها رهينة للتأثير التركي والصيني والروسي، مع تراجع استقلالها الإستراتيجي.

3. التوازن الهش والمزدوج: الجمع بين الاصطفاف الغربي والاستفادة الجزئية من النفوذ الإقليمي، مع استمرار الهوية المعلقة والشرعية المترنحة داخليًّا.

يبقى أن أزمة ألبانيا ليست أزمة دولة فقط بل أزمة هوية وشرعية؛ حيث يتداخل الداخل مع الخارج، والتاريخ مع المستقبل، والهويات الموروثة مع الطموحات الأوروبية. ألبانيا الحديثة تبحث عن مشروع دولة متكامل يستطيع أن يجمع بين الهوية الوطنية الجامعة، والشرعية الداخلية المستندة إلى العقد الاجتماعي، بالإضافة إلى الاصطفاف الإستراتيجي الذكي الذي يحمي مصالحها ويعزز نفوذها في البلقان.

في النهاية، ستعتمد قدرة ألبانيا على تجاوز الهويات المعلقة والانقسامات الداخلية على إصلاح الدولة وتعزيز المشاركة السياسية وتنمية مجتمع مدني قوي، بينما تظل هشاشتها أمام التأثيرات الخارجية تحديًا مستمرًّا. إن فهم هذه الديناميات المتشابكة هو شرط أساسي لإدراك مآلات مستقبل ألبانيا في النظام الدولي المتغير.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) Lutjona Lula, Albania 30 Years after the Fall of the most Radical Communist Regime: Has Justice been Restored? Institute Great Europe, 29 January 2021, (Accessed on 20 November 2025)

https://institutegreatereurope.com/publications/research-pieces/albania-30-years-after-the-fall-of-thethe-most-radical-communist-regime-has-justice-been-restored/

(2) Christopher Jarvis, The Rise and Fall of Albania's Pyramid SchemesInternational Monetary Fund, Vol. 37, No. 1, March 2000, (Accessed on 20 November 2025)

https://www.imf.org/external/pubs/ft/fandd/2000/03/jarvis.htm

(3) Edona Llukacaj, That ‘Other’ Identity: The Identity Crisis in the Albania of Today,  International Journal of Humanities, Vol. 7, Issue 9, January 2009, pp. 13-20.

(4) Klodiana Beshku, From a European Community Enthusiast to EU Membership, Newlines Institute, 12 May 2025, (Accessed on 20 November 2025)

https://newlinesinstitute.org/political-systems/from-a-european-community-enthusiast-to-eu-membership/

(5) Mirela Bogdani, The Role of the International Community as a Pivotal and Reliable Actor in Democratic Transition in Albania, POLIS, Vol. 22, Issue 2, 2023.

(6) Valbona Bezati, How Albania Became the World’s First Atheist Country, Balkan Insight, 28 August 2019, (Accessed on 20 November 2025)

https://balkaninsight.com/2019/08/28/how-albania-became-the-worlds-first-atheist-country/

(7) Ian Thomson, Dark Days in the Balkans: Life under Enver Hoxha and beyond, Spectator, 6 November 2021, (Accessed on 20 November 2025)

https://www.spectator.co.uk/article/dark-days-in-the-balkans-life-under-enver-hoxha-and-beyond/

(8) Nikola Kedhi, Albania at a Crossroads: From Dirty Money Dependency to Sustainable Growth through Innovation, Albanian Conservative Institute, 8 January 2025, (Accessed on 20 November 2025)

https://albanianconservativeinstitute.org/albania-at-a-crossroads-from-dirty-money-dependency-to-sustainable-growth-through-innovation

(9) Una Hajdari, Is Albania on the Fast Track to One-Party Rule? Rosa Luxemburg Stiftung, 11 May 2025, (Accessed on 20 November 2025)

https://www.rosalux.de/en/news/id/53503/is-albania-on-the-fast-track-to-one-party-rule

(10) Arolda Elbasani and Senada Šelo Šabic, Rule of Law, Corruption and Democratic Accountability in the Course of EU Enlargement, Journal of European Public Policy, Vol. 25, No. 9, 2018, pp. 1317-1335.

(11) Transparency International, Tracking Implementation of NIS Recommendations, Albania 2023, (Accessed on 20 November 2025)

https://www.transparency.org/en/nis/countries/albania

(12) Freedom House, Freedom in the World 2024, Albania, (Accessed on 20 November 2025)

https://freedomhouse.org/country/albania/freedom-world/2024

(13) Martine Christensen and Gabriel Hilty, Leaving Albania, the Country’s Youth Seek a More Stable Future, Balkan in Sight, 30 June 2025, (Accessed on 20 November 2025)

https://balkaninsight.com/2025/06/30/leaving-albania-the-countrys-youth-seek-a-more-stable-future/

(14) Peter R. Prifti, People of Albania, Britannica, 7 November 2025, (Accessed on 20 November 2025)

https://www.britannica.com/place/Albania/People

(15) Bulent Bilmez, Shemseddin Sami Frashëri (1850–1904): Contributing to the Construction of Albanian and Turkish Identities, in Diana Mishkova (ed.), We, the People: Politics of National Peculiarity in Southeastern Europe, Central European University Press 2009, pp. 341-371.

(16) G. De Rapper, Do Ghegs and Tosks Exists? The North-South Division in Albania and its Interpretations, Research Gate, 1 January 2004, (Accessed on 20 November 2025)

https://www.researchgate.net/publication/291958711_Do_Ghegs_and_Tosks_exists_The_northsouth_division_in_Albania_and_its_interpretations

(17) Nathalie Clayer, Une Histoire en Travelling de l’Albanie (1920-1939), Avec, Au-delà et En-deçà de l'État, Karthala 2022.

(18) Nathalie Clayer, Islam et Identité Nationale dans l’Espace Albanais (Albanie, Macédoine, Kosovo) 1989-1998, Archives de Sciences Sociales des Religions, 2001, No. 115, pp. 161-181.

(19) Remzi Lani and Fabian Schmidt, Albanian Foreign Policy between Geography and History, The International Spectator, Volume XXXIII, No. 2, April-June 1998.