ركز المنتدى المغربي البلجيكي في دورته السابعة عشرة على تحليل قدرات هيئات المجتمع المدني في تحقيق الانتقال الديمقراطي ضمن أربع جلسات ناقشت ثلاثة محاور رئيسية سعت لتحديد آفاق التفاعل الإيجابي بين عدة مسارات للتحول السياسي والاجتماعي: 1) التنمية والجهوية، 2) المجتمع المدني والديمقراطية، و3) الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقال الأستاذ عبد العزيز سارت، رئيس المنتدى المغربي البلجيكي: "لا تزال للدولة في مجتمعنا أدوار ومهام كثيرة تفوق ما هي مطالبة بالقيام به في ميادين اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية متعددة. وبالتالي، للسياسة بمفهومها الشمولي، وليس سيرًا على ما اعتدنا عليه في خطاباتنا وبرامجنا السياسية والسوسيو-اقتصادية من رفع للشعارات وتسويق سياسوي ديماغوجي للأفكار، وإنما من منظور تأهيل هذه السياسة ثقافة وممارسة ومؤسسات من أجل بلورة عقلانية لرؤية سوسيو-حضارية واضحة الأهداف والمضامين في خدمة ديمقراطية حقيقية وعدالة اجتماعية لا تترك أحدًا على الهامش، فتخرجنا من مشاريع الليبرالية المتوحشة والرأسمال العالمي".
وتم تنظيم ندوة المنتدى المغربي البلجيكي، خلال أيام 9 و10 و11 مارس/آذار 2019، في مدينة تارودانت التي حظيت بلقب "عاصمة المجتمع المدني عام 2019"، في ضوء النشاط المتنامي للهيئات المحلية التي تعمل في مجالات العمل الإنساني وتمكين النساء والفئات الاجتماعية التي تعاني التهميش. فمنذ أكثر من عقدين، عمل بعض سكان المنطقة المهاجرين إلى بلجيكا ودول أوروبية أخرى في تمويل وتجهيز عدد من دور الأيتام وكبار السن في المدينة، فضلًا عن نشاط عدة هيئات حقوقية في تكريس حقوق الإنسان. يقول الأستاذ سارت: "إننا مطالبون كمجتمع ومواطنين بخلق الظروف الضرورية لبروز وضع جديد يصبح فيه المشهد السياسي ببلادنا أكثر تماسكًا وقوة وفعالية في التعددية والإنجاز، ووضوحًا في المرجعيات والمعايير والمصالح والرهانات، وفي القيم الوطنية الداعمة للمصلحة العليا. ونبذ كل ما يتنافى موضوعيا مع مبادئ وقيم التنمية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل حتى مع عمق القيم الحضارية والدينية والاجتماعية لتاريخنا وثقافتنا الوطنية في مقوماتنا الأصيلة لا المشوّهة بفعل ادعاءات مهزوزة لانتقال ديمقراطي معطل وتنمية فاشلة وحداثة مستوردة مشوهة."
(الجزيرة) |
ركز الدكتور محمد الشرقاوي، الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات، على موضوع "تقلبات رأسمال الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في المغرب". وأوضح أن ثمّة مؤشّرات ودراسات جديدة منذ بداية عام 2019 تظهر أكثر من اتجاه في خسارة أو تقلص الرأسمال الاجتماعي المغربي في كلّ من أبعاده السياسية والمجتمعية والفردية مما يطرح أسئلة مستعصية تفرض ذاتها الآن: ما الذي نال من مستوى الرأسمال الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في السنوات القليلة الماضية؟ كيف يتحرك هذا التراجع في الاتجاهين العمودي والأفقي معا؟ وما هي المؤشرات التي يتعين أن يقدمها المرء حتى لا يبدو مروّجا لفكر الأزمة أو لمنطق المؤامرة؟
وشدد الشرقاوي على أهمّية تعاون ثلاثي أفضل بين نظريات الشخص ونظريات البنية ونتائج العمل الميداني، للمساعدة في فهم كيف ولماذا انقلبت الثقة إلى انعدام الثقة في المؤسسات السياسية المغربية. وأضاف أن "هناك فجوة متنامية بين الدولة والمجتمع تدعو لتعاون جَسُور بين شتى العلوم الاجتماعية والرؤى المستنيرة. أودّ أن ننظر إلى أنفسنا في هذه القاعة ليس كقبائل أكاديمية متباعدة، ولكن كرابطة محلّلين يتمتعون بعقليات متفتحة، ولديهم فرضيات متنافسة ووجهات نظر نقدية تتجاوز القيود التي تفرضها غلبة الأنا ضمن ما يسمى 'التخصّص'. ينبغي أن نتحدث عن عناصر مغيبة في النقاش أو مسكوت عنها في الخطاب الرسمي: استشراء الشعور العميق بالضيق الاجتماعي والاستياء الشعبي ممّا أصبح سياسات إتّهامية ومتحوّلة وخطاب اللوم بين الملكية والحكومة والأحزاب، والنخبة المالية، والمؤسسة السياسية برمّتها."
أشار الشرقاوي أيضا إلى جلّ الشباب المغربي يعايش نفسيا وذهنيا ثلاث بنيات من اليأس والقطيعة مع المؤسسة السياسية المركزية ذات دلالات صادمة، هي "الشعور المستشري ب"الحُكْرَة" نتيجة العجز واليأس وفقدان الكرامة، والرغبة الملحة من أجل "الحريك" والسعي للعبور إلى أوروبا حتى في رحلة محفوفة بالمخاطر في قوارب الموت، وأيضا التعبير عن اليأس والسخط بلغة الهاشتاغ وبقية أدوات التعبير في منصات التواصل الاجتماعي. هذه مقاييس لم ينتبه إليها البحث العلمي بما يكفي من التحليل. وقد حققت بعض القنوات الرقمية ومقاطع الفيديو المنتشرة على يوتيوب والفيسبوك انتشارا هائلا وهي تتحدى وتحدت بعض المحظورات التقليدية وتأكل الخوف من مراكز القوة في الرباط."
وينتج عن هذا الوضع تآكل رأس المال الاجتماعي في اتجاهين، إذ مثّل تراجع رأس المال الاجتماعي في المغرب خاصة في العامين الماضيين شجرة تخفي ورائها الغابة. ويمكن أن نقف قليلا عند نقطة التقاطع بين اثنين من الاتجاهات السلبية في هذا التراجع: الأول عمودي، والآخر الأفقي. وخلص الشرقاوي إلى القول إن "التفاعلات الراهنة بين المجتمع والدولة تنطوي على حقيقة أن المغرب يظل رهينة معركة مفتوحة وعير محسومة بين شرعيتين متنافستين: شرعية من أسفل إلى أعلى تستمد زخمها من المظالم الشعبية من أجل ضمان الاحتياجات البشرية الأساسية ومطالب الإصلاح مقابل شرعية من أعلى إلى أسفل والتي تعكس إرادة مؤسسة الدولة والتلويح بسيادة القانون كما هو الحال في التعامل مع حراك الريف وغيرها من أنساق وتجليات تأكيد الدولة لسلطاتها الأساسية. وعند تحليل شعارات حركات الاحتجاجات الأخيرة ومحتوى وسائل التواصل الاجتماعي، يستشف المرء أن مطالب المساءلة من القاعدة إلى القمة قد ارتفعت إلى ما هو أعلى من الحكومة والأحزاب وسائر المؤسسات العامة. وتزداد القناعة لدى الكثيرين بأن المسؤولية النهائية هي على عاتق الملكية ذاته أو كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان عام 1945 في البيت الأبيض “The buck stops here”.. وإذا كان للمرء أن يستشرف مجريات المستقبل بمنطق تحليل النزاعات على المدى القصير، لا يمكن التقليل من الحاجة لتغير ذهني قبل الحديث عن الإصلاحات البنيوية أو المادية، إذا ينبغي التفكير على أساس أن حياة الأفراد ومعاناتهم ومطالبهم بمعنى البعد الإنساني هي وحدة التفكير الرئيسية في التحليل ورسم سياسات إصلاحية جديدة. ويحتاج الخبير والمدير وصاحب القرار للوقوف قليلا عند التقاطع بين الأفراد والمؤسسات، بين المجتمع والدولة، والتأمل مليّا في كيفية حدوث التغيير الاجتماعي ذاته."
(الجزيرة) |
وشمل برنامج الندوة ايضا تنظيم ورشتين نقاش في بلدة تالكجونت عند سفح الأطلس الكبير في منطقة سوس التاريخية حول موضوعي "جدلية الفرد والسلطة في الانتقال الديمقراطي"، والتنمية بين الجهوية والمركزية: رؤى محلية"، شارك فيها عدد من الباحثين الشباب في المنطقة ومن المركز المغربي للأبحاث في الدراسات الاجتماعية في الرباط وعدد من مثقفي الشتات المغربي في العالم.