الحرب على غزة والـرأي العـام في إسرائيـل

على غرار "حرب لبنان الثانية" فإن الحرب الإسرائيلية على غزة، استقطبت على الفور إجماعًا واسعًا في صفوف الرأي العام الإسرائيلي.

أنطوان شلحت


على غرار "حرب لبنان الثانية" (في صيف 2006) فإن الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، التي بدأت يوم 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008 تحت اسم "عملية الرصاص المسبوك"، استقطبت على الفور إجماعًا واسعًا في صفوف الرأي العام الإسرائيلي. وربما يكون هذا الإجماع عائدًا إلى بضعة عوامل وأسباب. ومهما تكن هذه العوامل فلا بُدّ من أن نشير إلى ما يلي:


إشارات وملاحظات
أولاً: تعتبر هذه الحرب "حرب انتخابات". ولذا فإن الحسابات الانتخابية والمصالح الحزبية الضيقة تجعل الأحزاب الصهيونية كلها في صف المؤيدين لها. [في الماضي أيضا تم شنّ حروب أو عمليات عسكرية عشية الانتخابات العامة. مثلاً، قصف رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق مناحيم بيغن المُفاعل النووي العراقي خلال المعركة الانتخابية في سنة 1981. وفي سنة 1996 شنّ رئيس الحكومة في ذلك الوقت والرئيس الإسرائيلي الحالي، شمعون بيريس، عملية "عناقيد الغضب" العسكرية على لبنان، في أوج المعركة الانتخابية، وكان الجميع متأكدين أنه فعل ذلك من أجل الفوز في الانتخابات. لكن العملية مُنيت بالفشل وخسر بيريس الانتخابات وكان الفوز من نصيب بنيامين نتنياهو، رئيس الليكود.


وها هما إيهود باراك، وزير الدفاع ورئيس العمل وتسيبي ليفني، وزيرة الخارجية ورئيسة كاديما، يعاودان الكرّة ذاتها، بدعم من رئيس الحكومة المنتهية ولايته، إيهود أولمرت. وبينما تتجه أنظار ليفني وباراك إلى الانتخابات العامة في 10 شباط/ فبراير 2009، فإن أولمرت يستهدف من الحرب أن تعيد بعضًا من هيبته التي تمرغت بسبب حرب يوليو/تموز في لبنان بما يسعفه في العودة إلى المعترك السياسي في المستقبل].


ثانيًا: من الناحية التاريخية المحض فإن القوى التقليدية، التي شقّت عصا الطاعة على "الإجماع القومي الصهيوني" من حول الحرب، هي قوى "اليسار الصهيوني"، لكن فقط عندما كانت في صفوف المعارضة لا في سدّة الحكم. وقد تجلّى ذلك في "حرب لبنان الأولى" في يونيو/ حزيران 1982، وبلغ الأوج في إثر مذابح صبرا وشاتيلا في بيروت. غير أنّ معظم هذه القوى كانت شريكة في الحكم عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في سنة 1987، وفي أثناء عملية اجتياح الضفة الغربية ["السور الواقي"] في سنة 2002، و"حرب لبنان الثانية"، كما هي الحال الآن خلال الحرب العدوانية على غزة.


ثالثًا: لا يحتاج المراقب إلى عناء كبير كي يدرك أنه منذ أن وضعت حرب يوليو/ تموز 2006 أوزارها يسود في إسرائيل، على المستويات كلها، مناخ عام يوحي للقاصي والداني أن "حربًا إسرائيلية في الأفق"، تتمثل غايتها الرئيسية في استعادة قوة الردع الإسرائيلية، هي شبه حتمية، كي لا نقول "مستحقة للغاية"، وذلك في ضوء نتائج تلك الحرب واستنتاجات لجنة تقصي وقائعها [لجنة فينوغراد]. ويذكر القراء أن هذه اللجنة كُلفت في أن تحقق أو أن تتقصى الوقائع في تلك الحرب من زاوية شديدة الخصوصية، فحواها لماذا خاضت إسرائيل الحرب وكيف فشلت فيها؟ وهذا يبقى التفويض الأهم الذي منح إلى اللجنة. ولذا فقد اعتبر الكثير من المراقبين والمحللين المقولة الرئيسية التي صدرت عن هذا التقرير بمثابة الوصفة التي تقدم للحكومة الإسرائيلية كي تخوض الحرب المقبلة بموجبها.


ولقد اشتملت استنتاجات هذه اللجنة على خلاصة رئيسية لا يجوز المرور مرّ الكرام عليها، وورد فيها: "لقد طرحت حرب لبنان الثانية مجدداً على بساط البحث والتفكير مسائل فضَّل المجتمع الإسرائيلي في جزء منه إقصاءها وتنحيتها جانباً: لا يمكن لإسرائيل البقاء في هذه المنطقة، ولن تستطيع العيش فيها بسلام أو حتى بهدوء، من دون أن يكون هناك فيها وفي محيطها من يؤمن أن دولة إسرائيل تملك قيادة سياسية وعسكرية، وقدرات عسكرية وقوة ومناعة اجتماعية، بما يمكنها من ردع كل من تسوّل له نفسه من بين جيرانها المسّ أو إلحاق الأذى بها، ومنعهم -ولو بالقوة- من تحقيق مبتغاهم. وهذه الحقائق غير خاضعة أو مرتبطة بهذا التوجه السياسي أو ذاك.


"صحيح أن إسرائيل ملزمة -سياسيًا وأخلاقيًا- بالتطلع إلى السلام مع جيرانها والتوصل إلى التسويات المطلوبة لهذا الغرض. غير أن محاولات تحقيق السلام أو التسوية ينبغي أن تأتي من موقع قوة عسكرية ومناعة اجتماعية وسياسية، ومن قدرة واستعداد للذود عن الدولة وقيمها وأمن سكانها".


بناء على ذلك فقد دغدغت "إنجازات" أول أيام الحرب على غزة، التي أحرزها سلاح الجوّ الإسرائيلي وتجندّت الآلة الإعلامية الإسرائيلية كلها من أجل ترويجها، مشاعر معظم الإسرائيليين الذين أذاقتهم حرب تموز مرارة الفشل.


وقد تبين من استطلاع للرأي العام الإسرائيلي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، يوم 26 ديسمبر/ كانون الأول 2008، أي عشية شن عملية "الرصاص المسبوك"، أن 64% من الإسرائيليين يؤيدون استئناف العمليات العسكرية في غزة، أي التخلي عن اتفاق التهدئة مع "حماس" [قال 27% إنهم يؤيدون عودة إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات بحق الناشطين الفلسطينيين في قطاع غزة. وقال 22% إنهم يؤيدون إعادة احتلال أجزاء واسعة من القطاع، فيما أيد 15% شن عملية عسكرية محدودة. وقال 21% فقط إنه يؤيدون إبقاء الوضع في قطاع غزة على ما هو عليه في ذلك الوقت]. غير أنه في آخر استطلاع للرأي العام نشرته صحيفة معاريف، يوم 9 يناير/ كانون الثاني 2009، أي بعد أسبوعين على العملية، قال 91.4% من الإسرائيليين إنهم يؤيدون استمرار الحرب على قطاع غزة، فيما عارض استمرارها 3.8% فقط.


ورأى معلق الشؤون الإستراتيجية في صحيفة هآرتس، رؤوبين بدهتسور، أن إسرائيل بدأت عملية "الرصاص المسبوك" من نقطة الذروة، وبالتالي فقد بات الجيش الإسرائيلي يواجه صعوبة في تصعيد القتال من الجو، في الأيام اللاحقة. وبطبيعة الحال عندما يتم، خلال أول هجمة جوية، قصف مائة هدف بواسطة عشرات الطائرات، تكون النتيجة تقليص الهجمات الجوية التي في الإمكان القيام بها بعد ذلك. وعليه فقد أصبحت العملية البرية حتمية، خصوصًا وأن "حماس" لم ترفع الراية البيضاء.


في الوقت نفسه راجت توقعات بأن هذا "الإنجاز" قد ينقلب على نفسه، في أي لحظة، إذا ما اعتبر الإسرائيليون العملية العسكرية فاشلة. ومثل هذا الاعتبار قد يتأتى، على سبيل المثال، إذا لم يتوقف إطلاق صواريخ القسّام على المستوطنات الإسرائيلية الجنوبية، أو إذا ما كلفت الحملة البرية سقوط ضحايا إسرائيلية كثيرة.


في واقع الأمر فإن هذا هو ما حدث إلى الآن. وقد ترتب على ذلك، فورًا، خروج حركة "السلام الآن" الإسرائيلية عن صمتها وتأييدها للحرب ودعوتها إلى مظاهرة في تل أبيب يوم 10 يناير/ كانون الثاني 2009 تحت شعار "التحذير من الغوص في المستنقع الغزي".


"اليسار الإسرائيلي" دفن في "القبر الجماعي" الذي حفرته حرب تموز
سبق ليوسي سريد، وهو زعيم حزب "ميرتس" السابق وأحد أقطاب "اليسار الصهيوني"، أن رأى، في معرض تقييمه لصيرورة التيار السياسي الذي انتمى إليه، أن "اليسار الإسرائيلي" كان أحد أبرز المدفونين في "القبر الجماعي" الذي حفرته "حرب لبنان الثانية" لمجموعة من ساسة إسرائيل وعسكرها وإعلامييها. ذلك أن هذا اليسار لم يفعل ما كان يتعيّن عليه أن يفعله (وهو معارضة الحرب، بصريح العبارة) وبقي يمارس "الرقص على حبلين"، ما بين معارضة الحرب وتأييدها، بمسوّغ أنها "عادلة" و"مبرّرة". وكان يتوجب على هذا اليسار أن يفهم باكرًا -في قراءة سريد- أن انضمامه إلى الإجماع حتى لو كان متحفظًا وعابسًا من شأنه أن يؤجّج مسيرة حكام إسرائيل نحو عمق لبنان. وتساءل: إذا لم ينهض هذا اليسار في وقت الامتحان فمتى كان في نيته أن ينهض على قدميه؟.


أما المعلق السياسي لصحيفة هآرتس، عكيفا إلدار، فرأى أن الحرب على لبنان دقّت المسمار الأكبر في نعش معسكر السلام الإسرائيلي. وأضاف أن استطلاعات الرأي وكذا تصريحات أشخاص يساريين بارزين، قبل الحرب على غزة، تدل على أن "هجمات الصواريخ على شمال البلد، التي ترافقت مع قصف سلاح الجو في بيروت وجنوب لبنان، أسفرت أساسًا عن تقويض إيمان الجمهور الإسرائيلي بوجود شريك عربي للسلام".


وهو يعتقد أن الحديث منذ ذلك الوقت لا يدور على "ردات فعل عاطفية عابرة، تعدّ نتيجة مطلوبة ومفهومة لمشاعر الغضب والإحباط والخوف"، وإنما يدور على "مرحلة أخرى في سيرورة عميقة ومتصلة من فقدان البوصلة واللهاث وراء حلول انعزالية وأحادية الجانب، نهايتها الطريق المسدود وتكريس النزاع إلى الأبد".



وحتى قبل ذلك أيضًا كانت السهولة التي هضم فيها معسكر السلام هذا ذرائع أيهود باراك بشأن إخفاقه في مسار المفاوضات السوري- اللبناني والمسار الفلسطيني، شهادة أخرى على هشاشة هذا المعسكر.


وما يتضح الآن هو أن غالبية الإسرائيليين الذين يتفاخرون بلقب "يسار" هم "حمائم تغرّد داخل السرب" لا "حمائم ذات قيم سامية" (تتجاوز الإطار المحليّ الضيق). وهؤلاء يؤيدون "عملية السلام" من منطلق اعتبارات براغماتية تحيل فقط إلى ما يندرج في إطار مصالح الشعب اليهودي، مثل الميزان الديموغرافي، ضمان أمن إسرائيل و/ أو دفع ازدهارها الاقتصادي.


أما الصنف الذي يؤيد السلام لدوافع أخلاقية عالمية فقد بات صنفًا نادرًا، وهذا الصنف هو الذي لا يبحث عن ملاذ في حضن الوطنية العمياء والإجماع العابر.


وقال الناشط اليساري وسكرتير حركة "يوجد حد"، التي تدعو إلى رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي لأسباب ضميرية، الدكتور يشاي مينوحين، إنه "في أثناء الحرب التي يصاب فيها مدنيون يتعلق الناس بمشاعرهم الوطنية أكثر من تلك الكونية. لذلك فإنه في كل حرب وفي كل انتفاضة رأينا أن قسما كبيرا من اليسار يواجه صعوبة في التجنّد للنضال ضد الحرب والاحتلال ويستغرق وقتا أطول للتجند لهذا النضال. وحرب لبنان الثانية ليست مختلفة من هذه الناحية عن الحروب السابقة أو عن الاحتلال والانتفاضتين.


والمنظمات (الإسرائيلية) التي وضعت نصب أعينها قيما عالمية شاملة بصورة أوضح، مثل "تعايش" و"كتلة السلام" و"يوجد حد" و"اللجنة ضد هدم البيوت" و"مركز المعلومات البديلة"، تجندت على الفور للنضال ضد الحرب، لأن الحرب بدت لها منذ البداية غير مبررة وخاطئة من الناحية الأخلاقية وتتناقض مع القيم التي تؤمن بها. لكن منظمات يسارية أكثر رخاوة مثل "السلام الآن" ومثل أحزاب اليسار الصهيوني وبينها "ميرتس" استغرقت وقتا أطول للانضمام للنضال ضد الحرب انطلاقا من مقولة إنه عندما تدوي المدافع يتعين على الناس أن يلتزموا الصمت. ومرّ على الحرب شهر كامل قبل أن يخرجوا للتظاهر ضدها".


وأشار مينوحين إلى أنه "في فترة حرب لبنان الأولى (1982) مرّ شهر أو حتى أكثر قبل أن يبدأ اليسار الرخوي بالاحتجاج عليها، ومرت شهور قبل أن ينضم قسم من حزب العمل الذي كان في حينه في المعارضة إلى حملة الاحتجاج. وعموما هذا ما يميز أداء هذا اليسار بما في ذلك النضال ضد القمع العنيف للشعب الفلسطيني خلال الانتفاضتين".


يذكر أنه في اليوم الثاني عشر للحرب، اجتمعت الأمانة العامة لحركة "السلام الآن" اليسارية، التي قادت في الماضي تظاهرات ضخمة احتجاجاً على ممارسات الجيش الإسرائيلي سواء في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، لتبحث في الموقف المطلوب اتخاذه إزاء الحرب الدائرة. لكن الاجتماع شهد انقساماً وخلافات في الرأي أدت إلى عدم اتخاذ أي قرار "تفادياً لكسر الإجماع الإسرائيلي".


وكان لافتاً موقف الأمين العام للحركة، ياريف أوبنهايمر، الناشط الأبرز ضد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد قال أوبنهايمر إنه "ليس منطقياً أن نتظاهر الآن. هذا يمس بالدولة. نحن مهاجمون وكل من يتظاهر الآن إنما يدعم حزب الله".


ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت (25 يوليو / تموز 2006) عن أوبنهايمر أن "غريزة أي يساري تقوده إلى اتخاذ موقف معارض عندما يرى طائرة حربية في الجو. لا أحد منا يريد أن نعاود الدخول إلى لبنان، لذا يجدر بنا الانتظار. في هذه المرحلة، وبألم شديد كان القرار أن نجلس جانباً وألا نقوم بأي شيء".


وتشير الصحيفة إلى أن بعض جنرالات الاحتياط والسياسيين المحسوبين على معسكر اليسار، ينتقدون في صوت خافت الحكومة والجيش، لكن أحداً لا يجرؤ على إسماع صوته عالياً أو حتى توجيه السؤال إلى الحكومة وقادة الجيش: "إلى أين تقودوننا؟ وما الهدف من الحرب ومن سيدفع ثمنها في نهاية المطاف؟". ويبرر هؤلاء عجزهم بالادعاء أن أسئلة من هذا القبيل لا يمكن أن توجه طالما أن الحرب دائرة وفقاً لشعار "الآن يجب السكوت. هدوء... يطلقون النار... هدوء يُقتلون".


بناء على ما تقدّم في الإمكان القول إن مرض اليسار الإسرائيلي يكمن، في جانب ما، في إدارة ظهره كليًا للقيم العالمية المجرّدة.


ومن المثير، في هذا السياق، أن نلتفت إلى ما تقوله المؤرخة الإسرائيلية د. فانيا عوز، في عمق بحث جديد أنجزته بالمشاركة حول المحكمة الإسرائيلية العليا وحرية التعبير، في هذا الخصوص بشأن اتباع رئاسة القاضي أهارون باراك المنتهية ولايته لهذه المحكمة، التي تشكّل مدعاة لافتخار إسرائيليين كثيرين بمن فيهم أشخاص محسوبون على التيارات اليسارية والليبرالية، نهج إدارة ظهرها كاملاً لقيمة "كرامة الإنسان"، التي ميّزت بكيفية ما بعض من سبقوه في هذا المنصب "الرفيع المستوى"، وتمثلها (أي رئاسة باراك) النموذج القضائي الأميركي الذي لا يضع تلك القيمة في اعتباره ويستعيض عنها بقيمة حرية التعبير، مع فارق جوهري كبير، هو امتلاك المجتمع الأميركي تقاليد وثقافة حرية التعبير بما يجعله منيعًا أمام تغلغل ظواهر العنصرية، في حين أن المجتمع الإسرائيلي يفتقر إلى إدراك البعد العالمي لقيمة التعددية ويتمسك بقبلية هذه القيمة، التي تنهل من ثقافة التلمود والغيتو اليهودية.


كما سبق لعضو الكنيست الحالية من "ميرتس"، د. تسفيا غرينفيلد، أن أكدّت أن هناك حلقة معينة في الجدل العام في إسرائيل تعاني من الإهمال التام، وهي الحلقة التي يفترض أن تربط بين الهوية الثقافية اليهودية وبين الهوية العالمية والليبرالية. و"لقد نشأ وضع غير صحي وغير سليم يقرر الناس أو يختارون بموجبه إمّا أن يكونوا يهودا أو أن يكونوا ليبراليين، علمًا بأن هناك إمكانًا للربط بين الهويتين".
وتابعت: "أود أن أرى هذه الموضوعات، وفي مقدمها الطريقة الملائمة للربط والجسر بين الهوية اليهودية والهوية العالمية، وقد أصبحت مطروحة وتحظى باهتمام في جهاز التعليم الإسرائيلي الرسمي أيضا".


الردع الإسرائيلي إزاء عرب الداخل
لقد أمسى واضحًا أن أحد أهداف الحرب على غزة يتمثل في تحقيق غاية "ترميم قوة الردع" الإسرائيلية، التي تمّ ثقبها للمرة الأولى في تاريخها.


ولئن كان يراد لقوّة الردع هذه، في حال ترميمها، أن تبقى موجّهة نحو إيران وقوى المقاومة العربية، فإن قوّة ردع أخرى انفلتت في أثناء الحرب من أي عقال ضد المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل. وعلى ما يبدو فإن هذه القوة من المقدّر لها أن تتضاعف.


وبالإمكان التدليل على "الردع الإسرائيلي إزاء الداخل"-أي إزاء المواطنين العرب تحديدًا- من خلال حقيقة بسيطة مؤداها أنه فور شنّ الحرب وجد هؤلاء المواطنون العرب وممثلوهم المنتخبون أنفسهم تحت وابل من القصف المغرض غير المسبوق لحملة تحريض وشيطنة من جانب وزراء، أعضاء كنيست من اليمين و"اليسار" ومن إعلاميين على مختلف أنواعهم.


إن إيجاز مواقف ورؤى غالبية المواطنين العرب ومنتخبيهم من الحرب ومن هذه الحملة عليهم يندرج ضمن العناوين الرئيسة التالية:



  • تستهدف هذه الحملة جعل المواطنين العرب يعربون عن تأييدهم للحرب القذرة، أو على الأقل شجبهم للمقاومة، ثقافة وممارسة.
  • إن نطاق هذه الحملة، بما في ذلك العودة المكرورة إلى استعمال مصطلح "الطابور الخامس"، لا يدع مجالاً للشك في أن المفهوم السائد في إسرائيل إزاء المواطنين العرب هو أنهم "عدو داخلي"، كلما تسنح أمام الأكثرية اليهودية الفرصة لتفريغ غضبها وإحباطها من جراء النتائج الكئيبة لسياسة الحكومة.
  • أمّا بالنسبة للردع ذاته، باعتباره أحد "الكنوز الحديدية" من ناحية إسرائيل، فيمكن استخلاص بضعة دروس من هذه الحرب، وفق قراءة المواطنين العرب. لكن يستحيل عدم التشديد، ضمن ذلك، على درس يبدو شديد الأهمية في قراءتهم، مؤداه أنّ أي آلة عسكرية، مهما يتعاظم جبروتها، لا تستطيع أن تشكّل قوّة رادعة كبديل عن الاتفاقات السياسية التي تقرّ بحقوق الشعب العربي الفلسطيني وسائر شعوب المنطقة في الأرض والسيادة وباقي الحقوق الشرعية. وهذه الحرب أعطت برهان قاطعًا آخر على هذا الأمر.
  • أكّدت ردات الفعل من جانب غالبية المواطنين العرب أنه مهما يكن الأمر غير مستساغ للأذن الإسرائيلية وللروح الإسرائيلية التي استبطنت، على ما يبدو إلى درجة التصامم تجاه أصوات أخرى، مسألة تفوّق إسرائيل العسكري وقدرة هذا التفوّق على أن يجعل كل من يلجأ إلى المقاومة الشرعية ضده أن يركع ويزحف نحو الإملاءات الإسرائيلية، فإن هذه الحرب تفتح نافذة لفرصة جوهرية أخرى، فرصة التحرّر من وهم القوة العسكرية، الذي يواصل تضليل القادة وكذلك الأكثرية الساحقة من الرأي العام اليهودي في إسرائيل.

بوحي من هذا العوامل فحسب فإن الموقف الذي اتخذه المواطنون العرب في غالبيتهم الساحقة واتخذه ممثلوهم من هذه الحرب يتميّز بما يلي:
أ‌- معارضتهم بكل الحزم وإبداء مظاهر الاستفظاع والاحتجاج على جرائم الآلة الحربية الإسرائيلية؛
ب‌- رؤية الصمود الفلسطيني في غزة الغاية الأهم التي تستحق التدعيم، الآن وهنا، نظرًا لما تنطوي عليه من احتمالات فرض حقائق جديدة على التفكير والوعي الإسرائيليين.


___________________
كاتب فلسطيني- عكا.