السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية

تتعدد أوجه دعم تركيا للقضية الفلسطينية، بدأ بالجهود الدبلوماسية التي تعكسها مبادرات الخارجية التركية وصولا للدعم الشعبي الذي يجسده تضامن الشارع مع غزة


بولنت أراس 


تعتبر القضية الفلسطينية الآن قضية مركزية على المستويين الشعبي والرسمي في تركيا، حيث خرجت في هذا الشهر مظاهرات شارك فيها الآلاف من الشعب التركي في أنحاء مختلفة من البلاد، احتجاجا على العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة. ووصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان التصرف الإسرائيلي بأنه عدم احترام لتركيا، كما علق دور الوساطة التركية في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا.

وبادر من جهة أخرى بقيادة حملة دبلوماسية مكثفة على المستويين الإقليمي والدولي، مستخدما مقعد تركيا في مجلس الأمن، ومتسلحا بالموقف التركي الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس، وإلى ضرورة إيجاد حل وسط بين الطرفين المتصارعين.

ومن هنا ينبغي القول إن الحرب على قطاع غزة ستؤدي إلى آثار بعيدة المدى بالنسبة لمستقبل المنطقة، ومستقبل العلاقات التركية - الإسرائيلية.





الجديد هذه المرة أن أردوغان اعتبر الهجوم على قطاع غزة بمثابة ازدراء بتركيا، لأنه جاء بعد أربعة أيام من زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلى أنقرة

تركيا والقضية الفلسطينية


حمل رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان إسرائيل- شأنه في ذلك  شأن العديد من السياسيين- المسؤولية عن المأساة الإنسانية في غزة، وهذا الموقف قد لا يبدو استثنائيا، عندما نعلم أنه سبق لأردوغان أن انتقد إسرائيل بنفس الطريقة ردا على اعتداءاتها السابقة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

ولكن الجديد هذه المرة أن أردوغان اعتبر الهجوم على قطاع غزة بمثابة ازدراء بتركيا، لأنه جاء بعد أربعة أيام من زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلى أنقرة، لبحث الوساطة التركية في المحادثات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا، لهذا جاء الرد التركي في هذا السياق بتعليق الوساطة، وبتكثيف أردوغان لجولاته الدبلوماسية في الشرق الأوسط للبحث عن حل للوضع في غزة،  فزار كلا من الأردن وسوريا  ومصر والمملكة العربية السعودية، كما أجرى محادثات مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للغاية نفسها.

وهذا الرد والسلوك التركي إذا كان يدل على شيء، فإنه يدل على المستوى العالي الذي بلغه الانخراط التركي في متابعة القضية الفلسطينية.

والجدير بالذكر هنا أن صانعي السياسة الخارجية التركية قد اكتسبوا على مدى السنوات القليلة الماضية، المزيد من الثقة بالنفس والإرادة السياسية للعمل على إحلال السلام في المناطق المجاورة لهم، بل إن تركيا باتت تستضيف العديد من زعماء المنطقة والقادة الأوروبيين والآسيويين والأفارقة، فضلا عن شخصيات سياسية رسمية رفيعة المستوى من الدول الغربية، من أجل حل نزاعات متعددة  في مناطق مختلفة من العالم.

فصانعو السياسة التركية يبذلون جهودا مضنية لجعل تركيا تلعب دور الوسيط، من خلال البحث عن حلول للمشاكل الإقليمية المزمنة، كما يعملون على إيجاد مبادرات إقليمية لإحلال السلام، وحشد الجهات الإقليمية الفاعلة لخلق وعي جديد للسلام على مدى جغرافية واسعة تمتد من الشرق الأوسط إلى السهول الأوروبية الآسيوية.

وتعد هذا الرؤية السياسية  للدور التركي نمطا مثاليا، لذا يمكننا القول إن قيام تركيا بدور صانع السلام يعتبر ضرورة في مجال النظام الدولي، ويمثل التدخل التركي في القضية الفلسطينية جزء حاسما منها، أي من زاوية الرؤية التركية الواسعة للسلام الآنفة الذكر، بل وتحمل معها فيما يخص الحالة الفلسطينية أبعادا إضافية بسبب صلات وخلفيات تاريخية ثقافية غنية، وبسبب الدرجة العالية من  الاهتمام الذي تلقاه هذه القضية من عموم المجتمع التركي.







الموقف الرسمي
تحتل القضية الفلسطينية مكانا مركزيا في السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط،، وعلى الرغم من أن الموقف الذي تبنته تركيا مؤخرا يمثل خطا سياسيا جديدا لها في المنطقة، إلا أنه لا يعد جديدا بالنظر إلى الحساسية الخاصة التي كان يمتاز بها الموقف التركي تجاه هذه القضية.

فعلى سبيل المثال ردت تركيا بمواقف قاسية إزاء شروع إسرائيل ببناء وحدات سكنية يهودية شرق القدس عام 1967، ومن إطلاق النار في المسجد الأقصى عام 1969، ومن إعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل بموجب القانون الأساسي لعام 1980، حتى أنها كادت تقطع علاقاتها مع إسرائيل في مناسبات مختلفة.

وعلى العموم فإن الموقف الجديد لصانعي السياسة التركية، يفهم ضمن سياق تحمل تركيا مسؤولية خاصة إزاء القضية الفلسطينية، فضلا عن اعتبارها فرصة مناسبة لبناء دور تركي فعال في الشرق الأوسط، وقد حددت الإدارة التركية موقفها بنهج سياسي دقيق يسعى إلى ردع العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وإدانة الهجمات الفلسطينية على أهداف إسرائيلية، مع المحافظة على علاقات جيدة مع كل من إسرائيل والحكومة الفلسطينية الشرعية.

من المؤكد هنا أن التصور الجغرافي الجديد لتركيا قد أتاح لها لعب  دور قوي في الشرق الأوسط، حيث عبر صانعو السياسة التركية عن ذلك في العديد من تصريحاتهم، من ذلك وصف رئيس الوزراء السابق بولنت أجاويد عملية جنين في عام 2002 بأنها "إبادة جماعية"، كما أدان رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان اغتيال الشيخ أحمد ياسين في عام 2004، ووصف وقوع خسائر جسيمة في صفوف المدنيين في مخيم رفح للاجئين بأنه "إرهاب دولة".

وكمثال على اهتمام تركيا الجدي بقضية فلسطين، فقد أنشأت المكتب الفلسطيني لتنسيق التعاون الاقتصادي والاجتماعي، برئاسة السياسي المخضرم والوزير السابق فيبي دنسيرلر. كما ازداد اهتمام تركيا بفلسطين مع إنشاء فرع من الوكالة التركية للتعاون والتنمية (TIKA) في الضفة الغربية.

وخلال انسحاب حكومة شارون من غزة، عرضت تركيا التوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلا أن شارون رفض عرض وساطة تركيا، وبادر أردوغان في ذلك الوقت بعرض مساعدة الفلسطينيين في المجال الاقتصادي بعد إعادة الانتشار الإسرائيلي، وكان أفضل مثال على ذلك هو مبادرة اتحاد الغرف والتبادل التجاري في تركيا (TOBB) بإدارة منطقة صناعية على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة.

وكانت هذه المبادرة، "الصناعة لمبادرة السلام في فلسطين" هي مثال جديد للثقة بالنفس لدى الخارجية التركية وكبار رجال الأعمال تحت إطار التصور الجغرافي الجديد الذي يحتفل بالتجارة كأساس لسلام دائم في المنطقة، حيث يمكن لهذه المبادرة الملموسة أن تخلق أساسا للتعاون بين فلسطين وإسرائيل وتركيا.

كما وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس مشروع إيريز بكونه'' مبادرة  من شأنها أن تسهم في تحقيق السلام في المنطقة"، وعلى الرغم من تدمير الموقع الذي اعتزم اتحاد الغرف التجارية TOBB بناء منطقة صناعية فيه، في أجواء تصعيد الصراع في غزة في  أغسطس/ آب 2006.

إلا أن رئيس المنظمة، رفعت هيسارجيكلى أوغلو، أعلن عزمه على استثمار 100 مليون دولار أمريكي لإنشاء المشروع وتوظيف ستة آلاف فلسطيني بعد إعادة الاستقرار في المنطقة، وعقدت المنظمة الاجتماع الرابع لمنتدى أنقرة في 15 يناير/كانون الثاني 2007 في تل أبيب، لمناقشة الخطوات المستقبلية لإعادة إحياء مشروع منطقة إيريز الصناعية.

وقد أشار هيسارجيكلى أوغلو أن هذا المشروع هو المشروع الأهم  والوحيد المقترح على الطاولة من الناحية الاقتصادية، وأكد أن تركيا تعد أحد المساهمين في المشروع إلى جانب الفلسطينيين والإسرائيليين.

كما جاء في الإعلان المشترك الصادر عن الاجتماع الرابع لمنتدى أنقرة: "هذا المشروع يدخل مرحلة التنفيذ في أوائل 2007"، كما أعلن نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز تأييده للمشروع بقوله "ليس هناك وقت نضيعه، منطقة إيريز الصناعية ستكون مشروعا مفيدا لجميع الأطراف ذات الصلة". وعلى الرغم من تأخير إنجاز هذا المشروع جراء الوضع الأمني في غزة، إلا أن اتحاد الغرف التجارية TOBB يعتزم الوفاء بوعده ويتهيأ لمواصلة المشروع بعد الاستقرار في غزة.




نظرت تركيا لفوز حماس بطريقة مختلفة، وفضلت التعامل معها بدبلوماسية استباقا للمشاكل المحتملة، حيث قالت وزارة الشئون الخارجية "إن على جميع الأطراف المعنية أن تحترم نتيجة الانتخابات الديمقراطية
تركيا بعد فوز حماس
وعلى صعيد آخر افتتحت النتائج الانتخابية المحلية عام 2005 و التشريعية عهدا جديدا في القضية الفلسطينية بفوز حركة حماس بالأغلبية، وشكل رفض حماس التام لإسرائيل مصدر قلق رئيسي للمجتمع الدولي، وبدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مناقشة التدابير التي يمكن اتخاذها لدفع حماس للاعتراف بإسرائيل.

أما تركيا فقد نظرت لفوز حماس بطريقة مختلفة، وفضلت التعامل معها بدبلوماسية، استباقا للمشاكل المحتملة، حيث قالت وزارة الشئون الخارجية "أن على جميع الأطراف المعنية أن تحترم نتيجة الانتخابات الديمقراطية، وأن أي محاولة من جهات خارجية فاعلة لإضعاف النظام المنتخب حديثا بفرض تدابير اقتصادية ضد الإدارة الفلسطينية، ستكون ضد مبادئ الديمقراطية".

ووفقا لدوائر القرار التركية، فإن حماس كانت تبحث عن حلفاء في الشرق الأوسط لوضع حد لعمليات الحصار الاقتصادية والسياسية التي تواجها من النظام الدولي، وفي مثل هذا الوضع، وبدون تدخل تركيا، فسيكون مدخل حماس الوحيد والممكن للشرق الأوسط هو محور إيران - سوريا - حزب الله، ويؤكد هذا التصور دعوة الزعيم الديني الإيراني علي خامنئي قيادة حماس إلى طهران.

في خضم كل هذه التطورات، دعت وزارة الشئون الخارجية التركية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل لزيارة تركيا، وقوبلت هذه الزيارة النوعية بالانتقاد من قبل بعض الدوائر في الولايات المتحدة وإسرائيل، فرد عليها وزير الخارجية آنذاك عبد الله غول بالقول إنه ليس بإمكان تركيا أن تبقى في موقف المتفرج على المشكلة الفلسطينية في الوقت الذي لا تزال سجلات أراضيهم موجودة لدى تركيا، وأوضح غول أيضا في رد له على انتقادات لوزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، أن فريقه نصح حماس بنزع سلاحها، وبأن تصبح أكثر اعتدالا وتقبل بالدخول في مفاوضات دبلوماسية مع إسرائيل.

وعلى كل يؤكد تلقي حماس لدعوات من عدد من البلدان الأخرى، مثل روسيا وجنوب إفريقيا وفنزويلا وإيران، وتركيا أنها ليست الدولة الوحيدة التي نسجت صلات مع حكومة حماس المنتخبة، في حين استطاع النشاط الدبلوماسي التركي أن يؤثر ولو جزئيا على دول الاتحاد الأوروبي كي تستأنف تقديم المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين تحت حكم حماس.

وهكذا تعد دبلوماسية تركيا مع حماس تطورا جديدا، حيث لا يوجد مثال آخر على تدخل تركي يضاهي التدخل في القضية الفلسطينية بهذا المستوى من التعقيد، الذي ينطوي على تدخل في التحالفات الإقليمية والدبلوماسية في مواجهة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما تدخلت الدبلوماسية التركية في الاشتباكات التي وقعت بين حماس وفتح في قطاع غزة، لإقناع الجانبين بإنهاء الحرب الأهلية في الأراضي الفلسطينية.







الموقف التركي الشعبي
تعد القضية الفلسطينية قضية حساسة بالنسبة لشرائح كبيرة من المجتمع التركي، وهي من بين القضايا القليلة التي حملت الناخبين الأتراك للضغط على السياسيين لاتخاذ موقف في السياسة الخارجية.

فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في أكتوبر/ تشرين الأول 2000 أن 71% من الأتراك لديهم مصلحة في الشؤون الفلسطينية، و 60% طالبوا نيابة عن الشعب الفلسطيني بدور تركي أكثر فاعلية. كما أظهر استطلاع آخر للرأي أجري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2000  أن41% يؤيدون تسليم القدس للحكم الفلسطيني، واقترح 29 في المائة وضع القدس تحت إدارة الحكم الذاتي، بينما صوت اثنان في المائة فقط لصالح حكم إسرائيلي في القدس.

كما أظهر استطلاع أجري في تشرين الثاني/  نوفمبر 2003 شمل 2183 شخصا في أنحاء مختلفة من تركيا، لتقييم مواقف الشعب تجاه الفلسطينيين، أن 66% يؤيدون الفلسطينيين في كفاحهم. بينما أظهر 82%، في استطلاع آخر أجري في يوليو/ تموز 2000، دعمهم الشعبي لرئيس الوزراء أردوغان في توجيه اللوم لإسرائيل لمواصلتها ما أسماه بإرهاب الدولة. كما أعلنت شرائح مختلفة من المجتمع التركي، تراوحت بين الأحزاب السياسية واتحادات الطلابية، تكاتفها من أجل تقديم الدعم للفلسطينيين.

وفي أعقاب الهجوم الأخير على غزة، هرعت المنظمات التركية الرسمية والمدنية الخيرية إلى غزة مع قوافل المساعدات،كما أوصلت مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH) باعتبارها منظمة خيرية بارزة، المواد الغذائية والمعدات الطبية الضرورية إلى غزة، وأجرت الاستعدادات أيضا لنقل الفلسطينيين الجرحى إلى إسطنبول للعلاج.

فجوهر القضية الفلسطينية بالنسبة لمعظم الأتراك هو وضع (القدس) ومن سيسيطر على الأماكن المقدسة فيها، وقد ظلت هذه القضية حساسة في السياسة الخارجية التركية منذ فترة طويلة، وحظيت باهتمام كبير من المجتمع التركي.

وتشير الاحتجاجات التي جرت على نطاق واسع ضد التوسع الإسرائيلي والعنف في الأراضي الفلسطينية في مارس/ أذار، وأبريل/ نيسان 2002، إلى حساسية هذه القضية في المجتمع التركي. كما لاقت الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة احتجاجات على نطاق أوسع في أنحاء مختلفة من تركيا، وألغي احتفال كبير في إسطنبول عشية العام الجديد تضامنا مع غزة.

وتجمع عشرات الآلاف من الأشخاص احتجاجا على العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في الرابع من يناير/ كانون الثاني، وأذيعت هذه التظاهرة على التلفزيونات الفضائية العربية الكبرى، بما فيها قناة الجزيرة والعربية، وما زال الآلاف يحتجون ضد إسرائيل في مناطق مختلفة من تركيا.




تهدف دبلوماسية أردوغان النشطة إلى منع المزيد من المآسي في غزة، ويتزامن ذلك مع استئناف قبول تركيا بوصفها عضوا غير دائم في مجلس الأمن لمدة سنتين
دبلوماسية تركيا بعد مأساة غزة
بدأت تركيا حملة دبلوماسية مكثفة على الصعيدين الإقليمي والدولي لوضع حد لمأساة غزة، وزار رئيس الوزراء أردوغان عددا من الدول العربية الكبرى، وتحدث إلى الرئيس الفلسطيني عباس في الأيام الأولى من عام 2009، كما خاطب أردوغان المجتمع الدولي قبل زيارته لمصر، قائلا: "الفلسطينيون في قطاع غزة، إخوتنا، لا يمكن أن ينجوا من عزلتهم إلا عندما يرفع الحظر".

وأدرجت تركيا في موقفها إدخال حماس في العملية السياسية، وأراد أردوغان من وراء ذلك إقناع حماس بالعودة إلى وقف إطلاق النار في مقابل رفع الحصار عن غزة، لهذا طالب المسؤولون الأتراك حماس بإعلان وقف إطلاق النار والعمل من أجل تسوية سياسية تضم المجموعات السياسية المختلفة في الساحة الفلسطينية.

كما اجتمع أحمد داود أوغلو، كبير مستشاري السياسة الخارجية لأردوغان، مرتين مع خالد مشعل في سوريا، والأخيرة منهما جاءت استجابة لطلب الرئيس الفرنسي ساركوزي المساعدة من أردوغان. وقد سبق لتركيا في هذا الإطار، أن بدأت وساطة بين حماس والأطراف الدولية الفاعلة، مع الحفاظ على اتصالاتها العادية مع السلطة الفلسطينية المتمثلة في حركة فتح، وكذلك مع الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية.

وتهدف دبلوماسية أردوغان النشطة إلى منع المزيد من المآسي في غزة، ويتزامن ذلك مع استئناف قبول تركيا بوصفها عضوا غير دائم في مجلس الأمن لمدة سنتين. ورحب أردوغان بدعوة جامعة الدول العربية لحشد التأييد لاستصدار قرار لوقف إطلاق النار من مجلس الأمن، وأبدى استعداده للتعاون في هذه المبادرة.

وقد حضر وزير الشئون الخارجية على باباجان الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي في الثالث من يناير/ كانون الثانى2009. حيث دعا الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أكمل الدين إحسان أوغلو، لاتخاذ إجراء دولي عاجل لوضع حد للعدوان الإسرائيلي على غزة. كما أدان البيان الختامي لاجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي "الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية المستمرة على الشعب الفلسطيني في غزة".

وصعد أردوغان لهجته بوجه إسرائيل من المملكة العربية السعودية، حيث  قال: "إن حماس التزمت بالهدنة، لكن إسرائيل فشلت في رفع الحظر، ويبدو أن الشعب في غزة يعيش في سجن مفتوح، في الواقع أن فلسطين كلها تشبه سجنا مفتوحا، أنا أناشد العالم بأسره: لماذا لا تظهرون نفس الحساسية التي كنتم تظهرونها في جورجيا، الآن في غزة ؟ لقد حشدت الأمم المتحدة، والولايات المتحدة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لأجل جورجيا على الفور. ولكن الآن، لا أحد يتحرك لأجل قطاع غزة ".

وقد أدت ردود فعل أردوغان القوية إلى إجراء محادثة هاتفية بين الرئيس عبد الله جول ونظيره الإسرائيلي شيمون بيريز، فأصدر غول بيانا مكتوبا صدر بعد هذا الحوار، معربا عن قلقه للوضع السياسي والإنساني في غزة، مؤكدا على الحاجة إلى تقديم المعونة الإنسانية، والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار.

كما أعرب مجلس الأمن القومي التركي عن بالغ قلقه لوفاة أعداد كبيرة من الفلسطينيين في العملية الإسرائيلية في غزة، وأصدر بيانا خاصا  يدعو إلى وقف فوري للعمليات العسكرية، ورفع الحواجز التي تحول دون تسليم المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين في غزة، ويحث على النظر في الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل. كما أضاف البيان " أنه يتوجب على الفلسطينيين التوصل إلى حل وسط فيما بينهم في أقرب وقت" وقد عكس بيان مجلس الأمن القومي الاهتمام الواسع بشأن القضية الفلسطينية في تركيا.

وتتكون خطة تركيا للتعامل مع الوضع في غزة من مرحلتين:

1- المرحلة الأولى هي التوسط للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وتوفير رقابة دولية لحفظ السلام، بما في ذلك قوات عربية وتركية.

2- المرحلة الثانية تحقيق حل وسط بين  الفصائل الفلسطينية المتنازعة لتحقيق الاستقرار في السياسة الفلسطينية، وضمان الالتزام بالسلام.

وعلى العموم يمكن القول إن أردوغان يسعى إلى بناء جسور تواصل بين العرب لإيجاد موقف مشترك تجاه القضية الفلسطينية.

وقد أثنى عدد من الكتاب في كبرى الصحف العربيةعلى الأنشطة التركية في قضية غزة، وطالبوا أردوغان بتذكير القادة العرب أن القضية الفلسطينية قضية عربية في الأساس. ومن المرجح أن تستمر محاولات تركيا في الأمم المتحدة لتسليط المزيد من الاهتمام الدولي على المسألة الفلسطينية. كما ستبحث أيضا عن فرص لمناقشة هذه المسألة مع الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي.





يتوجب على أنقرة أن تنقل مأساة غزة إلى جدول أعمال الاتحاد الأوروبي بطريقة تعمل على إعادة النظر في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية

مسارات مطلوبة


تؤكد تحركات تركيا النشطة على المستويين الرسمي والمجتمعي ردا على المأساة في قطاع غزة، على تعزيز دورها الواضح بوصفها المروج للسلام في الشرق الأوسط، كما ستستمر المشاركة التركية في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، طالما استمر الدعم الديمقراطي والمجتمعي لأصحاب القرار في هذا الشأن قويا.

وفيما يلي بعض النقاط التي قد تساعد على تعجيل نتائج المحاولات التركية لحل القضية الفلسطينية:

1- ينبغي على تركيا البحث عن حوار دبلوماسي مع الولايات المتحدة للتأثير على موقف واشنطن تجاه القضية الفلسطينية وتغييره، فالرئيس المنتخب باراك أوباما أثار احتمال توسيع نطاق المحادثات مع مجموعات فلسطينية أكبر، ويجب على تركيا تمهيد الطريق لمشاركة الولايات المتحدة مجددا مع جميع الفصائل الفلسطينية.

2-المساعدات الإنسانية من المجتمع التركي إلى غزة في حاجة إلى تنسيق، وينبغي في هذا المجال إنشاء لجان مدنية للمساعدة في توصيل المواد المطلوبة إلى غزة بطريقة أكثر تنظيما.

3-يتوجب على أنقرة أن تنقل مأساة غزة إلى جدول أعمال الاتحاد الأوروبي بطريقة تعمل على إعادة النظر في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية.

4-ينبغي على تركيا أن تتعاون مع فرنسا وبريطانيا، مع العلم أن لهذه البلدان تجربة تاريخية واستراتيجية أكبر مع القضية الفلسطينية، والرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي يتبع خطى أردوغان في القوقاز والشرق الأوسط، وكذلك على تركيا أن تقود الدول الأوروبية الرئيسية الأخرى للاستمرار في التعاون لإيجاد حل للقضية الفلسطينية.

5-على الحكومة التركية أن تضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال البرلمان، حيث أعربت جميع المجموعات في البرلمان عن تأييدها للقضية الفلسطينية؛ وعليه، فإن اعتماد موقف رسمي موحد من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من النفوذ في البيئة الإقليمية والدولية.

6-القضية الفلسطينية هي قضية حساسة بالنسبة للشعب التركي بغض النظر عن الميول السياسية، وينبغي على السياسيين الأتراك معالجة مطالب المجتمع بشكل عام، مع الإبقاء على التوتر الداخلي في مستوى يمكن السيطرة عليه.

7- ينبغي الاستفادة من سنتي العضوية غير الدائمة لتركيا في مجلس الأمن الدولي، لوضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال الرأي العام العالمي، كما يمنح هذا المقعد غير الدائم لتركيا الفرصة لتكون أقرب إلى مختلف محافل الأمم المتحدة، وبالتالي الاضطلاع بدور أكثر نشاطا على مستوى الأمم المتحدة. لكن ثمة شرط أساسي لكي تستطيع تركيا التأثير في عمل الأمم المتحدة، ألا وهو الحصول على دعم قوي من الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

8-العلاقات التركية الإسرائيلية ستكون متوترة في الأجلين القصير والمتوسط، فقد انزعج المسؤولون الأتراك من تصرف إسرائيل غير المسؤول في هذه المرحلة من مبادرة المحادثات السورية - الإسرائيلية المباشرة. ونتج عن ذلك فقدان ثقة أنقرة بإسرائيل فيما يختص بجهود التفاوض في المستقبل. وبالمقابل فقد انتقدت إسرائيل الإدارة التركية لكونها "قاسية" بشكل لا داعي له تجاه الإجراءات الأمنية الإسرائيلية، ومن هنا ينبغي على أنقرة التأكد من أن إسرائيل لن تلحق أضرارا بالمحادثات والوساطة التركية في المنطقة مستقبلا.

9- على تركيا أن تكون على استعداد للمساعدة في إعادة إعمار غزة بعد تبلور تسوية ممكنة، وهناك حاجة لتنسيق الأنشطة، بما في ذلك إنشاء مؤسسات الدولة، والمنظمات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني والجامعات ومعاهد البحوث، وغير ذلك، للمساعدة في إغاثة الفلسطينيين وإعادة بناء قطاع غزة. ويجب على تركيا أيضا أن تدعو ألف طالب فلسطيني  للتعلم في تركيا للمساعدة على إعادة التأهيل لفترة ما بعد الحرب، ولتعزيز العلاقات بين الشعبين التركي والفلسطيني.

وفي الختام إن حصول تركيا على مقعد في مجلس الأمن يمثل إنجازا تاريخيا لسياسة تركيا الخارجية منذ عام 1961، حيث تكاتف السلك الدبلوماسي التركي في شتى أنحاء العالم والقادة السياسيون لتحقيق هذا الهدف منذ عام 2003. وقد سعت تركيا، في السنوات الأخيرة، لتوسيع سياستها الخارجية والوصول إلى أنحاء متفرقة من العالم، ليس فقط في المعايير النظرية ولكن من الناحية العملية أيضا، ويقدم نجاح تركيا الحالي مزيدا من التحديات والفرص معا. ففي خضم محاولتها للمساهمة في الأمن الدولي، ستواجه تركيا ضرورة تحويل سياستها الداخلية وفقا لحقائق ما بعد الحرب الباردة.

فسياسة تركيا في جلب الطرفين المتصارعين معا إلى أرضية التفاوض، وتهيئة مبادرة للتعاون والحوار بينهما، ستلاحظ كثيرا من الآن في الساحة السياسية الدولية.
_______________
أكاديمي تركي