ثغرات في قصة التنمية الهندية

هذه المقالة تتلمس الثغرات التي حدثت والأخطاء التي ارتكبت في مسيرة التنمية الهندية وانعكاسات ذلك على المواطن الهندي البسيط في القرى والأحياء الفقيرة وتداعيات ذلك كله مستقبلا إذا ما غُض الطرف عنها، وتوزعت عوائد التنمية بطريقة غير عادلة.







فقراء الهند يشتكون من ذهاب عوائد التنمية إلى الطبقتين الوسطى والغنية (الفرنسية-أشيف)


محمد ضياء الحق


من سمات ملاحم النصر الكبرى أنها تواري بقدر ما تكشف. لا نقصد أن هذه الملاحم لا تحكي الحقيقة، بل هي تحكيها، لكن دون أن تكشف من الحقيقة سوى النصف، أو الربع. ولأن رواية الملحمة عادة ما تأتي من مصدر "رسمي" فإنها تكون مدعمة بقوة الدولة ونخبة السياسة والمال، ووسائل الإعلام المملوكة لجماعات المصلحة. وقصة نجاح الهند هي واحدة من تلك القصص الكبرى التي اعتمدتها الدولة، ومررتها، وصادقت عليها، ثم باركتها النخبة الهندية.


قليل من الشعور بالرضا 
درجات الحرمان 
لغز خط الفقر 
بين سوء التغذية وقتل الأجنة 
ويبقى الأمل


السؤال الآن هو ماذا جرى للنصف الآخر المنسي من قصةنجاح الهند؟ الواضح أن السلطة القائمة تعمل على دس هذا النصف المعتم تحت البساط، أو إخفائه في حاوية صلبة مدسوسة داخل جدار يزيد سمكه عن خمسة أقدام ويوارى تحت الأرض بنحو ميل، على نحو ما يتم مع المخلفات النووية. وتعتقد السلطة أنها، بذلك، قد تخلصت من النفايات السامة، لكنها لا تدرك أن هناك تسربا إشعاعيا يصعد نحو سطح الأرض ويلوث البيئة بحكم قانون التدفق الطبيعي. 


يدرك العاملون في الحقل الإعلامي أنه ليس بوسعهم قول الحقيقة كاملة، أو عرضها بكامل أطيافها، بل يقدمون زاوية بعينها من زوايا الرؤية، لا تتجاوز هذه الزاوية عادة 20 درجة من إجمالي ال180 درجة من الحقيقة الكاملة. ويمكننا، على سبيل المثال، إدراك الفروقا ت بين  هذه الزوايا من خلال مراجعة الخطاب الإعلامي لصحيفة التايمز اللندنية (ذات توجه يمين الوسط) بخطاب مجلة نيو ستيتسمان (اليسارية). ولعله يكفينا في هذا الاستشهاد بما أسماه نعوم تشومسكي بالحقيقة النمطية(1).


ومن المعلوم في صناعة الإعلام أن كبار المعلنين (أصحاب شركات بيع السيارات الفارهة، والساعات الثمينة، والرحلات السياحية الفاخرة، والعقارات الجديدة، ومصممو الأزياء) لن يعلنوا عن مثل هذه السلع في صحف تناقش قضايا الجوع في الولايات الهندية مثل أوريسا في الشرق أو تشاتيسجاره في وسط البلاد، أو تناقش الموت جوعا في ولاية جارخند ( والتي يعني اسمها حرفيا "أرض المروج" وتسكنها جماعات قبلية).






منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين شهدت الهند نموا في إجمالي الناتج المحلي تراوح بين 5 إلى 6 % ووصل في تسعينيات ذلك القرن إلى 9 %ورغم ذلك فهناك تفاوت في الدخل تزايد سواء بين الأقاليم الهندية فيما بينها أو داخل كل إقليم على حدة



ولن نجد واحدا من المعلنين الكبار يدفع أموالا لتمويل مثل هذه القضايا التي ستفسد مزاج القارئ فينصرف عن شراء ساعة رولكس ذهبية مطعمة بفصوص من الماس يكفي ثمنها لإطعام أسرة من الأسر في قرية نائية لعدة سنوات متواصلة.


والحقيقة أن قصة الجوع في حد ذاتها لن تفسد مزاج القارئ فتصرفه عن شراء ساعة أو قضاء رحلة على خطوط طيران فارهة، بل السبب ببساطة هو أن المعلن لن ينتظر مكسبا من خلال الإعلان في مثل هذه المطبوعة، لأن جمهور هذه المطبوعة (المهموم بالفقر والجوع) ليس من تلك الشريحة التي يستهدفها المعلنون.


والملاحظ أن الإعلام المطبوع والإليكتروني في الهند يتسم بنمو متسارع الخطى. وفي هذا الإعلام ثمة توجه، بطريقة شبه إلزامية وفي صورة عقد غير مكتوب، لترويج شعارات رسمية على شاكلة: "الهند تشرق من جديد"، والهند على "أهبة الاستعداد للانطلاق"، أو"فليطمئن الجميع".


وقد تعاطت النخبة في الهند بسعادة بالغة مع هذه الشعارات خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2004، لدرجة أن قادة التحالف الحاكم آنذاك، والمعروف باسم التحالف الوطني الديموقراطي(2)، قد أطلقوا على انتخابات تلك الفترة اسم "انتخابات الشعور بالسعادة" في "الهند التي تشرق من جديد" وذلك على نحو ما عبرت عنه الملصقات الانتخابية التي تم نشرها في كافة أرجاء المناطق الحضرية. لقد بدا التحالف الوطني الديموقراطي آنذاك معتدا للغاية بالهند التي تشرق من جديد وبالهنود الذين يشعرون بالسعاة.


ويبدو أن من نحت هذه الكلمات في التحالف الوطني الديموقراطي قد شعر بالسعادة لقدرته على صك شعارات باللغة الإنجليزية، تم الترويج لها بين مواطنين معظمهم لا يعرف هذه اللغة أو لديه في أحسن الأحوال إطلاع محدود عليها. وحققت الصحف والمجلات أرباحا كبيرة لتلقيها إعلانات ضخمة تحمل هذه الشعارات، المنافية للمنطق، والتي تم توزيعها في كل أرجاء الهند.


ومن المعروف أن الصحافة الهندية تتمتع بنفس الحرية التي تتمتع بها صحافة أية ديمقراطية عريقة. ولم يجبر أي صحفي هندي على ترديد تلك الشعارات التي روجت لها حملة انتخابات التحالف الوطني الديموقراطي، لا في الأعمدة اليومية أو الأسبوعية ولا في المقالات التحريرية. لكن الصحافة عادة ما تنتهي إلى حالة من الدوران حول الذات، فتفشل في تقدير مزاج الأغلبية الصامتة من الشعب الهندي التي تكافح في صراع مع الحياة في الأحياء القذرة والعشوائية في المدن والقرى.


وإذا كان يعنيك زيارة البيوت العشوائية القذرة في المدن والقرى الممتدة على طول الطرق الرئيسية التي تقطع البلاد طولا وعرضا، سيداخلك شعور أن هؤلاء الناس البسطاء غير سعداء وغير راضين، على خلاف ما تشير إليه تلك التوقعات السياسية بمستقبل مشرق. فالكتاب الذين يمتلكون حسا واعيا واستشعارًا بالمستقبل نبهوا بالفعل إلى خطورة "الصمت المشئوم للناخبين".


وبعد ما يزيد عن خمسة عقود ونصف (1947-2004) من ترسيخ الديموقراطية في الهند، مارس خلالها الناخبون قدرتهم على تحديد مصير من يصل إلى الحكم من الأحزاب والقيادات السياسية، جاء الوقت من جديد في انتخابات 2004 ليقول الشعب كلمته. وحال ما بدأت نتائج الاقتراع تصل إلى أولئك الرجال المرموقين الجالسين في "قاعات الحرب" (وهو مصطلح آخر مناف للعقل استعاره مهندسو الحملات الانتخابية في دلهي من القاموس الانتخابي للبيت الأبيض) كانت النتيجة صادمة ومذهلة. فالناس الذين لم يجدوا شيئا يسرهم في الهند التي يعيشون فيها ويتنفسون هواءها، ولم يقتنعوا بأن ثمة شمس للرخاء تشرق في الهند، قرروا قول كلمتهم الحاسمة. وبطبيعة الحال، لقن الناخبون مهندسي الحملات الانتخابية في التحالف الوطني الديموقراطي درسا قاسيا، وصوتوا لحزب المؤتمر(3).


قليل من الشعور بالرضا


ليس بوسعك أن تأمر الناس في الهند أن يشعروا بالسعادة بينما هم لا يحصلون عل الحد الأدنى اللازم لبقاء الإنسان على قيد الحياة والمقدر بـ 1600 سعرة حرارية ( حتى ولو من الكربوهيدرات الرخيصة وليس من البروتينات أو المواد المغذية الغنية بالفيتامينات والمعادن) ولا يحصلون سوى على أدوية من زمن الحرب العالمية الأولى، مثل الكينين، والأسبرين، والأيودين.





لعل المزارعين الهنود هم أكثر الفئات السكانية التي لا تشعر بالسعادة. فهم يكافحون من أجل إنتاج الطعام للبلاد، طعام يعتمد عليه أولئك الذين يشعرون بحيرة اتخاذ قرار المفاضلة بين شراء سيارة "رولز رويس" أو "بي إم دبليو"
زد على هذا أن ثلث الشعب الهندي يعيش في مساكن لا تظللها أسقف قادرة على حمايتهم من زخات المطر، وليست لديهم ملابس تقيهم برد الشتاء وليس بوسعهم إلحاق أبنائهم بمدارس متوسطة الحال (فالمدارس المزودة بسبورات ومقاعد تعد من أشكال الدعة والرفاهية في الريف الهندي). لن يكون بوسعك إذن أن تكره الناس على الشعور بالرضا خاصة إذا كان كل ما حولهم لا يدفعهم إلى ذلك. لكن رغم كل هذا، تبقى الهند دولة ديموقراطية!

لا يشكك أحد في بيانات التنمية الخاصة بالهند، فتقرير التنمية البشرية لجنوب آسيا الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2007 يؤكد أنه "منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين شهدت الهند نموا في إجمالي الناتج المحلي تراوح بين 5 إلى 6 % ووصل في تسعينيات ذلك القرن إلى 9 %".


ثم يمضي هذا التقرير فيشير إلى "تناقص معدل الفقر في كل من المناطق الحضرية والريفية منذ عام 1993-1994، غير أن التفاوت في الدخل تزايد سواء بين الأقاليم الهندية فيما بينها أو داخل كل إقليم على حدة بين مختلف الفئات الاجتماعية - الاقتصادية.


وبطبيعة الحال، فإن سكان الهند، ممن وقعوا في مصيدة العوز، لن يشعروا بالرضا حتى لو كانت مؤشرات النمو الاقتصادي ذات اتجاه إيجابي.


ولعل المزارعين هم أكثر الفئات السكانية التي لا تشعر بالسعادة. فهم يكافحون من أجل إنتاج الطعام للبلاد، طعام يعتمد عليه أولئك الذين يشعرون بحيرة اتخاذ قرار المفاضلة بين شراء سيارة "رولز رويس" أو "بي إم دبليو"، أو المفاضلة بين قضاء العطلة على سواحل الريفيرا الفرنسية أو شواطئ ماليبو في كاليفورنيا.


إن أولئك الفلاحين ممن ينتجون معظم الطعام الذي نعتمد عليه في حياتنا يعانون من عوز بائس لا يجدون معه مغزى من لاستمرار على قيد الحياة، فيقتلون أنفسهم. وفي هذا تشير اللجنة القومية لسجلات الجريمة إلى أنه ما بين عامي 1995 و 2007 انتحر أكثر من 184.000 مزارع هربا من الفاقة والعوز.


لم يستطع هؤلاء المزارعون تسديد الديون التي اضطروا إلى اقتراضها من أجل شراء المخصبات والمبيدات والوقود لتسيير ماكينات الحرث ومضخات رفع المياه. ولأنهم عاجزون عن شراء تلك الآلات الزراعية فإنهم يضطرون إلى تأجيرها من أجل حرث وري الأرض.


وتضيف مثل هذه الضغوط المالية أعباء جسيمة على كاهل المزارعين تقدر في المتوسط بألفي دولار سنويا لكل مزارع. ويضطر هؤلاء المزارعون إلى الاقتراض من المرابين الكبار، لكنهم لا يستطيعون سداد الديون كاملة.


وتبقى الطريقة الوحيدة هي التخلص من الحياة بالانتحار. لم تكن القروض البنكية لتحل المشكلة، فالفوائد الربحية لهذه البنوك، حتى في حدها المتوسط، أكبر من طاقة هؤلاء المزارعين على السداد.


وقد ساهم كل ما سبق في تكوين طبقة اجتماعية جديدة تعرف باسم الفلاحين الأطفال، على نحو ما يشيراليه تقرير لوكالة الأنباء المحلية (IPS) في 10 يونيو/حزيران 2009. ففي المناطق التي تسجل فيها حالات انتحار عالية تتجه الأرامل الشابات إلى تربية الأبناء في ظروف من الحرمان الشديد ويسيطر عليهن شبح مستقبل كالح مفزع.


في هذه الأجواء يجد الصبية المراهقون وأطفال ما قبل المراهقة أنفسهم مجبرين على ترك المدرسة والعمل كمزارعين صغار، يلبسون أحذية آبائهم المنتحرين. ولأنهم بدون خبرة زراعية، وليست لديهم القوة العضلية لإنجاز هذه الأعمال الشاقة، فمن المتوقع ألا يختلف مصيرهم عن مصير آباءهم كثيرا.


وحسب القول المأثور، فإن اليأس والقنوط ينتقلان بالعدوى من الأب لأبنه، ولذلك عادة ما يكون مصير الابن الذي انتحر أبوه ( أو الأخ الذي انتحر أخوه) هو التخلص من الحياة بنفس الطريقة. وتحيل تقارير وكالة الأنباء المحلية على رأي طبيب نفسي يؤكد أن الأطفال الذين فقدوا طفولتهم مع موت آبائهم عادة ما يحملون مخاوف نفسية لا يتم الشفاء منها في الأمد القريب.


وليس لدى هؤلاء الأطفال وقت للحزن، إذ سرعان ما يخطون خطواتهم الأولى لشغل مكان الأب الراحل، حاملين على عاتقهم مسؤولية إطعام الأمهات والأخوة، وجمع وادخار المال لتجهيز الأخت للزواج (عادة ما ينتحر الفلاحون حين لا يمتلكون مالا لتجهيز بناتهم للزواج).


وللوفاء بهذه الالتزامات نادرًا مايتبقى لديهم مال لدفع ديون آبائهم. لأن زواج البنت في الهند قد يستنزف مدخرات عمر بأكمله. ولو كنت مزارعا صغيرا أو متوسط الحال ولديك ثلاث أو أربع بنات فربما أغراك قتل النفس للتخلص من تلك الأعباء الجسيمة. وعادة ما تُقدم البنات (خاصة إذا اقتربن من سن الزواج) على قتل أنفسهن والانتحار بشكل جماعي لحماية الآباء من عبء الديون.


قد تظهر مثل هذه القصص في الصحف على فترات متباعدة، ففي ظل ضغوط متواصلة من قبل التلفاز والإنترنت فإن الصحافة المطبوعة تفضل إهمال هذه الموضوعات ولا تقدم على عرضها إلا حين تصبح من الوضوح والانتشار بدرجة يصعب تجاهلها.


ففي وقت ما من عام 2007 ، حين صار الأمن الغذائي في الهند في خطر، اعترف فير سانغفي، الكاتب الصحفي المرموق وصاحب العمود الشهير في صحيفة هندوستان تايمز، بأنه أثناء الاحتفاء المحموم بـ"الهند التي تشرق من جديد" تجاهلت دور النشر الكبرى عن عمد قضايا انتحار الفلاحين، كما تجاهلت الآلام والمحن التي واجهت المجتمعات الزراعية.


واليوم، وفي ظل ما تواجهه الهند من احتمال تعرض البلاد لأزمة في المخزون الغذائي من الحبوب، يجب إلقاء الضوء على تلك الأزمات التي تعانيها المجتمعات الزراعية، الذي اعتادت بعض وسائل الإعلام غض الطرف عنها.


درجات الحرمان


بينما تتقدم الهند قدما لتحتل مكانة القوة العظمى في السنوات المقبلة، تبقى في ذات الوقت وطنا لأكبر عدد من فقراء العالم. وتتباين درجات الحرمان بالنسبة للطعام، أو السكن أو التعليم أو الرعاية الطبية. كما تتفاوت الأرقام تفاوتا كبيرا تبعا للمنهج والمنظور المتبع في البحث، ومع ذلك فإن أكثر القراءات تفاؤلا تقدم بيانات بالغة في الإحباط.





بينما تتقدم الهند لتحتل مكانة القوة العظمى في السنوات المقبلة، تبقى في ذات الوقت وطنا لأكبر عدد من فقراء العالم. وتتباين درجات الحرمان بالنسبة للطعام، أو السكن أو التعليم أو الرعاية الصحية. كما تتفاوت الأرقام تفاوتا كبيرا تبعا للمنهج والمنظور المتبع في البحث
فعلى نحو ما يشير إليه أحد التقارير الحديثة التي أعدها صندوق نافدانيا، وهو منظمة مرموقة تعمل في مجال الأمن الغذائي، فإن "ربع المواطنين في الهند جوعى". وقد استشهد موقع بي بي سي الناطق بالهندية على الإنترنت بهذه المعلومة جاعلا إياها عنوانا رئيسيا له (بتاريخ 31 يوليو/تموز 2009). 

وتدير هذا الصندوق فاندانا شيفا، وهي ناشطة مرموقة، مشهورة عالميا بمواقفها الجادة والملتزمة. ويستشهد تقرير بي بي سي بحديث لشيفا تؤكد فيه أنه "بينما تحتفي النخبة الحاكمة والطبقات العليا بارتفاع معدل الناتج المحلي فإن النصيب السنوي من الغذاء لـ"الفرد العادي" تناقص بمقدار 34 كجم. وتشير شيفا إلى أنه في عام 1991 كان المتوسط السنوي لنصيب الفرد من الطعام قد بلغ 186 كجم بينما لم يزد في عام 2001 عن 152 كجم.


وبحسب شيفا فإن نحو 210 مليون هندي مواطنون جائعون. وهناك درجات من الجوع، فمعظم أولئك الذين يعانون من الجوع لن يسقطوا موتا في القريب، لكن هناك القلة من هؤلاء سيسقطون موتى خاصة في منطقة القبائل. وقد تظهر بعض حالات الموت جوعا في الصحافة على فترات متباعدة، لكنها لا تصل مطلقا إلى قنوات التلفزة. وقد قدمت الصحيفة الأسبوعية تيهيلكا Tehelka، والصادرة باللغة الإنجليزية، عددا من التقارير ناقش من خلالها بعض المختصين جدوى ومآل التطورات الاقتصادية التي تشهدها الهند.


وتتصاعد الآن أسئلة على شاكلة "من المستفيد من التنمية؟". وعلى نحو ما يشير فيديا بوشان راوات، الناشط في مجال حق المرء في التغذية، فإننا نعلم أن كلمة "الثقافة" كانت المفردة التي تشدق بها الفاشيون، لكن ما لا نعلمه أن "التنمية" هي الكلمة التي يتشدق بها الرجال الأشداء في الحكم في الهند اليوم.


ويستشعر راوات شرا مستترا في الطريقة التي تم بها اختراع قصة التنمية في الهند، وفي ذلك يؤكد على أنه "من المسلم به أن الفقراء لا يعنون أحدا، ولا مكان لهم تحت الشمس، ولا تشغل آلامهم أحدا. وإذا أردت أن تعرف قصة التنمية الحقيقية في الهند فعليك بالتوجه إلى الريف، وهناك ستجد أن الأمر كله خدعة كبرى". 


ويلفت راوات الانتباه إلى أن أطرافا عدة تشارك في هذه الخدعة وفي مقدمتها الولايات المتحدة والبنك الدولي، على نحو ما يشير جون بيركنز في كتابه "اعترافات قرصان اقتصاد"(4)، الذي يصف فيه كيف تتم المبالغة في منجزات التنمية بالدول النامية كي تظهر أكبر من حجمها الحقيقي.


لغز خط الفقر





من المسلم به أن الفقراء لا يعنون أحدا، ولا مكان لهم تحت الشمس، ولا تشغل آلامهم أحدا. وإذا أردت أن تعرف قصة التنمية الحقيقية في الهند فعليك بالتوجه إلى الريف، وهناك ستجد أن الأمر كله خدعة كبرى
ثمة اليوم خلط في الهند يشوب تحديد "خط الفقر". فالفقر هنا يعرف بطريقة تختلف عن المعايير العالمية التي تجعل الفقير ذلك الشخص الذي يعيش على أقل من دولارين يوميا. ولعقود مضت كان الفقير في الهند هو ذلك المرء الذي يعيش على ما يعادل أقل من 1800 سعرة حرارية من الغذاء في المناطق الريفية ، أو أقل من 1600 سعرة حرارية من الطعام في المناطق الحضرية. ولم يكن مهما في هذا التحديد أن يحصل الفرد على هذه القيم من أطعمة مؤلفة من عناصر كربوهيدراتية، فهذه اعتبارات لا تلقى اهتماما من أحد.

وقد حددت لجنة تخطيط الهند، وهي هيئة معنية بقضايا الفقر، أن 28 % من الهنود يعيشون دون خط الفقر. وهذه هي الفئة التي تعترف بها الدولة رسميا. وبفضل الديمقراطية تقدم الدولة قدرا من المساعدات لهؤلاء الفقراء في صورة طعام أو مأوى.


وقد صاغت المسوح الميدانية التي تجريها اللجنة الوزارية لتنمية المناطق الريفية المعنية بخط الفقر معيارا جديدا لتحديد أولئك الذين يعيشون دون خط الفقر في الهند. وتوصلت تلك اللجنة إلى أن السكان الذين يعيشون دون خط الفقر هم أولئك الذين ينفقون على الطعام أقل من 700 روبية شهريا (14.5 دولارا) في المناطق الريفية و1000 روبية (21 دولارا) في المناطق الحضرية.


أما لجنة تخطيط الهند فقد حددت معيارا يجعل من يعيش دون خط الفقر هو ذلك الشخص الذي ينفق على الطعام 356 روبية (7.5 دولار ) شهريا في المناطق الريفية و 395 روبية (8 دولارات) في المناطق الحضرية. واستنادا على هذا المعيار الجديد فإن نصف سكان الهند يعيشون دون خط الفقر.


بالتأكيد يجب أن تؤخذ مثل هذه المعطيات بعين الاعتبار عند الحديث عن صورة الهند التي تتجه نحو احتلال مكانة قوة كبرى في العقد المقبل. فقصة نمو الهند قد تجاهلت القضايا الأساسية المتعلقة بالطعام والمسكن والمساواة أمام القانون والحياة الكريمة للمرأة والطفل، فضلا عن التمييز ضد المرأة.


بين سوء التغذية وقتل الأجنة


يشير تقرير حديث لمنظمة اليونيسيف إلى أنه من بين 146 مليون طفل دون سن الخامسة ممن يعانون في العالم النامي من سوء التغذية ونقص الوزن هناك 57 مليون منهم في الهند وحدها (بنسبة 39 %). وتؤكد فادانا شيفا أن عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في الهند يفوق عدد كل الأطفال الذين يعانون من هذه المشكلة في إفريقيا جنوب الصحراء.


ويشير المسئولون في اليونيسيف إلى أن أحد أسباب ذلك يعود إلى ضعف صحة المرأة وتخلف وضعيتها. فنصف عدد الذين يعانون من سوء التغذية في العالم يتركز في جنوب آسيا، حيث يموت، سنويا، في هذا الإقليم وحده5.6   مليون طفل، وهو رقم يزيد عن نصف إجمالي وفيات سوء التغذية على مستوى العالم.


ويعاني نحو 47 % من أطفال الهند دون سن الخامسة من نقص في الوزن قياسا بالمعدل الطبيعي. وعلى نحو ما يشير تقرير للبي بي سي ( بتاريخ 1 مايو/أيار 2006 ) ونقلا عن المدير التنفيذي لليونيسيف فإن "هناك القليل من العوامل التي تعادل التغذية أهمية في تحديد قدرة الطفل على البقاء على قيد الحياة، والتعلم على نحو فعال،  والهروب من حياة الفقر" وتكمل المدير التنفيذي لليونيسيف حديثها محذرة من أن "الأرقام لا تخبرنا بالحقيقة كاملة، فخلف كل طفل يعاني من سوء التغذية هناك أطفال أكثر يصارعون مع أزمة تغذية أخرى مختفية عن الأعين".


وتشير شيفا إلى أن أعداد الذين يعانون من الجوع في تزايد بينما تشير التقارير إلى أن معدل النمو الاقتصادي في الهند بلغ 9 % ولعل في هذا علاقة عكسية بين "التنمية" ودرجة توفر الغذاء للمواطن الهندي.


صحيح أن الأمور ليست بأحسن حال لدى دول الجوار في باكستان ونيبال وبنجلاديش، لكن الأمر يبدو أكثر صعوبة في الهند نتيجة ضخامة عدد السكان المتضورين جوعا. فالارتفاع المفرط في نفقات التسلح بين الهند وباكستان فاقم من مشكلة الجوع في البلدين نتيجة تبديد جزء مهم من ميزانية الدولة في شراء التقنيات العسكرية الحديثة، وهي أموال كفيلة بحل مشكلة الجوع في البلدين.


ومن زاوية أخرى لم تستفد أكثر نساء الهند من ارتفاع معدل النمو الاقتصادي، ويمكن الاستدلال على ذلك من انخفاض نسبة الجنوسة في الدولة (نسبة النساء للرجال) خاصة في الأقاليم الشمالية والوسطى من البلاد. وفي حديث له مع صحيفة "ذي هندو The Hindu " يشير ساثاسيفان، قاضي المحكمة العليا في الهند، إلى أنه "في عام 1990 كانت النساء في الهند أقل عددا من الرجال بنحو 25 مليون نسمة، بينما في عام 2001 ارتفع الفارق إلى 35 مليون نسمة، وقد يصل في السنوات المقبلة إلى 50 مليون". 


وتستشهد صحيفة "ذي هندو" بأربعة من قضاة محكمة مدراس العليا الذين أكدوا على أن " الفتيات يمثلن 75 % ممن يعانون سوء التغذية في الهند، وخلال العقدين الماضيين مات أكثر من ستة ملايين من الأجنة الإناث. كما يموت كل عام أعداد من الإناث اكبر أعداد الذكور بنحو 300.000 نسمة وذلك في الفئة العمرية من 1 إلى 6 سنوات، كما يموت نحو 25 % من الفتيات قبل بلوغ سن الخامسة عشرة".


ويشير رافيندران، أحد قضاة المحكمة العليا، إلى أنه " لدينا الكثير من القوانين وعدد وافر من القضاة من أجل الحيلولة دون التمييز ضد المرأة والطفل، مثل الإجهاض على أساس النوع (تفضيل الذكور على الإناث) وعمالة الأطفال، والاستغلال الجنسي، والعنف المنزلي، وغلاء المهور. لكن لسوء الحظ لا يتم تطبيق هذه القوانين بشكل فعال، ويعود السبب في ذلك إلى أن التمييز ضد المرأة متجذر في ثقافة الطبقة العليا في البلاد والتي تفضل الذكور على الإناث". 





كما أن لدى الديموقراطية بشكل عام القدرة على تصحيح نفسها، فإن لدى المؤسسات الديموقراطية في الهند، بالمثل، القدرة على تعيين المشكلات، سواء في المدى المنظور أو البعيد وإيجاد السبل لحلها
ويتضح التمييز المتعسف ضد المرأة من خلال التناقص المستمر لنسبة الإناث أمام الرجال. ففي 2007 أجريت دراسة على عينة من 6500 من الأسر في خمس مناطق من خمس ولايات من تلك الولايات المعروفة بقتلها الأجنة الإناث قبل ميلادها، وغيرها من الممارسات الإجرامية التي تهدف إلى الإبقاء على نسبة منخفضة للإناث.

وقد أظهرت نتائج هذه الدراسة  "وجود 300 أنثى في مقابل 1000 ذكر، وذلك بين عائلات الطبقة الهندوسية العليا في المناطق الحضرية بمنطقة "فاتحجاره صاحب" بولاية البنجاب ".


وقد وصفت ماري جون، الباحثة في مركز دراسات تنمية المرأة  في نيو دلهي، النتائج الأولية لهذه الدراسة بأنها "كارثية" (على نحو ما يشير تقرير لوكالة رويترز على الإنترنت بتاريخ 13 ديسمبر/كانون الأول 2007).


وفي مقال لها بصحيفة "ذي هندو" (نشر على موقع الصحيفة على الإنترنت في ديسمبر/كانون الأول 2007) تشير "آرتي ضار" إلى أنه " في عام 2005 بلغ عدد الإناث في ولاية البنجاب 527 أنثى لكل ألف من الذكور، بعدما كانت النسبة 754 أنثى لكل ألف من الذكور في العام 2001".


وتشير "ضار" إلى أن الفئة العمرية الأحدث (من الميلاد إلى عمر ست سنوات) تبلغ نسبة الجنوسة فيها 842 أنثى لكل ألف من الذكور وذلك في منطقة مورينا بولاية ماديا براديش، بينما تصل هذه النسبة إلى 815 أنثى لكل ألف من الذكور في الفئة العمرية من سن الميلاد إلى عمر 14 سنة".


وبالمثل لا تقل الأوضاع سوءا في ولايات مثل راجستان وهيماتشال براديش وهريانا. وإجمالا يتسم معدل الجنوسة العام في الهند بانحراف شديد. ومن ثم فإن مجتمعا يعتبر المرأة عدوا يجب التخلص منه لا يحق له الإدعاء بأنه مجتمع متقدم.


ويبقى الأمل


من بين كل صور الأسى وأشكال الحرمان السابق ذكرها، ثمة سبب يدعو إلى البسمة ألا وهو الديموقراطية. فالديموقراطية في الهند آخذة في الاتساع بثبات، ولو ببطء. وحتى لو كانت ديموقراطية الهند معيبة للغاية ( لدى فريد زكريا، رئيس تحرير النيوزويك، أسباب وجيهة لوصف ديموقراطية الهند بأنها "ديموقراطية النهب والسلب")  لكنها في النهاية تتفوق على أفضل نظم الاستبداد.


وكما أن لدى الديموقراطية بشكل عام القدرة على تصحيح نفسها، فإن لدى المؤسسات الديموقراطية في الهند، بالمثل، القدرة على تعيين المشكلات، سواء في المدى المنظور أو البعيد وإيجاد السبل لحلها.


ففي الهند منظمات مجتمع مدني نابضة بالحياة، تدرك بشكل تدريجي حقيقة الوضع الذي نعيشه. وكي نتغلب على أحزاننا فلابد أن نتوقف عن الاحتفاء بمعدلات إجمالي الناتج المحلي ونتجه إلى ما هو أكثر فاعلية، مثل تأمين حاجتنا الأساسية من الطعام والماء والمسكن والتعليم والصحة، فضلا عن ضمان حياة كريمة للمرأة والطفل. ولعل الاعتراف بالخطأ هو أول الفضائل التي تضمن لنا قطع الخطوة الأولى نحو العلاج. ومما يدعو للأمل والبسمة أن التقييم الأمين لأوضاعنا قد بدأ بالفعل.


__________________


محمد ضياء الحق، كاتب وباحث هندي. ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية عاطف معتمد عبد الحميد.


هوامش مركز الجزيرة للدراسات


(1) يقصد المفكر الأميركي نعوم تشومسكي بتعبير"الصورة النمطية" أو "الحقيقة النمطية Convenient Truth" تلك المعلومات المغلوطة التي تتفنن وسائل الإعلام في الترويج لها حتى تترسخ  في أذهان الناس وتصبح  صورا غير نقدية مسلمًا بفحواها. ( للتفاصيل راجع نعوم تشومسكي (2007) النظام العالمي القديم والجديد. ترجمة عاطف معتمد . القاهرة.  دار نهضة مصر. ص. 5 ).
(2) في عام 1998 وصلت إلى حكم الهند جبهة سياسية عرفت باسم التحالف الوطني الديموقراطي، وكان حزب الشعب الهندوسي ذو التوجه القومي المتطرف هو القوة الدافعة في هذا التحالف، وانتزع الحكم من حزب المؤتمر، واستمر في السلطة حتى عام 2004.
(3) صوت الناخبون في الهند في عام 2004 لإخراج "التحالف الوطني الديموقراطي" مما أتاح الفرصة لفوز "الجبهة التقدمية المتحدة" بزعامة حزب المؤتمر الوطني الذي قاده مانموهان سينغ وصار رئيسا للوزراء في ذلك التاريخ. وفي أحدث انتخابات برلمانية أجريت في أبريل – مايو 2009 صوت الناخبون من جديد لبقاء "الجبهة التقدمية المتحدة" في الحكم.
(4)  راجع عرضا لهذا الكتاب على الرابط التالي : http://www.aljazeera.net/NR/exeres/98E3AA95-A631-46C5-A836-5BC4C734F5E5.htm 


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف