مفهوم "النظام الرسمي العربي".. رؤية نقدية تحليلية

تتناول الدراسة "النظام الرسمي العربي" من زاوية "معرفية" محددة هي "البناء المفاهيمي العلمي" الدال عليه، والذي يتم من خلاله: توصيفه والتعريف به، وتحليل تطوراته وتفسير أزماته، وتحديد مآلاته ورسم سيناريوهاته المستقبلية.

حامد عبد الماجد قويسي


 


النظام العربي: واقعه ومصطلحه.. علاقة الدال بالمدلول


 


صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي" لتوصيف واقع "النظام الرسمي العربي"


 


صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي" لتحليل واقع النظام الرسمي العربي وتفسيره


 


مستقبل النظام الرسمي العربي: مدى صلاحية المفهوم في رسم سيناريوهاته


 


تتناول الدراسة "النظام الرسمي العربي" من زاوية "معرفية" محددة هي "البناء المفاهيمي العلمي" الدال عليه، والذي يتم من خلاله: توصيفه والتعريف به، وتحليل تطوراته وتفسير أزماته، وتحديد مآلاته ورسم سيناريوهاته المستقبلية.


 


وستقارب الدراسة مفهوم "النظام الرسمي العربي" عبر مفهوم "النظام الإقليمي العربي" الذي عرفته الدوائر الأكاديمية العربية منذ ثلاثة عقود تقريبا، ومازال حتى الآن محلا للتداول، وموضعا للقبول من هذه الدوائر، لدرجة التماهي معه ومع ظواهره المستجدة وأنماط تفاعلاته وأزماته واختراقاته.


 


وسيكون تناولنا للقضية عبر أربعة متغيرات ترسم الصورة الكلية:


 


الأول: النظام العربي واقعه ومصطلحه – علاقة الدال بالمدلول. 


 


الثاني: صلاحية توصيف مفهوم "النظام الإقليمي" لواقع "النظام الرسمي العربي".



الثالث: القدرة التفسيرية والتحليلية للمفهوم في مقاربة "النظام الرسمي العربي".


 


الرابع: مستقبل النظام الرسمي العربي: صلاحية المفهوم في رسم السيناريوهات المستقبلية.


 


النظام العربي
واقعه ومصطلحه.. علاقة الدال بالمدلول


 


1- بداية فإن "النظام الرسمي العربي" ظهر إلى الوجود قبل تحديد مفهوم "النظام الإقليمي العربي" الذي يعبر به عنه في الدوائر الأكاديمية العربية.


 


وقد استخدمت قبله الكثير من "المفاهيم" -وما تزال- في الدلالة على "النظام الرسمي العربي" من قبل الخطاب السياسي والإعلامي والأكاديمي العربي وغيره -ليس هنا مجال تفصيلها- ولكن أكثرها شيوعا وتعرضا الانتقادات العلمية في الوقت نفسه هو مفهوم "الشرق الأوسط"، وقد ارتبط الترويج لمفهوم الشرق الأوسط خاصة وصفه بـ "الكبير" و "الجديد" بالمشروع الأميركي في المنطقة في عهد إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش.


 


2- والواقع أن أسبقية نشأة "النظام الرسمي العام" عن المفهوم الذي يستخدم في الدلالة عليه "النظام الإقليمي العربي" هي مسألة ليست "بدعا" في العلاقة بين "المفاهيم" -عالم الأفكار والمعاني- "والواقع -عالم الأشياء والمؤسسات-، فهذه "الأخيرة" تسبق "الأولى" "وجودا"، ومع مرور الوقت تصبح "المفاهيم" ليست مجرد تمثيل للواقع بل هي الواقع نفسه، كما يتمثل في عالم الوعي والتصورات، ومن ثم تغيب المسافة بين ثنائية الدوال والمدلولات.


 


3- إذا راجعنا "الذاكرة التاريخية" لنشأة النظام الرسمي العربية لمعرفة كيفية تشكله وتطوره التاريخي وصولا إلى لوقت الحالي سنجده يعود بداية إلى ما عرف بـ "المسألة الشرقية" في حلقتها الأخيرة التي شهدت تصفية "الإمبراطورية العثمانية"، وقد مثلت -ولو على نحو ما ولقرابة خمسة قرون- الكيانية الرمزية لوجودنا "الدولي"، حيث قامت القوى الاستعمارية الأوروبية التقليدية وفي "قرن الاستعمار" حسب وصف المفكر الكبير جمال حمدان باقتسام إرث "رجل أوروبا المريض" فيما بينها استعمارا لبلادنا بمختلف أصناف وأشكال الاستعمار.


 


وقد أتى القرن العشرون شاهدا -في نصفه الأول- حربين عالميتين بين تلك القوى الاستعمارية، كما شهد بروز حركات "التحرر" و"الاستقلال" العربية، وتمخض هذا القرن-في نصفه الثاني- عن أطروحة "نظام دولي" مختلف بقواه الاستعمارية "العجوز" والأخرى "البازغة" وبأنماط علاقاته وسياساته وأساليب سيطرته وهيمنته.


 


4- وفي هذا السياق التاريخي لتشكل "نظام دولي" مختلف بعد الحرب العالمية الثانية جاءت ولادة "النظام الرسمي العربي" ونشأته منذ عام1945، وفي هذا الصدد يمكن رصد ثلاث ظواهر جسدت له واقعيا:


 


أ – نشأة نظام "الدول" "الوطنية و"المستقلة" سياسيا بعد رحيل الاستعمار العسكري، أي ولادة "الدولة – ما بعد الاستعمار".


 


ب- نشأة "جامعة الدول العربية" تنظيما إقليميا يجمع هذه الدول ويعبر عنها سياسيا.


 


ج – نجاح المشروع الصهيوني في المنطقة عبر تأسيس "إسرائيل" واحتلال فلسطين عام 1948 استعمارا استيطانيا برعاية النظام الدولي وقواه الأساسية.


 







"
نشأة "النظام الرسمي العربي" بعناصره المجسدة له: وحداته، دوله، تنظيمه الإقليمي، جامعته، وتفاعلاته، وسياساته.. إلخ جاءت في سياق تشكل "النظام الدولي" عبر سياسات القوى الاستعمارية المهيمنة، أي في لحظة ولادة تاريخية ملتبسة إلى حد كبير

"


والخلاصة أن نشأة "النظام الرسمي العربي" بعناصره المجسدة له: وحداته، دوله، تنظيمه الإقليمي، جامعته، وتفاعلاته، وسياساته.. إلخ جاءت في سياق تشكل "النظام الدولي" عبر سياسات القوى الاستعمارية المهيمنة، أي في لحظة ولادة تاريخية ملتبسة إلى حد كبير.


 


وفي الخطوة التالية تم إدخال النظام الرسمي العربي وإدماجه في النظام الدولي باعتباره "نظاما فرعيا" له. فمثلا اشترط لحصول "دول" النظام الرسمي العربي أو وحداته على "الاستقلال" ضرورة "الإعتراف" بسيادة قواعد "القانون الدولي" -وهي لم تشترك في وضع معظمها- فقد قبلت مثلا بقاعدة السيادة الإقليمية وقدسية الحدود –بكل ما تعنيه من تكريس تفتيت الكيان الواحد، وتكريس نظام "الدولة القطرية".


 


كما أن هذا "الإعتراف" أُعتبر بدوره شرطا لدخول مؤسسات المجتمع الدولي (الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة)، وبذا أصبحت "وحدات – دول" "النظام الرسمي العربي" أعضاء في هذه المؤسسات، ملتزمة بكل ما تصدره من قرارات –خاصة مجلس الأمن-، وعلى المدى الزمني فإنه ونتيجة للإرث الاستعماري الأوروبي أضحت المنطقة العربية هي المنظومة الفرعية الأكثر اختراقا من بين منظومات النظام الدولي.


 


6- إذا كان هذا هو واقع "النظام الرسمي العربي" فإن المفهوم الذي تراه الكثير من الدراسات الأكثر جدية وعلمية في الدلالة عليه هو "النظام الإقليمي العربي" كما سبق أن أشرنا، وهو الذي يمكننا من فهمه وتحليله –وإن كنا في هذه الدراسة نحاول أن نناقش مدى صدقية هذه الفرضية- ويمكننا أن نفهم هذا المفهوم الأخير عبر تحليله على المستويين الجزئي والكلي كالتالي:


 


أ – التحليل على المستوى الجزئي الذي يفكك المفهوم لمكوناته الثلاثة الأساسية وهي: "النظام" و"الإقليمي" و"العربي" ويفحصها لبيان مكوناتها الجزئية.


 


ب – التحليل على المستوى الكلي الذي يعيد تركيب المفهوم على مستوى الخصائص والسمات الكلية ببيان تركيبه العام.


 


ج – يقود هذا التحليل للمفهوم على هذين المستويين إلى فحص مكوناته الثلاثة واستخراج دلالتها وتعريفها كالتالي:


 


7/1 - مفهوم "النظام - System":
ينتمي مفهوم "النظام" منهجيا إلى ال
اقتراب النظمي Analysis  System الذي يستخدم أساسا في دراسة "النظم السياسية" وإن تم توظيفها هنا في تحليل العلاقات العربية.


 


ويشير مفهوم "النظام" إلى المتغيرات الأساسية التالية:


 


أ - مجموعة وحدات أو عناصر مترابطة ومتفاعله.



ب - شبكة من التفاعلات والعلاقات المتعددة.



ج - الحدود وهي نقاط تصورية تحدد من أين وإلى أين عملية التفاعل.



هـ الاستقرار والاستمرار، وتحقيق غاية النظام الأساسية وهي الحافظة على النظام نفسه من خلال عملية التكيف والأقلمة.


 


7/2 -  مفهوم "الإقليمي – Regionalism"
ينتمي مفهوم "الإقليمي" منهجيا إلى فرع دراسات المناطق في التقليد العلمي الأميركي، وتعني إجرائيا ثلاثة متغيرات:


 


أ – إقليم أو منطقة جغرافية متصلة تحوي ثلاث وحدات- دول على الأقل.



ب- لا يرتبط مباشرة بـ "الدولي" أي لا تصبح قوة دولية أو أكثر مكونا فيه أو أحد أعضائه.



ج – شبكة من التفاعلات تتمتع بقدر من "الذاتية" و"الاستقلالية".


 


7/3 – مفهوم "العروبة Arabism"
ينتمي مفهوم "العروبة" منهجيا إلى منظومة "القيم السياسية" التي تربط بين أعضاء "النظام الإقليمي" وهي التي تمنحه "الخصوصية" بين النظم الإقليمية المختلفة إذ يصبح نظاما إقليميا ذا هوية "قومية" واحدة ، وتعني إجرائيا ثلاثة متغيرات:


 


أ - مصدر القيم والتحديات المشتركة، والوعي بالتضامن بين الأعضاء.



ب - التعامل مع العالم الخارجي كوحدة واحدة، أي وجود سياسة إقليمية موحدة.



ج - بروز مفهوم موحد للدفاع والأمن العربي المشترك باتفاقياته.


كما يقودنا إعادة تركيب مفهوم "النظام الإقليمي العربي" إلى اكتشاف منطقه الكلي وخصائصه العامة على النحو التالي:


 


8/ جوهر النظام ومستويات التحليل الثلاثة وهي:



أ- النظام الدولي:
يعني أنماط التفاعلات الدولية على مستوى القمة بين الدول الكبرى.


 


ب: بناء القوة/المكانة داخل النظام: أي كيفية توزيع القوة بين مكوناته ووحداته المختلفة "توازن، تراتب، استقطاب... الخ، وذلك على أساس مكونات ثلاثة: مادية موضوعية: كالموقع، عدد السكان، وعسكرية: عدد القوات المسلحة، التدريب، التكنولوجيا، ونفسية: هيبة أو مكانة الفاعل وقدرته على التأثير في الآخرين طبقا لعناصر القيادة، الإرادة... الخ


 


ج: أنماط التحالفات والسياسات والتماسك داخل النظام: يتكون النظام من "وحدات" –طبقا لتماثلها أو تقاربها- تكون درجة التماسك Cohesion بينها ومن ثم إمكانية تكاملها أو تفرقها كما أنها قد تتعاون أو تتصارع وتدخل في "تحالفات" على أسس مختلفة، تتكرر أنماطها ومدى مرونتها وتحولاتها، كما يسودها نظام اتصال معين.


د: التركيب الداخلي للنظام الإقليمي: ويتكون من المكونات الرئيسية التالية:


 


·        دول القلب أو المركز/ القائدة إقليميا Core state: تمثل "محور" التفاعلات السياسية في النظام الإقليمي وأكثرها "كثافة"، فهي "البؤرة" التي تتركز فيها التفاعلات وتنبثق منها تأثيرات مهمة تمس جميع وحدات وأعضاء النظام.


·        دول الأطراف: أعضاء في النظام لكن لاعتبارات جغرافية وسياسية لا تدخل في تفاعلات مكثفة مع بقية أعضاء النظام ووحداته.


·        دول الهامش: تقع على حواف النظام الإقليمي- أي هي قريبة منه- جغرافيا، ولكنها ليست منه لاعتبارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو أمنية... الخ


 


وينبغي التأكيد على أن العلاقة بين المكونات الثلاثة من الدول في النظام الإقليمي "دينامية" و"متغيرة" وفقا للأدوار التي تقوم بها هذه الدول داخل النظام، وطبيعة وكثافة تفاعلاتها، إذ قد تتراجع دولة -وفقا لذلك- من "قلب النظام" ومحوره لتصبح من الأطراف، أو تصعد أخرى من أطرافه لتصبح "محورا" وفي قلب تفاعلات النظام الإقليمي. الأمر ذاته من الممكن تعديته على ما يعرف بـ"دول الهامش" الإقليمي، وهذا يقودنا إلى الحديث عن المكون الأخير من النظام الإقليمي.


 


هـ - نظام التغلغل/ الاختراق "Penetrative system": يتمثل ذلك في القدر من "النفوذ" و"التأثير" الذي تمارسه "الوحدات-الدول الكبرى- سواء في النظام الدولي أو النظم الإقليمية الأخرى- خارج النظام الإقليمي المعين على وحدات/دول النظام المختلفة.


 


صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي"
لتوصيف واقع "النظام الرسمي العربي"


 


1 - إذا انطلقنا -بعد استعراض علاقة واقع النظام العربي ومفهومه الدال على المستوى النظري المعرفي الذي يبحث في الجذور والمنطلقات العلمية المنهجية- إلى مستوى التوظيف الواقعي لفهم مدى صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي" العلمية للتعامل مع واقع "النظام الرسمي" العربي، فإننا يجب أن نأخذ في الاعتبار أمرين:


 


أ - ما يطلق عليه "قوة المفاهيم" "Power of terminology"، حيث أن اختبار مفهوم بذاته يمثل إدراكا لطبيعة علاقات القوى/السلطة المنتجة له، كما أنه يوجه العملية العلمية في طريق محدد توصيفا وتفسيرا...الخ


 


ب - ضرورة التمييز منهجيا بين أمرين: "صحة" المفهوم الذاتية من ناحية، و"صلاحيته" وقدراته التحليلية والتفسيرية في تناول وضع معين من ناحية أخرى. فالصحة والصدق العملي الذاتي لمفهوم "النظام الإقليمي" -كما أسلفنا فيما سبق- ليس موضع مناقشتنا في هذا الموضع، لكن موضع النقاش والتساؤل هو مدى "صلاحيته" في التوظيف الواقعي العلمي مع "ظواهر" وتفاعلات وتطورات "النظام الرسمي العربي"، الأمر الذي يمكن أن يقود للبحث في "جدواه" و"البدائل" الممكنة والأكثر ملاءمة منه، وفي هذا الإطار التوصيفي للمفهوم نتناول ثلاث قدرات ووظائف للمفهوم: الأولى: التوصيف "Description" الثانية: التحليل والتفسير "Analysis & Interpretation"، والثالثة: التنبؤ "Predication"- وسوف نتناولها في بقية أجزاء الدراسة.


 


2 – ويجب أن نوضح ونحن بصدد تناول مدى صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي" لتوصيف واقع "النظام الرسمي العربي" وتفاعلاته، وتطوراته الأخيرة بداية أننا نعني بـ"التوصيف" كشف "الدلالات" الملاحظة في الظواهر "المعطاة" وهي بهذا الصدد تجيب على أسئلة البداهة: ماذا يحدث؟ وتعني عملية التوصيف ثلاثة متغيرات هي:

أ – التصنيف "
Typology": اكتشاف روابط ثابتة نسبيا بين الخصائص، وتمييزها عن طريق صياغة المفاهيم التي تجرد هذا التصنيف.

ب – التسلسل "
Hierarchy": الترتيب التتابعي للخصائص المقدرة الموجودة.

ج – الارتباط "
Correlation": محاولة اكتشاف طبيعة علاقة متغيرين واتجاهها.


 


توصيف مفهوم "النظام الإقليمي" لواقع "النظام الرسمي العربي" وتفاعلاته -بهذا التحديد- يمتلك بعض جوانب "الصلاحية"، ويعكس في الأخرى قدرا من عدم الصلاحية والإخفاق كما سنرى.


 


3 – بالنسبة لجوانب صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي" يمكننا الحديث عن ستة متغيرات كالتالي:


 


أ – يتكون النظام من دول "مستقلة" بلغت 22 دولة تشكل في غالبها منطقة جغرافية واحدة أو متصلة.

ب – تنتظم العلاقات "العربية-العربية" شبكة من "التفاعلات" المتعددة الأشكال: السياسية والاقتصادية والثقافية... الخ. بعضها "تعاوني/هادئ" والآخر "تنافسي/صراعي" خاصة إزاء التحول والأزمات الكاشفة مثلما تبين في أعقاب الحرب في غزة 2009.


 


ج – يشهد النظام تشكل أنماط معينة من "التحالفات" أو "المحاور" بعضها قد يتمتع بثبات نسبي مع الوقت، والمثال الأقرب للأذهان هو ما يعرف بمحوري دول "الاعتدال" و"الممانعة".


 


د- تزايد درجة "الاستقطاب" داخل النظام نتيجة لاختلال "أبنية القوة" لوحدات النظام/دوله، المثال الواضح لذلك الحالة المصرية، الأمر الذي قاد إلى تبدل الأوضاع بين دول/مركز النظام وقلبه ونواته"، و"الدول الأطراف" في النظام.

هـ- يشهد "التماسك" داخل أبنية النظام درجة من الثبات العام لوحداته "الأساسية" رغم أن ثمة مؤشرات جادة بوجود محاولات "تفتيت" في وحدات مهمة للنظام كالعراق (على أساس طائفي)، والسودان (على أساس عرقي) ناهيك عن الأوضاع المنهارة في الصومال.

ل- يقوم "الإطار التنظيمي الإقليمي" للنظام بدوره -رغم ظروف نشأته- فالجامعة العربية مثلا حاولت "تجاوز" التناقضات العربية" عبر أدوار مزدوجة تقوم على "إرضاء" مشاعر الانتماء العربي الشامل مع "المحافظة" على "السيادة المطلقة" للدول من أعضائها، وكذلك محاولة امتصاص الصدامات المتوقعة بين الدول واستدراكها، وكذلك فإن "مجلس التعاون الخليجي" يقوم بدوره أيضا كتنظيم إقليمي فرعي.


 


4- أما بالنسبة لجوانب عدم قدرة مفهوم "النظام الإقليمي" وصلاحيته في توصيف واقع "النظام العربي الرسمي" وتطوراته وأزماته.. الخ فيمكن أن نرصد ستة متغيرات:


 


أ- ازدياد فعالية نظام التغلغل والاختراق"، وتعاظم تأثيراته بدرجة غير مسبوقة تاريخيا سواء بالنسبة للنظام ككل، أو لوحداته على المستوى الجزئي، بحيث امتدت إلى كينونة النظام وأدق شئونه وأكثرها حساسية، وتعدى إلى تكوين نخبه، وتحديد توجهاته الأساسية مما أفقد النظام "الحدود الدنيا" من "الذاتية" و"الاستقلالية".


 


ب- امتداد النظام الدولي "داخل" النظام الرسمي العربي، فعندما وقع الاحتلال الأميركي للعراق 2003، كان ذلك معناه أن بعض القوى الدولية "أميركا وانجلترا" أضحت مكونا في النظام العربي فربطته مباشرة بـ "النظام الدولي". فالأمر تعدى "التأثير" و"الضغوط" و"الاختراق" لكي تصبح هذه القوى الدولية هي "صاحبة" "ومالكة" القرار في هذه الدولة الأساسية في النظام، مما يجعل مسالة انطباق توصيف "النظام الإقليمي" على وضع "النظام الرسمي العربي" أمرا غير مقبول، لفقدان أحد شروط تعريفه كما أسلفنا.


 


ج- تراجع "فاعلية" بعض وحدات النظام الرسمي العربي، ووصول الأخرى لدرجة الانهيار الداخلي "الصومال مثال واضح على ذلك"، كما أن العديد من وحداته الأساسية تشهد محاولات للتفتيت الداخلي طبقا لعوامل مختلفة كما أسلفنا، بالنسبة للعراق والسودان دون الحديث عن أقطار أخرى كالجزائر والمغرب ومصر مما يقود "الأساس" الذي يقوم عليه النظام الإقليمي للاختفاء أو التدهور والتراجع.


 


هـ - بروز دور "فاعلين سياسيين" - دون الوحدات السياسية/الدول- للنظام، وهي قوى وحركات شعبية بالأساس وقد ارتفع بعضها لكي يصير فاعلا دوليا. بل وتخطت فعالية وحداته/ دوله ذاتها، فعلى سبيل المثال: حزب الله في لبنان، وحركة حماس في فلسطين خاصة بعد المواجهات الأخيرة مع "إسرائيل" (2006 – 2008)، الأمر الذي عرّض "النظام الرسمي" لحالة انكشاف حقيقية، وتهديد أسس تكونه "الرسمية" لا "الشعبية"، فالأولى تنتمي للدول والنظم الرسمية، والثانية تنتمي لحركات المقاومة الشعبية مما يشير إلى عجز "المفهوم" عن استيعاب ومتابعة التطورات داخل أبنية النظام في حد ذاته، وذلك في أطره التوصيفية.


 


د- تراجع دعوة "العروبة" و"القومية" التي تحدد للنظام هويته، ورسالته، وخصوصيته، واختفاء ما يمكن أن نطلق عليه "المصلحة القومية" في مقابل المصالح القطرية لكل "وحدات/ دول" النظام على حدة، والتي تسعى لتكريس وجودها الذاتي، مما يجعل توصيف "النظام" بـ "العربي" أمرا موضع تساؤل حقيقي، فلم تعد هذه "الصفة" سبيلا لضبط علاقات القوة وحل المنازعات سلميا بين وحدات النظام (احتلال العراق للكويت 1990 نموذج واضح، وتدخل النظام الدولي لتحرير الأخيرة) واختفت اتفاقيات الدفاع العربي المشترك، وغاب التنسيق والتكامل في جهود التنمية والاستثمار وغيرها من وظائف النظام "الإقليمي" ذو الصفة "العربية" الذي يرى الكثيرون أنه قد انهار فعلا أو في سبيله إلى ذلك.


 


و- الاختلال الشديد في "التركيبة الداخلية" للنظام الرسمي العربي من ناحية، ومن ناحية أخرى اعتبار "أنماط التحالفات السياسية والمحاور" ليست ترجمة حقيقية لشبكة تفاعلات هذا النظام. "التركيبة الداخلية" للنظام وفق التوصيف الذي قدمه النظام "دول القلب القائدة إقليميا" في مقابل "دول" الأطراف تشهد "اختلالا" و"تبادلا" في المواقع بينها، بل غياب دلالة التوصيف ذاته على المستوى النظري.


 


أما أنماط "التحالفات السياسية والمحاور" – وعلى سبيل المثال- كما يذهب البعض ليست فقط محصلة لشبكة التفاعلات داخل النظام بل وبالأساس حصيلة "أفعال" النظام الدولي الذي يعد محور "الاعتدال" امتدادا له حتى على مستوى التسمية، أما محور "الممانعة" فتدعمه قوى إقليمية على هامش النظام "إيران تحديدا"، أما "إسرائيل" فلم تعد بالنسبة للمحور الأول "العدو الرئيسي" أو "التهديد الأساسي" للنظام الرسمي، وإنما ثمة سعي إلى جعل "إيران" في هذه الوضعية مما يجعل قدرة المفهوم التوصيفية موضعا للتساؤل.


 


صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي"
لتحليل واقع النظام الرسمي العربي وتفسيره


 


1- تعد صلاحية مفهوم "النظام الإقليمي" في التحليل والتفسير "Analysis & Interpretation" لظواهر وتفاعلات "النظام الرسمي العربي" أمرا بالغ الأهمية ينبغي إخضاعه للاختبار في ضوء ما يواجه الأخير من تطورات وأزمات وإخفاقات، وإذا كان التحليل يجيب على السؤال: كيف؟ والتفسير يجيب على السؤال: لماذا؟ وكليهما يعلو "التوصيف" لاعتمادها على المزيد من التجريد، وإدخال افتراضات عقلية لا تخضع للملاحظة والتجريب المباشرين، ولكنها البداية لفهم العلاقات بين "الوقائع" المتعددة من جهة والظواهر المدروسة من جهة أخرى.


 


2- إذا كان مفهوم "النظام الإقليمي" يقدم العديد من "الاقترابات" لتحليل سياسات وتفاعلات "النظام الرسمي العربي" من قبيل السياسات الخارجية والإقليمية"، و"الاعتماد المتبادل والتبعية" و"المؤسسات الإقليمية"، وأخيرا وليس آخرا "الاقتراب الثقافي والقيمي والنفسي" فإن اختبار مدى صلاحية هذه "الاقترابات" وبالتالي "المفهوم" ذاته في التحاليل والتفسير تجعلنا نركز على الآتي من هذه الاقترابات:


 


3/1- اقتراب "السياسات الخارجية والإقليمية" النابعة من "النظام الإقليمي العربي" وذلك تجاه "النظم الإقليمية الأخرى"، و"النظام الدولي"، والدول الأخرى (خاصة تلك التي تقع على هامشه)- يقوم على فرضية وجود هذه "السياسات" الواحدة النابعة من "رؤية" النظام والمترجمة لـ"مشروعه السياسي"، ويكون التساؤل حول مدى امتلاك النظام الإقليمي العربي لـ"رؤية ومشروع" وبالتالي سياسات للتعامل مع التحديات الأساسية التي يفرضها النظام الدولي، والنظم الإقليمية الأخرى، ودول الهامش، والأهم في هذا الصدد ليس مدى "وجود" هذه السياسات بل "فعاليتها" في الاستجابة للتحديات.


 


3/2- ولنأخذ نموذجا واقعيا يواجه "النظام الرسمي العربي" منذ نشأته وحتى الآن، وهو "المشروع الصهيوني" والذي نجح في إقامة كيانه "إسرائيل" 1948 والتي تقع على "هامش" هذا النظام وفق توصيف مفهومه كما أشرنا. فإلى أي مدى ثمة "رؤية" و"مشروع" "للنظام الرسمي العربي" كاستجابة لهذا التحدي الجوهري في صورة سياسات خارجية إقليمية؟.


 


إن "التحليل العلمي" يقودنا إلى أن "النظام الرسمي العربي" بإجمال قدم مشروعين متناقضين:


 


الأول: "مشروع التحرير" وخاض في إطاره عدة حروب، وكانت المحصلة الإجمالية "نكبات" و"هزائم" أكثر مما أحرز من تقدم وانتصارات حتى تراجع هذا المشروع تدريجيا ليختفي تماما من إستراتيجية النظام العربي مما يقرب من أربعة عقود.


 


الثاني: مشروع التسوية السياسية الذي بدأ مصريا (1974) ثم جرى "تعريبه" واعتماده لكي يكون "الخيار الإستراتيجي" الوحيد للنظام، وتجسده "المبادة العربية للتسوية" حاليا، ورغم طول المدة (35 عاما) التي قدم فيها النظام العربي مشروعه، فإن التحدي الأساسي ما زال "فاعلا" و"مستمرا"، وهكذا فإن مشروع التسوية الذي تبناه"النظام العربي الرسمي" وصل إلى طريق مسدود كما وصل مشروعه للتحرير من قبل إلى ذات الوضع بإجمال مما يؤشر ليس فقط لعدم فعالية، بل ولغياب "سياسات" خارجية إقليمية لهذا النظام تجاه التحدي /العدو الرئيسي والذي قال مفهوم نظامه إنه يقع على هامشه فإذا به "قائدا واقعيا" ومهيمنا على تفاعلاته الأساسية.


 


3/3- أما بالنسبة لمدى وجود وفعالية "السياسات الخارجية الإقليمية" إزاء "النظام الدولي" فيكفي أن نسترجع مما ذكرناه في مستوى "التوصيف" -لنصل ليس فقط لتفسير "غياب" هذه السياسات الخارجية الإقليمية-، بل لغياب "النظام" ذاته وانهياره الذي يرصد البعض مؤشراته.


 







"
"
النظام الدولي" لا يسمح بانهيار النظام الرسمي العربي تماما لأنه لا يضمن طبيعة ومواقف البديل، كما أنه لا يسمح بأن يكون على درجة معقولة من القوة والصلابة تمكنه من رسم سياسات خارجية إقليمية معبرة عن رؤيته ومشروعه


"


ولكن الواقع أن "النظام الرسمي العربي" – وبالتالي سياساته الخارجية الإقليمية إزاء النظام الدولي لا تعكس منطق "الاعتماد المتبادل "Interdependence" ولكن منطق "التبعية" بالأساس. فالنظام العربي هو "الرجل المريض" للنظام الدولي وتحت وصايته. وقد اقترب هذا "النظام العربي الرسمي" في كثير من "الأزمات" ونقاط التحول الفارقة من حافة "الانهيار"، وفي كل مرة يتدخل "النظام الدولي المهيمن" لكي يمنحه قدرا من الحياة مع إبقائه في "حالة متداعية مستمرة"، أي أن "النظام الدولي" لا يسمح بانهيار النظام الرسمي العربي تماما لأنه لا يضمن طبيعة ومواقف البديل، كما أنه لا يسمح بأن يكون على درجة معقولة من القوة والصلابة تمكنه من رسم سياسات خارجية إقليمية معبرة عن رؤيته ومشروعه.


ومما يزيد المسالة تعقيدا أنه في الوقت الذي نفسر فيه وضعية "النظام الرسمي العربي" تأسيسا على ما سبق، فإن وزنه يزداد باضطراد في حساب "الإستراتيجيات الكونية" على الأقل لاعتبارات:


أ - تحول المنطقة العربية لساحة رئيسية للصراع بين الكتل الكبرى، الأوروبية والأميركية وغيرها، على قاعدة إعادة ترتيب الأوضاع ورسم خرائط المنطقة.


 


ب - ارتفاع وزن الكيان الصهيوني ودعمه في الإستراتيجيات القومية للدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأميركية.


ج – تزايد أهمية منطقة الخليج العربي والعراق المستقبلية بسبب قضية النفط من حيث الاحتياطات المؤكدة، أو ضآلة تكاليف عملية الإنتاج.


 


 

وبالتالي فإنه من المتوقع -مستقبلا- أن نرى مزيدا من اختراق النظام الدولي للنظام العربي الذي تتحول "سياسته الخارجية" إلى ردود أفعال لممارسات النظام الدولي وقواه، وبالتالي لا نكون إزاء سياسات خارجية إقليمية حقيقية وفعلية.


 


3/ 4: يمكن أيضا أن نرصد "غياب السياسات الخارجية الإقليمية" تجاه الوحدات/الدول هامش "النظام الإقليمي" وتحديدا إيران وتركيا إذ يوجد انقسام بين وحدات/دول النظام إزائها، واللافت للانتباه أن هذه الدول-والتي تربطها بوحدات النظام العربي روابط الدين والتاريخ المشترك غالبا- تقدم نماذج فعالة في العلاقة بـ"النظام الدولي" النموذجان "التركي" و"الإيراني" مثالان ذوا دلالة مختلفة أو حتى متناقضة ولكن على درجة عالية من الفعالية دون الحديث عن "النموذج الماليزي" من فعالية لا يعرفها النظام العربي.


 


4- إذا انتقلنا إلى الاقتراب الثقافي والقيمي -الذي يقدمه مفهوم النظام الإقليمي- لدراسة وتحليل أنماط المعتقدات والقيم السائدة في الإقليم، ودرجة التضامن/الصراع، ومعتقدات النخب الحاكمة، فإنه يمكن أن نرصد وضعية "الانقسام" و"الاستقطاب" على مستويين:


 


الأول: طبيعة "الدولة" -الوحدة الأساسية للنظام-، ففي الوقت الذي تحمل فيه "النخب الحاكمة" ومن يساندها مشروع الدولة القطرية "الحديثة: التي تنطلق من مصلحتها "الوطنية أولا" وإن سعت لقدر من التضامن الإقليمي في هذا الإطار، فإن "غالبية" "القوى" الاجتماعية والسياسية تحمل مشروع "الدولة/ الأمة" سواء أكانت "عربية" أم "إسلامية"، وإن كانت تقبل بالوضع القائم كضرورة واقع فإنها تسعى لتجاوزه وتغييره، وبالتالي فإنها تشكل -ولو على المدى الطويل- تحديا لمفهوم النظام العربي المؤسس على فكرة ووحدة "الدولة القُطرية".


 


الثاني: طبيعة "المشروع السياسي" للنظام العربي يعكس أيضا انقساما من نوع آخر، فالنخب الحاكمة التي تمثل "المشروعية القانونية والدستورية" والواقع القائم في المنطقة تحمل كما أسلفنا مشروعا سياسيا عمره يقترب من أربعة عقود هو "مشروع التسوية السياسية" وقد وصل لطريق مسدود بمبادرة ما زالت متروكة على الطاولة منذ عدة سنوات "المبادرة العربية للسلام"، والجماهير العربية والمسلمة من جانب آخر والتي تمثل "الشرعية السياسية والشعبية" وتسعى إلى إصلاح وتغيير الواقع القائم تحمل مشروعا رغم قصر عمره في حدود عقدين من الزمن "مشروع المقاومة" ويدخل باستمرار في مواجهات مع الكيان الصهيوني ويحرز فيها صمودا وانتصارات فعلية حتى ولو كانت محدودة، وهو مفتوح الأفق على المستقبل، ولكن الإشكالية أن المشروع الذي تحمله هذه القوى يعجز النظام الإقليمي العربي باقتراباته أن يحلل بأمانة أفعاله وإنجازاته أو يفسر تطوراته وممارساته، وهذا ينقلنا إلى المستوى الأخير الذي يتعلق بالمستقبل.


 


مستقبل النظام الرسمي العربي
مدى صلاحية المفهوم في رسم سيناريوهاته


 


1- كما رأينا فإن المفهوم "النظام الإقليمي" يعجز عن تحليل الكثير من الظواهر وتفسير تطورات "النظام الرسمي العربي"، وذلك لأنه حينما يصل مفهوم تحليلي أو نموذج إرشادي لمأزق يتمثل في ظواهر معينة يعجز عن تحليلها أو تقديم تفسيرات مقنعة لها، يدخل في أزمة تمهيدا لخلق مفهوم تحليلي أو نموذج إرشادي جديد، يثير ذلك قضية المستقبل، والتنبؤ predication بالسيناريوهات المستقبلية سواء بالنسبة للنظام الرسمي العربي أو المفهوم النظري الذي نقاربه من خلاله، ذلك أن كل ما مر بالنظام الرسمي العربي من نكبات وأزمات وإخفاقات هددت الأساس الموضوعي له، وأضعفت بقدر كبير "قاعدته النظرية" و"سنده التحليلي".


 







"
من المتوقع –مستقبلا- أن نرى مزيدا من اختراق النظام الدولي للنظام العربي الذي تتحول "سياسته الخارجية" إلى ردود أفعال لممارسات النظام الدولي وقواه، وبالتالي لا نكون إزاء سياسات خارجية إقليمية حقيقية وفعلية

"


2- تدور السيناريوهات المستقبلية للنظام العربي –وفقا لمنطق نظرية الاحتمالات "

Probability Theory" –وهو حديث يتجدد باستمرار في أعقاب كل نكبة أو أزمة حادة يتعرض لها النظام وما أكثرها، عن ثلاثة سيناريوهات أساسية (وفقا لدرجة احتمالية عدم التأكد Uncertainty)، وفي إطار فحص مدى صلاحية وقدرة مفهوم "النظام الإقليمي العربي" على رسمها والتعامل معها- هذه السيناريوهات هي:

 


الأول: السيناريو الامتدادي الذي يرى بقاء النظام الرسمي العربي مع إمكانية حدوث إصلاحات فيه.


 


الثاني: تداعي النظام الرسمي العربي وانهياره في ظل غياب البدائل.


الثالث: تغيير النظام الرسمي العربي وبدائله.


 


تدور هذه السيناريوهات الثلاثة حول احتمالات "الممكن" و"المحتمل" و"المستهدف"، ومحورها كما أسلفنا تقليص عنصر "عدم التأكد".


 


2/1- السيناريو الأول:
استمرارية النظام الرسمي العربي مع إجراء "إصلاحات" و"مصالحات" تُبقي خصائصه وملامحه الأساسية.


 


1- يطلق على هذا السيناريو توصيف "الامتدادي"، والذي يقوم على فكرة أن "الحاضر" في خطوطه وملامحه الأساسية وقواه وتحالفاته وأنماط علاقاته وتفاعلاته من المرجح أنها سوف تستمر في المستقبل المنظور، ولكن مع حدوث إصلاحات ومصالحات تؤدي إلى تغيير تدريجي "Steady Change" في إطار فكرة الحفاظ على بقاء النظام، وهذا السيناريو "الممكن" في ظل بقاء التوازنات القائمة، و"الأرجح" الذي تقل بصدده احتمالية "عدم التأكد" بدرجة كبيرة.

والواقع أن أي نظام يتطلب بحكم التجربة التاريخية أن يصلح ما تركته
هذه التجربة على أبنيته وتفاعلاته وتحالفاته من آثار، والإصلاح يقتضي صيانة النظام وتحسين أوضاعه الراهنة من خلال طرق وأدوات مرحلية متدرجة ربما تفضي في مراحل لاحقة بحكم التراكم- كما يقال- لحدوث تغيير في إمكانات النظام أو سياساته أو تحالفاته.


 


 

2- تتأكد صلاحية وقدرات مفهوم "النظام" الإقليمي الرسمي العربي للتعامل مع هذا السيناريو سواء في تأسيسه النظري أو ممارساته العملية، فكما أسلفنا فإن مفهوم "النظام" يتضمن التأكيد على أن غايته-أي نظام- الحفاظ على الاستمرارية والبقاء في إطار التغيير المتدرج الذي يشمل " التكيف" مع التغيرات والسياسات التي يقوم بها، وبصدد الممارسات فإن "الإصلاح" و"التصالح" و"المصالحات" ظلت تطرح مجددا طوال ستة عقود هي عمر هذا النظام الإقليمي الرسمي العربي، وذلك في أعقاب كل أزمة أو نكبة وما أكثرها منذ سنة 1945 وحتى اليوم، بل إن مؤتمرات القمم العربية في حد ذاتها لم تكن سوى لقاءات "تصالح" وربما آليات إصلاحية للنظام لترميم شروخه وشقوقه وترقيع سياساته، وكان نصيبها من الإخفاق كبيرا غالبا ويتجدد في كل مرة.


 


3- ويقدم الكثير من الباحثين العديد من الآليات لإصلاح العلاقات البينية لوحدات النظام وفي إطاره ومع الالتزام بمعاييره، وهي بدورها تطرح مجددا كلما وصل النظام العربي لمأزق جديد، ومن هذه الآليات المطروحة:


 


أ– تفعيل المحور الثلاثي السعودي-المصري- السوري، وإحياؤه للقيام بدوره كقاطرة لإصلاح النظام العربي، ويذكر له القيام بدور مهم في فترة التسعينات منذ غزو الكويت وحتى وقت قريب، ورغم ما يحمله هذا المثلث/التحالف من مخاطر استبعاد دول المغرب العربي وإنكار أدوار وحساسيات دول على قدر من الفعالية في تفاعلات النظام العربي (ليبيا-الأردن- قطر إلخ) فإنه من غير المتصور أن يعود إلى "سوابق" أدواره لاعتبارات جديدة داخلية تخص أطرافه، وإقليمية تخص أنماط تحالفاته، ودولية تتعلق بمواقفه وسياساته.


 


ب- تفعيل وإعادة دور الدولة القائد في النظام، والذي لعبته مصر في مرحلة تاريخية معينة، ولاعتبارات موضوعية لم تعد قادرة أو راغبة في القيام بهذا الدور عمليا.


 


ج- إصلاح وحدات النظام أي الدول القطرية على المستوى الجزئي، ولكن ليس ثمة ضمانة أن ذلك من الممكن أن يفضي إلى إصلاح النظام العربي ككل.


 


د- تكوين مجموعة من دول النواة وإصلاحها لتكون مقدمة لإصلاح النظام ككل، على النحو الذي تقدمه خبرة الاتحاد الأوربي، وتشمل النواة عددا من وحدات النظام المؤثرة القادرة على إنجاز مهام محددة تفضي إلى تطوير أداء النظام بشكل نوعي في قضايا التنمية والديمقراطية والعدالة.


 







"
تغيير "النظام العربي" المنهار والذي ورثناه من حقبة ما بعد الاستقلال مباشرة، ليس في الإمكان دون تغيير "الأنظمة الداخلية الوطنية" في هذه البلدان. إن مأساة الشعوب العربية تأتي من "الأنظمة" التي فرضت عليها بقوة "الانقلابات العسكرية" فترة، ثم بتزوير إرادتها فترة أخرى



"


ه- إصلاح التجمعات الإقليمية (مجلس التعاون الخليجي- الاتحاد المغاربي مثلا) والتي تضم وحدات دول متقاربة جغرافيا ومتشابهة سياسيا أو بينها مصالح مشتركة وثيقة، وبالتالي فإن توثيق روابطها وإصلاحها يمكن أن يقود لإصلاح النظام العربي.


 


4- وفي ذات الإطار يقدم بعض الباحثين العرب والأجانب، بل وبعض القيادات العربية آليتين لإصلاح النظام عبر ربطه بأطر إقليمية كما سبق أن أشرنا، كالشرق أوسطية التي تهدف إلى إسباغ الشرعية العربية على الكيان الصهيوني كدولة يهودية ودمجها في النظام العربي الذي سيصبح شرقا أوسطيا.

 


أما الآلية الأخرى لإصلاح النظام فتقوم على ربطه بأطر دولية "المتوسطية" والتي تقوم على قضية تشابك المصالح بين الدول المطلة على المتوسط، وبالتالي تدخل إسرائيل أيضا، وفي حقيقة الأمر رغم أنه ينظر لها بإيجابية أكثر من السابقة، فإن كليهما تؤديان إلى انتهاء النظام العربي.


 


السيناريو الثاني:
تدهور النظام الرسمي العربي وانهياره دون وجود بدائل


 


1 - يطلق على هذا السيناريو توصيف" التراجعي" ويقوم على فكرة أن النظام بالغ التدهور وأنه إن لم يكن قد انهار فعلا فهو في سبيله إلى ذلك في المستقبل المنظور، وبالتالي فإن المسار المحتمل إذا استمر منطق التراجع والتدهور الحاصل حاليا في النظام الرسمي الإقليمي العربي، وهو -أي السيناريو- تقل بصدده احتمالية عدم التأكد بدرجة معقولة.


 


2 - تتأكد صلاحية وقدرات مفهوم النظام الإقليمي الرسمي العربي للتعامل مع هذا السيناريو من الناحية التفسيرية والتحليلية خاصة في بداياته كفقدان أحد الشروط الأساسية لتعريف المفهوم، أو ذوبان النظام ذاته في كيان آخر، غير أنه يقصر عن التنبؤ بمآلات النظام بعد انهياره أو البدائل المتاحة أمامه.


 


3- وإذا كان النظام العربي قد دخل منذ أحقاب طويلة هي عمره تقريبا سلسلة من الحروب العربية العربية الباردة والساخنة، أقلها بالأصالة وغالبها بالوكالة، وبسببها وفي موازاتها الحروب العربية الخارجية مع إسرائيل ومع الدول المجاورة وقوى التحالف الغربية، بحيث تركته في طور التداعي والوهن والانهيار. وغدا النظام الإقليمي الرسمي العربي وجامعته العربية كأنه "بئر معطلة وقصر مشيد". وقد رأيناه كما ذكرنا قد انهار فعلا بغزو العراق للكويت(1990) وتكرس انهياره بالاحتلال الأميركي البريطاني للعراق (2003) الأمر الذي سلب كما أسلفنا النظام العربي أحد شروط إقليميته، فقد انتقلت قوى النظام الدولي من كونها تمثل نظام التغلغل والاختراق الذي يؤثر على التفاعلات والقرارات في النظام، إلى كونها صاحبة اختصاص وسلطة لاتخاذ القرار في هذا النظام.


 


4-  وفي الوقت الحالي يتكرس هذا الانهيار عبر الانقسام الحقيقي الذي أشرنا إليه إلى محورين بينهما مناطق رمادية لدول الاعتدال ودول الممانعة، فإنه يبدو عاجزا تماما كما كشفت حرب غزة (2009) عند مواجهة تحدياته الأساسية، سواء كانت مرتبطة بالاحتلال في فلسطين والعراق، أو الأزمات الداخلية في معظم الدول العربية، أو بين الدول العربية وبعضها بعضا. كما أن الرهانات الإستراتيجية أمام المحورين تبدو جد محدودة.


 


محور الاعتدال يعاني تساقط خياراته التي راهن عليها بصدد المبادرة العربية للسلام، فاليمين الإسرائيلي تسلم الحكم بكل ما يعنيه، والحالة الفلسطينية مازالت تراوح مكانها في الانقسام، وأميركا غير راغبة في الضغط على إسرائيل بل وتسعى لمحور الممانعة سوريا وإيران.


أما محور الممانعة، فيبقى -رغم كون إيران عمقا إستراتيجيا للنظام العربي- يعاني من نقص إمكانيات الفعل وحصار المحور الأول له.


ومن المتوقع وفقا لهذا السيناريو ومع المزيد من سياسات المحاور أن يصل النظام إلى الانهيار دون وجود بدائل حقيقية تقوم بملء فراغ هذا الانهيار.


 


السيناريو الثالث: تغيير النظام الرسمي العربي مع وجود البدائل


1 - يطلق على هذا السيناريو توصيف "التغييري" أو "الثوري" وهو يقوم على فكرة أن النظام الرسمي العربي الحالي لم يعد يحمل مقومات البقاء ولا يقوم بأي وظيفة حقيقية من وظائفه. ويتفق مع السيناريو السابق أنه في طريقه للانهيار ويجب بالتالي لتفادي وقوع فوضى، الترتيب للعملية وتحويلها إلى منطق تغييره، ويزداد بصدد هذا السيناريو احتمالية عدم التأكد.


 


2 – لا يعتبر مفهوم النظام الإقليمي/الرسمي العربي صالحا من الناحية التحليلية أو التفسيرية للتعامل مع هذا السيناريو لكونه ينطلق بداية من مفهوم التغيير الكلي الذي يخالف غاية وأهداف مفهوم النظام -كما أسلفنا- وهي "الاستمرار"، و"الاستقرار" ولو في إطار التغيير المتدرج، كما أن المفهوم لن يكون صالحا أيضا في التنبؤ بهذا المسار والسيناريو لأن مفهوم عملية "التغيير" ومنطقها يخرج بها عن إطار مفهوم "الإقليمية" إلى الكيان "الحضاري" الأوسع والذي يحتوي الإقليم ولا يذيبه.


 


3- نقصد بـ "التغيير" في هذا السيناريو القيام بمجموعة من الأفعال والممارسات التي تفضي إلى إحداث "نقلات نوعية" في أنماط تفاعلات النظام، وسياساته، وتحالفاته الأساسية.


 


وبالتالي يكون الوضع إزاء تغييرات جذرية أو ثورية ينتقل خلالها النظام من وضعية "القبول" و"التكييف" مع الأوضاع السائدة إلى رفضها والسعي لتقويضها عبر طرق وآليات ثورية بالأساس، وإقامة "بدائل" جديدة تحل مكانها عمليا.


 


وإن كان البعض يرى أن ثمة إمكانية لحدوث التغيير مع بقاء الوحدات المكونة لهذا النظام على حالها، أو من خلال إحداث تغيير فيها نفسها، وربما المزج بين الأمرين كما سنرى فيما بعد.


 


4- إضافة إلى ما أوردناه في السيناريو السابق، فإن ثمة أسبابا حقيقية، بعضها بنيوي أصيل، وبعضها يتعلق بالتفاعلات السياسية الجارية الآن، تفضي إلى "تغيير النظام الرسمي العربي".


فالنظام العربي يعاني عدة أزمات حقيقية -لن ندخل في تفاصيلها- منها "أزمة الشرعية" بمعنى انفصال نخبه الحاكمة عن الشعوب والقوى الاجتماعية، وأزمة هوية في ظل تصاعد "الهويات الوطنية القطرية" وارتفاع فعالية الهوية الإسلامية التي تجسدها حركات المقاومة الشعبية بالإضافة إلى الحركات الإسلامية في مختلف البلدان، كما أن غالبية دول "النظام" الأساسية تعاني "أزمة خلافة سياسية" لحكامه الذين تعدت أعمار معظمهم العقود الثمانية، إضافة إلى أزمات "التكامل والاندماج الوطني" الذي تعانيها معظم دوله ووحداته.. إلخ، كما أن النظام لا يملك تصورا إستراتيجيا لمستقبله، وقد وقع أسير التناقضات المتعددة، فكثيرا ما يعد، وقليلا ما يفي بوعوده، كما أهدر ثروات شعوبه في كثير من المسالك والدروب، وأضاع جامعه المشترك مع غيره من الشعوب المسلمة، وكذلك تعرض للاختراقات من كل الاتجاهات.


 


5- الواقع أن التغييرات التي يتعرض لها "النظام العربي" تعود أسبابها إضافة إلى ما سبق -للقصور في القيام بوظائفه الأساسية، وإذا كانت "وحدات" النظام تحاول الإصلاح والترقيع فإن "القوى الاجتماعية" و"التيار الأوسع" على المستوى الشعبي- التيار الإسلامي بأطيافه المختلفة السنية والشيعية- ومن خارج المؤسسات الدينية التقليدية، يطرح آلية تقوم على دمج "النظام العربي" في إطار أوسع هو عمقه "الإسلامي".


 


6- "الكيان الحضاري الإسلامي" يعد مفهوما نظريا وتحليليا بديلا، تم طرحه في ذات السياق والتوقيت الذي طرح فيه مفهوم "النظام العربي" وإن لم يقدر له نفس الشيوع والانتشار، ويحوي هذا الكيان أربعة تطبيقات أو نماذج للكيان الحضاري، وكيفية تأسيسه عمليا وفعليا:


 


أ‌- النموذج التركي "العثمانية الجديدة" والتي تقوم على فكرة "الإسلام المعتدل" المتصالح مع الغرب، ويزكي هذا النموذج القيمة "الديمقراطية"، والإنجاز "الاقتصادي".


 


ب‌-  النموذج الإيراني "الطرح الثوري" والذي يقوم على فكرة "الإسلام الثوري" المعادي للغرب، ويزكي هذا النموذج التقدم "التكنولوجي" و”النووي" والاستقرار السياسي.


 


ج- الطرح الآسيوي بنموذجية "الماليزي" و"الإندونيسي"، والذي يقدم فكرة "الإسلام الحضاري" في ظل الإنجاز الاقتصادي والتكنولوجي.


 


د- النموذج الحركي الإسلامي، والذي تقدمه الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها أو أشكالها، ويقوم على فكرة "إسلام المرجعية والهوية"، وتختلف في موقفها من "العروبة" سواء بتجاوزها أو اعتبارها خطوة في سبيل الإسلامية.


 


هذه التطبيقات والنماذج تقدم تصورات لكيفية تكوين "الكيان الحضاري الإسلامي" باعتباره بديلا عن "مفهوم النظام الإقليمي العربي" يتضمن جانبيه في النظرية والممارسة.


 


وفي رأينا إن تغيير "النظام العربي" المنهار والذي ورثناه من حقبة ما بعد الاستقلال مباشرة، ليس في الإمكان دون تغيير "الأنظمة الداخلية الوطنية" في هذه البلدان، إن مأساة الشعوب العربية تأتي من "الأنظمة" التي فرضت عليها بقوة "الانقلابات العسكرية" فترة، ثم بتزوير إرادتها فترة أخرى، وإذا أردنا تغيير القواعد الحاكمة للعلاقات العربية-العربية فلا بد بداية من تغيير قواعد السلوك السياسي الداخلي، ودون ذلك فإن الحسابات المحدودة والرؤى الشخصية والضيقة لبعض القيادات من الكبار والصغار ستظل تتحكم في مصائر أمتنا، ومن ثم فلا مجال لحديث عن مستقبل!! ولله الأمر من قبل ومن بعد.


_______________


أستاذ العلوم السياسية، كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة، الأستاذ الزائر بجامعة لندن "SOAS" ومؤسسة قطر للعلوم "QFIS"


 


من مراجع الدراسة:


1- جميل مطر وعلي الدين هلال، النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية (1983)-الإطار النظري.
2- محمد السعيد إدريس، النظام الإقليمي للخليج العربي، (2000)، الإطار النظري.
3- جميل مطر، مستقبل النظام الإقليمي العربي –في العرب وتحديات النظام العالمي، 1999م.
4- عدنان السيد، نظرية العلاقات الدولية 2003.
5- إسماعيل صبري مقلد، نظريات السياسة الدولية: دراسة تحليلية مقارنة، 1997.
6- منى أبو الفضل، الكيان الحضاري العربي الإسلامي: مقاربة منهجية لدراسة النظم السياسية العربية، 1986.
7- منى أبو الفضل، الأمة القطب، 2003.
8- فواز جرجس، النظام الإقليمي العربي والقوى الكبرى: دراسة في العلاقات العربية العربية، والعربية الدولية، 1997.
9- ستانلي هوفمان، نقد النماذج الفكرية الأميركية للعلاقات الدولية، مجلة الاجتهاد، عدد (45)، ربيع 2002.


 


عودة للصفحة الرئيسية للملف